0 – مدخل:
منذ الصغر ترافقنا الأيقونات في كل جهة من الكنيسة، وخاصةً على الأيقونستاس. وكنائسنا هي نوع من الاحتفال، بالشكل واللون، لحضور الله في كنيسته. كما أن للأيقونة مكانتها وتوقيرها في البيت المؤمن، إذ توضع عادةً في إحدى الزوايا، فيتوجّه الجميع إليها بالصلاة. ولكي نفهم معنى استخدام الأيقونة في كنيستنا الأرثوذكسية، لا بد من رؤيتها فناً ليتورجيا نستعملها في إطار العبادة الأرثوذكسية ونكرمها. ليست إذاً فناً دينياً نزيّن به الجدران ونتأملّه كأي معرض فني.
إن شخصاً اعتيادياً لا يسأل “لماذا” و”كيف” تكون الأيقونة “اتصالا حقيقياً” مع الله؟ وكيف هي منبع للنعمة والتجديد الروحي في عالم تشوّهت فيه الصورة الإلهية؟ لا يستطيع أن يسبر عمق الأيقونة وروحانيتها.
من يحيا روحياً ليتورجية الكنيسة الجامعة وباستقامة رأي وحياة وتمجيد، هو وحده يستطيع الارتقاء بكل فن إلى مستوى الاتصال بأسرار الأيقونة التي أمامه. هذا يستطيع أن يصل إلى الرؤيا التي تعبّر عنها الأيقونة.
فما هي الأيقونة ولماذا نستعملها؟
1 – الأيقونة
هي تعبير تصويري لموضوعات دينية، تصوّر بوفاء ملامح اللاهوت الأرثوذكسي، فتبرز صورة المسيح، وبعض القديسين، وتذكّرنا بحوادث التدبير الخلاصي كالنزول إلى الجحيم مثلاً، وقد تظهر حدثاً تاريخياً من حوادث الكنيسة والكتاب المقدس ( ضيافة إبراهيم وأحد المجامع المقدسة).
تُطلق كلمة أيقونة على الرسومات ذات الطابع الروحي التي تعكس حقيقة إلهية، وما عداها فهي لوحات وفنون شعبية. ولقد أوجدتها الكنيسة واضعة لها قواعد للرسم لتكون لقاء مع الخليقة الجديدة، والمسيح هو رأس هذه الخليقة الجديدة. ومن ناحية أخرى، فالأيقونة نافذة على “العالم الآخر”، حيث لا سيطرة للزمان والمكان، ولهذا تبدو الخطوط في الأيقونة غريبة بعض الشيء لأنها لا تنقل صورة كالفوتوغرافية و الفن الطبيعي naturaliste ولأن النور الإلهي يطرد كل ظل خطيئة. تستخدم الأيقونة البعيدين بدون ظلال، وهذا لأننا نصّور الطبيعة المفتداة والمنوّرة والمقدسة. تبرز الأيقونة حضرة الله بين الناس، وهذا فكر أرثوذكسي ضميم، إذ تلعب الأيقونة دوراً تعليمياً وإعلامياً رائعاً في ليتورجيا كنيستنا المقدسة. ففن التصوير المقدس يثقّف شعب الله إذ يوصل تعليم الكنيسة بما تؤمن، وهكذا تترسّخ الخبرة الحقيقية التي للرؤيا الداخلية حين نراها مصورة أمامنا.
نتعلم الإيمان مشتركين بالحدث كأنه حاصل أمامنا، وهذا ينطبق تماماً على استخدام كلمة “اليوم” في معظم تراتيلنا، والتي تظهر الحضور الدائم لحقيقة تصميم الله لخلاصنا. الإدراك لا يستطيع إظهار الإله غير المنظور ولكن في أعماق النفس يجد الإنسان ضالته بخصوص وجود الله. وهكذا يعبر المؤمن الأرثوذكسي من خلال إنعكاس الألوهة في الأيقونة إلى اللقيا والإتحاد. إن الأيقونة تثير في الإنسان أسرارية، وعندما يتجاوب مع هذا بحياة روحية، فيلتقي الإله والإنسان في القلب فيشاهد المؤمن رؤية مسبقة عن العالم الذي كان، والذي سيكون، مقدّساً.
