Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

ز – الآلام والقيامة 14: 1 – 16: 8

الخصائص العامة للروايات الإنجيلية حول الآلام: (1)

قبل تفسير الرواية عن آلام المسيح، ينبغي لنا أن نرى الخصائص العامة للنصوص الإنجيلية حول الآلام لكي تكون لنا منذ البداية صورة واضحة عن هذه النصوص. والخصائص هي التالية:

1- إن الروايات حول آلام المسيح وقيامته تختم أناجيلنا (متى 26-28، مرقس 14-16، لوقا 22-24، يوحنا 18-21)، ومن حيث الأهمية تشكّل قمّة للأناجيل. ويتكون عند قارئها الانطباع لدى قراءته أوّل صفحة أن الكُتّاب الشريفين يهيئونه للآلام التي تعرض في الآخر.

هكذا مثلاً استقبال العالم العدائي ليسوع المولود جديداً خاصة في إنجيل متى يحمل طابعاً صليبياً؛ وكذلك عندما يحاول رؤساء اليهود الدينيون أن يقبضوا على يسوع (مر 3: 6، متى 12: 14، لوقا 6: 11، 13: 31، 20: 20 وغيرها). تشكّل هذه المقاطع مقدمة واضحة للآلام. إن إزالته لعطلة السبت عن طريق أعماله، وكذلك العبارة: “لأن ابن الإنسان أيضاً لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مر 10: 45)، وأيضاً: “ها أنا أُخرج شياطين وأشفي اليوم وغداً وفي اليوم الثالث أكمِّل” (لوقا 13: 32)، وأيضاً “حين يُرفع العريس عنهم” (مر 2: 20)، إضافة إلى غيرها من العبارات، تنبئ عن الآلام المقبلة التي يتوجّه إليها طوعاً ابن الله المطيع حتى الموت. طبعاً تشكل تنبؤات يسوع الثلاثة عن نفسه أوضح مقدمة لآلامه. يأتي التنبؤ الأوّل مباشرةً بعد اعتراف بطرس في قيصرية فيلبس (مر 8: 31، متى 16: 21، لوقا 9: 22)، والثاني بعد التجلّي وشفاء الشاب المصروع (مر 9: 31، متى 17: 22-23، لوقا 9: 44-45)، والثالث في سيرهم نحو أورشليم قبل وقت قليل من طلب ابني زبدى الجلوس عن يمين المسيا وعن يساره في الملكوت (مر 10: 33-34، متى 20: 17-19، لوقا 18: 31-33).

يبرّر كل ما أشرنا إليه سابقاً عبارة أحد اللاهوتيين الأجانب عندما يقول: “أناجيلنا هي في جوهرها تاريخ لآلام المسيح مع مقدمة طويلة”. وفي الواقع تتمحور الروايات الإنجيلية حول الآلام الرئيسي الذي يشكّل قمّتها.

2- إن المعلومات عن حياة المسيح وأعماله وتعاليمه في الأناجيل متقطعة ومحدودة، بينما الروايات الإنجيلية عن الآلام مُفصّلة ومتماسكة. فهي تشكّل أرضية مشتركة لا يلتقي عليها الإنجيليون الثلاثة في أناجيلهم الإزائية فقط بل يشاركهم في ذلك الإنجيلي الرابع يوحنا، وذلك لأن صليب المسيح يشكل إلى جانب القيامة محور إيمان الكنيسة الأولى. ومن الواضح أن نرى حياة الكنيسة الأولى تنشأ وتتسع حول هذا المحور وكذلك الترانيم الكنسية الأولى مع الكرازة الرسولية والروايات الأولى عن موت المسيح على الصليب. تشكّل كل هذه المعلومات الغنية القسم الأكثر تفصيلاً في الكنيسة التبشيرية الأولى.

3- لا تشكل الروايات حول الآلام “تاريخاً للآلام” بكل معنى الكلمة، بل بالأحرى تشكل تقييماً للآلام وتفسيراً لها في الكنيسة المؤمنة بالمسيح المصلوب والقائم. طبعاً هذا لا يعني أن الإنجيليين الشريفين لا يكترثون بالدقة التاريخية، لكنه يعني أنهم يُخضعون التاريخ للاهوت. هكذا يفسَّر الاختلاف بين الإنجيليين في تسلسل الأحدا في بعض الأحيان، وكذلك الاختلاف فيما بينهم في ترتيب أقوال يسوع أو اقوال الآخرين الموجهة غليه. والجدير بالذكر ملاحظة المُفسِّر زيغافنوس في هذا الشأن: “ينبغي أن نعلم أن الإنجيليين لا يعرضون أبداً بالترتيب تعاليم المسيح وعجائبه حرصاً على التاريخ. لا يحترمون تسلسل الحوادث بالكلية بل يسرعون فقط إلى التبشير بها”. لا يكتب الإنجيليون مؤلفات تاريخية ولا يوردون عناصر تاريخية أدّت إلى القبض على يسوع وإماتته، بل يعرضون سرّ الصليب المنبسط في التاريخ والذي ينتهي إلى خلاص البشر رغم مقاومتهم تحقيقه. لذا نجد الروايات حول الآلام والقيامة بسيطة ومقتضبة بدون تركيز عاطفي أو وصف مأساوي للحالة النفسية عند الأشخاص العاملين والتي تهدف إلى تحريك شعور القارئ. إن هدف الروايات هو إبراز الطابع الخلاصي للأحداث الجارية والإشارة إلى معناها بالنسبة للكنيسة.

4- يربط الإنجيليون بين أحداث آلام المسيح وتنبؤات العهد القديم عنها، مستشهدين بالمقاطع الكتابية التي تمّت في المسيح، أو مستعرضين الحوادث الجارية بعبارات العهد القديم. ويريدون بذلك أن يظهروا أن الأحداث الجارية ليست منفصلة عن تدبير الله لخلاص البشرية؛ كما أن هذا التدبير قد سبق وعُبِّر عنه في العهد القديم. إذاً لم تدوَّن الآلام لضرورة تاريخية أو لأيّة حاجةٍ عالمية أخرى، بل لإعلان مشيئة الله الآب في خلاص الكلّ.

5- يمكننا أن نجد لهجة دفاعية في روايات الآلام. وهنا نلاحظ اتجاهين: فهي تشدّد على تسليم يسوع نفسه طوعاً إلى الآلام، وعلى سابق معرفته وقبوله بها؛ ومن جهةٍ ثانية تبزر محاولة الحاكم الروماني تبرئة نفسه ملقياً المسؤولية على اليهود. في هذا الإطار تدافع الروايات عن الذين هم خارج الكنيسة أي عن الرؤساء الرومانيين، أم في الحالة الأولى فالدفاع هو عن أعضاء الكنيسة.

6- أما العنصر الإرشادي فهو غير غائب عن رواياتنا. لا يرد بصورة واضحة، لكنه كامن في حث يسوع تلاميذه على السهر والصلاة (مر 14: 38، لوقا 22: 40 و46)، في أقواله عن عدم المقاومة (متى 25: 52، لوقا 22: 51)، في صلاته على الصليب من أجل صالبيه (لوقا 23: 34)، في توبة أحد اللصين في اللحظة الأخيرة (لوقا 23: 40-43)، في ظهور الملاك من السماء لتشديد يسوع في الجسمانية (لوقا 22: 43) وغيرها. يحث المسيحيين من خلال كل هذا أن يتابعوا بشجاعة وبصلاة جهادهم متأكدين من تقوية الله لهم التي سوف تقود غلى ظفره في النهاية.

7- أخيراً نجد في الروايات عن الآلام صدى لتقليد الكنيسة الليتورجي الذي كُتبت الأناجيل ضمن إطاره. يسمح لنا هذا الطابع أن نرتب استخدام الروايات الإنجيلية أولاً في حياتنا الكنسية الليتورجية دون أن نُقصي استخدامها في الكرازة الرسولية مع الذين هم خارج الكنيسة. نكتفي هنا بمثلين أوّلهما ترتيب الإنجيلي متى لعبارات يسوع في العشاء السري (“خذوا كلوا هذا هو جسدي… اشربوا منه كلكم…”). من المؤكد أن لهذه العبارات علاقة بخدمة الكنيسة الليتورجية. وجهة النظر هذه مدعومة أيضاً بالمقارنة مع الترتيب الليتورجي الوارد عند مرقس في العرض الثالث لتلك الكلمات (“وتتناول كأساً وشكر وأعطاهم فشربوا منه كلّهم”). أما المثال الثاني فهو ترتيب حوادث صلب عند الإنجيلي مرقس حسب الساعات الثلاث (مر 15: 1، 25، 33، 42)، هذا الترتيب الذي ليس على الأرجح إلا صدى للخدمة الليتورجية. دون أن يكون شكلها بالضرورة ذاك الذي اتخذته كنيسة روما.

إلى جانب هذه الخصائص هناك ميزات خاصة بكل إنجيلي. يشدّد الواحد منهم أكثر من غيره على إحدى الخصائص المشتركة متطلعاً إلى الهدف المنشود الذي يخدم رسالته. ويفهم المسيحي الروايات الإنجيلية، من خلال استنارة الإنجيليين، لا كروايات تاريخية بل كنصوص تعلن (2) محبة الله في التاريخ لخلاص البشرية.

مقدّمة الآلام: الاتفاق على التسليم:

1 وَكَانَ الْفِصْحُ وَأَيَّامُ الْفَطِيرِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يُمْسِكُونَهُ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُونَهُ، 2 وَلكِنَّهُمْ قَالُوا:«لَيْسَ فِي الْعِيدِ، لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ»….
10 ثُمَّ إِنَّ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَاحِدًا مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، مَضَى إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ. 11 وَلَمَّا سَمِعُوا فَرِحُوا، وَوَعَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. وَكَانَ يَطْلُبُ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ فِي فُرْصَةٍ مُوافِقَةٍ. (مر 14: 1-2، 10-11، متى 26: 1-5، لوقا 22: 1-6).

تبدأ رواية آلام يسوع بذكر محاولات رؤساء اليهود الدينين لإيجاد طريقة للقبض عليه. هذه المحاولات معروفة لدى قارئ الإنجيل من معلومات سابقة (مر 3: 6، 12: 12) وهي تعود إلى أيام قليلة تسبق الفصح حيث تحدث تلك الوقائع المتعلقة بالآلام. تجري المحاولات المركزة لرؤساء اليهود الدينيين من أجل إيجاد طريقة للقبض على يسوع في الأيام السابقة للفصح، وبالتحديد قبل الفصح بيومين. كان يوم الفصح، الذي هو أكبر الأعياد اليهودية تذكاراً لتحرير شعب الله من عبودية المصريين، يبدأ في الرابع عشر من شهر نيسان (آخر آذار-بدايات نيسان)، وذلك بذبح الحمل الفصحي الذي كان يؤكل بعد غروب الشمس أي في بدايات 15 نيسان. ويستمر العيد طيلة أسبوع الفطير من 15 نيسان حتى 21. كانت كلمات الفصح والفطير تُستعملان معاً في لغة الشعب للدلالة على اليوم الأوّل من العيد وعلى كل الأسبوع (3).

كان رؤساء اليهود الدينيون وعلى رأسهم “رؤساء الكهنة” يبحثون منذ وقت طويل عن فرصة مؤاتية لإهلاك يسوع. لكنهم كانوا يخافون الشعب الذي يكنّ له كل التقدير، ولذلك كانوا يتجنبون أي عمل علني ضده. ومع أن رئيس الكهنة الرسمي لذلك العام كان قيافا، وقد احتفظ بهذا المنصب من العام 18 حتى 36 بعد المسيح بسبب خضوعه للرومان وبسبب عدم اكتراثه المميّز لمصالح الشعب، إلا أن حنّان يشترك بفعالية في الأحداث المأساوية، وهو سابق لقيافا وحموه، ورجل قويّ مَثَلَ يسوع أمامه أولاً بعد القبض عليه (يوحنا 18: 11…).

