Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
Email
☦︎
☦︎

“..و اعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا.”

1- الأسرار في الكنيسة:

يبتدئ البحث في الأسرار من البحث عن الإنسان المؤمن، بعد أن صعد الرب إلى السماء.

نعلم أن بولس الرسول تكلّم على أن هناك سراً إلهياً كان في الله منذ الأزل، وهو سرّ محبة الله للبشر. هذا السر يشكّل حياة الله ضمن الثالوث القدوس، أي أن الآب والابن والروح القدس متحدون بسرّ المحبة: [ اَلله مَحَبّة ] [ 1يوحنا 4: 8 ].

تنطلق المحبة من الآب وتعود إليه في دورة دائمة، في حركة بين الأقانيم الثلاثة دائمة. هذا السر، سرّ أن الله محبة، كُشف في المسيح وحققه المسيح. حقق المسيح المحبة بالفداء ثم عاد المسيح إلى أحضان الآب وأعاد إليه هذا الجنس البشري المتروك الذي كان قد أخطأ. بعودة المسيح إلى الآب، الإنسان نفسه عاد إلى الله. هذا في الأساس. ثم سكب الله الروح القدس على المؤمنين لكي يعطيهم كلّ ما حُقق في المسيح، أي لكي يمنحهم سرّ محبته ويجعلهم يعيشون معه. حياة الله التي تدور ضمن الثالوث القدوس وتغلي ضمنه، حياة الله هذه كان لله أن يمد البشر بها. والروح القدس هو الموزّع لحياة الله، هو معطيها. إذاً، كل الهدف من مجيء المخلص على الأرض وصعوده إلى السماء، هو توزيع المواهب الإلهية على الناس. بكلمة أخرى، يجب أن يكون هناك قوم يعيشون بحياة الله، وهؤلاء القوم هم الكنيسة. والكنيسة تعيش بحياة الله، بقوة الله، كما كانت هذه القوة ظاهرة في المسيح. أي هي القوة نفسها التي كانت في المسيح أيام بَشرتِه، عندما كان على الأرض. قوة المسيح هذه التي خلصت وأحبت يجب أن تُنقل بالروح القدس. حياة الكنيسة هي، إذاً، حياة المسيح منقولة إلينا بالعنصرة، بإنعطاف الروح القدس على البشر وعلى الكون بواسطة الكنيسة. الكنيسة هي المحيط الذي فيه الله فاعل. الله يحرّك الكنيسة، يحييها وينعشها بالحياة نفسها التي فيها، هذه الحياة التي كانت مسكوبة في المسيح. وتوزيع حياة المسيح والقوة التي في المسيح يتممه الروح القدس عن طريق الأسرار.

السرّ في الكنيسة  كأن نقول سرّ المعمودية، سرّ الميرون أو سرّ الشكر… -السر في الكنيسة لا يعني شيئاً آخر غير السرّ الإلهي القديم، الأزلي، الذي تكلّم عنه الرسول بولس، أعني سرّ الحياة الإلهية، سرّ المحبة، سر محبة الآب والابن والروح القدس، سر عودة هذه المحبة إلى الآب. وبالتالي، كيف تظهر محبة الله لنا بالأسرار؟، هذا هو الموضوع.

أسرار الكنيسة ماهي إلا نفس السرّ الذي ينكشف الآن، الذي يتحقق الآن. وهذا السرّ الذي تحدّث عنه الرسول بولس في الرسالة إلى أهل أفسس عندما قال: [ أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ. كَمَا سَبَقْتُ فَكَتَبْتُ بِالإِيجَازِ. الَّذِي بِحسَبِهِ حِينَمَا تَقْرَأُونَهُ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْهَمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ اَلْمَسِيحِ. الَّذِي فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو اَلْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ اَلْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِالرُّوحِ: أَنَّ اَلأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي اَلْمِيرَاثِ وَاَلْجسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي اَلْمَسِيحِ بِالإِنْجِيلِ. ] [ أفسس 3: 3 6 ]. ثم يكمّل: [ وَأُنِيرَ اَلْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ اَلسِّرِّ اَلْمَكْتُومِ مُنْذُ اَلدُّهُورِ فِي اَللهِ خَالِقِ اَلْجَمِيعِ بِيَسُوعَ اَلْمَسِيحِ ] [ أفسس 3: 9 ]. وهذا السر الإلهي نحن شركاؤه، نحن شركاء هذا الشيء الخفي في أعماق الله وهو أن الأمم محبوبة كاليهود، أن البشر جميعا محبوبون ويدخلون في ميراث الله. أسرارالكنيسة، إذاً، هذا الإخراج لسرّ الله، هذا النقل وهذه الترجمة لهذه المحبة.

ولكن لهذه الأسرار كلها، وبالتالي، علاقة بحياة المسيح في الجسد. وهذا هو المهم جداً في البحث في الأسرار. هذه الحياة الإلهية الأزلية عاشها المسيح في الجسد، هنا. والروح يعطينا حياة المسيح كما عاشها هنا. وبالأخير، إذاً، عندما نتكلّم عن أسرار الكنيسة السبعة فهذه كلها تكون إمدادات لحياة المسيح في أيام تجسده، بحيث نعيش نحن في الجسد ما عاشه هو في الجسد.