فالأيقونة مجرد صلة بين الحدث التاريخي والحدث الليتورجي والعالم المتجلّي بالمجد الأبدي. إنها نقطة تركيز النعمة، نعمة روح قدس الله التي تؤثّر في المؤمن عبر الحدث المقدس. وبالإضافة إلى ذلك فالأيقونة هي “منبع النعمة” لكونها حضور الإلهيات المقدسة في هذا العالم (استبيان خاص بي).
قرون مضت وأجيال أنقضت والرسامون في الكنيسة الأرثوذكسية لا يزالون يعيدون رسم بعض النماذج الأولى للأيقونات المقدسة. طبعاً مع وجود بعض الفروقات بين عصر وآخر، وبتباين أسلوب بلد عن بلد آخر. وهذا الموقف ليس مجرد رفض للتطور لكل طابع شخصي، بل لأن الكنيسة الأرثوذكسية لا تستخدم عنصر الخيال الحر، ذلك أن لها وجهة نظر خاصة بدور الفنان الفرد، ونلاحظ أن أغلبية الرسامين الأرثوذكس ما زالوا مجهولين لأن الأيقونة بنظرنا ليست من صنع فنان بالمعنى الحصري، بل هي مهنة تمارس في الأديرة التي اكتسبت صيتاً في مثل هذه الأعمال. لا ترتكز مدارس الرسم عندنا على فنان حقّق قفزة جديدة واختراعا خلاقا، بل ترتكز على تقليد محفوظ بعناية تامة ومسّلم من جيل إلى جيل عبر الرهبان الذين لكل واحد منهم عمل محدد في رسم الأيقونات، فالواحد يرسم الوجه وأما الآخر فيرسم الجسم والثالث الأثواب، وهكذا نجد عنصر الخلق الفني للفرد قد أمّحى في عملية رسم الأيقونة المقدسة، وأنصّب الأمر في قالب جماعي شركوي، إلهي إنساني. ولهذا نلاحظ أن الفنان لا يوقع على الأيقونة كسائر الأعمال الفنّية، بل يكتب “بيد الرهبنة الفلانية، وبيد الراهب فلان” دلالة على إيماننا “بسينرجية” (الإشتراك معا في العمل) بين الله والإنسان، فالله الْهَم وأنار الفكر وأوضح الرؤى، والفنان قدّم اليد لتخطّ ما ينظر الفكر المنور والأعين المنفتحة على مشاهد السماء والقلب النقي. ولهذا فالأيقونة بيد فلان وليست من إنتاجه الخاص.
2- عبادة أم تكريم
التمييز بين العبادة والتكريم مهم جداً، فالعبادة هي تكريم الله وحده اعترافا بأنه هو الكائن والخالق والرب والعادل والمخلص. وأما التكريم فهو احترام مخلوقات الله التي تعبّر عن قدرته وعن محبته. وهكذا نحن نكرّم الأيقونات لكونها تظهر شخصيات مقدسة كالرب يسوع وأمه النقية وسائر الملائكة والقديسين.
أمّا العبادة فنقدّمها من عمق الكيان إلى الثالوث الأقدس وحده، وما تكريمنا لأيقونات السيد سوى تعبير عن شكرنا له إذ تجسّد وأظهر بشخصه صورة الآب السماوي. ولأنّ القديسين هم متّحدون بالمسيح فيليق بهم كل تكريم لأننا بذلك نكرّم من أعطاهم النعمة والقداسة.
لم تستخدم الكنيسة الأيقونة على أنها لوحة فنية جذاّبة. بل اعتبرتها تعبيراً عن ظهور النماذج السماوية لأنها نافذة بين الأرض والسماء، والتطلّع من خلال نافذة الأيقونة إنما هو التطلع مباشرة إلى العالم السماوي. اذاً، فالبعدان الإثنان للأيقونة والهالة الذهبية مرتبطة إرتباطا حميماً بصفتها المقدسة.
لقد وُجدت الأيقونة كعلامة لتجديد صورة الله في الإنسان. إنها نقطة لقاء بين الإنسان والسر وهي منبع النعمة. وبما أن تشبّه الإنسان بالله لا يمكن أن يخفى، كذلك الأيقونة التي هي تعبير خارجي عن التماثل الإلهي الحاصل في الإنسان لا يمكن أن تخفى أيضاً.