يبدو أن أعمال رؤساء الكهنة والكتبة المذكورة لا تجري في إطار الجلسات القانونية للمجمع الكبير بأكمله، بل تشكّل بالأحرى مناقشات خاصة غير رسمية لبعض أعضاء هذا المجمع في سبيل إيجاد طريقة عملية للقبض على ذاك المعلّم الذي يكتسب عطف الشعب بصورة متواصلة وخطرة. أمّا الفرصة المؤاتية لتكثيف هذه المناقشات والمحاولات فقد سُنحت لهم حسب الأناجيل الإزائية عند حادثة تطهير هيكل سليمان، وحسب يوحنا عند عجيبة إقامة لعازر حين خاف رؤساء اليهود من أن ينزع الرومان منهم السلطة إن لم يبادروا في الحال ويضعوا حدّاً لنشاط يسوع فيما بين الشعب (يوحنا 11: 45، 47 وما يليها).

الآيتان 10-11: استجاب يهوذا، أحد التلاميذ الاثني عشر، لرغبة رؤساء الكهنة وبقية الرؤساء في إيجاد الطريقة المناسبة للقبض على يسوع وإماتته، حتى وإن كان ذلك بغش. ويهوذا هذا يحمل في الأناجيل لقب الأسخريوطي. وقد فشلت المحاولات التي قام بها بعض الشرّاح لربط هذه التسمية بمعنى “رجل الكذب” أو “رجل الخداع” أو لتأكيد اشتقاقها من الكلمة اللاتينية Sicarius. فهي تشير على الأرجح إلى مصدر العائلة طالما أن اباه يحمل التسمية نفسها (أنظر يوحنا 6: 17، 13: 2). ومن المميّز التشديد على أن التلميذ هذا هو من الاثني عشر “لإظهار رداءة الخائن والتنكر لها” كما يقول القديس كيرلس الإسكندري.  ويدعو الإنجيلي الرابع ذلك التلميذ “شيطاناص”، مُضيفاً أن المعلّم الذي اختار التلاميذ الاثني عشر لم يجهل أن واحداً منهم سوف يسلّمه (يوحنا 6: 70-71).

يُعبَّر عن فرح رؤساء الكهنة والكتبة (وقادة الجند المضافة عند لوقا) على أثر الاتفاق مع يهوذا، بوعدهم إياه أنهم سوف يكافئونه بكمية من المال تساوي، حسب رواية متى، ثلاثين من الفضة كان قد طلبها. ويُطرح السؤال: هل أن المال هو الذي دفعه إلى التسليم؟ ما ورد في الأناجيل لا يدعم هذا الرأي. لذا ينبغي أن يكون السبب الأعمق للتسليم هو في تخييب الآمال المسيانية القومية السياسية التي كان يهوذا يشاطر بقية اليهود تحمّسهم لها. فإنه عندما تأكد أن معلّ/ه لا يعمل بطريقة فعّالة ضدّ الرؤساء الرومانيين، كما كان يتمنى المنتمون إلى حزب الغيورين، أي عندما تأكد أن المعلم لن يحقق الآمال والتوقعات التي كان الكثيرون من اليهود ينتظرونها منه، عند ذلك سهّل القبض عليه من قبل رؤساء اليهود. ليس اليأس، خصوصاً في زمن كثرت فيه الحركات المسيانية والمسيانية الكاذبة، عنصراً بلا أهمية في تفتيشنا عن الدافع الأعمق إلى التسليم. إلا أن رأينا يكون مبرراً أيضاً إن قلنا أن المكافأة المالية كانت تشكل الفرصة من أجل إظهار هذا الدافع العميق لعمل يهوذا. من هنا يصحّ التشديد على “جشع” (حب الفضة) يهوذا في الترانيم الكنسية وبخاصة في الأسبوع العظيم. وحده متى من بين الإنجيليين يحدّد المبلغ بثلاثين من الفضة وفقاً لما جاء عند زخريا 11: 12 (بالاتفاق مع ارميا 38: 6-15) الذي يعتبر هذا المبلغ التغويض الذي يأخذه الراعي المطرود من رعاية غنمه.

بعد المناقشة حول المكافأة أخذ يهوذا يبحث عن المناسبة لتسليم يسوع (“خلوّا من جمع” لوقا 22: 6 أي بعيداً عن الشعب لكي يتجنبوا كل التظاهرات والثورات غير المرغوب فيها عند الرومان). ومن المعلوم أنه في يوم الفصح يتدفق الناس على أورشليم للعيد ويرتفع عددهم إلى 200,000 تقريباً. بسبب هذا العدد ومايرفقه من ضجة واضطرابات كان الرؤساء الرومانيون ينقلون مركزهم من قيصرية إلى أورشليم، فيتضح من هنا لما كان يرغب الرؤساء اليهود في أن يتم القبض على يسوع بعيداً عن الجمع. ولهذا كانت مساهمة يهوذا ثمينة لأنه كان يعلم جيداً المكان (4) الذي كان معلّمه يقصده في تلك الأيام مع التلاميذ من أجل الابتعاد عن ضجة الجمع (أنظر لوقا 21: 37، 22: 39، يوحنا 11: 54 و57، 18: 2 “وكان يهوذا مسلّمه يعرف الموضع. لأن يسوع اجتمع هناك كثيراً مع تلاميذه”). يرى ثيوفيلكتوس مساهمة يهوذا في إرشاده لليهود إلى الوقت الذي يكون فيه يسوع على انفراد “لأن هؤلاء كانوا يخشون القبض عليه وهو يُعلّم الشعب. فوعدهم يهذوا بأن يسلمه لهم وهو على انفراد”.

لنلاحظ أيضاً في هذه الرواية وفي أماكن كثيرة من روايات اللام الاستعمال الكثير لفعل “يُسلّم” مما يُعيد إلى الذاكرة ترانيم عبدالله المتألم عند أشعيا (خاصة في اشعيا 52-53) حيث يكثر استعماله. عن طريق استعمال هذا الفعل وخصوصاً في صيغة المجهول (“يُسلّم”، “سُلّم”، “سوف يُسلّم”) يُشار، بغض النظر عمّا يتم على صعيد الوقائع التاريخية البشرية، إلى أن المسيح يُسلّم من الله إلى الموت من أجل خطايا العالم. أي أن صليب المسيح لا يأتي نتيجة تاريخية عالمية، مثلاً التقاء كره اليهود مع سلطة الرومان، بل هو إظهارٌ لمحبة الله للبشر.

دهن يسوع بالطيب:

3 وَفِيمَا هُوَ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ. فَكَسَرَتِ الْقَارُورَةَ وَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ. 4 وَكَانَ قَوْمٌ مُغْتَاظِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالُوا:«لِمَاذَا كَانَ تَلَفُ الطِّيبِ هذَا؟ 5 لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هذَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ». وَكَانُوا يُؤَنِّبُونَهَا. 6 أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ:«اتْرُكُوهَا! لِمَاذَا تُزْعِجُونَهَا؟ قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَنًا!. 7 لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَمَتَى أَرَدْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِمْ خَيْرًا. وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ. 8 عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا. قَدْ سَبَقَتْ وَدَهَنَتْ بِالطِّيبِ جَسَدِي لِلتَّكْفِينِ. 9 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ، تَذْكَارًا لَهَا». (مر 14: 3-9، متى 26: 6-13).

بين ذكر محاولات رؤساء اليهود للقبض على يسوع ومناقشة يهوذا معهم يُدخل الإنجيلي رواية دهن المعلّم بالطيب من قبل امرأة وذلك في بيت سمعان الأبرص في بيت عنيا. لا ترد هذه الرواية في إنجيل لوقا. ويضع الإنجيلي يوحنا ذلك الحدث “ستة أيام قبل الفصح” في بيت عنيا، ويحدّد هوّية المرأة: هي مريم أخت لعازر (يوحنا 12: 1-11).

يشكل العمل الموصوف ههنا أحد الآداب المعروفة في فلسطين. لا نعرف بالضبط في روايتنا من هي المرأة ولا يذكر أنها خاطئة. أما الطيب الذي، بعد كسر القارورة، سُكب على رأس يسوع فهو طيب خالص كثير الثمن، مأخوذ من “الناردين” النبتة الهندية ذات الرائحة الزكية. اغتاظ “بعضهم” (اغتاظ يهوذا حسب الإنجيلي يوحنا) من إتلاف الطيب الذي كان يمكن أن يغطي ثمنه حاجات الفقراء. يجيب يسوع قائلاً إن المرأة قد عملت “عملاً حسناً” لأن الفرصة متاحة دائماً للإحسان إلى الفقراء لكن المعلم لن يكون معهم دائماً، ويفسّر عمل الإمرأة على أنه تطييب مسبق لجسده من أجل الدفن (لأن الطيب كان يُستخدم عند الدفن لدهن الأموات).

علينا ان نفهم أقوال يسوع عن الفقراء كما يلي: إن عمل الإحسان هو طبعاً عمل حسن، ولكن يجب على المسيحي ألا ينسى باسم الإحسان الذي هو العامل الأول بالإحسان والمحبة، لأنه إن كان الإحسان لا ينبع من محبة المسيح المُعلنة لنا، فقد يشكل مظهراً اجتماعياً خطراً مع دافع داخلي بشري محض يفتقر إلى محوره الأساسي الذي هو المسيح.

تشكّل محبّة المسيحي لأخيه جواباً لمحبة الله للعالم. ويمكن لهذا الأمر أن يغيب عن ذهن المسيحي عندما، باسم الاحسان إلى الفقراء، ينسى الله منبع المحبة. لذلك، بعد أن ظهرت محبة تلك المرأة نحوه، يُكرز بالإنجيل “تذكاراً لها”.

وهنا يُطرح سؤالان: الأول لماذا لا يذكر لوقا هذا الحدث؟ والثاني هل الحدث المذكور عند متى ومرقس هو نفسه الوارد عند يوحنا؟

ما يبرّر عدم وجود الحدث عند لوقا أنه سبق وذكر المقطع 7: 36-50 حدثاً مشابهاً تقوم به امرأة زانية تائبة، ويقع هذا الحدث في بيت سمعان الفرّيسي، ولذلك يتجنب عرض حادثة أخرى حتى لا تكون هنالك ازدواجية في الروايات. هذا التفسير وارد عند غالبية المفسرين وهو المرجّح. وقد يستطيع الدارس أن يضيف أنه يمكن لهذا الحدث ألا يرتبط بتقليد لوقا الخاص عن الآلام، أو أن ما يقال في لوقا 22: 3 عن دخول الشيطان في يهوذا هو إشارة بالضبط إلى حادثة دهن يسوع بالطيب المعروفة لديه دون أن يذكرها في إنجيله، حين استاء يهوذا لإتلاف الطيب فانطلق في الحال إلى لقاء رؤساء الكهنة.

