حمل الله

“حَمَلُ الله” هو أحد الألقاب التي يطلقها العهد الجديد على السيد المسيح. يجد هذا اللقب جذوره في العهد القديم، وبخاصة عند النبيّين العظيمين أشعيا وإرميا، من دون إغفال كون الحمل الفصحيّ يرمز إلى الفداء والخلاص من العبودية. فالله قد أمر العبرانيين عندما أراد إخراجهم من أرض مصر، حيث كانوا عبيداً، أن تذبح كل أسرة منهم “حملا صحيحا ذكرا حولياً” (خروج 12: 5)، وتأكله وتنضح بدمه قائمتي الباب وعتبته العليا. وبفضل هذه العلامة يفتديهم الملاك المرسل لضرب كل أبكار المصريين. هنا تجدر الإشارة إلى أن لفظ “الفصح” يعني بالعربية العبور، أي الانتقال من حال إلى حال، وهنا يعني الفصح العبور من العبودية إلى الحرية.

الحمل مثال كل ما هو طاهر، بريء, لا يقاوم الشر. لذلك نجد في كثير من كتب العهد الجديد أن المسيح يمثَّل بالحمل. يأتي هذا التصوير من العهد القديم على اتجاهين مختلفين.

الاتجاه الاول وهو التواضع والخضوع لمشيئة الرب, وتحمُّل الاضطهاد والشدائد. في العهد القديم لما اضطهد الأعداء النبي ارمياء شبّه نفسه بالحمل الذي يُساق الى الذبح ” وكنت انا كحمل أليف يٌساق الى الذبح…”(ارمياء 11: 19). وطُبِّقت هذه الصورة فيما بعد على عبد الرب اذ كان مزمعا أن يموت ليكفّر عن خطايا شعبه, ويظهر”…كشاة سيق الى الذبح, وكحمل صامت امام الذين يجزّونه ولم يفتح فاه…” (52:13- 53:7).

اما الاتجاه الثاني فهو الفداء. في سفر التكوين لما طلب الله من ابراهيم ان يضحّي ابنه اسحق, سأل الصبي أباه:” أين حمل التضحية “؟ أجاب ابراهيم ان الله يأتي به. وفعلا لم يُذبح اسحق, وذُبح مكانه خروف وُجد هناك(تكوين 22: 1- 19). وقد رأى التقليد الكنسي منذ القديم في هذه الحادثة اعلانا عن تضحية المسيح. ايضا نجد ذكر الحمل في سفر الخروج إذ افتُدي العبرانيون بدمه من عبودية مصر (خروج 12: 1-13): لما خرج العبرانيون من أرض مصر دعا موسى شيوخ الشعب وأمر ان تذبح كل عائلة حملا بلا عيب وتضع علامة بدمه على باب البيت فينجو اهل البيت من الويلات التي حلّت بالمصريين. وهكذا كان واحتفل العبرانيون بالفصح(ومعنى الكلمة بالعبرانية العبور) وأكلوا من لحم الحمل وهم وقوف لأنهم كانوا على عجل.

لكن الحمل الفصحي الحقيقي الذي قدّم ذاته من اجل خلاصنا هو المسيح. وهو الذي شهد له يوحنا المعمدان لما رآه آتيا اليه على ضفاف الاردن: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم” (يوحنا 1: 29). وايضا الرسول بطرس في رسالته يتكلم عن المسيح بأنه حمل الله: “وقد علمتم انكم لم تُفتَدوا بالفاني من الفضة او الذهب..,. بل بدم كريم, دم الحمل الذي لا عيب فيه ولا دنس, دم المسيح. وكان قد اصطُفيَ من قبل إنشاء العالم” (1 بطرس 1: 18- 20).