يتحدث القديس يوحنا الدمشقي عن فاعلية الأيقونات المقدسة، فيقول: “إن لم يكن لدي كتب. فأني أذهب إلى الكنيسة… فأن الرسوم تجعلني مفتوناً كما تفعل الأرض المعشوشبة والمزهرة، فتحرّك مجد الله في روحي”.
من دواعي التشجع على تكريم الأيقونات: ميزتها العملية التي تقدمها ككتاب لغير المتعلمين “إن الأيقونة مثل كتابة مقدسة. هي تعبير عن غير المعّبر عنه، لأن التجسد هو أساس رسم الأيقونة، تماماً كما هو أساس كلمة الله المكتوبة في الإنجيل. والكلمة المسموعة والصورة المنظورة كلاهما يقدمان أفضل مساعدة في تحقيق المشاركة في العبادة الحقّة”.
هذا هو تعليم القديس الكبير: “إن معرفة نفس الأمر الآتي بشكل حسّي بالاشتراك ما بين الكلمة المنقولة عبر السمع والرسم الصامت والظاهر من خلال الصوَّر”. وبنفس الهدف يتحدّث القديس نيلوس السينائي، فيقول: “الذين لا يحسنون القراءة يمكنهم تذكر تصرفات خدام الله من خلال صوَر العهدين القديم
والجديد. وأيضاً يمكنهم السعي لمشابهة هؤلاء القديسين الذين استبدلوا الأرض بالسماء مفضّلين غير المنظور على المنظور”.
يقول القديس فوتيوس القسطنطيني: “كلّ من يقول أنه يحب الكتاب ويكره الأيقونة يكون مجنوناً ولا منطقياً. فإننا نقبل التعليم المأخوذ من الصورة تماماً كما نقبل نفس التعليم الآتي من خلال الكلمات المكتوبة. نتقبّل المواعظ بسمعنا، وكذلك نتسلّم الشكل من خلال النظر، كلاهما ينقل الحقيقة ذاتها ولكن بطرق مختلفة”. “تمسك العذراء الخالق في يديها كطفل (في الأيقونة) فمن ذا الذي لا ينبهر لمجرد النظر إليها أكثر مما لو سمع وصفاً كلامياً لعظم هذا السر؟ “
3- الأيقونة والليتورجيا
تبلغ الليتورجيا الأرثوذكسية قمّتها في الإحتفال بسر الإفخارستيا، فتتذوّق وتختبر الجماعة المصلية ظهور المسيح في سر الإفخارستيا كما أنها تتذوق بهذا الظهور ملكوت الله والمجيء الثاني الذي للمسيح إلهنا. أكثر من ذلك، ففي سر الشكر يجتمع المصلّون السماويون كافة مع المصلين الأرضيين، وتنزل السماء إلى الأرض حيث تملأ المكان المقدس. فيدخل المسيح سيداً منتصراً محاطاً بالملائكة بحال غير منظور.
والأيقونة في الكنيسة تمثّل هذا الظهور وتظهر هذا الحضور، فمن المهم جداً أن تكون في الكنيسة أماكن مخصصة للأيقونات المقدسة. إن الأيقونة تجعل ما يتمّ بصورة سرية في الخدمة ظاهراً حسيّاً. تحاول الأيقونة إفهامنا بالوسائل الحسيّة النظرية، أي البصرية، سر التدبير الخلاصي. تكلّم الأيقونة المؤمن بالرموز والأشكال المأخوذة من الواقع، وبما أن الليتورجيا تتوخى العبادة بالروح والحق، فلا بد إذاً من وسائل رسم روحية.
ولمحاولة فهم السر نرى رسم القداس الإلهي في حينه الهيكل، حيث يقيم المسيح الذبيحة على نفسه معطيا جسده ودمه للرسل، والكاهن يمثل على الأرض هذه الذبيحة السماوية. علماً بأن الأيقونة ليست لوحة نزيّن بها الكنيسة بل هدفها الليتورجي هو التعبير بالرسم عن “ليصمت كل جسد بشري” بأشكال الملائكة اللاماديين، فإذا ما رأى المؤمن هذا واهتزّ كيانه يفهم حقاً أن “القوات السماوية تخدم معنا”، ولو صوّرت الأيقونة بأشكال عالمية لما ساعدت على فهم سر الليتورجيا.