2- سر المعمودية :

المعمودية موت وحياة:

سر المعموية ماذا يُخرج إلينا من حياة المسيح، ماذا يُترجم لنا؟. هنا يمكن القول، أن المعمودية تترجم لنا كل حياة المسيح إذا كانت هذه الحياة تلخّص بكلمتين: موت وحياة. حياة المسيح في البشرة، من الميلاد إلى تمجيدها عند فجر الفصح، كلها موت وحياة، لأن المسيح وُلد لكي يموت وينبعث. طبعاً، وضعه في أقمطة وهذا المولد المتواضع وهذه المعمودية التي نالها من يوحنا في الأردن وهذه الآلام المعنوية التي ذاقها من اليهود وهذه الاضطهادات، كل هذا، قبل صلبه من اليهود وبيلاطس، كان طريقاً على الموت وكان، في وقت واحد، إنبعاثا من موت. معمودية يسوع في الأردن كانت نزولاً تحت المياه وكانت خروجا من المياه وظهوراً للآب والروح عليه. كذلك، التجلّي على الجبل كان تمجيداً له، ولكنه، في آن واحد، حسب رواية لوقا الإنجيلي، كان حديثاً عن خروجه من أورشليم، أي كان إستعداداً لموته: [ وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً وَلِبَاسُهُ مُبْيَضّاً لاَمِعاً. وَإِذَا رَجُلاَنِ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ وَهُمَا مُوسَى وَإِيلِيَّا اَللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ وَتَكَلَّمَا عَنْ خُرُوجِهِ اَلَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يُكَمِّلَهُ فِي أُورُشَلِيمَ. وَأَمَّا بُطْرُسُ وَاَللَّذَانِ مَعَهُ فَكَانُوا قَدْ تَثَقَّلُوا بِالنَّوْمِ. فَلَمَّا اِسْتَيْقَظُوا رَأَوْا مَجْدَهُ وَاَلرَّجُلَيْنِ اَلْوَاقِفَيْنِ مَعَهُ. وَفِيمَا هُمَا يُفَارِقَانِهِ قَالَ بُطْرُسُ لِيَسُوعَ: يَا مُعَلِّمُ جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً وَلِمُوسَى وَاحِدَةً وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً . وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ. وَفِيمَا هُوَ يَقُولُ ذَلِكَ كَانَتْ سَحَابَةٌ فَظَلَّلَتْهُمْ. فَخَافُوا عِنْدَمَا دَخَلُوا فِي اَلسَّحَابَةِ. وَصَارَ صَوْتٌ مِنَ اَلسَّحَابَةِ قَائِلاً: هَذَا هُوَ اِبْنِي اَلْحَبِيبُ. لَهُ اِسْمَعُوا . وَلَمَّا كَانَ اَلصَّوْتُ وُجِدَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَأَمَّا هُمْ فَسَكَتُوا وَلَمْ يُخْبِرُوا أَحَداً فِي تِلْكَ اَلأَيَّامِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَبْصَرُوهُ ] [ لوقا 9: 28  36 ].كل فصول حياة السيد هي إنبعاث من موت، مرافقة الموت للحياة. من هذا القبيل المعمودية تعطينا كل المسيح ولهذا نقول أنها الميلاد الثاني. هي الميلاد الثاني إذا قيس هذا الميلاد بميلادنا من أمنا. هذا هو المولود الأول في الجسد، ولكننا نولد الآن ليس من لحم ودم ولا من مشيئة رجل بل من الله. المسيح أعطانا أن نصير أولاد الله: [ وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ مِنَ اللَّهِ ] [ يوحنا 1: 12، 13 ]. الإنسان كان في حالة الغضب، في حالة اللعنة. واللعنة تعني الإقصاء عن البركة. والبركة معناها إمداد الإنسان بحياة الله. الإنسان أُقصي عن هذه البركات بالخطيئة. هو جعل نفسه في الظلمة وجعل نفسه في العزلة عن الله وفي التشتت وفي التفتت، في التجزئة، في التلاشي وفي الإضمحلال. هذه هي الخطيئة عمقاً وكينونة. فالإنسان من جديد يولد وكأنه لم يكن. في الواقع، لم نكن نحن شيئاً قبل المخلّص وقبل أن يتنزّل علينا بالمعمودية.

المعمودية في الديانات:

ماذا جرى في المعمودية؟ ماذا كان يجري سابقاً، قبل المسيح، بالمعموديات؟ كان للناس في كل الدنيا معموديات وفي كل الديرة. والوضوء الإسلامي نوع من معمودية وهو يعني إغتسالاً وتهيئة للصلاة. رهبان قمران، على شواطئ البحر الميت، قبل مجيء المخلّص، كانت لهم أحواض يغتسلون فيها كل يوم أكثر من مرة. عندنا، أيضاً معمودية يوحنا كتهيئة للتوبة. والدخلاء الوثنيون الذين كانوا ينضمون للدين اليهودي على يد الفريسيين، هولاء، أيضاً كانوا يُعمّدون. الحضارة البشرية، قبل المخلّص، هنا وهناك، كانت تعتمد تشوقا منها إلى طهارة كانت تتوق إليها. كانت تتوقع هذه البشرية أن تنال طهارة. والبشرية أحسّت أنها، من أجل هذه الطهارة تستعمل ماء. طبعاً يمكن أن يُقال: هذا أمر طبيعي وبديهي جداً كون الماء يغسل الجسم. ولكن الفكرة كانت أبعد من هذا. فالماء ملتبس المعنى في الحضارات القديمة، أي ان له معنى مزدوجاً وهو لا يعني، دائما الطهارة. الماء مخيف البحر مريع. الماء يدل على الغرق، على الموت. والماء، في كل الحضارات، كان محيط الخطيئة، محيط الشر. مثلاً، في الفكر العبري: ” لوياثان” التنين: هذا كان الوحش الأسطوري الذي في الماء. ولذا، فخوّاض البحر يقتل التنين، وما إلى ذلك من هذه الصورة الأسطورية. الماء مخيف ثم الماء محيي. في التوراة خلق الله الدنيا من ماء: [ فِي اَلْبَدْءِ خَلَقَ اَللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً وَعَلَى وَجْهِ اَلْغَمْرِ ظُلْمَةٌ وَرُوحُ اَللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ اَلْمِيَاهِ ] [ تكوين 1: 1، 2 ]. في بداية التكوين، في الأساطير البابلية، وأيضا في القرآن: ” وجعلنا من الماء كل شيء حي”. الماء هو المحيط الذي يخرج منه الكائن الحي. الجنين يخرج من ماء. إذاً، الماء مزدوج المعنى ملتبسه. ولهذا فإتخاذ الإديان للماء لم يكن سببه فقط، أنه غاسل ولكن سببه هو أنه يميت ويحيي. وإذاً، فالغسل، هنا، ليس شيئاً سطحيا. الغسل معناه أننا نموت بشكل ما.