يرجع التقليد, الذي يرى في المسيح حمل الفصح الحقيقي, الى بدء المسيحية. فبولس الرسول يطلب من مؤمني كنيسة كورنثوس ان يعيشوا عيشة طهارة لان “قد ذُبح حمل فصحنا وهو المسيح ” (1كورنثوس5: 7). وايضا في انجيل يوحنا فالترتيب الزمني لموت المسيح كان على هذا الاساس. فقد أُسلم يسوع للموت عشية عيد الفصح “وكان ذلك اليوم يوم تهيئة الفصح…” (يوحنا 19: 14 و31), اي في اليوم الذي تفرض الشريعة فيه ذبح الحمل الفصحي “ويبقى محفوظا عندكم الى اليوم الرابع عشر…” (الخروج 12: 6). وبعد أن أسلم الروح, لم يكسر الجنود ساقيه مثلما كسروا ساقي المصلوبين الآخرين:”فجاء الجنود فكسروا ساقي الاول والآخر اللذين صُلبا معه. اما يسوع فلما وصلوا اليه ورأوه قد مات, لم يكسروا ساقيه” (يوحنا 19: 22 – 23), وهذا ايضا كان يطبَّق على الحمل الفصحي “وعظما لا تكسروا منه” (خروج 12: 45). ويرى الانجيلي يوحنا في هذه الواقعة تطبيقا لشريعة طقسية تتعلق بالحمل الفصحي “فقد كان هذا ليتم الكتاب” (يوحنا 19: 26).

يتكلّم سفر الرؤيا عن الحمل في عدة اماكن فنجد أن المسيح هو الحمل الفصحي (رؤيا 5: 9 – 10), الا ان كاتب السفر اضاف صورة جديدة على صورة الحمل المذبوح وهي تحرير شعب الله المؤمن به (رؤيا 5: 5 – 6, 12: 11). وهو يشارك الآن الله في عرشه (رؤيا 22: 1 – 3), وله “البركة والكرامة والمجد والسلطان الى أبد الآبدين” (رؤيا 5: 13). انتصاره على قوى الشر يؤكد انه: “رب الأرباب وملك الملوك” (رؤيل 17: 14). ويتكلم سفر الرؤيا عن عرس الحمل (رؤيا 19: 7, 21: 9) مع المدينة المقدسة اورشليم السماوية اي الكنيسة ويصفها بإسهاب: “لم أر فيها هيكلا لأن الرب الله القادر على كل شيء وهو والحمل هيكلها والمدينة لا تحتاج الى الشمس ولا الى القمر ليضيئا فيها لأن مجد الله قد أنارها والخروف سراجها وتمشي شعوب المخلَّصين بنورها” (رؤيا 21: 22 – 24).

بفاعلية الذبيحة الواحدة التي اتمها الرب يسوع على الصليب نقيم القداس الإلهي الذي فيه نلتقي الرب يسوع الحمل المذبوح مُقدَّما على صورة القربان الى المذبح الإلهي, واذ يستحيل هذا القربان بحلول الروح القدس جسدا ودما يُعطى للمؤمنين في المناولة عربونا للخلاص الآتي في اليوم الاخير.

في العهد الجديد، المسيح هو حَمَلُ الفصح الحقيقي والوحيد، وهو تاليا الفادي الوحيد. هذا ما يؤكد العديد من الرسل الذين أَلّفوا كتب العهد الجديد. فالرسول بولس يحثّ مسيحيي كورنثس على أن يعيشوا في الطهارة والحق، بما إنه “قد ذُبح فصحُنا المسيح” (5: 7). كما يذكّر بطرس الرسول المؤمنين في رسالته الأولى بالفداء الذي أتمّه المسيح، فيقول: “بل بدم كريم، دم حمل لا عيب فيه ولا دنس وهو المسيح” (1: 19). ثم يستعمل الكاتب نفسه صورة الفصح – العبور للإشارة إلى أن المؤمنين، بفصل دم المسيح، قد صاروا “جيلا مختارا وكهنوتا ملوكيا وأُمّةً مقدسة وشعبا مقتنى لتُخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب” (1 بطرس 2: 9). فإذا كان الفصح قديما يعني الانتقال من أرض إلى ارض، أضحى بالمسيح يعني الانتقال من الظلمة إلى النور.

هذا الحَمَل نفسه يذكره الرسول يوحنا الإنجيلي على لسان القديس يوحنا المعمدان الذي دعا تلاميذه إلى تركه ومرافقة يسوع “حَمَل الله الذي يرفع خطيئة العالم” (1: 29 و36). ولا يُعرف قصد كاتب هذا الإنجيل حين يقول إن المسيح هو حَمَل الله إلا عندما يتحدث عن الصليب، فيَعْلم القارئ عندها أن المقصود بالحَمَل هو ذاك المصلوب الذي “لا ُيكسر له ساق” (يوحنا 19: 36)، وذلك كتحقيق لأمر الله بأن لا تُكسر سوق حملان الفصح(خروج 12: 46). وإذا اتّبعنا الترتيب الزمني للإنجيلي نفسه، نجد أن المسيح قد أُسلم للموت بعد ظهر يوم التهيئة (يوحنا 19: 14)، في الساعة عينها التي تفرض الشريعة ذبح الحملان في الهيكل.

