الإيمان المسيحيّ لا يكتمل من دون الاعتراف بأنّ يسوع المسيح هو مخلّص العالم. فاسم يسوع نفسه معناه “المخلّص”: “فتسمّيه يسوع لأنّه هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم” (متّى 1: 21). ومنذ الشرارة الأولى لانتشار البشارة المسيحيّة نودي بيسوع مخلّصاً، وهذا ما أكّده بطرس الرسول في خطبته أمام رؤساء اليهود: “إنّه هو الحجر الذي ازدريتموه أيّها البنّاؤون الذي صار رأساً للزاوية. وليس بأحد غيره الخلاص لأنّه ليس اسم آخر تحت السماء ممنوحاً للناس به ينبغي أن نخلص” (أعمال الرسل 4: 11-12).
إنّ حدث صليب يسوع وقيامته من بين الأموات هو الحدث المؤسّس للخلاص. وفي هذا الصدد يورد الرسول بولس إحدى الصياغات الأولى للإيمان المسيحيّ جاعلاً الخلاص الهدف الأساسيّ لكلّ التدبير الإلهيّ: “إنّ المسيح قد مات من أجل خطايانا، على ما في الكتب، وأنّه قُبر، وأنّه قام في اليوم الثالث، على ما في الكتب، وأنّه تراءى لكيفا ثمّ للاثني عشر” (كورنثوس الأولى 15 :3-5). لقد مات المسيح عن خطايانا: هذه هي الخلاصة التي وعتها الكنيسة وعاشتها على مرّ الأيام في كلّ احتفال شكريّ، حيث تشهد الجماعة الملتئمة حول الكأس المقدّسة أنّ حدث موت الربّ وقيامته هو حدث تكفيريّ شامل عبْره انفتحت الطريق إلى الاتّحاد بالله، إلى الحياة الأبديّة.
هذا الخلاص لم يكن ليتحقّق لولا محبّة الآب الذي أرسل ابنه الوحيد إلى بذل حياته من أجل حياة العالم. فالله أنجز في صليب ابنه الحبيب البرّ لأجل الكثيرين الذين خطئوا بالناموس أو بغير الناموس. والرسول بولس يؤكّد أنّ الشريعة أو الضمير لا يبرّران أحداً، بل يثبتان دائماً بُعد الإنسان عن الله. لذلك “الجميع قد خطئوا فيعوزهم مجد الله، فيبرَّرون مجّاناً بنعمته بالفداء الذي هو بالمسيح يسوع، الذي جعله الله كفّارةً بالإيمان بدمه لإظهار برّه بمغفرة الخطايا السالفة” (رومية 3 :23-25). من هنا، الخلاص نعمةٌ إلهيّة ثمنها دم الربّ يسوع المسفوك على الصليب.
المسيحيّ يحيا الخلاص الآتي على أنّه حقيقةٌ حاضرة “الآن وهنا”، أي في كلّ زمان ومكان. وفي الوقت عينه، ينتظر المسيحيّ الخلاص المكتمل في الملكوت السماويّ حين اعتلانه. ويترقّب المسيحيّ ذلك الخلاص ليس كأمر موعود به وحسب، كأمر قائم في وقت غير محدّد، بل يحيا المؤمن متطلّعاً إلى هذا المستقبل في رجاء لا يخيب. أمّا مردّ هذه الثقة الواجب اكتسابها فإلى أنّ هذا الخلاص الآتي قد بدأ حقّاً بصليب يسوع المسيح وقيامته. ببشارة يسوع كلّها قد بدأ ملكوت الله الأبديّ.
الخلاص، أي ملكوت الله، قد أتى إذاً في التاريخ، في الزمن، في تعاليم يسوع وعمله. ولا تقتصر بشارة يسوع على الكرازة بالملكوت، بل يتّخذ الملكوت شكلاً في حياته وفي مخالطته بالناس. فيكرز بفرح الله للعشّارين والخطأة والمنبوذين والمرضى والفقراء والأطفال. وعبْر الطريقة التي يتعامل فيها مع الناس يبيّن لهم أنّ الله أباهم قد قبلهم بصورة نهائيّة ولا تراجع فيها. ولكنّ الله في الوقت عينه يطلب من الناس أن يقبلوه في عمق قلوبهم وأفئدتهم. وعليه فإنّ رحمة الله التي يبشّر بها يسوع لا تفترض شيئاً، بل تطلب فقط موافقة الإنسان. لذلك ينبغي للناس أن يغفر بعضهم لبعض وأن يرحم بعضهم بعضاً بلا حدّ على غرار أبيهم الذي في السموات… أمّا مَن ينغلق عن رحمة الله فيقضي بنفسه على نفسه. الخلاص يتطلّب إذاً جواباً من الإنسان يعطيه بملء حرّيّته وإرادته.
من هذا الرجاء بالآتي تنمو في المؤمنين إمكانيّة أن يعيشوا منذ اللحظة التي يقبلون فيها يسوع ربّاً وفادياً كأناس مخلَّصين، وأن يكرسوا حياتهم في سبيل اكتمال خلاصهم. والرسول يوحنّا الإنجيليّ في رسالته الأولى يؤكّد هذا الأمر فيقول: “أيّها الأحبّاء، نحن من الآن أولاد الله، ولم يتبيّن بعد ماذا سنكون. غير أنّا نعلم أنّا، إذا ما ظهر، سنكون أمثاله، لأنّا سنعاينه كما هو” (3: 2). الثقة التي يعبّر عنها الرسول يوحنّا هنا إنّما هي دعوة إلى الإنسان كي يعمل في رجاء لا يتزعزع على إصلاح نفسه في التوبة الدائمة ليبلغ إلى هذا الخلاص الآتي طاهراً نقيّاً من كلّ عيب.
في الخلاص الذي يدعوه الرسول بولس تبريراً ينال الإنسان الخاطئ القدرة على أن يصير “ابنَ الله” (يوحنّا 1: 12). وإذ يعود المرء إلى ذاته يستطيع أن يتوب إلى الله وأن يحقّق الشركة مع الله من خلال الجماعة المؤمنة. لذلك ليس ثمّة مصالحة مع الخطيئة التي سيبكّت روح الله العالم عليها (يوحنّا 16:8). المطلوب هو الالتفات إلى الناس وإلى أوضاعهم الحياتيّة الدنيا بمعنى الالتزام من أجل الناس لمساعدتهم على اكتساب القداسة والأصالة الروحيّة. الإيمان المسيحيّ بالخلاص يقود حتماً إلى الالتزام من أجل العالم المدعو كلّه إلى الخلاص.
عن نشرة رعيتي 2005