الكنيسة المواهبية

تدل لفظة kharisma في العالم اليوناني (χάριμα) على “الهبة المجانية”، أصلها kharis ) χάρις) اي “نعمة”. ومن المعلوم أن الأباطرة قديما كانوا يمنحون جنودهم kharisma، اي مبلغا إضافيا على راتبهم، من دون ان ينتظروه او يستحقوه. استعمل كتّاب الاسفار المقدسة اللفظة عينها للدلالة على المواهب التي يعطيها الروح الإلهي بفيض ومجانية الى الشعب الذي تَجمعه طاعة نداء الرب.

في العهد القديم ظهرت مواهب الروح القدس خصوصا عند الأنبياء، وقد تفاوتت بين نبي وآخر (1ملوك 18: 12، 22: 28؛ حزقيال 3: 12). غير أن ما كان قديما يعطى “بمكيال” اختبرته كنيسة العنصرة بكماله، وذلك لأن الروح المعزي الذي حضر على التلاميذ يوم الخمسين استقر في الكنيسة الى الابد.

يورد العهد الجديد، في إطار علاقة أعضاء الكنيسة ببعضهم البعض، أسماء العديد من المواهب، نذكر منها: “الرسالة، النبوّة، التعليم، الوعظ، الخدمة، الإدارة، الأشفية، العطاء، الإيمان، الألسنة، ترجمة الألسنة، الحكمة، تمييز الأرواح…”، وفوق كل المواهب تأتي موهبة “المحبة”، راجع: 1كورنثوس 12: 4-11 و28؛ رومية 12 :4-8؛ افسس 4: 7-13؛ 1بطرس 4: 11 (ثمة مواهب اخرى لم يذكرها العهد الجديد، مثل “موهبة الدموع” التي مارسها آباء البرية). هذا التعداد للمواهب يجعلنا ننتبه الى أمرين اثنين تبرزهما بوضوح النصوص المرموز اليها آنفا، وهما: أن معطي كل المواهب هو الروح القدس، وأن توزيعها يتم على الكل بما يفيد الكل ويقدس العالم أجمع. ونرى ايضا الى أن المحبة هي “أصل الفضائل كلها ومصدرها وأمها”، كما يقول الذهبي الفم، ولذلك فإن اي سعي الى اي موهبة يقوم على إهمالها يكون كالعدو وراء الظل، يقول الرسول بولس: “اسعوا الى المحبة واطمحوا الى مواهب الروح”، فالمحبة، ببعديها العمودي والأفقي، هي التي تحفظ المؤمنين في جسد المسيح الواحد وتساهم في نمو مواهبهم، وكل شيء دونها “نحاس يطن او صنج يرن” ولا يجدي نفعا.

الكنيسة هي، اذا، حياة المواهب المتعددة التي يعطيها الروح الواحد لخير الجسد (1بطرس 4: 10)، ولبنيانه (افسس 3: 12). فلا تعطى موهبة لاحد من اجل نفسه، ولكن من اجل الجماعة كلها. يقول القديس باسيليوس الكبير: “كل واحد يخفي في ذاته ما منحه الله من النعم والمواهب، ولا يُشرك سواه في فوائدها، يدان كأنه دَفَنَ وَزْنته”. ونرى أن الآباء والمفسرين عموما في شرحهم مثل الوزنات (متى 25: 14-29) وصلوا الى الغاية ذاتها، يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “الذي عنده موهبة الكلام والتعليم لما يفيد الآخرين، ولا يستعملها، فإنه يفقدها”، وجاراه زيغافِنوس في تعليقه على موهبة اخرى بقوله: “لأن كل من عنده جدّ واجتهاد يعطى أجرا واكثر ما يستحق، والذي ليس عنده من الجد والعمل حتى ما عنده يؤخذ منه لأنه لا يستعمله”. لا ريب أن هذا الفهم الأصيل لشركة المواهب لا يمنع أعضاء الكنيسة من أن يهملوا مواهبهم ويدفنوها وحسب، وإنما ايضا ان يستخدموها بحسب مزاجهم او تقديراتهم الشخصية، هؤلاء يقول فيهم القديس باسيليوس: إنهم “يستعملون نِعَمَ الله المعطاة لهم لا لمجد الله بل لأغراضهم الخصوصية: كمرضاة الناس او المجد الباطل، او المكسب الخسيس”.

تتلاقى الجماعة المواهبية لقاءً عضويا لدرجة انه لا يقدر احد فيها أن يقول للآخر “لا حاجة لي اليك”، وذلك أن القاعدة الأساس لترابط أعضاء الكنيسة هي أن يتقدس الكل بالكل، كما ذكرنا آنفا، في ما يخضعون جميعا لرأسهم الذي هو المسيح ملك المجد، ولا نجد أبلغ من كلام القديس بولس في رسالته الاولى الى كنيسة كورنثوس لتوضيح هذا الأمر، يقول الرسول: “لأنه كما أن الجسد هو واحد وله أعضاء كثيرة، وكل أعضاء الجسد الواحد اذا كانت كثيرة هي جسد واحد، كذلك المسيح ايضا… إن قالت الرِّجل لأني لستُ يدا لستُ من الجسد. أفلم تكن لذلك من الجسد؟ وإن قالت الأذن لأني لست عينا لست من الجسد. أفلم تكن لذلك من الجسد؟ لو كان كل الجسد عينا، فأين السمع؟ لو كان الكل سمعا فأين الشّم؟ وأما الآن فقد وضع الله الأعضاء، كل واحد منها في الجسد، كما أراد. ولكن لو كان جميعها عضوا واحدا، أين الجسد؟ لا تقدر العين أن القول لليد لا حاجة لي إليك… بل بالاولى أعضاء الجسد التي تَظهر أضعف هي ضرورية. وأعضاء الجسد التي نحسب أنها بلا كرامة نعطيها كرامة أفضل. والأعضاء القبيحة فينا لها جمال أفضل… الله مزج الجسد معطيا الناقص كرامة أفضل… فإن كان عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه. وإن كان عضو واحد يُكرَّم فجميع الأعضاء تفرح معه. أما انتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفرادا” (12: 12-27). وهذا، بكل تأكيد، يمنع أيا كان من أن تحلو في عينيه موهبة دون أخرى، مما يشوّه الوعي ويستدعي تحقير الموهبة التي أعطيت له باللهث وراء ما يظن أن له فيه مجدا او مكسبا دنيويين (راجع قصة سيمون الساحر في اعمال الرسل 8: 9-24).

لا بد من القول بأن المواهب تُستخدم في حدود الإيمان والتعليم الرسولي اللذين يسودان الكنيسة، وهي تنمو بالاشتراك في الأسرار المقدسة، وخصوصا في الافخارستيا، وذلك أن المؤمن الذي يدخل في حركة التجدد، اذ يولد من جديد، يتكامل في الأسرار وعيش القداسة، فالروح الذي يبني في التاريخ جسدَ المسيح هو يعطي المؤمنَ الحر بذار القداسة ويُعينه أن ينميها في كل محطات حياته.

لقد أُعطي شعب الله في المسيح يسوع ملء الحقيقة الإلهية وملء الوحدة بين الناس والله، وعلى الذين حملوا بذار هذا الملء أن يسعوا جاهدين الى تحقيق الوحدة والمحبة اللتين في الله المثلث الأقانيم، فالثالوث القدوس هو الصورة المثلى والغاية الأخيرة للكنيسة المواهبية.

عن نشرة رعيتي

arArabic
انتقل إلى أعلى