عندما جاء المخلص لم يخترع رمز الماء ولم يخترع المعمودية. وجدها قائمة عند أهل قمران ويوحنا المعمدان والفريسيين. ولكن موقفه منها كان أنه عبأها، ملأها بمعنى جديد.

المعنى المسيحي للمعمودية:

نعم، نحن نموت بالماء، ولكن أي موت هو المقصود؟ ونحيا بالماء، ولكن أي حياة هي المقصودة؟

في أواخر إنجيل متى: [ فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ ] [ متى 28: 19 ]. أي إجعلوا من جميع الأمم لكم تلاميذ و عمدوهم. إذاً، فالمعمودية مرتبطة عند المسيح بأن الناس يصيرون بها تلاميذ له. أذاً، يتعلمون الإنجيل ويأخذون من الإنجيل الإيمان: [ مَنْ آمَنَ وَاِعْتَمَدَ خَلَصَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ ] [ مرقس 16: 16 ].

الإيمان هو الخروج من أي وضع نحن فيه إلى الله. يقول الله لإبراهيم: [ اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى اَلأَرْضِ اَلَّتِي أُرِيكَ ] [ تكوين 12: 1 ]. الإيمان هو، أيضاً، مجازفة مع الله. هو أن يطرح الإنسان نفسه في كائن لا يعرفه، ويعرفه على قدر ما يطرح نفسه فيه. يذوقه بعد أن يرمي نفسه هناك. إذاً، هناك موت بالنسبة إلى الحياة القديمة التي كان فيها، هناك إنسلاخ عنها. شيء منا يموت. نُغْرَق في الماء. وإذا متنا تأتي حياة جديدة ليست منا. هنا كل الحديث عند يسوع عن الماء الذي هو يعطيه، في ما قال للمرأة السامرية التي كانت تستقى من بئر يعقوب: [ كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً ] [ يوحنا 4: 13 ]. إذاً ثمة شيء من الدنيا القديمة نتركه، نترك هذا العالم القديم، ندخل في وضع جديد مع هذا العالم الجديد. كلّ هذا ينكشف، فيما بعد، بصورة أوضح بعد أن قام المخلّص وحدثنا الرسول بولس عن هذه الحياة التي جاءت إلينا بالمعمودية حيث يقول في الرسالة إلى أهل رومية: [ أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اِعْتَمَدَ لِيَسُوعَ اَلْمَسِيحِ اِعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ حَتَّى كَمَا أُقِيمَ اَلْمَسِيحُ مِنَ اَلأَمْوَاتِ بِمَجْدِ الآبِ هَكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضاً فِي جِدَّةِ اَلْحَيَاةِ. لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ. عَالِمِينَ هَذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا اَلْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ اَلْخَطِيَّةِ كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ ] [ رومية 6: 3  6 ]. ما أود أن ألفتكم إليه، فقط، الآن، هو هذا أن اللفظة التي يستعملها الرسول باليونانية وقد ترجمت : أعتمد ، يعتمد ، معمودية. إلخ. هذه اللفظة هى Vaptiso ( أعمد ) وهى تعني ، فقط، أغطس. هذه كلمة عادية جداً صارت، بعدئذ، مصطلحاً مسيحياً. من اعتمد ليسوع – اللام هنا هى، في اليونانية، حرف جر وهو يعني الحركة، أي إنتقل إلى يسوع بهذا التغطيس – إنما إنتقل إلى موته فدفن مع المسيح بالمعمودية. مع هنا هي Préfixe أي هي، في لغاتهم، أداة توضع قبل الفعل. ودفنّا معه تصبح، بهذا، فعلاً واحداً عندهم ، أي تصبح لفظة واحدة. وإذا قرأ الواحد اللفظة  الفعل هذا الذي ركّبه الرسول بولس والذي ليس موجوداً في اليونانية بلّ هو من إختراع بولس: دفن مع، فهذا بعني أنه عندما دُفن المسيح كان معه الذين له، أي أن الذين له كانوا معه في القبر. إذاً، نحن عندما نعتمد فكأننا تخطينا الزمان وأبدناه وإنتقلنا هذه السنين الألفين، وكأننا ، أيضاً، نحن الذين متنا مع المخلّص ودُفنّا معه وقمنا معه. إذاً، ما حصل ليسوع المسيح ربطنا مع المسيح. ما حصل له هو، بالفداء، حصل لنا أيضاً.

إن الحياة الإلهية التي كانت في المسيح أبادت الموت، تفجرت في الموت فحولته إلى حياة وقامت هذه الحياة من القبر لأنه لا يمكن أن يُضبط عنصر الحياة وخالقها في القبر. بعد أن مات، لا يموت ولا يتسلّط عليه الموت.

يمكننا أن نقول، إذاً، أن المعمودية هى أن تتحقق فينا هذه الأشياء التي صارت، أن تُخرج. في الحقيقة، ليس هناك شيء جديد في المعمودية. المعمودية لم تبتدئ اليوم، هي إبتدأت آنذاك بموت السيد وقيامته. وأقرب صورة عن المعمودية هي مايجري في السينما. السينما هي كناية عن مصور يصور مشاهد تُلعب. هذه المشاهد موجودة في الفيلم. هذا الفيلم يسقط على الشاشة. لا فرق إذاً بين المشهد والفيلم والشاشة. كل الفرق هو فرق ثمني فقط: ثمة شيء يُلعب ثم يسجل وهذا الشيء الذي يسجل يُرى على شاشة السينما. الفرق هو، فقط في المظاهر، في الإخراج، في الأداء. ومن هنا إن موت المسيح وقيامته هما كحدث واحد من حيث الأصل والطاقة، لأن كل قيامة المسيح موجودة في موته ولكنها تفجرت بعدئذ. أي أن كل حياة المسيح كانت مسكوبة فيه عندما مات. وهذه الحياة التي فيه هي مسجلة فينا نحن منذ أن مات وقام، أي هي مسجلة في المؤمنين. ونحن عندما نعمّد إنساناً تخرج هذه الحياة، نؤديها، نُعبّر عنها. هي بالحري، لا تنتقل، هي تنكشف. المعمودية هي، إذاً هي إنكشاف لحياة المسيح فينا. لذلك، نقول : دُفِنّا – وهو فعل ماضٍ – معه للموت أي حتى نموت. نحن نُدْفن حتى نموت، حتى، كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة، في حياة جديدة. إذاً، هذه مشاركة كانت موجودة وحُققت الآن، وُزعت علينا هذه المشاركة، بالروح القدس، في هذا السرّ.