من الواضح أن حادثة لوقا 7: 36-50 مختلفة تماماً، وتقع قبل الآلام بكثير. لكن كيف نستطيع أن نربط بين ما جاء عند متى ومرقس وما جاء عند يوحنا؟  هل يتكلم الإنجيليون الثلاثة عن الحدث نفسه؟ وكيف نستطيع عندئذ أن نضع الحادثة ستة أيام قبل الفصح بينما يقع الحدث عند متى ومرقس يومين قبل العيد؟ وأيضاً إن كان الحدثان متشابهين مع اختلاف بينهما (كما يعتبرهما البعض مستندين إلى اختلاف زمن وقوعهما وإلى أن يوحنا يتكلم عن أخت لعازر)، فكيف يمكننا أن نفسّر الوصف نفسه للطّيب وفي المكان نفسه أي بيت عنيا؟ وكذلك كيف نفسّر الاستياء نفسه، ومناقشة التلاميذ وانطباعهم نفسه وأيضاً نفس التفسير المعطى من قبل يسوع لعمل المرأة؟

من بين أتباع وجهة النظر التي تقول باختلاف الإمرأتين بين متى ومرقس من جهة ويوحنا من جهة أخرى، لدينا أوريجنس وزيغافنوس وثيوفيلكتوس. أما القديس يوحنا الذهبي الفم فهو يميز المرأة في إنجيلي متى ومرقس عند تلك التي في إنجيل يوحنا لكنه يوحدها مع المرأة في إنجيل لوقا. نحن نعتقد أن المكان هو نفسه والتفسير هو عينه لعملها كمقدمة للدفن وكذلك اعتراض التلاميذ (خاصةً يهوذا حسب يوحنا). كل ذلك يجعلنا نميل إلى وجهة النظر القائلة أن الحدث نفسه عند متى ومرقس ويوحنا. أما بالنسبة لتحديد هوية المرأة فيمكن للإنجيلي الرابع أن يكون قد حصل على تفاصيل أدق. ويبدو أن زمن الحادثة عند يوحنا (ستة أيام قبل الفصح) هو الأصحّ، بينما يرتبط الحدث عند متى ومرقس بزمن أقرب إلى موت يسوع بسبب التفسير المعطى لعمل المرأة كمقدمة للدفن. من هنا إن الإنجيليين بغض النظر عن الوقائع التاريخية الدقيقة للأحداث الجارية يهتّمون بصورة خاصة وقبل كل شيء بالتفسير اللاهوتي للأحداث.

تهيئة العشاء الفصحي:

12 وَفِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنَ الْفَطِيرِ. حِينَ كَانُوا يَذْبَحُونَ الْفِصْحَ، قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ:«أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نَمْضِيَ وَنُعِدَّ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟» 13 فَأَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمَا:«اذْهَبَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَيُلاَقِيَكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ. 14 وَحَيْثُمَا يَدْخُلْ فَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: إِنَّ الْمُعَلِّمَ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ 15 فَهُوَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً مُعَدَّةً. هُنَاكَ أَعِدَّا لَنَا». 16 فَخَرَجَ تِلْمِيذَاهُ وَأَتَيَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا. فَأَعَدَّا الْفِصْحَ. (مرقس 14: 12-16، متى 26: 17-19، لوقا 22: 7-13).

تبدأ الصعوبات الأولى في تفسير المقطع مع الآية 12 حيث تقع مهمّة التلاميذ “في اليوم الأول من الفطير حين كانوا يذبحون الفصح” (أنظر متى 26: 17 “أول أيام الفطير”، لوقا 22: 7 “يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يُذبح فيه الفصح”). ومن المعروف أن اليوم الأول من الفطير أي 15 نيسان لا يوافق يوم ذبح الحمل الفصحي بل اليوم التالي مباشرةً. كيف يعطي الإنجيلي إذاً هنا الانطباع أنه يوحِّد بين اليومين؟ الكلمتان الفصح والفطير في لغة الشعب مترادفتان وتُستخدم الواحدة عوضاً عن الأخرى بل تمييز للدلالة على فترة الأيام الثمانية الكاملة من 14 نيسان حتى 21 نيسان. فينبغي أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار لفهم الأمور على حقيقتها.

هذا التفسير لا يناقض وجة نظر، المفسّرين القدماء والحديثين القائلة أن الصفة “الأول” تستخدم بمعنى “السابق”، بل بالحري يدعمها. هكذا يقع ذبح الحمل في اليوم السابق لبداية أيام الفطير، الأمر الذي يتفق مع الواقع. ومن مؤيدي وجهة النظر هذه القديس يوحنا الذهبي الفم الذي يقول: “أول أيام الفطير هو الويم السابق لأيام الفطير، لأن العدّ يبدأ دائماً من المساء. ويشار إلي اليوم الذي يُذبح فيه الفصح في المساء، أي جاؤوا في يوم الخميس الذي قبل السبت. يتكلم هنا عن الوقت الذي جاؤوا فيه وهو اليوم السابق لأيام الفطير، فيقول: جاء يوم الفطير… إلخ. أي أصبح قريباً، على الأبواب، ويقصد الليلة السابقة لتلك الأيام الفصحية”. وكذلك يكتب ثيوفيلكتوس: “الأول من أيام الفطير هو اليوم السابق لأيام الفطير، وكأنه يقول نهار الجمعة مساءً كان ينبغي أن يأكلوا الفصح الذي كان يُدعى أيضاً الفطير. يرسل الرب تلاميذه نهار الخميس الذي يدعوه الإنجيلي الأولى من أيام الفطير كونه يقع قبل نهار الجمعة حين يأكلون الفطير في المساء”.

ومما يدعم هذا التفسير:

  1. في أماكن أخرى من العهد الجديد تسختدم الصفة “الأول” بمعنى السابق؛
  2. بهذا المعنى ينسجم المقطع مع مايقوم به اليهود في الفصح؛
  3. كان الآباء أقرب إلى النص وعادات تلك الفترة، وفهموات التعبير هكذا.

وفقاً لما تقدّم يرسل يسوع ليلة الفصح اليهودي (5) اثنين من تلاميذه (بطرس ويوحنا حسب رواية لوقا) إلى أورشليم لكي يهيئا العشاء الفصحي وكل ما يلزمه. وعند سؤالهما عن المكان الذي يتم فيه العشاء يقول لهما مسبقاً أنه ما أن يدخلا المدينة حتى يلاقيهما إنسان حامل “جرّة ماء” (والمعروف أن نقل جرة الماء يخص النساء عادةً. لذلك من المستغرب رؤية رجل يحمل جرّة ماء). قال هذا وأضاف أن يتبعاه إلى أن يدخل المنزل. فيسألان صاحب المنزل عن مكان العشاء، وهو يريهما علية كبيرة مفروشة. في كثير من المنازل الفلسطينية هناك طابق يحتوي على مكان رحب للاجتماعات والخدمات هو نوع من صالون يُدعى “علّية”. يأتي التفصيل المعطى لهذه العلّية أنها “كبيرة” و”مفروشة” على الأرجح من الذكرى الحية التي رسخت في ذهن التلاميذ شاهدي العيان. وينتهي المقطع بتأكيده على أن التلميذين المرسلين “وجدا كما قال لهما” يسوع فأعدّا الفصح.

لا نملك أدلة تاريخية عن البيت حيث حصل العشاء السري. يتحدث التقليد عن بيت أمَ يوحنا مرقس حيث كان على الأرجح يجتمع المسيحيون الأولون. ويميل بعض المسرين الحديثين إلى القول أنه بيت أحد الأقارب. السؤال المطروح هنا: ما هو المقصود من تنبؤ يسوع عن التفاصيل المرتبطة بمهمّة التلاميذ المرسلين إلى المدينة. فالقائلون باتفاق مسبق بين يسوع وأحد سكّان أورشليم حتى يتعجب التلاميذ من تحقق نبوءته هم بعيدون عن روح النص وهدفه.

إن معنى التنبؤ في الآيات 13-15 حسب ثيوفيلكتوس هو أن يسوع لم يكن يعرف مسبقاً الحدث البسيط فحسب بل كل ما سوف يجري تالياً عند آلامه، وهو يتقبل كل ذلك باختياره: “لقد أرسلهما إلى إنسان لا يعرفانه لكي يُظهر أنه يريد أن يتقبل الآلام. وإلا كان يمكنه، هو الذي أقنع ذهن ذلك الإنسان المجهول لكي يقبلهم في المنزل، ألا يقبل الآلام بالرغم مما كان يريد اليهود أن يفعلوه”.

المسيح هو سيّد الأحداث الجارية. لم يخضع لها لمجرّد الحتمية التاريخية ولا هو ضحيّة للظروف التاريخية الرديئة، بل هو عبد الله المتألم كما وصفه النبي أشعيا. لا يعي يسوع أنه يتخذ على عاتقه عمل العبد المتألم عند القبض عليه بل منذ بداية نشاطه العلني (أنظر رواية المعمودية حيث يعترف به الآب “ابناً محبوباً” به “سُرّ”).

الخلاصة:

في حياته كلها كان يسوع يتهيأ للآلالم. ولذلك أتم كل ذلك حسب مشيئة الله وليس تحت ضغط الأحوال التاريخية، وهذا ما يحاول أن يجعل تلاميذه يفهمونه بواسطة الأقوال أو الأعمال المختلفة وقبل كل شيء عن طريق التنبء ببعض التفاصيل البسيطة.

العشاء الأخير قبل الآلام – تسليم سرّ الشكر الإلهي:

22 وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ، أَخَذَ يَسُوعُ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَّرَ، وَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ:«خُذُوا كُلُوا، هذَا هُوَ جَسَدِي». 23 ثُمَّ أَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ، فَشَرِبُوا مِنْهَا كُلُّهُمْ. 24 وَقَالَ لَهُمْ:«هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ، الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ. 25 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ بَعْدُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ اللهِ». (مرقس 14: 22-25، متى 26: 26-29، لوقا 22: 14-20).

إن وصف عشاء يسوع الأخير مع تلاميذه مقتضب، وهو يحتوي أساساً على الكلمات التأسيسية لسرّ الشكر الإلهي.

قبل تسليم السرّ يأتي التنبؤ عن المسلِّم (مر 14: 17-21، متى 26: 20-25). هذا التنبؤ عند لوقا يتبع العشاء مباشرةً. والغاية من الكلام عن الذي سوف يسلمه هي تقوية إيمان تلاميذه الذي كان يمكن أن يهتز من جرّراء الحدث غير المنتظر (أنظر يوحنا 13: 19 “أقول لكم الآن قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون أني أنا هو”)، وكذلك التأكيد على حقيقة معرفة المسيح المسبقة للأحداث كلها، فلا يفاجئه مجرى الأحداث بل يتقبّلها طوعاً باختياره وفقاً لتدبير الله الآب الخلاصي.

لا يشير المسيح إلى الذي يسلمه مباشرةً بل من خلال إشارة عامة “إنه واحد منكم” أي من المشتركين في هذه المائدة. هذا هو معنى العبارة “الذي يغمس معي في الصحفة” (الآية 20) ويشرح الرب تسليمه للموت في مايلي في الآية 21: التسليم ليس عائداً إلى نشاط يهوذا المسلِّم بل إلى مشيئة الله كما يُعبَّر عنها في العهد القديم (“كما هو مكتوب”). واللافت أنه يستخدم لنفسه لقب “ابن الإنسان” الذي يرتبط عادةً في الأناجيل بالآلالم (وفي بعض الأحيان بمجيئه الثاني المجيد كديّان). وتسليم ابن الإنسان للموت المعيَّن من الله. يقابله عقاب “ذلك الرجل”، ولا يعطى هنا توضيح آخر. لكن الجدير بالملاحظة وصف المسلِّم بـ “ذلك الرجل” مما يشكّل مباشرة بعداً بينه وبين حلقة التلاميذ الآخرين. طبعاً لا أحد من التلاميذ الباقي يريد أن يكون ذلك الرجل، ولذلك يتساءلون فيما بينهم “من ترى منهم هو المزمع أن يفعل هذا” (لوقا 22: 23). أما بالنسبة للحوار الذي دار بين المسيح ويهوذا، المذكور عند متى (“هل أنا يا سيّدي؟ قال له أنت قلت” متى 26: 25)، فإما لم يسمعه التلاميذ أو أنهم لم يفهموه.