يتوسع كاتب الرسالة إلى العبرانيين في مفهوم الفداء بدم المسيح فيقارن بين ذبائح العهد القديم والمسيح ذبيحة العهد الجديد، “لأنه إن كان دم تيوس وثيران ورماد عِجلة يُرشّ على المنجَّسين فيقدّسهم لتطهير الجسد، فكم بالأحرى دم المسيح الذي بالروح الأزلي قَرَّب نفسه لله بلا عيب يطهِّر ضمائركم من الأعمال الميتة لتخدموا الله الحيَ” (9: 13014). إن تقدمة المسيح نفسه حملا ذبيحا أنشأت العهد الجديد. العهد القديم أنشئ بين الله والشعب على يد موسى بواسطة دم الحيوانات، أما المسيح فأسس عهدا جديدا بدمه الخاص. وقد رأى آباء الكنيسة في الدم والماء اللذين خرجا منه على الصليب (يوحنا19:34)رمزا لسرَّي المعمودية والشكر ورمزا لولادة الكنيسة بالمعمودية ووحدتها في سر الشكر.

لم يقدّم المسيح نفسه إطلاقا على أنه قائد عسكري سيحرر الشعب من الطغيان ،بل كان يردد دائما أنه سوف يُسلَم ويُصلَب ويقوم في اليوم الثالث. أما الصورة الأساسية التي تنبئ بهذا المصير فهي صورة عبد الرب التي يرسمها إشعياء في كتابه حين يقول: “كشاة سِيْقَ إلى الذبح وكحَمَلٍ صامت أمام الذين يجُزوُّنه ولم يفتح فاه”(53: 7). فهم المسيحيون منذ البدء أن هذه النبوءة قد تحقّقت بصلب المسيح،على نحو ما قام به فيلبّس بتفسيره هذا النص إلى الخِصِي الحبشي. ويستشهد الإنجيليون بهذا النص ذاته عندما يوضحون أن المسيح ظلّ صامتا أمام المجلس الذي حاكمه(متى 26: 63)، وأنه لم يُجِب بيلاطس بشيء ( يوحنا 19:9). يقول القديس أفرام السرياني(+373) في هذا الصمت:”ثمة مَن ينتصر بالمنافحات (أي المرافعات الدفاعية)،ولكن ربنا انتصر بصمته… لم يفتح فاه إلا ليعلّم وصمت أمام المحكمة… أقوال أعداءه لم تكن سوى تاج على رأسه”.

يشدّد كاتب الرؤيا في مقاطع كثيرة منها على المسيح – الحَمَل الفصحي. فهو حَمَلٌ مذبوح وفي الآن ذاته ينتصر على قوى الشر ويشارك الله في عرشه وذو سلطة إلهية:”وكل خليقة مما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض ومما في البحر وكل ما فيها سمعتها تقول البركة والكرامة والمجد والعزّة للجالس على العرش وللحَمَل إلى دهر الدهور”(5: 13). وهو عروس الكنيسة (19: 7 و9) ، ويقودها إلى الحياة الأبدية: “لأن الحَمَل الذي في وسط العرش يرعاهم ويرشدهم إلى ينابيع ماء الحياة ويمسح الله كل دمعة من عيونهم “(7: 17).

يتساءل اوريجنس، أحد كبار معلّمي الكنيسة في القرن الثالث، إذا كان المقصود بالعالم في شهادة القديس يوحنا المعمدان، حين قال: “هذا هو حَمَل الله الذي يرفع خطايا العالم”(يوحنا 1: 29) إنما هي الكنيسة حصرا. ويجيب اوريجنس على نفسه بالنفي مستشهدا بالرسالة الأولى للقديس يوحنا: “وهو كفّارة عن خطايانا،وليس عن خطايانا بل عن خطايا العالم كله أيضا”(2:2). ليس للمسيح حدود، وليس لخلاصه حدود.

عن نشرة رعيتي  1996+1999 بتصرف

arArabic
انتقل إلى أعلى