القضية، إذاً، ليست قضية محو خطيئة. هي ليست أن ثمة دَيْناً مكتوباً علينا يُمْحى فنصبح بلا دَيْن – هذا التصوّر العادي للمعمودية وهو أننا بها نصبح بلا دين، بلا خطيئة جدّية. في الحقيقة، إن الخطيئة الجديّة لا تورّث، أي لا تنتقل، ولكن الإنسان يولد ميتاً، يُولد معرّضاً للموت، حاملاً في طيّات نفسه وجسده قوة الموت. الإنسان هو في حالة موت دائم، بمعنى أنه مقهور، منحدر، مهترئ. هذا وضع نلاحظه. الموت لم يأتِ. هو لا يأتى ولا يذهب. هذا ما يُلاحظ: الموت هو في الإنسان. هذا وضعه. هو إنسان في حالة إنحطاط. كلّ إنسان هو مولود في الإنحطاط، في التقهقر، في الإهتراء، في السقوط، في الظلمة. إذاً، الموت طاقة فينا. هذا ما سمّاه فرويد ” غريزة الموت”. فعندما ينزل المسيح إلينا ويتحد بنا في المعمودية يضع شيئاً ليس فينا، يضع قوة الحياة. فقوة الحياة التي فيه تصارع قوة الموت التي فينا. فإذا قبلنا الموت هو، نكون ، في نفس الوقت، قابلين إفناء موتنا نحن. عندما نرتضي أن المسيح مات، أي عندما نسلّم إليه، إلى صليبه، إذ ذاك نكون غالبين لقوة الموت التي فينا. المهم هو أنه يجب أن ندرك هذا حتى ندرك كل العمليه وإلا تبقى قضية سطحية. وليس هناك كعمودية بدون إدراك ذلك.

كيف خلصنا يسوع المسيح؟ خلصنا بأنه، وهو الذي لا يحتمل الموت ولا يُحكم عليه بالموت ولا يموت ولا يستطيع أن يموت لأنه بار، (والبار لا يموت)، إرتضى الموت. كل عملية الفداء متعلقة بهاتين الكلمتين. المسيح الذي لا يستطيع أن يموت أراد أن يموت. فإذاً، هو دخّل الموت طوعاً إلى ذاته. طوعاً هي من الكلمات المسيحية الأساسية: “أيها المسيح الإله يا من أتيت إلى الآلام الطواعية…” (من أسبوع الآلام).  فالموت الذي كان ضرورة على الجنس البشري، إقتبله هو طوعاً. أطاع الله بهذا. لكونه خضع بإرادته للموت، كان فوق الموت.  لكونه أطاع الموت، صار فوق الموت وصار غالباً له، هو سيد الموت. لكونه أطاع الله حتى الموت، موت الصليب، رفعه الله إليه: ” متوفيك ورافعك إليّ”. رفعه الله إليه وأعطاه إسم فوق كل إسم. ترجمة هذا الكلام في اللغة العصرية تعني: أعطاه قوة فوق كل قوة وحضوراً فوق كل حضور، ونفاذاً فوق كل نفاذ. وإذاً، حياة المسيح كانت فيه – وهي حياة الله في المسيح في هذا الجسد – منذ ان قبل الموت. بكلمة أخرى، كان المسيح منبعثاً منذ أن إرتضى الموت. قوة الإنبعاث كانت فيه آنذاك.هذا يعني أنه، عندما كان المسيح على الصليب، بعد أن مات، لم تكن ثمة لحظة من لحظات الزمان كان المسيح فيها مغلوباً ولا يمكن أن يُغلب. فإذاً الله الآب أماته لأنو هو تطوع للموت. قبل الله الآب، سمح بأن يموت الابن وعندما قبل الابن بهذا الموت بُعث.

مهم تأكيد أنه ليس هناك لحظة زمنية كان المسيح فيها ميتاً وعبداً للموت. إذاً، هذا يعني أنه مات وقام في نفس الوقت. ليس هذا أنه رُئى حياً، كلا، لم يُرَ حياً ولكن في حقيقة الأمر، كان حيًاً.  لم يُرَ حيّاً: “رُئي حياً بعد ثلاثة أيام”. القيامة هذه،  في اليوم الثالث، هي إخراج يُلقى، أي هي كشف لهذه الحياة التي كانت فيه وهو معلق على الصليب. هذه القيامة كانت كشفاً لهذه الحياة التي فيه وإذاعة لها وبثاً لها على الكون وإشراكاً للمؤمنين في قوة الفداء. من هنا قول بولس الرسول: ” دُفنّا معه للموت” وهذا يعني أنه ربانا في الموت بالمعمودية، حتى ، كما أقيم، نقوم نحن أيضاً في جدة الحياة. وإذاً، نحن أيضاً عندما إرتضينا المعمودية أو نرتضيها بعد أن تمت، أي نرتضيها طيلة العمر – المعمودية تُرتضى أو تُرفض – فإرتضاؤنا لها يعني أننا قبلنا هذا الموت، قبلنا موت المسيح وقبلنا أن نموت عن الخطيئة، وبلغة أخرى، أن نميت الخطيئة فينا، وبهذا نفصل كياننا الحقيقي الجوهري عن الخطيئة. عندما يقول ولس: ” أن نموت عن الخطيئة” ، فهذا لأن الإنسان، في أصله، حرّ من الخطيئة. والرسول إعتبر الخطيئة جسم غريب، دخيل نموت عنه. إذاً، في اللحظة التي نُعمّد فيها، نموت ونقوم، نحصل على الحياة الجديدة بالمثل. وإذا كانت فينا الحياة الجديدة فالخطيئة تزول. إذاً، فزوال الخطيئة فينا أو زوال قوة الخطيئة فينا هو نتيجة للحياة الجديدة. الحياة الجديدة تأتي مثل الطعم. والطعم إذا أتى يحارب الجرثومة.