الأفعال في الآية 22 “أخذ”، “بارك وكسر”، “أعطى”، لها طابع رسمي وليتورجي. ترد هذه الأفعال أيضاً في رواية عجيبة تكثير الخبزات التي اتخذتها الكنيسة نموذجاً أولياً (6) لسر الشكر الإلهي. إن الصلاة الشكرية وكسر الخبز وتوزيعه لم يتجعل التنلاميذ يتعجبون، فهم يعرفون التبيبكون (7) اليهودي، لكن ما لفت نظرهم هو التفسير المعطى في الآية 22 التالية للخبز المقدمة “هذا هو جسدي”. عندما سمعوا في السابق معلمهم يتكلم عن أكل جسده الذي هو خبز الحياة اعتبروا ذلك الكلام قاسياً (أنظر يوحنا 6: 32-60 وبخاصةً الآية 60). أما هنا فإن جوّ العشاء الاحتفالي وكذلك قدسية لحظة السرّ لم يتركا مجالاً لمقاومة التلاميذ أو ترددهم. كما أن كلمات المسيح مختصرة وجامعة. ومما يلفت النظر في هذه الكلمات النقاط التالية:

  1. إن الخبز المقدّم إلى التلاميذ لا يرمز إلى جسده بل هو جسده. نشدّد على هذا الموضوع أمام البروتستانت الذين يتكلمون عن رمز الخبز والخمر في الاخفارستيا (8) أو عن حضور المسيح السرّي في كل هذا. تؤمن الكنيسة الأرثوذكسية إن الخبز والخمر يتحوّلان بطريقة سرّية إلى جسد المسيح ودمه.
  2. في العبارة “الذي يهراق عن كثيرين” (الآية 24)، ينبغي لنا أن نرى الطابع الغفراني والخلاصي لذبيحة عبدالله المتألم الذي يتكلم عن أشعيا في الفصل 53. المسيح كعبد متألم يتوجه إلى الصليب، يفسّر الموت المزمع أن يتحقق من أجل خطايا العالم “لمغفرة الخطايا” (حسب متى 26: 28) أو “من أجل حياة العالم” (حسب يوحنا 6: 51). تشدّد الكنيسة على الطابغ الغفراني لموت المسيح في اعتراف إيمانها الأول الذي بقي في العهد الجديد (أنظر مثلاً رومية 4: 25، 1 كور 15: 3-5، 1 تيمو 2: 6).
  3. أخيراً نلفت النظر إلى اسم الفاعل “المهراق” أو الذي يهراق المستعمل في صيغة الحاضر المستمر، مما يشير إلى أن ذبيحة الصليب تشكل عملاً مستمراً غير دموي يتمم في الكنيسة.

الآية 25: إن تفكير يسوع موجّه نحو ملكوت الله الذي يعيشه المؤمن في الكنيسة دون أن يفرغ عمقه. الملكوت حاضر في الكنيسة بصورة دائمة وفي الوقت نفسه منتظر. وكلمات يسوع: “إن لا أشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديداً في ملكوت الله” يردّها لوقا مرتين (لوقا 22: 16، 18)، وهي لا تأخذ معنى اسختولوجياً (9) غير محدد بل معنى كنسياً واقعياً. يقول القديس كيرلس الإسكندري: “من عادته أن يدعو ملكوت الله التبرير بالإيمان، التطهير بالمعمودية والاشتراك بالروح القدس وقوّ’ العبادة بالروح، لذلك يقول لن أذوق مثل ذلك الفصح، الظاهر نموذجاً بصورة الطعام، حتى يتمّ في ملكوت الله اي في الوقت الذي فيه يُبشر بملكوت السماوات”. ويعتبر القديس يوحنا الذهبي الفم أن كلمات يسوع هذه تحققت بعد قيامته عندما أكل وشرب مع تلاميذه: “إني لا أشرب… لأنه كان يكلمهم عن آلامه وصليبه، فيضيف كلاماً عن القيامة أيضاً. عندما يذكر الملكوت يقصد سوف ترونني قائماً”. وكذلك يقول ثيوفيلكتوس: “إني لا أشرب من الخمر حتى القيامة. لأنه يدعو القيامة ملكوتاً، إذ يملك حينئذ على الموت؛ بعد القيامة أكل وشرب مع التلاميذ”. مما يقوله القديس كيرلس الإسكندري عن تفسير الملكوت (التطهير بالمعمويدة، الاشتراك بالروح القدس، العبادة بالروح)، ومما يشير إليه القديس يوحنا الذهبي الفم وثيوفيلكتوس عن القيامة، نستنتج بصورة واضحة أن الإنجيلي يقصد حقيقة الكنيسة التي يعيش فيها المؤمن منذ الآن خيرات الملكوت الآتي. في الوقت الذي كُـبت في الروايات الإنجيلية هذه كان سرّ الافخارستيا الإلهية يشكّل محور حياة الكنيسة، وباشتراك المؤمنين فيه كانوا “يخبرون” بموت المسيح (1 كور 11: 26) (10) وينتظرون مجيئه المجيد.

تدور مناقشات واسعة في الدراسات المعاصرة بالنسبة إلى زمن تتميم العشاء السري وأيضاً بالنسبة غلى طابعه إن كان فصحياً أم لا. لكن يجب ألا نربط بطريقة مباشرة جانبي الموضوع. لأن الطابع الفصحي لا يتعلق بزمن وقوع العشاء بل يتعلق بالمعنى الذي يعطيه المسيح للعشاء. لنرَ أولاً إن كان عشاء المسيح الأخير مع تلاميذه فصحياً. من أجل البحث عن جواب لهذا السؤال يجب أن نُعطي وصفاً مختصراً عن تيبيكون العشاء الفصحي اليهودي.

        العشاء الفصحي اليهودي:

يتم العشاء الفصحي مرّة واحدة في السنة لتتميم وصية الله الواردة في سفر الخروج 12: 14 “ويكون هذا اليوم لكم ذكراً فتعيّدونه عيداً للرب. تعيدونه مدى أجيالكم فريضة أبدية”. خلال تتميم الخدمة التي تجري في أورشليم باشتراك عدد من أفراد العائلة لا يقل عن العشرة، كان الأب يبارك الكأس الأولى قائلاً الجملة التالية: “تبارك الرب إليهنا ملك العالم خالق ثمرة الكرمة”. ويعد شرب الخمر وأكل أعشاب مرّة ملتوتة بعصير الفاكهة (عادةً تين، تفاح، عنب مع بهارات وخل)، يشرح الرئيس والمتقدّم في العائلة الخدمة ومصد كل المآكل المستخدمة (الحمَل، الأعشاب المرّة، الفطير… إلخ) إلى أفراد العائلة الصغار، ويشدد من خلال هذا العشاء على ذكرى التحرّر من مصر. ويقال بعدها “الهيليويا الصغير” (مزامير 113-114). ثم يأتي شرب الخمر للمرة الثانية، وبعدها يبدأ الطعام الرئيسي أي الحمل المشوي. ويتبع الكأس الثالثة المدعوة “كأس البركة” ترانيم المزامير 115 حتى 118 “الهليلويا الكبير”، ترافقهما الصلاة الشكرية، وتنتهي الخدمة في نصف الليل. تتكلم النصوص اليهودية عن كأس رابعة، لكننا لا نعرف إن كانت هذه العادة استمرت حتى زمن العهد الجديد. إلا أننا نستنتج من الآية 26 “ثم سبحوا وخرجوا…” (متى 26: 30) أن الخدمة الفصحية كانت تنتهي مع التسبيح.

إن تقطّع الروايات الإنجيلية وطابعها لا يسمح لنا أن نستخرج شيئاً بالنسبة لطابع العشاء المذكور. هكذا مثلاً لا يتكلم المقطع عن الحمّل، عن الأعشاب المرّة إلخ.. لكن من جهة أخرى يقودنا تحلُّق الجماعة واستعمال الخمر وبركة كأسين حسب رواية لوقا، الأولى في البدء والأخرى “بعد العشاء” والتسبيح وكلمات المسيح المرافقة لشرب الخمر وأكل الخبز وأخيراً وصف العشاء في الأناجيل الإزائية بالعشاء “الفصحي” (“لتأكل الفصح”، “حيث آكل الفصح مع تلاميذي”، “فأعدّا الفصح”)، يقودنا كل ذلك إلى التفكير بأن العشاء كان فصحياً. أما عدم تكلّم الإنجيليين عن الحمل فيفسره كثير من الآباء أنه عوض الحمل كان حاضراً ذاك الذي بعد قليل سوف يُسلَّم إلى الذبح، “حمل الهل الرافع خطيئة العالم”. وبالرغم من الطابع الفصحي للعشاء، هذا الطابع الذي نتبنّاه بخاصة بسبب تسميته هكذا بوضوح من قبل الأناجيل الإزائية، تُبرز دراسة مقارنة للروايات الإنجيلية مشكلة الوقت الذي تم فيه العشاء. لهذا نحن ماضون في عرض هذا الموضوع بالارتباط طبعاً مع المعلومات الواردة عنه في إنجيل يوحنا.

            زمن العشاء:

يُعطي الإنجيليون في الأناجيل الإزائية انطباعاً أن عشاء المسيح الأخير مع تلاميذه يقع في الوقت نفسه مع العشاء اليهودي، والصلب في يوم العيد. بينما من رواية الإنجيلي الرابع نستنتج أن الفصح اليهودي يقع في اليوم التالي للصلب، والصلب في اليوم السابق للفصح اليهودي أي في اليوم الذي تُذبح فيه الحملان في الهيكل، وأن عشاء المسيح الأخير حصل في اليوم السابق للعشاء الفصحي اليهودي. لن نورد هنا حجج المفسرين الذي يتبنون توقيت الإزائيين أو توقيت يوحنا، فهناك دراسات خاصة بهذا الموضوع. ولكن طالما أننا نعرض وجهة نظر الكنيسة الأرثوذكسية التي تنعكس في الخدمة الليتورجية، فشوف نحاول أن نجد التبرير اللاهوتي لما يكتبه الإنجيليون أو بالأحرى لما ينوّهون به عن زمن “العشاء السري” الذي هكذا يُدعى عادة في التقليد الليتورجي (11).

إن الليتورجيا الأرثوذكسية والتقليد اللاهوتي يبتنيان توقيت يوحنا للعشاء، أي أن العشاء قد تم في اليوم السابق للعشاء اليهودي. من جهة ثانية تستخدم الكنيسة الأرثوذكسية لتتميمه خبزاً مختمراً. وتبدو وجهة نظر القديس يوحنا الذهبي الفم فريدة وغريبة عندما يقول إن يسوع قد حافظ على توقيت العشاء الفصحي اليهودي لكن اليهود أرجأوا فصحهم يوماً واحدا بسبب انشغالهم بالقبض على يسوع. المقاطع الرئيسية في إنجيل يوحنا التي تُظهر بوضوح إن الفصح اليهودي واقع في اليوم الذي يلي الصلب هي التالية:

أ – يوحنا 13: 29 “فقال له يسوع ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة… لأن قوماً إذ كان الصندوق مع يهوذا صنوا أن يسوع قال له اشترِ ما نحتاج إليه للعيد أو أن يعطي شيئاً للفقراء”.

ب – يوحنا 18: 28 “ثم جاؤوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية. وكان صبح ولم يدخلوا هم إلى دار الولاية لكي لا يتنجسوا فيأكلون الفصح”.

ج – يوحنا 19: 31 “وإذ كان يوم التهيئة، فلكي لا تبقى الأجساد على الصليب في السبت، لأن يوم ذلك السبت كان عظيماً، سأل اليهود بيلاطس أن تُكسر سيقانهم ويُرفعوا”.

من الممكن أن يجد الواحد في الأناجيل الإزائية بعض التفاصيل التي تتفق مع التوقيت اليوحناوي، كالتالية مثلاً:

أ – من الصعب احتمال حصول محاكمة يسوع والاجراءات الأخرى في يوم عيد الفصح.