بهذه الطريقة، وبالارتباط الصميمي بين الأيقونة والليتورجيا، تظهر حياة المسيح ووالدة الإله والقديسين، وخاصة صراع القديسين وجهادهم. ليس فقط لفائدة غير المتعلمين حتى أننا بالنظر إلى الرسوم نحفظ الأعمال الشجاعة التي قام بها القديسون فنتمثّل بهم. وهي بالإضافة إلى هذا وثيقة مهمة لشرح أهم مواضيع العبادة. صور عن القداس، المديح، رفع الصليب…
ونشير أيضاً إلى أن لغة الليتورجيا قد أوحت بالكثير من الأيقونات، فمثلاً اشتهار المديح أوحى بالكثير من الأيقونات، إذ أوحى بأربع وعشرين أيقونة، وكذلك تأثّر الرسامون بالشعر الكنسي فاستفادوا من صيغة تكليل المسيح للشهداء فرسموه وفي أعلى الأيقونة يُكَلَل الشهداء بالغار.
إذاً، ترتبط الأيقونة بالليتورجيا من ناحية النص أيضاً وهما متشابهان إلى حد بعيد.
4- ترتيب الأيقونة في الكنيسة
يطالعنا الأيقونستاس، الذي كان مجرد حاجز منخفض يفصل ما بين الهيكل وصحن الكنيسة، والذي أخذ يرتفع قليلاً قليلاً مع مرور الزمن وتراكم الأحداث. فصار جداراً عالياً فيه ثلاثة أبواب يدخل منها الكهنة إلى الهيكل لإتمام الخدمة، ومن الباب الوسطي (الباب الملوكي) يتّصل الكاهن بالشعب ليعطي السلام والبركة والقدسات وليقرأ الإنجيل والوعظ.
وعلى هذا الجدار رتبت الأيقونات كالتالي :
- أيقونة السيد دوماً موجودة على يمين الباب الملوكي، وعلى شمال الباب أيقونة والدة الإله “قامت الملكة عن يمينك…”، وعن يمين أيقونة السيد توضع أيقونة يوحنا المعمدان، فهو صديق العريس (يو3: 29 ). أمّا بالقرب من أيقونة العذراء التي هي عروس الله والتي تمثل الكنيسة فنرى أيقونة القديس شفيع الكنيسة.
- وعلى الباب الملوكي ترسم أيقونة البشارة التي فيها حصل اتحاد الله بالبشر، ومن خلال الاتحاد صارت أبواب السماوي مفتوحة، وعادت علاقة الناس بالله إلى مجراها الأول في بكر المصطلحين مع الله، ألا وهي العذراء التي نسميّها في صلواتنا “باب السماء”.
- أما على البابين الآخرين فنرسم أيقونة رئيسي الملائكة ميخائيل وجبرائيل أرفع جند السماء، وفوق هذه الأيقونات التي عادة ما تكون بمقاس الحجم الطبيعي للإنسان، توجد ثلاثة وأربعة صفوف من الأيقونات الأصغر حجما وعددها يتوقف على كبر الكنيسة وصغرها. فتترتب كالتالي:
- الصف الأول للرسل
- الصف الثاني للقديسين والأبرار والشهداء.
- الصف الثالث هو مصفّ الأنبياء
- الصف الرابع هو مصف آباء العهد القديم.
- ثم أننا نضع فوق الباب الملوكي أيقونة الشفاعة والصلاة “Δέησις” التي تمثّل المسيح جالساً على عرشه كدّيان للكون ومريم أمه ويوحنا المعمدان واقفين عن يمينه وعن يساره في وضع صلاة وتشفّع من أجل العالم.
- وفي أعلى الأيقونستاس صورة آلام الرب يسوع البارزة أي صليب الرب يسوع، وأمه ويوحنا الحبيب واقفين عند الصليب. وهكذا نرى أن ترتيب الأيقونات بهذا الشكل يقدّم الكنيسة السماوية كلها لجماعة المصلين الأرضيين.