الحياة الجديدة التي تنسكب من المسيح علينا بالروح القدس في الكنيسة هي التي تطارد قوة الموت. فإذاً، نحن في مطاردة لقوة الموت عن طريق الحياة الجديدة. وهذا ما نحياه بوجه عام، في العمر كلّه. حياتنا هى إفناء للموت، إماتة الموت، إماتة الخطيئة، إماتة كل قوة القهر والظلم والخنوع والذل وكل ما هو فساد. وهى مطاردة الفساد بقوة الحياة التي إنكشفت وتفجّرت.

3- ملحق: “معمودية الأطفال” – لللأب: نقولا أفاناسييف

المسألة:

تتوجه البشارة المسيحية إلى الناس كافة حتى يقدر كل منهم أن يؤمن بابن الله وأن يدخل في الكنيسة إذا تاب. والإيمان والمعمودية يتطلبان ذلك الرشد الذي يضمن العلاقة الواعية بسر المعمودية عند الداخل إلى الكنيسة. والكنيسة تقبل فقط أولئك الذين ادركوا الغاية والمعنى من إنضمامهم إليها. فهل يتبع هذا أن الأطفال والأولاد يجب أن يقبلوا فقط إذا بلغوا ذلك الرشد أو بمكن تعميدهم وفق رغبة ذويهم؟

ويبدو أن هناك ما يجعلنا نظن أن مسألة المعمودية كانت مطروحة في العصر الرسولي وكانت تثار من وقت إلى آخر بصورة ماسة. ولكن بلغت حدتها في زمن المناظرات البيلاجيوسية. وبنتيجة هذه المناظرات ثبتت ممارسة معمودية الأطفال. ولكن المسألة لم تطرح جانباً بصورة نهائية. وفي الأزمنة الحديثة ظهرت ظهرت بصدد هذ المسألة تيارات متشعبة. ومنذ زمن يسير طرحت مجدداً قضية معمودية الأطفال وبقوة عظيمة في العالم البروتستانتي وأثارت مناقشة حارة لم تنتهِ بعد. وأن ظهور هذه المسألة لا يبدو طارئاً. إنه متعلق بظروف حياتنا فإن عدداً ضخما من الأطفال المتعمدين ليسوا بعد أعضاء عاملين في الكنيسة. في أحوال كهذه تقوم مسألة ما إذا كانت مثل هذه المعمودية توافق الغرض الذي وضعت من أجله.

معمودية الأطفال في العصر الرسولي:

ليس لدينا من العصر الرسولي معطيات إيجابية تجعلنا نؤكد الصورة التي حلت فيها قضية معمودية الأطفال في الكنيسة الأولى. أن الشهادات التي لدينا لا تخولنا الحق في أن نؤكد أن معمودية الأطفال كانت تُكمل في العصر الرسولي الأول أو لا تكمل. لقد ذكرت في أسفار العهد الجديد معمودية بعض العائلات: عماد بطرس لكرنيليوس [ أعمال الرسل 10]. معمودية ليديا وأهل بيتها [ أعمال 16: 15 ]. معمودية السجان وأهل بيته [ أعمال الرسل 16: 33 ]. معمودية كريسيوس رئيس المجمع وكل أهل بيته [ أعمال الرسل 18: 8 ]. ومعمودية بيت إسطفانوس [ 1 كورونثوس 1: 16 ]. ومن العسير أن نذهب إلى أن هذه البيوت المعمدة كلها كانت خالية من الصغار. كذلك لا نستطيع الجزم بأنهم كانوا موجودين. فلو كنا عارفين أن الرسل عمدوا أولاداً لقلنا بتأكيد أن الصغار، في حال وجودهم، عُمدوا ولكن من كون بيوت كرنيليوس وليديا والسجان تعمدت لا نستطيع إطلاقا أن نستنتج أن الرسل عمدوا أولادً.

معمودية الأطفال في العصور الأولى:

أما في العصر اللاحق للعصر الرسولي فممارسة معمودية الصغار مشهوداً لها كثيراً. فإن أوريجانس يشهد بأن: ” الكنيسة تقلّدت من الرسل أن تمنح المعمودية أيضاً للأطفال” [ في الرسالة إلى الرومانيين 5: 9 ]. ونعلم أن الأطفال في القرن الثاني عُمّدوا شرقا وغرباً. بذا يشهد إيريناوس [ ضد الهرطقات 2، 33: 2 ]، وترتليانوس [ في المعمودية ، 18 ]. وفي القرن الثالث، في كنيسة روما، كانت معمودية الأطفال ظاهرة مألوفة. وفى ” التقليد الرسولي” إشارة إلى أنه يجب تعميد الأطفال قبل البالغين. وقد كان يؤتى بالأولاد إلى المعمودية في سن مبكرة جدً. ويتضح هذا مما أشار إليه هيبوليتوس الرومانى بأن الوالدين أو الأقارب يستطيعون أن يعطوا جوابا أثناء المعمودية [ التقليد الرسولي 21: 4 ]. وإذا أتاح ” التقليد الرسولي” مجالاً للشك في السن التي فيها يؤتى بالأولاد إلى المعمودية ففى أيام كبريانوس القرطاجي كانوا يقولون بأنه لا يجوز إرجاء المعمودية إلى ما بعد اليوم الثامن [ الرسالة ال 64 ]. في القرن الرابع لم يتغيّر الموقف من معمودية الأطفال. وكما يتضح من شهادة يوحنا الذهبي الفم [ الموعظة 11، 17: 28 ] ، وأمبروسيوس [ في إبراهيم 2، 81 ] ، كانت معمودية الأطفال نظاماً شائعاً. وإن كان من تباين في الآراء فإنها متعلقة بالسن التي يؤتى فيها الأطفال إلى المعمودية. فكان بعضهم يأتي بالأولاد إلى المعمودية مباشرةً بعد ولادتهم وكان البعض الآخر يقولون بل تؤخر إلى حين. وهكذا قال ترتليانوس بأن الأصح إتمام معمودية الأولاد في سن يقدرون فيها أن يفهموا ما يتمم عليهم: “لماذا نعرض العرابين دون حاجة ماسة إلى خطر، فإنهم يستطيعون أن يموتوا دون إيفاء نذرهم..” (في المعمودية 18). أما غريغوريوس النزينزي فإنه يوصي بتأخير المعمودية إلى سن الثالثة (الموعظة 40، 28). وفي القرن الخامس ثبتت المناظرات البلاجيوسية نظام معمودية الأطفال، ” إنه من الحماقة أن نعلّم أن الأولاد يستطيعون أن يرثوا الحياة الأبدية دون المعمودية” ، هكذا عبّر البابا أينوكنديوس الأول عن نتيجة هذه المناظرات.