ب – حمل السلاح يوم العيد محرّم (ومع ذلك أنظر مرقس 14: 47، متى 26: 15، لوقا 22: 49-50).

ج – يشهد التفصيل حول سمعان القيرواني الذي كان عائداً من الحقل في اللحظة التي كان يسوع فيها سائراً إلى الجلجلة (مر 15: 21، متى 27: 32، لوقا 23: 26) على أن ذلك الويم لم يكن يوم عطلة.

ويمكن للواحد أن يُضيف أن توقيت تتميم عشاء المسيح الأخير مع التلاميذ ينعكس في الأيقونات الأرثوذكسية. هكذا مثلاً في رسم العشاء السري لا يُرسم حمل على المائدة (كما يحصل في الغرب) بل هناك سمكة، الأمر الذي يحمل معنى لاهوتياً أعمق (12).

إلى جانب كل ما ذُكر سابقاً من حجج مأخوذة من النصوص الإنجيلية ومن التقليد، والتي تقول بأن العشاء السري حصل في اليوم السابق للعشاء الفصحي اليهودي، إلى جانب ذلك نلاحظ أن الإنجيليين الشريفين يعرضون أهم الأحداث في سبيل إيمان الكنيسة، مهتمّين بخاصة بمعناها اللاهوتي، معيرين التوقيت الدقيق لزمن حدوثها اهتماماً أقلّ. ومنذ البداية يبرز الحدث في رواية إنجيل يوحنا، وفيه يُذبح الحمل رافع خطيئة العالم على الصليب في اللحظة نفسها التي تذبح فيها في الهيكل الحملان المخصصة للعشاء الفصحي اليهودي. ومن جهة ثانية فإن الأناجيل الإزائية تتحدث عن العشاء الفصحي الذي يقود إلى آلام المسيح، ويريد الإنجيليون بذلك أن يشددوا على استبدال النظام القديم بنظام جديد في المسيح، ربط “العهد الجديد” بدم المسيح. في اللحظة التي فيها يعيّد الشعب اليهودي لتحرّره من عبودية مصر يتمّم المسيح الفصح الحقيقي ويجمع شعب الله الجديد أي الكنيسة بتأسيسه سر الافخارستيا الإلهي وبتسليمه تالياً إلى الموت.

هل كان يهوذا حاضراً في عشاء المسيح الأخير مع تلاميذه؟ يزعم بعض المفسرين الذي لا يتقبلون، حسب تقليد سرّ الشكر الإلهي، حضور المسلِّم يهوذا، يزعمون أنه قد انسحب خلال العشاء وقبل تقديم السرّ ولذلك لم يشترك في جسد المسيح ودمه.

لا يمكن أن نطرح السؤال على أساس رواية الإنجيلي لوقا، لأنه في هذه الرواية يأتي التنبؤ بالتسليم مباشرةً بعد كلام الشكر الإلهي والتأسيسي. وهذا يفترض حضور يهوذا طيلة العشاء كما في رواية يوحنا، حيث لا ترد الكلمات التأسيسية للسرّ لكنه يذكر أن يسوع أظهر من سوف يسلّمه بعد سؤال التلميذ يوحنا الحبيب، وذلك عن طريق اعطائه اللقمة ومباشرةً بعد ذلك يلاحظ الإنجيلي: “فذاك لما أخذ اللقمة خرج للوقت وكان ليلاً” (يوحنا 13: 30). وبعد ذلك يورد خطاب يسوع الوداعي لتلاميذه قبل خروجه إلى البستان.

بخلاف يوحنا الذي يذكر انصراف يهوذا قبل الخطاب الوادعي ليسوع، لا يتكلم الإنجيليون الثلاثة الأول في أي موضع من أناجيلهم عن انسحاب يهوذا، ولا حتى في إنجيلي متى ومرقس حيث يتنبأ يسوع عن التسليم قبل العشاء. ولذلك يبقى الانطباع عند القارئ أن يهوذا اشترك قانونياً في العشاء. فالقول الصريح عند لوقا: “ولكن هوذا يد الذي يسلمني هي معي على المائدة” (لوقا 22: 21) لا يترك مجالاً للشك بالنسبة للموضوع. كما أنه من جهة ثانية حسب التوصيات اليهودية عن العشاء الفصحي لم يكن يُسمح بتغيير يمسّ الجماعة المتحلّقة المشتركة في العشاء بعد ابتدائه.

من الطبيعي أن يكون يهوذا قد غادر يسوع والتلاميذ الباقين إما مباشرة بعد العشاء وإما بعد مضي وقت قليل أي بعد توجّه يسوع إليه بالعبارة المذكورة عند الإنجيلي الرابع: “وما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة” (يوحنا 13: 27). على كل حال لا يمكن أن يكون انسحاب يهوذا قد حصل قبل العشاء طالما أن الكلام يدور حول غمس اللقمة من قبل يسوع وتقديمها ليهوذا فيما كان التلاميذ الباقيون موجودين حول المائدة. ولكنه يعطي الانطباع أنه غادر خلال العشاء. لكن طالما أن يوحنا لا يورد العبارات التقديسية للخبز، لا يمكننا تالياً أن نعرف إن كان يهوذا قد انسحب قبل هذه العبارات أم بعدها.

ولا يذكر الإزائيون انسحاب يهوذا قبل العشاء أو بعده مباشرةً، مفترضين هكذا أن هذا الانسحاب حصل عند خروج يسوع مع التلاميذ إلى جبل الزيتون. ومن غير المقبول من جهة ثانية ن يكون يهوذا قد انسحب من الجماعة بعد التنبؤ بالتسليم (وبعد جواب يهوذا المباشر أنه هو المسلِّم حسب متى 26: 25) دون أن يكون قد أدى ذلك غلى استياء التلاميذ الباقي ومحاولة إمساكه بالقوة. مثل هذا الانسحاب كان عليه أن يترك أثراً حتمياً على التلاميذ لا بدّ للإنجيليين أن يذكروه. لكن هؤلاء يُظهرون يهوذا من جديد في بستان الجسمانية عند القبض على يسوع مفترضين على الأرجح أنه قد اسنحب من الجماعة عند خروجهم من العليّة حيث حصل العشاء السري.

يفترض الأباء القديسون والمفسرون أن اشتراك يهوذا في العشاء الأخير أمر مفروع منه. ولذلك يعتبرونه مداناً “لأنه أكل مع التلاميذ ولم يخجل” (ثيوفيلكتوس)، أو أنه بالرغم من كونه “تاجراً رديئاً” تقبّله الرب “معه على المائدة” (القديس يوحنا الذهبي الفم)، ولم يحرمه البتة “من الاشتراك في الخبز والكأس” بحث قد “اشترك المسلِّم في الحياة الأبدية” (القديس يوحنا الذهبي الفم). من خلال كل هذا يشدّد مفسّرو الكنيسة من جهة على صلاح الرب الذي قبل “معه على المائدة” من سوف يُسلِّمه بعد قليل ومن جهة ثانية على تقبل “خبث المُسلِّم” ونكرانه الجميل. وجهة النظر هذه لها صداها في ترانيم الكنيسة (من بين الترانيم الكثيرة في الأسبوع العظيم أنظر المقطع التالي: “أيّ سبب جعلك يا يهوذا تُسلِّم المخلّص. هل تناول العشاء مع أولئك وأقصاك عن المائدة؟…”؛ كاثسما باللحن السابع عشية الخميس العظيم المقدس).

الخروج إلى جبل الزيتون والتنبؤ عن إنكار بطرس:

 26 ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. 27 وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«إِنَّ كُلَّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ الْخِرَافُ. 28 وَلكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ». 29 فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ:«وَإِنْ شَكَّ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ!» 30 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». 31 فَقَالَ بِأَكْثَرِ تَشْدِيدٍ:«وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!». وَهكَذَا قَالَ أَيْضًا الْجَمِيعُ. (مرقس 14: 26-31، متى 26: 30-35، لوقا 22: 31-34 و39).

يورد الإنجيلي لوقا حديثاً طويلاً ليسوع مع التلاميذ بعد تسليمهم سرّ الشكر الإلهي (لوقا 22: 21-38؛ أنظر أيضاً يوحنا 14-17)، بينما يذكر مرقس الخروج إلى جبل الزيتون مباشرةً (أنظر أيضاً متى 26: 30). وفي هذه الرواية يتنبأ يسوع عن شك التلاميذ فيه “في هذه الليلة” مشيراً إلى مقطع زخريا 13: 7 (“أضرب الراعي فتتبدد الخراف”)، وبعدها يسبق فيعلن عن إنكار بطرس المثلّث. في كل ذلك لا يمكن تركيز الآيات 26-28 على تشتت التلاميذ وإنكار أحدهم للمعلم بل على جمعهم من جديد في الجليل (“ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل”). يُفسَّر موت المسيح في موضع آخر من قبل الإنجيلي يوحنا أنه يتمّ “لكي يجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد” (يوحنا 11: 52) أي ليؤلِّف الكنيسة.

أما التجربة التي سوف يواجهها التلاميذ والتي سوف تجعلهم يشكون، فيتكلم عنها مرقس في الآية 38 حيث يحث يسوع تلاميذه على السهر والصلاة لكي يتغلّبوا على الشرير. في الآيات 29-31 يردّ يسوع على مظاهر بطرس الحماسية وعلى وعوده بأنه لن يشك مع الباقين (“فأنا لا أشك”) فيُعْلِمه مُسبقاً بإنكاره المثلث الذي سوف يحصل (“اليوم في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك مرتين”) (أمّأ قول مرقس عن صياح الديك مرتين فيشرح القديس يوحنا الذهبي الفم بأنه يأتي من تذكّر بطرس الدقيق لمعلمه). إنكار بطرس وكذلك توبته لا يشكلان خبرة أليمة لبطرس فحسب بل للكنيسة كلّها التي يتوجه إليها الإنجيليون مشدّدين على ذلك الحدث المزعزع لكي يحفظوا المسيحيين من الإنكارات الطارئة والزعزعات الإيمانية في وقت الاضطهادات الصعبة. يدل مثال بطرس على أن الثقة بالنفس لا تكفي في أوان التجربة بل تتطلّب المسألة استدعاء العون الإلهي. يقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين إنكار بطرس وتسليم يهوذا ويقول: “نتعلم من هنا مثلاً عظيماً ألا وهو أنه لا يكفي استعداد الإنسان إن لم يتلقَّ عوناً من فوق، ولا يستفيد من العون الذي من فوق إن لم يتوفر عنده الاستعداد”. ثم يذكر القديس الذهبي الفم زلات بطرس، ويقول أنها ثلاث: معارضته لأقوال الرب، تعاليه عن الآخرين، أخيراً ثقته الكبيرة بنفسه.

أين يكمن بالضبط “شك” التلاميذ (“التجربة” التي يتكلّم عنها في الرواية التالية)؟ إن أخذنا بعين الاعتبار التضاد بين الشيطان وعمل المسيا يكون منطقياً افتراضنا أن التجربة كامنة في بث الشكوك في التلاميذ حول ما إذا كان معلّمهم الذي يتوجّه إلى الإهانة والآلام هو حقاً المسيا. قبل رواية الآلالم بقليل يعلمنا الإنجيليون (أنظر مرقس 10: 35-45، متى 20: 20-28) أن التلاميذ يرتجون سيادة ملك المسيّا يقوة في العالم. وكيف يمكن إذن لهذا المسيا المقتدر أن يحتمل الآلالم؟ ربما لم يكن هو المسيا الحقيقي! يحاول الشيطان أن يبث هذا التشكيك في التلاميذ طيلة عمل يسوع مستخدماً كأدوات له اليهود الذين يشكّون علانية في مسيانيته، ويشوّهون تفسير عجائبه، ويطرحون أسئلة مختلفة على التلاميذ وعلى المسيا نفسه الذي حسب رواية التجارب (لوقا 14: 1-13ـ متى 4: 1-11) يجرَّب لكي يبتعد عن طريق الطاعة والآلام ولكي يتوجّه فكره إلى فرض نفسه بسهولة على الشعب كقائد عالمي.

