البرهان على أن الله موجود

معظم الأمم تعترف بوجود الله: – ومن ثم لم يكن موضوع شكّ أن يكون الله موجود، لا لدى الذين تسلّموا الكتب المقدسة- أفي العهد القديم كان ذلك أم في الجديد- ولا لدى معظم اليونانيين. فقد سبق وقلنا إن معرفة وجود الله قد زُرعت فينا طبيعياً. ولكن لمّا تقوّى شرّ إبليس على طبيعة البشر، حتى زُجّ البعض في لجّة الهلاك البهيمية، شرِّ الشرور كلّه، ذلك بأن أنكروا وجود الله- وقد أوضح النبي القديس داود غباوتهم بقوله: “قال الجاهل في قلبه: ليس إله” (مز13: 1)، حينئذ قام تلاميذ الرب ورسلُه، ممتلئين بحكمة الروح القدوس، يعملون الآيات الإلهية بقوّته ونعمته، فأخرجوا هؤلاء في النعمة والاستحقاق، الرعاة والمعلمون الذين نالوا نعمة الروح المنيرة. فقد أناروا بقوة المعجزات وكلمة النعمة أولئك الحاصلين في الظلام، وردّوا الضالّين. أمّا نحن الذين لم نتسلّم موهبة المعجزات ولا التعليم- لأننا باستسلامنا إلى اللذات جعلنا أنفسنا غير مستحقين- فهاتِ نعرض القليل ممّا وصل إلينا من مذيعي النعمة، مستدعين الآب والابن والروح القدس.

البرهان العقلي على وجود الله: – كل الكائنات مخلوقة وغير مخلوقة. فهي حتماً متحوِّلة، – لأنّ وجودها ابتدأ من تحويل. وهي خاضعة للتحويل، فهي في كلّ شيء عرضة إما للفساد وإمّا للتغيير في اختيارها. أمّا إذا كانت غير مخلوقة، فهي، -بحسب الاستنتاج المنطقي- غير متحولة البتة لأن كيانها نفسه مختلف وكيفية التعبير عنها مختلفة أيضاً وأعنى بذلك اختصاصاتها. فمن لا يُسلّم إذاً بأن جميع الكائنات التي تقع تحت حواسنا، بل حتى الملائكة، تتحول وتتغير وتتحرّك بحركات شتى: فالعاقلة منها -وهي الملائكة والأرواح والشياطين- فبحسب اختياره، تتقدم في الخير وتبتعد عنه، تميل إليه وترتدّ عنه. أمّا الباقية، فذلك بحسب تكوينها وفساده، ازديادها ونقصانه، تطوّراتها في خلقها وحركتها المكانية. وعليه فبما أنها متحوّلة، فهي حتماً مخلوقة، وبما أنها مخلوقة فهي حتماً صنع أَحد. ويجب أن يكون صانعُها غير مخلوق. أمّا إذا كان هذا مخلوق، فهو حتماً صنع أحد، ذلك إلى أن نبلغ إلى واحد غير مخلوق. إذاً لمّا كان الصانع غيرَ مخلوق فهو حتماّ غير متحوّل. ومن يكون هذا يا ترى سوى الله؟

البرهان الثاني من حفظ الكائنات وسياستها: – وإن التئام الخليقة نفسه مع حفظها وسياستها يُعلّمنا هو أيضاً أن الله موجودٌ، وأنه هو المرتِّب والمنسِّق والحافظ هذا الكون كلّه والمعتنى به على الدوام. فكيف تقترن العناصر بعضُها ببعض – وهي النار والماء والهواء والتراب-، كيف تقترن إذاً لتكميل عالم واحد، وتستمر غيرَ منحلّة، لو لم تكن هناك قوة قديرة تجمعها وتحفظها غير منحلّة؟

البرهان الثالث من ترتيب الكون: – العالم لم يَنتظِم ويتركَّز صدفة، ضد الإبيكوريين. ما الذي نظّم ما هو في السماء وما هو على الأرض، كلَّ ما هو في الهواء وكلَّ ما هو في الماء؟ ما الذي خلطها ووزّعها؟ من دفع بها إلى الحركة وقاد انطلاقتها بلا هوادة ولا حاجز؟ هل هو إلا الذي أتقنها ووضع أمره فيها كلِّها؟ فيسير الكون بموجبه ويتدبّر؟ – ومن هو متقِنُها؟ أليس الذي صنعها وأخرجها إلى الوجود؟ فإننا لا ننسُب قوةً مثل هذه إلى الصدفة، لأننا إذا افترضنا بأنها وجدت صدفة، فما هو الذي نظّمها؟ وإذا سلّمنا بهذا أيضاً – إذا أردتَ ذلك – لكن لمن ننسب الاعتناء بها وحفظها طبقاً للقواعد التي تأسست عليها في البدء؟ – إن ذلك هو حتما غيرُ الصدفة- وماذا يكون سوى الله؟

arArabic
انتقل إلى أعلى