وفى الغرب ثبت رأي كبريانوس القرطاجى بمجمعه في أن المعمودية يمكن ان تكمّل مباشرة بعد الولادة. أمّا في الشرق ففي القرن التاسع كانوا أيضا يذهبون إلى أنها تكمل في اليوم الأربعين. ثم زال الفرق بين العرف الغربي والعرف الشرقي تدريجياً. ولكن ثبت فرق آخر، ففى الشرق رافق معمودية الأطفال والأولاد إتمام سرّ مسحة الميرون وبعده يعلن الطفل مستحقا للإشتراك بسر الشكر ” الفائق القداسة والكمال”. أمّا في الغرب، ففى القرون الوسطى فصل التثبيت عن المعمودية وأخذ الأسقف يكمله على الأولاد في سن الحادية أو الثانية عشرة وكانت المناولة الأولى تتبعه. وهكذا ففي الكنيسة الأرثوذكسية يتم قبول الأطفال في الكنيسة قبولاً كاملاً وأما في الغرب فسر المعمودية وحده يُمنح لهم.

الأساس التاريخي واللاهوتي لمعمودية الأطفال:

وإن كانت معمودية الأطفال نظاماً شائعاً في القرن الثاني فمن الطبيعي الظن بأنه لم ينشأ في العصر اللاحق للرسل ولكنه كان تكميلاً لنظام العصر الرسولي. فنحن نعود هكذا ثانية إلى هذا السؤال: هل كان الرسل يتممون معمودية الأطفال أم لا؟ وإذا كنا بدون أدلة تشير إلى ذلك في أسفار العهد الجديد فهل ينبغي أن نزهد بحلّ مسألة جوهرية كهذه؟ أن خلاء الأدلة الواحدة في أسفار العهد الجديد طبيعي بالكلية لأن العدد العديد من المتعمدين كانوا من البالغين. أن مسألة تعميد الأولاد يمكن ان تُطرح فقط في الجيل المسيحي الثاني ولكن عندما طُرحت في ذاك الزمن كان التقليد الكنسي في هذا الموضوع متراكماً. من خلاء الأدلة المباشرة عن معمودية الأطفال في العهد الجديد ينبغي أن نخرج بالتعليم عن المعمودية من جهة وبنظام معمودية الدخلاء عند اليهود ونظام الختان من جهة اخرى. وبكلمة أخرى، المسألة في هل يتوافق نظام معمودية الأطفال مع التعليم عن سرّ المعمودية؟. وهل ينسجم مع نظام الختان وقبول الدخلاء؟.

[ لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ يَهُوداً كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ عَبِيداً أَمْ أَحْرَاراً. وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحاً وَاحِداً ] [ 1 كورونثوس 12: 13 ]. إن الدخول في الكنيسة لهو الدخول في جسد المسيح، وأعضاءه صرنا في المعمودية. هذا الدخول يجب أن يسبقه الإيمان والتوبة أو التوبة والإيمان، وعليهما يُبنى الإختيار الروحي لمن يرغب في الدخول إلى الكنيسة. ومع هذا لا الإيمان وحده ولا التوبة وحدها ولا الإختيار الحرّ قادر أن يجعل من الراغب في الإنضمام على الكنيسة عضواً في جسد المسيح. إن الكنيسة لا تسجّل الراغبين في الدخول إليها إن وَجدت فيهم الإيمان والتوبة ولكنها تكمّل سرّ المعمودية عليهم ، الإنضمام إلى الكنيسة يكمّله الروح القدس الذي يرسله الله في سرّ المعمودية. الكنيسة هي مكان فعل الروح ولذا تُجرى المعمودية في الكنيسة وهى التي تجريها بالإستقلال عن المعتمد ولو بناء على إختياره الحرّ. المعمودية هي جواب الكنيسة عن إيمان الراغب في الدخول إليها ولكن المعمودية نفسها تقتضى أن يتبعها إيمان المعتمد جوابا منه عن معموديته. الدخول في الكنيسة ممكن فقط بالإيمان بابن الله الذي أحب المعمد واسلم نفسه من أجله. الإيمان السابق للمعمودية يفرض الإيمان اللاحق إنفتاحا كاملاً له.

الحياة في الكنيسة تبتدئ بوقت المعمودية بواسطة الإشتراك في سرّ الشكر. بدون هذا الإشتراك تظل المعمودية غير ومحققة. وبدورها الحياة في الكنيسة غير ممكنة بدون المعمودية.

هكذا نصل إلى العبارة ” الإيمان – المعمودية – الإيمان” وتبدو هذه العبارة إلزامية إطلاقا لكلّ الداخلين في الكنيسة. إن الشطر الأول والشطر الثالث من هذه العبارة يتعلّقان بالإنسان، امّا الشطر الثاني وهو الرئيسى فلا يتعلّق به، بلّ يكمّله الروح القدس بالكنيسة، [ لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ .]. الإيمان السابق يفتح إمكانية تكميل المعمودية. أمّا الإيمان اللاحق فهو الشرط لإمكانية الإشتراك في الاجتماع الشكري.

