استخدم القديس بولس كلمة “كنيسة” حوالى 62 مرة في رسائله. فكلمة “كنيسة” هي تعريب للكلمة اليونانية (Ekklissia – εκκλησία) التي تعني “الدعوة”. فالكنيسة في المفهوم اليوناني -قبل المسيحية- هي “جماعة المدعوين” دعوة سياسية، اي الجماعة التي تجتمع لإبداء رأيها في الامور السياسية.
الا ان المسيحية، وبخاصة الرسول بولس، استخدمت كلمة “كنيسة” اليونانية ونصّرتها، فأصبحت: الجماعة التي يدعوها الله. اذاً ليست الكنيسة اجتماع اشخاص يجتمعون بغية اقتناعهم بفكرة معينة، او لتحقيقهم مشروعاً ما… بل الكنيسة هي “المدعوَّة” من قِبَل الله للاجتماع: “أمينٌ هو الله الذي به دُعيتم الى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا” (1كورنثوس 1: 9). الكنيسة هي في نهاية الامر الجماعة التي يدعوها الرب ويمتلكها، ويقول يسوع بهذا المعنى “…اعطيتَهم لي وقد حفظوا كلامك” (يوحنا 17: 6). فالكنيسة هي جماعة بمعنى أن اختيار الله لها هو اختيار لشعب، لجماعة، لا لأفراد منفصلين بعضهم عن بعض. عندما يختار الله أشخاصا -ابراهيم، موسى، الانبياء…- فهو يختارهم من اجل الشعب الذي يرسلهم اليه، لا من اجلهم شخصيا. ويذكّر الرسول بولس المؤمنين بأنهم”…ايضا مدعوّو يسوع المسيح” (رومية 1: 6). وتتم هذه الدعوة كنسيا جماعيا. فالمسيحي مسيحي في الشركة مع المسيحيين، في شركة الايمان، لا بمعزل عن المسيحيين، وعن الكنيسة.
يصف سفر اعمال الرسل حادثة اهتداء بولس على طريق دمشق: “فسقط على الارض وسمع صوتا قائلا له: شاول شاول لماذا تضطهدني؟ فقال الرب انا يسوع الذي تضطهده” (اعمال الرسل 9: 4-5). على أثر هذا الحدث ادرك بولس العلاقة الوثيقة بين المسيح والكنيسة من خلال ثلاثة أسس: المعمودية، عشاء الرب، مواهب الروح القدس.
1- المعمودية: ليست المعمودية لدى الرسول بولس طقسا يدخل به شخص الى الجماعة (مثل رهبان قمران) او توبة للملكوت (كما دعا يوحنا المعمدان). بل هي ارتباط بالمسيح، توبة اليه (métanoia) اي تغيير للفكر .فالمعمودية تجعل الانسان “انسانا جديدا” وتمنحه “حياة جديدة” باشتراكه في موت المسيح وقيامته: “أَم تجهلون اننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدُفِنّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن ايضا في جدّة الحياة، لانه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير ايضا بقيامته. عالمين هذا أن انساننا العتيق قد صُلب معه ليُبْطَل جسد الخطية كي لا نعود نُستعبَد ايضا للخطية”(رومية 6: 3-6).
نعلم من سفر اعمال الرسل بأن المعمودية كانت تعطى “باسم يسوع”: “فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمدْ كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح” (2: 38) اي إن المعمَّد يصبح مُلْكا ليسوع، فتكون ليسوع سلطة عليه. ليس الارتباط بالمسيح العنصر الوحيد الذي يكوّن الكنيسة كجسدٍ له، بل المعمودية توحِّد المؤمنين فيما بينهم وتجعلهم جسدا واحدا، تجعلهم الجماعةَ التي تؤمن بيسوع المسيح: “لاننا جميعا بروح واحد ايضا اعتمدنا الى جسد واحد، يهوداً كنّا أَم يونانيين، عبيداً أَم احرارا…” (1كورنثوس 12: 13). فالمعمودية إذاً هي اندماج مع شخص المسيح واندماج ايضا في جسده الذي هو الكنيسة.
2-عشاء الرب: ان عشاء الرب ايضا يكوّن الكنيسة، اي يجعلها جسد المسيح. فيقول الرسول بولس: “كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة دم المسيح؟ الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح؟” (1كورنثوس 10 :16). يعبّر الرسول عن الاتحاد بالمسيح باستخدام كلمة “مع” :نُصلب معه، نتألم معه، نموت معه… هكذا تتحد الكنيسة باشتراكها في الجسد والدم الكريمين (1كورنثوس 10: 16-21). فان كانت الكنيسة تصير بالمعمودية جماعةَ المسيح، فانها تبقى وتنمو ككنيسة بعشاء الرب. وبناء على الاتحاد بالمسيح، يتحد المشتركون فيما بينهم. لذلك يصبحون واحدا في الجسد والدم نفسه “فاننا نحن الكثيرين خبز واحد، جسد واحد، لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد” (1كورنثوس 10: 17). فهم يصبحون في الجسد والدم جسدا وحداً هو جسد المسيح. يصبحون أعضاء كثيرين في الجسد الواحد: “فانه كما في جسد واحد لنا اعضاء كثيرة… هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح” (رومية 12: 4-5). فكما ان المعمودية تكوّن الجسد وتوحد المعمَّدين، فكذلك عشاء الرب ينمي ويوحِّد.
3- مواهب الروح القدس: بنى الرسول بولس تأسيس الكنيسة وتكوينها ونموّها على شخص المسيح، لكنه كان يبنيها ايضا كجسد المسيح على عمل الروح القدس الذي بمواهبه يبني الجسد. فيستخدم من اجل ذلك صورة الجسد الذي يتألف من أعضاء مختلفة تكوِّن جسدا واحدا. فكنيسة المسيح واحدة مع تعدّد أعضائها ومواهبهم: “لانه كما ان الجسد هو واحد وله اعضاء كثيرة، وكل اعضاء الجسد الواحد، اذا كانت كثيرة، هي جسد واحد، كذلك المسيح ايضا. لأننا جميعنا بروح واحد ايضا اعتمدنا…” (1كورنثوس 12: 12-13):
الكنيسة بمفهوم الرسول بولس هي جماعة المدعوين الذين اتحدوا بيسوع بالمعمودية، وينمون بالعشاء الرباني، وبالرغم من اختلاف مواهبهم هم يؤلفون جسد المسيح الواحد، حيث لا فرق بين اليهودي والاممي، بين الحر والعبد.
عن رسالة مطرانية اللاذقية