في الحقيقة التجربة هذه جديّة وقاسية، لذا “تضرّع” يسوع (لوقا 22: 23) إلى الآب. كما نعلم من إنجيل يوحنا (الفصل 27) أن يسوع، قبل الآلام، صلّى إلى الآب من أجل تلاميذه.

الصلاة في الجسمانية والقبض على يسوع:

32 وَجَاءُوا إِلَى ضَيْعَةٍ اسْمُهَا جَثْسَيْمَانِي، فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ:«اجْلِسُوا ههُنَا حَتَّى أُصَلِّيَ». 33 ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ. 34 فَقَالَ لَهُمْ:«نَفْسي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ! اُمْكُثُوا هُنَا وَاسْهَرُوا». 35 ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ، وَكَانَ يُصَلِّي لِكَيْ تَعْبُرَ عَنْهُ السَّاعَةُ إِنْ أَمْكَنَ. 36 وَقَالَ:«يَا أَبَا الآبُ، كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ، فَأَجِزْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا، بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ». 37 ثُمَّ جَاءَ وَوَجَدَهُمْ نِيَامًا، فَقَالَ لِبُطْرُسَ:«يَا سِمْعَانُ، أَنْتَ نَائِمٌ! أَمَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْهَرَ سَاعَةً وَاحِدَةً؟ 38 اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ». 39 وَمَضَى أَيْضًا وَصَلَّى قَائِلاً ذلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ. 40 ثُمَّ رَجَعَ وَوَجَدَهُمْ أَيْضًا نِيَامًا، إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً، فَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَاذَا يُجِيبُونَهُ. 41 ثُمَّ جَاءَ ثَالِثَةً وَقَالَ لَهُمْ:«نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا! يَكْفِي! قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ! هُوَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ. 42 قُومُوا لِنَذْهَبَ! هُوَذَا الَّذِي يُسَلِّمُنِي قَدِ اقْتَرَبَ!».
43 وَلِلْوَقْتِ فِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ أَقْبَلَ يَهُوذَا، وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَالشُّيُوخِ. 44 وَكَانَ مُسَلِّمُهُ قَدْ أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً قَائِلاً:«الَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ، وَامْضُوا بِهِ بِحِرْصٍ». 45 فَجَاءَ لِلْوَقْتِ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَائِلاً:«يَا سَيِّدِي، يَاسَيِّدِي!» وَقَبَّلَهُ. 46 فَأَلْقَوْا أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ وَأَمْسَكُوهُ. 47 فَاسْتَلَّ وَاحِدٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ السَّيْفَ، وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ. 48 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي! 49 كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ مَعَكُمْ فِي الْهَيْكَلِ أُعَلِّمُ وَلَمْ تُمْسِكُونِي! وَلكِنْ لِكَيْ تُكْمَلَ الْكُتُبُ». 50 فَتَرَكَهُ الْجَمِيعُ وَهَرَبُوا. 51 وَتَبِعَهُ شَابٌّ لاَبِسًا إِزَارًا عَلَى عُرْيِهِ، فَأَمْسَكَهُ الشُّبَّانُ، 52 فَتَرَكَ الإِزَارَ وَهَرَبَ مِنْهُمْ عُرْيَانًا. (مرقس 14: 32-52، متى 26: 36-56، لوقا 22: 40-53).

يبدو أن المناقشة في الآيات 26-31 حصلت على الطريق إلى  الجسمانية وهو موقع (“بستان” حسب رواية يوحنا 18: 1 و26) جبل الزيتون، وتعني معصرة للزيت. ويوصف جهاد يسوع في الجسمانية (الآية 32 وما يليها) أما ثلاثة من تلاميذه، بطرس ويعقوب يوحنا الذين أخذهم معه وابتعد عن الباقين، بعبارة المزمور “نفسي حزينة حتى الموت” (مز 41: 6، ومر 14: 34). “حتى الموت” عبارة تعبِّر عن شدّة الجهاد الذي يبلغ أوجه في مايقوله لوقا “صار عرقه كقطرات دم” (لوقا 22: 44). لا يأتي مثل هذا الجهاد من خوف بشري أمام الموت الآتي بل من مواجهة الموت “كعدو أخير” لعمل الله المبدع، وكنتيجة أخيرة للخطيئة، وكنقص للخليقة “الحسنة جداً”. ويعيش يسوع بطريقة مكثفة النتائج المأسوية لسيادة الخطيئة في العالم، ويشعر باضطراب كبير وبحزن من أجلها. ينسب القديس كيرلس الإسكندري حزن يسوع بصورة خاصة إلى ما آل إليه الشعب الإسرائيلي. ويعترف الآباء المفسرون هنا وبصورة عامة بالتعليم حول طبيعة المسيح البشرية والتي يشدّدون عليها أمام الهراطقة المنكرين إياها.

ومما يدعم هذا التعليم مضمون صلاة يسوع إلى الآب. يكتب مثلاً ثيوفيلكتوس: “ويرغب هو أيضاً في الحياة كإنسان، ويرجو أن تبعد الكأس عنه لأن الإنسان يحب الحياة. بينما تدحض الهرطقات كلامه مدعية أنه تأنس ظاهرياً”. ونحن نعتقد أن التشديد الرئيسي في صلاة يسوع كامن في الشق الثاني منها أي في تقبّل مشيئة الله. إن كان الإنجيليون الشريفون يذكرون صلاة يسوع في الجسمانية (وذلك ثلاثاً عند مرقس ومتى) فليس لكي يقولوا لنا أنه تردّد في لحظة ما كإنسان بل إنه، كابن مطيع وكعبد متألم، يتقبّل حتى النهاية مشيئة الله. ولذلك يلاحظ منذ البداية ديونيسيوس الإسكندري: “من الواضح أن العبارة إن شئت تدل على الطاعة والتواضع لا على الجهل أو التردد”.

بعد صلاته الحارة يتوجه يسوع إلى تلاميذه، والأرجح إلى الثلاثة الذين انفرد بهم، كونه يتكلّم مع بطرس، ويجدهم نياماً (“من الحزن” يضيف لوقا)، ويوصيهم بالسهر والصلاة لئلا يدخلوا في “تجربة” (راجع الشرح حول مرقس 14: 26-28). من أجل التغلّب على هذه التجربة في تلك الساعة المهمة، ويردد يسوع صلاته إلى الآب للمرّة الثانية والثالثة.

الآية 41: وبعد ذلك يعلن عن اقتراب الذي يسلمه قائلاً: “يكفي. قد أتت الساعة”. تعود صعوبة فهم الفعل “يكفي” «apekhi» إلى زمن قديم، كما يبدو من تقليد المخطوطات، حيث نجد العبارات المختلفة: “قُضي الأمر. أتت الساعة”؛ “قُضي الأمر، وأتت الساعة”؛ “قُضي الأمر. ها قد أتت الساعة”؛ “أتت الساعة. اقتربت النهاية”. والبعارة الغالبة والأقدم هي “يكفي. أتت الساعة”. من الواضح أن بعض المخطوطات تصحّح الآية وتفهمها على ضوء ما جاء في لوقا 22: 37 “لأن ما هو من جهتي له انقضاء”.

من أهم التفاسير للآية 41 وكلمة apekhi:

أ – ترتبط هذه الكلمة بنوم التلاميذ، ويقول لهم يسوع: كفى نوماً أتت ساعة القبض عليّ. استيقظوا!

ب – يتوجّه الفعل إلى يهوذا “بينما أنتم نائمون، ذاك يقبض علي: أتت ساعتي”. يستشهد مؤيدو هذا التفسير بقول الرسالة إلى فيلمون 15 حيث تأخذ الكلمة apekhi معنى الأخذ والاستلام والتسليم، وتستخدم لأحد الأشخاص.

ج – توضع مع الفعل علامة تساؤل تنوّه باقتراب النهاية: “أبعيدة النهاية؟ كلا أتت الساعة”. والذين يميلون إلى هذا التفسير يتبنون المخطوطة D.

د – التعبير مشوه عن الأصل الأرامي الذي فيه: “النهاية والساعة تقتربان”.

هـ – يأتي الفعل apekhi من التعبير التجاري ويعني سدّد. فيكون معنى الجملة أن يسوع يؤكد على تقبّله للساعة التي طلب من الآب أن تعبر عنه (الآية 35).

و – يذكر متى رواية مرقس 14: 32-42 بكاملها تغييرت بسيطة دون الكلمة apekhi مما يدلّ على أن الكلمة لم تكن أصلاً في نص مرقس وقد أُدخلت إليه لاحقاً.

دون أن نتبنى كتابة المخطوطة D، نعتقد أن الفعل apekhi ينبغي أن يرتبط بحدث النهاية القريب و”الساعة” القريبة التي لا يحدّدها اليهود بل مشيئة الله ومحبّته. وفي مثل هذه الحالة تأتي الآية 41 عند مرقس شبيهة بما جاء عند لوقا 22: 37: “لأن ما هو من جهتي له انقضاء”. ويفسر زيغافنوس عن حق: “يكفي. قضي الأمر بالنسبة إليّ أي وصل إلى نهايته”.

القبض على يسوع:

بينما يوجّه يسوع كلامه إلى التلاميذ، يأتي يهوذا “واحد من الاثني عشر” ومعه جمع كثير ويقبِّل المعلّم. لا ينبغي أن نجد رداءة خاصة في القبلة بحدّ ذاتها كونها تشكل السلام الاعتيادي للمعلّم من قبل التلاميذ، لكنها هنا تشكل العلامة المتفق عليها سابقاً من أجل معرفة من يجب أن يقبضوا عليه.

عند إلقاء القبض على يسوع، هجم واحد من تلاميذه (وهو بطرس حسب رواية يوحنا 18: 10) على عبد رئيس الكهنة بالسيف وقطع أذنه اليمنى. من الأرجح أن يكون هذا العبد قد ترأس الوفد عند التسليم. أمّا أن يكون “مدير شرطة مدينة أورشليم” أو أنه يقصد من خلاله يهوذا، فهذه اعتبارات غير مرجحة ولا تستند إلى أي دليل. وكذلك النظرية التي تقول أن التلميذ يهدف من خلال هذا العمل العنيف إلى معاقبة رئيس الكهنة عقاباً رمزياً (لأن قطع الأذن يشكل عملاً معيباً حسب العادات الشرقية) هي نظرية تستند طبعاً إلى معرفة العادات الشرقية، لكنها تفترض مسبقاً عقاباً مفروضاً بعد تفكير ودراسة وليس عملاً يأتي كردة فعل فجائية في وسط جوّ شبه مظلم. والأرجح أن التلميذ المذكور شهر سيفه ضد العبد القائد إلا أنه لم يستطيع إلا أن يقطع أذنه.

يقول يسوع للذين أتوا ليقبضوا عليه أن طريقة مجيئهم تتفق مع حالة أحد “اللصوص”، وأنه كان هنالك اكثر من ظرف مناسب لتحقيق رغبتهما طالما كان يعلّم كل يوم في الهيكل. ومن خلال كل ذلك يريد أن يقول حسب القديس كيرلس الإسكندري “إن القبض عليه لم يتم بعمل قدرتهم الخاصة بل بمشيئة ذاك الذي قبل الآلام طوعاً وتدبيراً منه”. لكن ماذا يقصد يسوع من وراء الكلمة “لص”؟ هل قبضوا عليه لأنه محسوب كمجرم؟ هذا هو التفسير الاعتيادي لكملة لص من قبل الشرّاح. هناك وجهة نظر جذابة وجديرة بالاهتمام تنقول إن هذه العبارة، كما يشهد يوسيفوس (تاريخ الحرب اليهودية 2: 587-593، 4: 84-97)، كانت تستعمل للدلالة على القادة الغيورين الثائرين على الرومان. هكذا، وفقاً لمؤيدي وجهة النظر هذه، كان اللصان الآخران اللذان صلبا مع المسيح من حزب الغيورين (مر 15: 27، متى 27: 38)، وكذلك براباس الذي يصفه الإنجيلي الرابع بأنه لصّ. وإن كانت وجهة النظر هذه تستخدم إشارة بعيدة إلا أنها جديرة بالاهتمام لأنها تعبر عن الجوّ الحامي “للغيورين” في تلك الفترة الزمنية.