“المسيحيون لا يولدون ولكنهم يصيرون”، هذه العبارة لترتليانوس كأكثر عبارته ليست صحيحة تماماً. لم تكن صحيحة في عصره وهي بالكليلة غير صحيحة للعصر اللاحق. ففي زمان ترتليانوس كان القسم الأكبر من المعمدين بالغين.  إنهم لم يولدوا مسيحيين كما كانت الحال عند اليهود بل صاروا مسيحيين. فالانتساب لليهودية برأي ترتليانوس يحصل عليه القوم بالولادة الطبيعية أما الانتساب إلى الكنيسة فيكتسب بالمعمودية: الناس يصيرون مسيحيين. إن هذا التضاد بين المسيحية واليهودية مبني على سوء فهم أشبه بمأساة كما تبين المناظرات المعاصرة المتعلقة بمعمودية الأطفال.

إن الولادة الطبيعية من والدين يهوديين تعين إنتساب الأولاد إلى شعب العهد القديم المختار إلا أن الولادة الطبيعية وحدها لم تكن بكافية لتجعلهم أعضاء في الشعب الذي اقام الله معه عهداً. فكان ختم الختان وحده يجعل المولود من أبوين يهوديين عضواً حقيقياً في شعب الله. وفى اليهودية كان الختان يُنظر إليه كولادة جديدة ترافق الولادة القديمة. وأن معنى الختان كعلامة إنتساب للشعب المختار ينطلق من هذا أن الوثنيين كانوا قادرين أن يصبحوا أعضاء في شعب الله عن طريق الختان. وكان يتمّ عليهم على أساس إيمانهم وحرية إختيارهم. [ وَأَخَذَ (أي ابراهيم) عَلاَمَةَ الْخِتَانِ خَتْماً لِبِرِّ الإِيمَانِ الَّذِي كَانَ فِي الْغُرْلَةِ لِيَكُونَ أَباً لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِي الْغُرْلَةِ كَيْ يُحْسَبَ لَهُمْ أَيْضاً الْبِرُّ ] [ رومية 4: 11 ]. ولابد هنا ان نلاحظ أن ختان الأمميين كان يرافق ” غسل التطهير” الذي كان يجرى للرجال والنساء. وأثناء ختن الدخلاء كان صبيانهم يختنون. وأما ” غسل التطهير” فكان يجرى للبالغين والأولاد المولودين قبل ختانة الأب. أمّا الأولاد الدخلاء المولودين بعد الختانة فما كانو خاضعين ل ” غسل التطهير”.

أن عنصر الولادة الطبيعية لم يكن له معنى في العصر الرسولي للدخول إلى الكنيسة. فكان الأمم واليهود يتنصرون ” بختم” سرّ المعمودية. فكما كان الختان، كانت المعمودية ختم الإنتساب إلى شعب الله. إن المقارنة بين المعمودية والختان ظاهرة عند الرسول بولس: [ وَبِهِ أيْضاً خُتِنْتُمْ خِتَاناً غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا الْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ الْمَسِيحِ ] [ كولوسى 2: 11 ]. بقوة هذه المقارنة استبدل الختان المصنوع بيد البشر بختان غير مصنوع بيد. فبان الختان غير منسجم مع سر المعمودية لأن الختان في الكنيسة يكون نكراناً للجلجلة وقيامة المسيح أي يكون نكراناً للكنيسة نفسها وتثبيتاً للعهد القديم الذي قام الجديد مقامه.  لقد أعوز الأمم و اليهود “غسل التطهير” ليصبحوا يفعل الروح القدس أعضاء في جسد المسيح. عليهم ان يولدوا من فوق، من الروح القدس لينتسبوا للدهر الجديد. إن المعمودية ولادة روحية وبدونها لا حياة في الكنيسة. ولذا فبهذا المعنى وبالرلاغم من ترتيليانوس المسيحيون كافةً يولدون لأنهم يصيرون مسيحيين بالولادة الجديدة.

الولادة الطبيعية من أبوين مسيحيين دعوة إلى العماد:

كان لا بد لعنصر الولادة الطبيعية أن يدخل في حيّز الوجود في الجيل المسيحي الثاني فيما يتعلّق بمعمودية الأولاد المولودين من أبوين مسيحيين. إن النظام المسيحي، آنئذ، كان يوجهه نظام الرسل الأول عندما شرعوا يعمدون العَيل ( العائلات ). إن حالات التعميد لعائلات كاملة كما هي موصوفة في سفر الأعمال ما كانت نادرة. إن المقارنة بين المعمودية والختان أوحت إلى الرسل وصحبهم أن يكملوا في آن واحد معمودية البالغين والأولاد. أجل إن هذا فرضية لكنها مرجحة على الأكثر.  وإنّا لواجدون في بولس الرسول ما يثبت ذلك عندما يقول: [ لأَنَّ اَلرَّجُلَ غَيْرَ اَلْمُؤْمِنِ مُقَدَّسٌ فِي اَلْمَرْأَةِ وَاَلْمَرْأَةُ غَيْرُ اَلْمُؤْمِنَةِ مُقَدَّسَةٌ فِي اَلرَّجُلِ  وَإِلاَّ فَأَوْلاَدُكُمْ نَجِسُونَ. وَأَمَّا اَلآنَ فَهُمْ مُقَدَّسُونَ (Aghia) (1 كورونثوس 7: 14)]. فمن كلام بولس الرسول يتضح أن لعنصر الولادة الطبيعية علاقة مباشرة بالإنتساب إلى الكنيسة ولفظة “أجيوس” التي يضعها بولس الرسول للأولاد من أب مؤمن أو أم مؤمنة تعنى أنهم ينتسبون لشعب الله. هل هذا الانتساب يمكن أن يتكون لمجرد الولادة من أب مؤمن أو أم مؤمنة؟ إن قبولنا لهذه الفرضية يعني أن بولس الرسول كان يذهب إلى عدم ضرورة تكميل المعمودية على أولاد مولودين من والدين منتمين إلى الكنيسة. إذا نظرنا إلى تعليم بولس الرسول عن المعمودية فإننا لا نستطيع أن نرجح هذه النظرية. وفضلاً عن ذلك فقد رأينا أن مجرد ولادة الأولاد في العهد القديم من أبوين يهوديين لم يجعلهم أعضاء في شعب الله بدون “ختم” الختان. فلم يعد لدينا مناص إلا أن نقول أن ولادة الأولاد من والدين مؤمنين (الأب أو الأم) كان يفتح لهم أبوا المعمودية: إنهم مقدسون فإذاً قد اعتمدوا.