- ثم أننا نرى في أعلى حنيّة الهيكل الشرقية صورة العذراء الأرحب من السماوات ( Πλατιτέρα των Ουρανών) تحضن المسيح معطي الحياة مقدمة إياه إلى العالم وحولها أجواق الملائكة. وعلى الحنية حول المائدة يقف الآباء القديسون معلمو المسكونة الذين اهتموا بالليتورجيا الإلهية وعلّموا الإيمان، ونصّوِر المسيح مع الرسل يتممون القداس الإلهي. وعلى اليمين والشمال يصطف الآباء والشمامسة ثم آباء البرية والشهداء والأنبياء وبعض المشاهد التي تمثل حوادث الخلاص في العهدين.
- في القبة الوسطية أعلى الكنيسة يظهر الضابط الكل ناظراً إلى الناس برأفة وحنان كما بجدية ووقار وتحته الإنجيليون وتحتف به الملائكة.
- في النارثكس نصَّور مشاهد من العهد القديم (لكونه المدخل إلى العهد الجديد).
- وللأيقونة أيضاً مهمة ليتورجية أخرى، إذ لكل يوم أيقونة خاصة بشفيع ذلك اليوم والمناسبة التي لها نعيّد.
5- تكريس الأيقونات
يكرِّس الكاهن الأيقونة كتأكيد وإثبات تعطيه الكنيسة لمطابقة الصورة المقدسة مع النموذج الأصلي لها: “نحن لا نعبد الأيقونات، ولكننا نعلم أن الاحترام المستحق للأيقونات يرفع للنماذج الأصلية”. إذ ليست الصورة هي المقصودة بالاحترام والإكرام بل الأنموذج الأصلي الذي يظهر فيها. وفي صلوات التكريس تذكير دائم وملحّ بأنه لا يجب أن تضلِّل الأيقونة أحداً مبعِدةً أيّاه عن عبادة الله الذي له وحده تجب العبادة كأنموذج أصلي للقداسة. وفي صلوات التكريس تفسير لسبب السماح بصنع الأيقونات واستدعاء لبركة الرب لكي تحلّ على الأيقونة وبركة وشفاعة المصوَّر عليها ولكي أنّ كلّ من يصلّي أمامها ينال طلبته فيستخدمها كوسيلة روحية لرفع صلاته ولسكب نفسه أمام الرب.
6- الكلمة والصورة
يبدأ إنجيل القديس يوحنّا بسر الإبن ويدعوه “الكلمة”. ونجد أنّ لغة الكتاب المقدس هي لغة الحوار حول الواقع الحي. ويحتفظ القداس الإلهي بلغة الحوار أيضاً فيتوسّط “الكأس” المذبح لأن “الكلمة” يتحقق في الإفخارستيا، ويستعلن الله الحي الواهب ذاته طعاماً.
ويدخل الكلمة التاريخ ولكنه لا يتكلّم فحسب بل أنه يصنع التاريخ أيضا ويهيب بألناس إلى تأدية أعمال تعلن عن روحهم بوضوح. وكلّ كلمة بنّاءة تتوجّه إلى السمع والبصر، فيقول لنا يوحنا الرسول: “الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فإن الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد…” (1يو1: 1-3). يعطينا هذا النص شهادة مثلى للسمة البصرية التي للكلمة المتجسد. فإلى جانب الإدراك الذهني يقف الإدراك الحسّي، وإلى جانب الكلمة تقف الصورة، فنسمع أيوب يعلن: “بسمع الأذن سمعت عنك أمّا الآن فقد رأتك عيناي” (أيوب 42: 5).
ولهذا السبب حينما عاهد الله الإنسان على عدم إهلاكه، أعطاه قوس قزح علامة. ومقابل صرخة أشعياء “لو تُمَزِّق السماوات وتنزل على الأرض” (أش64: 1) يجيبنا الفادي الحبيب: “الحق أقول لكم من الآن ترَونَ السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان” (يو1: 51). كذلك يعلن لنا “طوبى للعيون التي تنظر ما تنظرونه…” (لو10: 23). وكما شفى السيد المسيح الصُّم فتح أعين العميان. فتكشّف اللامرئي في المرئي. ومذّاك أصبحت الصورة من صميم المسيحية كالكلمة تماماً: كلاهما وسيلة للتعبير عن الروحيات.
