تعلّم الكنيسة الارثوذكسية أن مريم والدة الإله هي عذراء قبل الولادة وفي الولادة وبعد الولادة، وقد أكدت هذا، في صيغة عقائدية، في إبسالات (حُرمات) المجمع المسكوني الخامس (المنعقد في القسطنطينية في العام 553)، فدانت: “كل من لا يعترف بأن كلمة الله وُلد ولادتين: الولادة الأولى منذ الازل لا تنحصر في زمان او في جسد، والثانية في الايام الأخيرة اذ نزل من السماء وصار جسداً من القديسة المجيدة مريم والدة الإله الدائمة البتولية ووُلد منها”.
وواقع الحال أن كل تعليم لا يتوافق وروح الكتاب المقدس لا يُعتبر أصيلا في المسيحية الحق. بتولية مريم، من هذه الوجهة، هي حقيقة مرتبطة بالتجسد الإلهي، هكذا فهمها الآباء عموما، وهم لم يخرجوا عن نبع الإيمان وأعني كلمة الله، ولعل ما قاله القديس غريغوريوس النيصصي يلخّص هذا الترابط: “إن حشا العذراء الذي استُخدم لميلاد بلا دنس مباركٌ لأن الميلاد لم يُبْطِلْ عذريتها كما أن العذرية لم تُعِقْ هذا الميلاد ولم تمنعه”.منعه”.
يؤكد كل من متى (1: 18-23) ولوقا (1: 26-38) حقيقةَ بتوليةِ مريم، وتنوه بذلك بعض القراءات القديمة لنص يوحنا 1: 13 “الذين وُلدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله وُلدوا”. ولا يبدو عند العلماء اليوم أن الأوساط الفلسطينية القديمة، وخصوصا عند جماعة الأسانيين، كانت تعرف هذه البتولية الدائمة. وهذا يتلاقى مع ما فهمه المغبوط اغسطينوس -وكثيرون حذوا حذوه- من أن كلام مريم للملاك المبشِّر “كيف يكون هذا وانا لا اعرف رجلا؟” (لوقا 1: 34)، يُقصَد به: اني لا اريد أن اعرف رجلا، معتبرا أن هذا الفارق في المعنى ضروري لتبرير سؤال مريم، لأن صعوبة قبولها تكمن في انها قررت أن تحافظ على بتوليتها. ونلاحظ، من متابعة النص، أن سؤالها هذا يقود الملاك الى أن يخبرها -وزواجها بيوسف لم يكتمل- بحبلها العجائبي بيسوع، من دون زرع رجل. وقد أُعلنت لها هذه الحقيقة في ما أُخبرت عن بنوة يسوع الإلهية المرتبطة بهذا الحبل، وذلك لأن روح الله الذي أشرف على خلق العالم (تكوين 1: 2) سيباشر بالحبل بيسوع بخلق العالم الجديد.
لكل إنجيليّ طريقته في كشف الحقيقة الإلهية، فالإنجيلي متى يكتب ببراعة لا تخفى على فاهم، اذ ينفي بأسلوب رائع إمكانية قيام اية علاقة جسدية بين يوسف ومريم خارج نطاق الدور الذي أُوكل اليه أن يتممه، وهو أن يعطي (اي يوسف) الولادة شرعيةً باتخاذه يسوع ابنا ويحافظ، تاليا، على هذا الثُناء الحقيقي وأعني به “الصبي وأمه” (2: 13 ،14، 20 و21). يكشف متى في أول إصحاحات إنجيله أن يوسف ومريم خطيبان، اي أنهما، وفق العادات الفلسطينية القديمة، زوجان عُقد زواجهما في وقت سابق ولم ينتقلا بعد الى بيتهما الزوجي، ولعل هذا ما تعنيه الكلمة المشجّعة التي قالها الملاك ليوسف القلِق: “لا تَخَفْ أن تأخذ مريم امرأتك”، اي لا تبطئ بنقلها الى بيتك “لأن الذي حُبِل به فيها هو من الروح القدس” (1: 20). ونلاحظ تاليا أن متى لا يعود، بعد ولادة يسوع، يربط بين يوسف ومريم، فلا يسمّيه بعدُ زوجَها، ولا يسمّيها هي “امرأته”، وإنما يُبرز حصراً دوره الجديد الذي أوحينا اليه آنفاً. ولا ننسى أن يوسف “بارّ” (1: 19)، وهذا، بمنطق الكتب المقدسة، يعني انه يطيع مشيئة الله طاعة كلية، ومشيئته هي أن يحافظ يوسف، لكونه رجلا، على هذا الثُناء ولا يقتحمه.
يعطي الإنجيلي متى صورةً أخرى عن هذه البتولية، اذ يستشهد بما جاء في كتاب إشعيا وفهِمه القدماء عموما على انه يتعلق بعذرية مريم الدائمة، يقول متى: “هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عِمانوئيل الذي تفسيره الله معنا” (1: 23؛ إشعيا 7: 14). ويزيدنا فهما لهذه الآية ما كتبه الأب متى المسكين، في كتابه “العذراء القديسة مريم” ص 6.-68، وننقل بعضه بتصرف، يقول الأب متى: تأتي كلمة عذراء في العبرية بمنطقَيْن: بتولا، وعَلْما. النطق الاول يعني فتاة عذراء (غير مرتبطة بخطبة سابقة) لم تعرف رجلا، وتترجم في اليونانية (پارثينوس Parqeno )، واما كلمة “عَلْما” فتعني فتاة ناضجة لم تنجب اولاداً، ولكن يحتمل أن تكون مخطوبة لرجل، وفي اليونانية (نيانيس neanis ) ويلاحظ الأب متى أن الاصل العبري للآية كلها، كما جاءت في سفر إشعيا أولا، يُبرز معنى ضمنيا، وهو أن كلمة “العذراء” جاءت كصفة نوعية مستديمة لأم عِمانوئيل، إذ عُرّفت ب”ال”: “هوذا العذراء”… وفيما يربط بين دوام البتولية وحقيقة التجسد يعبّر عن دهشته لكون إشعيا استخدم في نبوته اللفظة الثانية: “عَلْما”، ويقول: اختياره للكلمة “هو في الواقع اكثر ضمانا للمعنى النبوي وأكثر إعجازاً من حيث وصف حقيقة ما سيتم فعلاً”.
لا بد من التنويه أخيرا بأن القول ببتولية مريم لا يعني أن الارثوذكسية تنبذ الزواج او تحقر الجسد. فكلنا نعلم أن الكنيسة حاربت، منذ انطلاقتها، هذه الأفكار، ودأنت مروّجيها، وهي إذ تقدّس الزواج سرّاً من أسرارها تبارك كل علاقة جنسية شرعية وتدعو الى خصبها.
بتولية مريم هي خصب من نوع آخر، لأن هذه الفتاة افتتحت خطً جديدا في العالم إذ قبلت الربّ في أحشائها بشكل “فائق الوصف والعقل”. وأعطتنا أن نولد من جديد فيه.
نشرة رعيتي
الأحد 15 شباط 1998
العدد 7