إن اللاهوت العقائدي يؤكد أن معمودية الأطفال تكمل بناء على إيمان الوالدين والعرابين: :”أما ما يختص بالأطفال فهم غير قادرين أن يكون عندهم إيمان وتوبة ولا أن يشهدوا لهما قبل المعمودية فإنهم يتعمدون يناء على إيمان والديهم وعرابيهم الذين يتلون عوضاً عتنهم قأنون الإيمان وجحد الشيطان وكل أعماله متعهدين أمام الكنيسة بتنشئة الأولاد في الإيمان وحسن العبادة إذا ما بلغوا السن” (المتروبوليت مكاريوس، اللاهوت العقائدي الأرثوذكسي، الجزء الثاني). إن هذا التأكيد يمكن أن يكون صحيحاً أي موافقاً لما كان في العصر الرسولي أو يكون غير صحيح. فإذا اتخذ معناه أن إيمان العرابين يقوم مقام إيمان الأطفال فإنه يناقض كل مافي الكنيسة. إن الإيمان لموهبة شخصية ولذلك فقدان الإيمان عند شخص ما لا يمكن أن يقوم مقامه إيمان شخص آخر حتى ولا إيمان الوالدين. إن فكرة كهذه ظهرت في القرون الوسطى في الشرق ولا سيما في الغرب. كانوا يحسبون للتائب ليس فقط أعمال الصالحة ومآثره التقية ولكن أعمال الآخرين الصالحة ومآثر تقواهم. أما في الزمن الرسولي والكنيسة الأولى فلا ترى أثراً لفكرة القيام مقام إنسان آخر. لا يهمني هنا أن أبحث كيف نشأت هذه الفكرة في اللاهوت الأرثوذكسي بل المهم أن نلاحظ أن هذه الفكرة شاء أصحابها أن يحافظوا على عبارة لا تمس: “الإيمان – المعمودية – الإيمان”. لأن الأولاد والأطفال ليس عندهم ذلك الإيمان الذي يسبق المعمودية عند البالغين. وبالواقع إن فكرة استبدال إيمان الأولاد بإيمان والديهم لا يخلص العبارة. فلا إيمان شخصي عند الولاد والأطفال ولا يمكن أن يكون. الإيمان الشخصي يسبق المعمودية. وعلى أساسه تقرر الكنيسة قبول الإنسان في المعمودية. وفي وقت المعمودية لا يمثل المعتمد أي دور عملي لأن سر المعمودية يتممه الروح القدس في الكنيسة.

ومه هذا فإن إيمان الوالدين هو حقيقة شرط إمكانية تكميل معمودية الأولاد. في العبارة ” الإيمان – المعمودية – الإيمان ” الإيمان السابق عند المعتمد يقوم مقامه عند الولد كونه إبناً لوالدين مؤمنين. الكنيسة تنتمى إلى الدهر التي ولكنها قائمة في الدهر الحاضر. والولادة الطبيعية عنصر طبيعي متعلق بالدهر الحاضر ولكن من أجل العائشين في الكنيسة فإنها عنصر كنسي. الولادة الطبيعية تجر إليها الولادة الروحية للدهر التي. وإن كان غير ذلك فهذا يعني أن إنتساب الكنيسة إلى الدهر الآتي لا ينعكس التبة في حياة المؤمن في الدهر الحاضر. إن الدخول في الكنيسة ليس له علاقة فقط بالداخل إليها بل بذريته. هذا يتفق مع الفكرة اليهودية القائلة أن الخلف في السلف والسلف في الخلف. إن الختان الذي أكمله موسى كانت له علاقة ليس فقط بمن تم فيهم بل في ذريتهم أيضاً. وبعفل ذلك صار إبراهيم “أباً لأمم كثيرة” (رومية 4: 17). الولادة من أبوين مسيحيين شهادة تعطى للكنيسة إن الله يدعو أولاد هذين الأبوين إلى الكنيسة. ولذلك لا نستطيع أن نقول أن معمودية الأطفال تخرق حرية إرادتهم لأن الإرادة الحرة غير موجودة إطلاقاً عندهم ونحن لا نقول أن الولادة الطبيعية تخرق الإرادة الحرة عندهم. ومن هنا تنبثق نتيجة أساسية تتعلق بمعمودية الأطفال والأولاد. إنها تكمل فقط لأولاد الأشخاص القائمين في الكنيسة لأن قيام الوالدين السابق في الكنيسة يمكن أن يقوم مقام إيمان الطفل المعتمد. ففي حالة الأطفال المولودين لأبوين غير مسيحيين ليس من إيمان سابق لأن إيمان العرابين لا يستطيع أن يملأ فراغ الإيمان عند الأولاد.

المولود لأبوين مسيحيين يدخل إلى العالم والله يدعوه إلى الكنيسة. بالمعمودية المكملة في الكنيسة يصبح عضواً في شعب الله. أن حياته العاملة في الكنيسة تتعلق بإيمانه اللاحق. وهذا هو جواب من تعمد في الطفولة عن نداء الله. وبآن واحد هذا الإيمان هو جوابه للكنيسة التي عمدته على أساس نداء الله إليه. وهذا الجواب يمكن أن يكون إيجابياً وسلبياً. ولكن في هذه الحالة وتلك يظل عضواً في الكنيسة. وكما يستحيل محو الولادة الطبيعية هكذا يستحيل محو الولادة الروحية. وبقوة ولادته الروحية يعترف أنه مقيم في الدهر الحاضر وأنه ينتمي بآن واحد إلى الدهر الآتي. على المعتمد نفسه أن يحقق انتسابه إلى الكنيسة وأن مسؤولية هذا التحقيق ملقاة ليس فقط عليه ولكن على الكنيسة التي على أساس إيمان والديه كملت معموديته، ثم تقع هذه المسؤولية على والديه.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
انتقل إلى أعلى