قبل أن نأتي إلى الخبر الوارد عند مرقس عن الشاب العريان، لنحاول الإجابة عن السؤال من هم الذين أتوا ليقبضوا على يسوع؟ يعطي الإنجيلي الرابع في روايته المشابهة انطباعاً خاصاً في استخدامه عبارات تطلق على فرق الجيوش الرومانية مثل السريّة “spira” وقائد الألف “Chiliarkhos” (يوحنا 18: 3 و12)، بينما يتكلم الإنجيليان الإزائيان الأولان عن الجمع بصورة عامة المرسل من قبل رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ (مر 14: 43، متى 26: 47). أما لوقا فيتكلم في البداية عن الجمع، وبعدها يحدد بصورة أوضح الآتين للقبض على أنهم رؤساء كهنة وقادة جند الهيكل والشيوخ (لوقا 22: 52).

يعتبر بعض المفسرين أن يوحنا يعطي معلومات تاريخية أدقّ، ويعتقدون أن القبض على يسوع قد تم بواسطة القوة الرومانية. لكننا نعتقد أنه لا يمكن للرومان أن يكونوا قد قبضوا على يسوع للأسباب التالية:

أ – من غير المعقول تحريك سرية بكاملها مؤلفة من ألف أو 600 رجل من أجل القبض على فرد واحد يتهمه بعض اليهود المتعصّبون. ومن جهة ثانية يتطلب هذا العمل أمراً من الحاكم الروماني الذي حسب روايتنا يأخذ علماً بالوضع لاحقاً.

ب – لو قبض الرومان على يسوع لكانوا اقتادوه إلى الرؤساء الرومانيين وليس إلى رئيس الكهنة اليهودي.

ج – الجلمة التي يستعملها يسوع أمام الذين جاؤوا ليقبضوا عليه “كل يوم كنت معكم في الهيكل أُعلِّم ولم تمسكوني” تتوجه منطقياً إلى اليهود.

د – لو كان الأمر كذلك لكان الإنجيلي لوقا، العارف بالعبارات العسكرية الرومانية، أظهر حضور الرومان في مشهد القبض على يسوع.

يبدو أن الإنجيلي يوحنا لا يستخدم كلمة “سَريّة” “spira” بمعناها التقني الخاص، بل بشكل عام حرّ للدلالة على فرقة عسكرية. يمكن أن تتألف هذه الفرقة بناء على قرار من “حاكم الهيكل” من 21 لاوياً يتولّون حراسة الهيكل. ونعلم من جهة أخرى أن يهوذا كان قد تفاوض مع رؤساء الكهنة وجند الهيكل والشيوخ من أجل التسليم حسب رواية لوقا 22: 4. وقد تعاون مع قوّة الهيكل من الحرس اللاوي على الأرجح خدام المجمع الكبير (أنظر يوحنا 18: 3 و12 “خدام من عند رؤساء الكهنة والفريسيين” و”خدام اليهود”).

الآيتان 51-52: تنتهي رواية القبض على يسوع من قبل مرقس بالخبر المذكور عند مرقس فقط عن الشاب اللابس إزاراً والذي ترك الإزار وهرب عرياناً عندما همّوا بالقبض عليه (مرقس 14: 51-52). من هو هذا الشاب ولماذا يذكره مرقس؟ طبعاً لا يتكلم الإنجيلي عن حدث وهمي مستوحى من عاموص 2: 16 “والشديد القلب يفرّ في ذلك اليوم”، أو عن رمز سابق لقيامة المسيح الذي تفادى الموت كما فعل الشاب الذي فرّ من ايدي الذين جاؤوا ليقبضوا عليه. إن الحدث قد تم فعلاً كما يبدو من التفاصيل غير المصطنعة ومن الصورة العامة الطبيعية. وربما يكون السبب الذي من أجله لا يذكره الإنجيليون الآخرون اعتبارهم إياه بلا أهمية خاصة بالنسبة إلى قرّاء إنجيلهم.

كُتبت نظريات عديدة تحدد هوية هذا الشاب الغريب. يعتبر المفسرون القدماء أن الشاب المذكور هو الإنجيلي يوحنا أو يعقوب أخو الرب، بينما يرى المفسرون الحديثون في هذا الشاب المجهول الاسم إما أحد سكان المنطقة الغريب أو، كما ترى الأغلبية منهم، الإنجيلي مرقس نفسه، ويكون مرقس قد أورد هذا الخبر التفصيلي لأنه يتعلّق به شخصياً. ولذلك نرى أن وجهة النظر الأخيرة هي المرجّحة.

ما هو الهدف الذي كان يبحث عنه الإنجيلي من وراء هذا الخبر؟ أيريد أن يذكر لنا شهادة شخصية عن القبض على المسيح؟ يجب بالأحرى أن نقول أنه عن طريق ذكر هذا الحدث المعاين شخصياً يضع الإنجيلي خاتم شهادته الخاصة على كل الأحداث المعروضة، كما فعل الإنجيلي الرابه في أحد مواضع إنجيله دون أن يذكر اسمه تاركاً لنا أن ندرك هويته.

يسوع أمام المجمع الكبير – إنكار بطرس:

53 فَمَضَوْا بِيَسُوعَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ. 54 وَكَانَ بُطْرُسُ قَدْ تَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَاخِلِ دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَكَانَ جَالِسًا بَيْنَ الْخُدَّامِ يَسْتَدْفِئُ عِنْدَ النَّارِ. 55 وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةً عَلَى يَسُوعَ لِيَقْتُلُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوا. 56 لأَنَّ كَثِيرِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ زُورًا، وَلَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَاتُهُمْ. 57 ثُمَّ قَامَ قَوْمٌ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ زُورًا قَائِلِينَ: 58 «نَحْنُ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنِّي أَنْقُضُ هذَا الْهَيْكَلَ الْمَصْنُوعَ بِالأَيَادِي، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِي آخَرَ غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِأَيَادٍ». 59 وَلاَ بِهذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ تَتَّفِقُ. 60 فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ فِي الْوَسْطِ وَسَأَلَ يَسُوعَ قِائِلاً:«أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هؤُلاَءِ عَلَيْكَ؟» 61 أَمَّا هُوَ فَكَانَ سَاكِتًا وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ أَيْضًا وَقَالَ لَهُ:«أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟» 62 فَقَالَ يَسُوعُ:«أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاءِ». 63 فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ وَقَالَ:«مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ 64 قَدْ سَمِعْتُمُ التَّجَادِيفَ! مَا رَأْيُكُمْ؟» فَالْجَمِيعُ حَكَمُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ. 65 فَابْتَدَأَ قَوْمٌ يَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، وَيُغَطُّونَ وَجْهَهُ وَيَلْكُمُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ:«تَنَبَّأْ». وَكَانَ الْخُدَّامُ يَلْطِمُونَهُ.
66 وَبَيْنَمَا كَانَ بُطْرُسُ فِي الدَّارِ أَسْفَلَ جَاءَتْ إِحْدَى جَوَارِي رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. 67 فَلَمَّا رَأَتْ بُطْرُسَ يَسْتَدْفِئُ، نَظَرَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ: «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!» 68 فَأَنْكَرَ قَائِلاً: «لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ!» وَخَرَجَ خَارِجًا إِلَى الدِّهْلِيزِ، فَصَاحَ الدِّيكُ. 69 فَرَأَتْهُ الْجَارِيَةُ أَيْضًا وَابْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ:«إِنَّ هذَا مِنْهُمْ!» 70 فَأَنْكَرَ أَيْضًا. وَبَعْدَ قَلِيل أَيْضًا قَالَ الْحَاضِرُونَ لِبُطْرُسَ:«حَقًّا أَنْتَ مِنْهُمْ، لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضًا وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُمْ!». 71 فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!» 72 وَصَاحَ الدِّيكُ ثَانِيَةً، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ لَهُ يَسُوعُ:«إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فَلَمَّا تَفَكَّرَ بِهِ بَكَى. (مرقس 14: 53-72، متى 26: 56-75، لوقا 22: 54-71).

بعد القبض عليه يُقتاد يسوع من قبل الفرقة العسكرية اليهودية الخاصة بالهيكل إلى رئيس الكهنة (قيافا حسب متى 26: 57) الذي يدعو معه رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة. لا يُقال بصورة واضحة إن كان المجمع الكبير اليهودي قد دُعي بأكمله، وكان ينعقد عادةً في مسكن خاص في الساحة الداخلية للهيكل، ويُدعى بالمجلس (Vouli) من قبل المؤرخ يوسيفوس. ولكن يبدو أن الاجتماع حصل ليلاً في بيت رئيس الكهنة، وفي ساحته كان بطرس موجوداً مع الخدّام. يعتبر كثيرون من المفسرين أن الرواية المرجّحة هي رواية لوقا التي تقول إن يسوع حُبس طيلة الليل في بيت رئيس الكهنة يهزأ به الحارسون بانتظار الصباح حين دُعي المجمع إلى الانعقاد (لوقا 22: 54-71). حصل إنكار بطرس ليسوع خلال الليل وقبل انعقاد المجمع. على كل حال لا بدّ من القول إن الأناجيل لا تهدف إلى إعطاء وقائع مسجلة للمحاكمة الحاصلة أو وصفاً تفصيلياً للحوادث، بل هي نصوص دينية تحمل طابعاً لاهوتياً خاصاً. يريد الإنجيليون أن يُبرزوا اعتراف يسوع المسياني أمام رؤساء اليهود الرسميين، هذا الاعتراف الذي أغضب المجمع وأدّى إلى قرار الحكم بالموت. لا يريد الكُتّاب الشريفون أن يقدّموا تفاصيل تحمل طابعاً قانونياً عن المحاكمة الحاصلة. ولا يمكن أن نعطي معنى جوهرياً لمحاولة بعض الكُتّاب المعاصرين تجميع “الأخطاء” والتجاوزات القانونية في المحاكمة والمرتكبة من قبل المجمع اليهودي الكبير. كذلك لا يجني الإنسان أي ربح من محاولة البرهان أن اليهود تصرّفوا ضد القانون. فالإنجيليون لا تهمّهم المحاكمة غير القانونية الحاصلة، بل إيمان الكنيسة بمسيانية يسوع المحكوم عليه بالموت من قبل اليهود، والإيمان بأن هذا الموت قد حصل من أجل خلاص الإنسانية من الخطيئة وفقاً لمشيئة الله.

بعد هذا التوضيح للأمور السابقة، لنأتِ إلى عرض الحوادث كما وردت عند الإنجيلي مرقس. في الآيات 55-59 يتكلم عن مجيء الكثير من شهود الزور الذين لم تتفق شهاداتهم، وبعدئذ يذكر شاهدي زور ادعيا أنهما سمعا المتهم يتكلم عن نقض الهيكل وبناء هيكل جديد في ثلاثة أيام. يرد هذا الكلام على لسان يسوع فقط عند يوحنا 2: 19 حيث ينسبه إلى “هيكل جسده” (أنظر أيضاً اعمال 6: 14). ويلاحظ مرقس بصورة مميزة: أنه عندما دعا رئيس الكهنة يسوع إلى الإجابة عن الاتهامات الموجّهة ضدّه، صمت الربّ. يعيد هذا الصمت إلى ذهننا نبوءة أشعيا 53: 7 “وكحمل صامت أمام الذين يجزّونه لا يفتح فاه..”.