وفي النهاية قدّم لنا الكلمة المتجسد ذاته طعاماً لنا: “خذوا كلوا هذا هو جسدي”. أمّا في يوم الخمسين فقد اشتعل الكلّ بألسنة النار. وهكذا يجيئنا اللامرئي عن طريق المرئي في الأيقونة القداس الإلهي السماوي.
7- ملاحظات حول تقنية رسم الأيقونات
تُرسم الأيقونات مهيأة بدقة. ويستخدم الرسام خشب السرو والسنديان والزان والكستناء وأكاسيا، شريطة أن يكون خالياً من العقد. يهيء صفحته بمحلول الصمغ، ثم يلصق على هذا المحلول نسيجاً رقيقاً يتّحد بالخشب اتحاداً وثيقاً. وبعد ذلك يطلي مرات عديدة هذه الصفحة بالطبشور وبمسحوق المرمر الأبيض الممزوج بالصمغ الحيواني. وان هذه الصفحة المطلية بالطبشور، عند الفراغ من تحضيرها، تجفَّف جيداً بورق الزجاج و بخرقة ناعمة. ثم تنقش خطوط الرسم خفيفاً، وتلصق حولها أوراق الذهب.
ثم ينصرف الفنان إلى الرسم، مستخدماً ألواناً صادرة قدر الإمكان من رغوة مسحوق طبيعي ممزوج بصفار البيض، فيسمى ذلك: “التنبير”. عند انتهاء الرسم، تُبسط فوقه طبقة من أفخر زيوت الكتان. ثم تُضاف إلى هذا الزيت أصناف من راتنج الأشجار، أي من صمغها المستحلب، كالعنبر الأصفر. وهكذا فإن هذا الطلاء، يشرب الألوان، ويجعل منها مجموعة متجانسة قاسية ثابتة. ومع الأيام، تكسب أكسدة الألوان لوناً معتماً. وإذا جلونا أديم الأيقونة نستطيع رؤية اللمعان الأصلي لهذه الألوان.
للنور شأن خطير في الأيقونة. ولقد تضاء منها عموما المساحات العليا، لأن النور يهبط من العلاء، اذ هو النور السماوي. وفي الوقت نفسه يكون النور خلفية الأيقونة، واذا ما عبرنا بالأوضاع العلمية، نقول أن الخلفية الذهبية في الأيقونة تدعى نورا، وان طريقة الرسم هي “لايضاح التدريجي ” فالرسام، وهو يعالج وجها، يغطيه اولا بلون قاتم، ثم يلقي فوقه صبغة اكثر وضوحا، يحصل عليها بأضافته، إلى المزيج السابق، كمية من مسحوق أصفر، أي من نور.وبعد ذلك تتوالى تلك المساحات متراكمبة عدة مرات بطريقة أكثروضوحا. وهكذا فان ظهور وجه من الوجوه يأتي نتيجة تدرج، هو صورة لنمو الضوء في الإنسان.
لم يهتم القدماء بألتفاصيل المشهدية حول شخص القديس، ذلك لنقل المشاهد من حيز المكان والزمان، بتحرير اليقونة من ارتباط بالمكان والزمان. فالمهم في اليقونة هو الشخص والحادثة، أي المعنى الروحي للحادثة التاريخية أكثر من ” اين ومتى حدثتا ” وبتحرير الحادثة من المكان والزمان، تكتسب مدى لا نهاية له، وتمتد من الماضي إلى المستقبل عبر الحاضر، فلا مجرد تذكر لأشخاص ولأحداث، بل تؤكد وجودهم الفعّال. فالأيقونة ترفع الأشخاص إلى حاضر دائم.
نستمد من الشكل الفيزيولوجي أساس الرسم، ولكن نروحنه ونظهره لا كما كان في شكل جسمه على الأرض، بل الانسان المتأله تتغير صورته كما غيّر الرب صورة وجهه في ظهوره للتلاميذ بعد القيامة، حيث أظهر مجد البُّشرة وكذلك في حادثة التجلي. اذا، لا نصّوره نقلا عن صورة فوتوغرافية، ووجدت له واحدة منها، كنسخة طبق الأصل.
الأرشمندريت بندلايمون فرح
نقلاً عن مجلة التراث الأرثوذكسي