يسكت يسوع عالماً أنه عبد الله السائر نحو الآلالم، ولكنه وللمرة الأولى، يُصرّح علناً بأنه المسيح (الآيتان 61-62) كما يُنبئ عن مجيئه المجيد. وسؤال رئيس الكهنة في الآية 61 ليسوع “إن كان المسيح ابن المبارك” يعطي انطباعاً أن المسيا في النصوص اليهودية لا يتصف بصورة واضحة بأنه ابن الله. ويلاحظ هنا كثيرون من الفمسرين الحديثين:

أ – إن سؤال رئيس الكهنة طُرح من قبل الإنجيليين بطريقة تعكس تعبير الكنيسة الخريستولوجي (المختص بالمسيح).

ب – إن جواب يسوع يشكل الأحرى تعبيراً عن إيمان الكنيسة بمسيانيته.

الملاحظة الأولى “أ” هي طبعاً ممكنة لأن الإنجيليين، عند سردهم للحوادث المتعلقة بيسوع، يستخدمون التعابير المسيحية التي تشكّلت في أحضان الكنيسة. كما يمكننا القول أن رئيس الكهنة اليهودي عن طريق سؤال لا يعرض المفهوم اليهودي حول المسيّا بل رأي أتباعه عنه، أو أنه يهدف إلى دعوة يسوع لكي يقول أنه ابن الله بطريقة تثبت اتهامه “بالتجديف”. أما بالنسبة إلى الملاحظة الثانية “ب” فيمكن أن نقول مايلي: يريد هؤلاء المفسرون الحديثون أن يقولوا أن الجواب المعطى لرئيس الكهنة لا يأتي من يسوع نفسه بل من إيمان الكنيسة بشخص المسيح كابن الله. لكننا نعتقد أن جواب المسيح الإيجابي كما سنوضح لاحقاً يشكل عنصراً تاريخياً لأنه لعب دوراً قاطعاً في كل المحاكمة وخصوصاً في الحكم عليه بالموت. وقد عاد اليهود وكرروه متوجهين به إلى يسوع بهزء في ساعة الصلب (مر 15: 32).

من جهة أخرى، لو صحّت وجهة النظر التي تقول بأن جواب يسوع لرئيس الكهنة آتٍ من إيمان الكنيسة لكان يجب أن يؤتى على ذكر القيامة أيضاً لأنها تشكل جزءاً أساسياً في إيمان الكنيسة الأولى كما يظهر في الاعتراف الإيماني الذي يشهد عنه العهد الجديد.

إن جواب يسوع (الآية 62) هو إيجابي صريح. وإلا ليس من مبرر لاستياء رئيس الكهنة والاتهام “بالتجديف”. إن صيغة الجواب، كما ورد عند متى 26: 64، الحاملة حسب البعض إنكاراً خفياً (“قال له يسوع أنت قلت. من الآن تبصرون…”) لها المعنى التالي: عند سؤال رئيس الكهنة إن كان هو المسيح أو بالأحرى المسيا السياسي المنتظر من قبل اليهود، يجيب يسوع بآيات المزمور 109: 1 ودانيال 7: 13 على أنه ليس المسيا كما يعتقد اليهود بل كعبد يتألم الآن وكابن الإنسان الآتي بمجد فيما بعد.

مسؤولية اليهود:

بعد هذا الجواب مزّق رئيس الكهنة ثيابه وأشار إلى “التجديف” الذي صدر عن يسوع (الآية 63). يتضح هذا التجديف بصورة أدق حسب اليهود في أن يسوع قد تجاوز الحدود البشرية معتبراً نفسه ابن الله (أنظر يوحنا 5: 18، 10: 33 و36، 19: 7). لا يعترف رئيس الكهنة اليهودي بإعلان الله في شخص المسيح، ويعتبر ادّعاءه بأنه ابن الله وأنه مزمع أن يأتي كديّان تجديفاً مرفوضاً.

بسبب هذا “التجديف” تقرّر الحكم على يسوع بالموت (الآية 64)، مع العلم أنه في رواية لوقا لا يتكلم الإنجيلي عن قرار المجمع وحكمه بالموت (أنظر لوقا 22: 70-71).

ويُطرح السؤال اليوم من قبل الكثيرين إن كان المجمع يهودي قد حكم على يسوع بالموت وطلب فيما بعد التصديق على قراره من قبل الحاكم الروماني، لأنه لم يكن يحق للمجمع أن يفرض عقوبة الموت (أنظر يوحنا 8: 31 ب)، أو أنه استجوب يسوع مسبقاً لكي يجمع قرائن ضده تساعد بيلاطس على ادانته. هكذا فإن بعض المفسرين يقولون بأن المجمع حكم على يسوع بالموت، مريدين أن يلقوا المسؤولية كلها على الرؤساء اليهود، بينما يقول البعض الآخر بأن دور المجمع اقتصر على استجواب مسبق ليسوع من أجل تحديد التهمة أما بيلاطس، وهذا بدوره أصدر الحكم على يسوع بالموت. يلقي هؤلاء المفسرون الأخيرون المسؤولية على الرومان، مدّعين أنهم يستندون إلى سرد الحوادث كما ورد عند لوقا. لكن هذه الحجّة هي ضدّهم، لأنه معلوم أن لوقا عبر إنجيله كله يحاول تبرير الرومان من كل اضطهاد ضد المسيحيين. لذلك اعتبر إنجيل لوقا وكذلك أعمال الرسل أول دفاع للمسيحية أمام الرؤساء الرومانيين.

وجهة نظر الكنيسة:

بالرغم من بعض المحاولات التي بذلها مفسّرون حديثون لإلقاء مسؤولية قرار الصلب على الحاكم الروماني، يتضح أن الإنجيليين يشدّدون على الدور الرئيسي الذي لعبته الرئاسة الدينية اليهودية في عملية الحكم على يسوع بالموت. ولوجهة نظر الإنجيليين هذه حول مسؤولية اليهود صدى في أقوال الرسل وخصوصاً بطرس في الأعمال حيث نستدل على أنها كانت وجهة النظر السائدة في الكنيسة الأولى (أنظر مثلاً أعمال 2: 23 “يسوع… هذا بأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه”؛ أعمال 2: 26 “… هذا الذي صلبتموه”؛ أعمال 3: 13-15 “يسوع الذي أسلمتموه أنتم وأنكرتموه أمام وجه بيلاطس…”؛ أعمال 5: 30 “الذي أنتم قلتموه معلّقين إياه على خشبة العار”؛ قول استفانوس في أعمال 7: 52 “الذي أنتم الآن صرتم مسلّميه وقاتليه”؛ أنظر أيضاً أعمال 4: 10، 10: 40، 13: 29….). طبعاً تشدد الكنيسة في كرازتها على مسؤولية اليهود، وتنسب في الوقت ذاته هذه المسؤولية إلى جهالتهم، بغية إرشادهم إلى التوبة والإيمان بأن المسيح المصلوب والقائم هو مخلّصهم أيضاً.

حالاً بعد قرار الحكم بالموت يذكر الإنجيلي الاستهزاءات (الآية 65). ومن المعلوم في المشرق القديم أنه بعد قرارات المحكمة بالموت كانت تجري عملية الاستهزاء بالمحكوم عليهم والضحك منهم لإعطاء المثل للآخرين. إن كان الإنجيلي يعرض لنا الاستهزاءات، فهو يريد بذلك أن يشدّد على أن يسوع المسيح يتألم ويُهزأ به كما كُتب عنه في أشعيا (خصوصاً الفصل 53)، وأنه يمثل العبد المتألم السائر بدون تذمّر والمطيعه لله الآب. هذا هو السبب الذي من أجله يذكر الإنجيليون الآخرون كلهم الاستهزاءات، وذلك في مواضع مختلفة من رواية كل واحد (أنظر متى 26: 27-68، لوقا 22: 63-65، 23: 11، يوحنا 18: 22-23، 19: 2-3).

إنكار بطرس:

يحصل إنكار بطرس (الآيات 66-72) في “الدار أسفل” التي لرئيس الكهنة بينما كان يستدفئ مع الخدام جالساً إلى جانب النار حيث يجتمع الخدام هرباً من البرد الليلي وربما لكي يعلّقوا على الأحداث. ينكر بطرس كل علاقة له بيسوع الناصري عندما يُسأل للمرة الأولى من قبل إحدى جواري رئيس الكهنة، وللمرة الثانية من قبل الجارية نفسها (وهذه المرة لا تتوجه بكلامه إليه مباشرة بل تتكلم عنه إلى الحاضرين)، وللمرة الثالثة من قبل “الحاضرين”. بعد الإنكار الثالث يأتي صوت الديك ليذكّر التلميذ المضطرب بتنبؤ معلّمه عنه. عندئذ قارن بطرس تلقائياً بين رغبته في اتباع يسوع حتى الموت (مرقس 14: 31 “ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك”) التي عبّر عنها قبل قليل وبين الواقع المرّ لإنكاره ثلاث مرات، فَهَمَّ بالبكاء. والدموع هذه كانت طبعاً دموع توبة. إن سؤال يسوع القائم لبطرس “أتحبني” ثلاث مرات (أنظر يوحنا 21: 15…) هو نوع من “استعادة له”، وكذلك عمله الرسولي وموته من أجل المسيح. كل ذلك يدل كم كانت توبته عميقة وصادقة. وقد أورد الإنجيليون الشريفون حادثة الإنكار هذه دون أن يخفوها لأسباب تربوية.


(1) المراجع حول الآلام: {“هذا الهامش جاء في الكتاب ضمن متن النص كنهاية للفقرة (ص 233)، ولكننا رأيننا من الأفضل عند وضعه على النت أن نضعه كهامش لئلا يقطع سياق النص.”… (الشبكة)}

  • Antoniadou E., O Charactir tou televtaiou deipnou tou Kyriou kai o aetos tis thias Evcharistias, Athenes, 1961

  • Iannakopoulou Ioil, I Zoi tou Christou, Tome 5, Holy Week A’ and B’, Kalamai, 1953.

  • Gratsea G., O Stravors, condensed biblical and historical treaty, OHE, Tome 11, Athenes, 1967.

  • Damala N., Erminia tis Kainis Diathikis, Tome 2-4, Athenes, 1982.

  • Doikou D., To Biblikon Ebraikon Pascha, Thessaloniki, 1969.

  • Theochari A., To Chronologikon problima ton Pathon tou kyriou, Deltion Biblikon Meleton 1, 1971, pp. 34-51.

  • Karavidopoulo, To Pathos tou Christon, Thessaloniki, 1974.

(2) تكشف عن (apocalyptic).

(3) راجع الدكتور عدنان طرابلس، شرح إنجيل متى، الجزء الثالث، ملحق: تاريخ الصلب… (الشبكة)

(4) البستا في جبل الزيتون.

(5) أي في يوم الخميس.

(6) protyposis أي صورة سابقة لسرّ الشكر الإلهي (أنظر شرح المقطع عند مرقس 6: 30-44 معجزة الخبز والسمك)

(7) تيبيكون أي ترتيب الخدمة.

(8) الافخارستيا هي سرّ الشكر أو الذبيحة الإلهية أو القداس الإلهي.

(9) يختص بالأيام الأخيرة.

(10) “فإنكم كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء”.

(11) للمزيد حول هذا الموضوع راجع الدكتور عدنان طرابلس، شرح إنجيل متى، الجزء الثالث، ملحق: تاريخ الصلب… (الشبكة)

(12) راجع معرض الأيقونات الأرثوذكسية في الشبكة… (الشبكة)

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى