التجسد

1- غاية التجسد:

“الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا” (1كو7:2). “والسر المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع” (أف9:3). “هو سر الخلاص بيسوع المسيح لأنه سر مشيئة الله حسب مسرته في نفسه بتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح ما في السموات وما على الأرض في ذاك” (أف9:1ـ10). وبديهي أن أساس هذا السر والنقطة الأرهب فيه هو تنازل الإله الكلي القدرة غير المحدود وغير المدرك لكي يصير إنساناً. وهو ما يُعرف بسر التجسد الذي شكّل نقطة التحول الجذرية في تاريخ البشرية، والذي تفوق عظمته بما لا يقاس خلق العالم نفسه.

القديس مكسيموس المعترف يعتبر أن الله ينزل إلى العالم، يصير إنساناً، والإنسان يرتفع نحو الملء الإلهي يصير إلهاً، لأن وحدة هاتين الطبيعتين الإلهية والبشرية قد تقررت في مشيئة الله الأزلية كونها الغاية الأبعد التي من أجلها خلق العالم (Πρός θαλλάσιον).

بعض النقاد يجدون في قول القديس مكسيموس هذا تثبيتاً للفكرة التي تحمس لها دون سكوت وأتباعه، وعارضه فيها توما الإكويني ومناصروه ومفادها إن إرادة الله بالنسبة للتجسد قد تعينت أزلياً بصورة مطلقة وبغض النظر عن سقوط الإنسان. أي أن ابن الله كان سيتجسد حتى ولو لم تحدث الخطيئة الجدية وذلك من أجل كمال الإنسان والعالم وتكليل عمل الخلق. لكننا لو تعمقنا أكثر في تعليم القديس مكسيموس لوجدنا بأن تأليه الطبيعة البشرية ووحدتها مع الله هي ذاتها الغاية التي كانت معينة أزلياً وبصورة مطلقة من أجل آدم. بعبارة أخرى فابن الله تجسد صائراً آدم الجديد لكي يحقق للبشرية ما عجز عنه آدم القديم، وهذا لا يمكن أن يتم إلا بخلاصها أولاً من نتائج سقوط آدم أي من عبودية الشيطان والخطيئة والموت وهو ما عبر بإيجاز دستور إيمان الكنيسة العام: “الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسد”.

القديس أثناسيوس الكبير يربط بجلاء بين مخطط الله الأزلي من أجل الخلاص وبين معرفته لإمكانية السقوط فيقول عن هذا المخطط “أُعد وقبل أن نصير نحن، لا بل وقبل أن يصير العالم” لأن الله “الذي خلقنا بواسطة كلمته الخاصة… كان قد رتب التدبير من أجل خلاصنا لكي إذا خُدعنا فسقطنا بغواية الحية لا نبقى موتى نهائياً، بل يكون عندنا الخلاص والفداء مهيئين في الكلمة، فنقوم ثانية ونبقى خالدين”.

موقف القديس أثناسيوس هذا هو، عامةً، موقف جميع الآباء الذين نقتطف منهم:

  • “لو لم يتوجب أن يخلص الجسد لما صار ابن الله جسداً، ولو لم يتوجب أن يطالب بدم الأبرار لما اتخذ السيد دماً ” (إيريناوس).
  • “ما هو مبرر التجسد إن لم يكن تحرير الجسد (الإنسان) الذي أخطأ؟” (أمبروسيوس).
  • “ليس لسبب آخر لبس جسدنا وصار إنساناً إلا لخلاص جنس البشر”. “لأجل محبة البشر فقط اتخذ جسدنا لكي يرحمنا، لأنه لا يوجد سبب آخر للتدبير الإلهي غيره” (القديس يوحنا الذهبي الفم).

وبالطبع فموقف الآباء هو موقف الكتاب المقدس الذي يعلن المشيئة الإلهية بكل وضوح: “لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني، وهذه مشيئة (الآب) الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئاً بل أقيمه في اليوم الأخير” (يو38:6ـ39). “لم يرسل الله ابنه ليدين العالم بل ليخلص العالم” (يو17:3). “إنه أتى ليطلب ويخلص ما قد هلك” (لو10:19، مت13:9). “إنه إنما جاء إلى العالم ليخلص الخطأة” (1تيم15:1). اسم يسوع ذاته يدل على المهمة الخلاصية التي جاء من أجلها “فتسميه يسوع لأنه هو يخلص شعبه من خطاياهم” (مت21:1، لو11:2، 30 إلخ..)

2- طبيعة المتجسد الإلهية:

حقاً إن التجسد كما يعبر الآباء سر مذهل يفوق العقل والمنطق. ولهذا فرفض اليهود للمسيح هو رفضهم بصورة أساسية لسر التجسد وخاصة طبيعة المتجسد الإلهية. “فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً” (يو33:10). وبهذا فمن البديهي أن تصبح هذه الطبيعة بصورة خاصة حجر الصدمة وصخرة العثرة الأولى (1بط8:2). ليس فقط بالنسبة لليهود بل ولكثير من المسيحيين أيضاً الذين أنكر قسم منهم وفي وقت مبكر ألوهية المسيح كالأبيونيين والمونارخيين الديناميكيين والأريوسيين إلخ… وحتى في العصور الحديثة كالسوينسيين و الراسيوناليين وشهود يهوه والبروتستانتية الحرة إلخ…

3- كيفية التجسد:

“والكلمة صار جسداً ” (يو14:1).

“الله ظهر في الجسد” (1تيم16:3).

“الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظلك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله” (لو35:1). القديس يوحنا الدمشقي يشرح لنا كيفية التجسد منطلقاً من الآية الأخيرة فيقول: “إنه بعد موافقة العذراء حلّ عليها الروح القدس بحسب كلمة الرب التي قالها الملاك فطهّرها وأعطاها القوة لكي تقبل ألوهة الكلمة وفي الوقت ذاته القوة لكي تلده، وعندها ظللتها حكمة الله العلي وقوته الأقنومية (ενυπόστατος). أي ابن الله الواحد معه في الجوهر كمثل زرع إلهي، فجبل لنفسه من دمائها النقية الطاهرة جسداُ ذا نفس عقلانية وذهنية باكورة لجنسنا، ليس بطريقة الزرع البشري (التناسل العادية) بل بالخلق بواسطة الروح القدس … لأن الكلمة الإلهي لم يتحد مع جسد كان قد وُجد قبلاً بل سكن هو نفسه بأقنومه الإلهي وبطريقة غير قابلة للوصف في أحشاء العذراء المقدسة متخذاً لنفسه من الدماء الطاهرة للكلية القداسة جسداً ذا نفس عقلانية وذهنية كباكورة لجنسنا. هذا هو الكلمة الذي صار للجسد أقنوماً.

4- طبيعة المتجسد البشرية:

إيمان الكنيسة هذا وعلى مرّ أجيالها باتخاذ الكلمة لجسد حقيقي من لحم ودم كان حجر الصدمة الثاني بالنسبة لسر التجسد، إذ أُنكر حقيقة جسد يسوع وحتى منذ أواخر القرن الأول من سميوا بالظاهريين أو المشبهين (δοκηταί). وقد شارك الغنوسيون و المانيون و البريتشيليانيون فيما بعد بهذا الاعتقاد لأنهم استنكروا إمكانية اتحاد “الكلمة” مع جسم بشري كون المادة هي شر ولذلك اعتقد بعضهم بظاهرية حوادث يسوع البشرية على الأرض (شُبّه لهم)، أو بروحانية جسده الآتي من السماء وليس من العذراء. وقد حارب الرسول يوحنا الذين أنكروا بمجيء المسيح بالجسد (1يو2:4، 2يو7، 1يو1:1، يو14:1). وتبعه في ذلك القديس أغناطيوس الأنطاكي و ايريناوس و ترتليانوس إلخ… اليوليانيون أو الـ (άφθαρδοτηκασ) في القرن السادس أنكروا إمكانية قبول جسد يسوع للفساد، ويعنون بهذا وحتى الأهواء غير المعابة كالجوع والعطش والتعب … وذلك بصورة رئيسية بسبب الوحدة الأقنومية التي لابن الله منذ لحظة التجسد.

الكتاب المقدس واضح في التشديد على حقيقة طبيعة المسيح البشرية بإبرازه لكل صفاتها المعروفة كالجوع والعطش والتعب والحزن والألم والعرق إلخ… لا بل يظل هذا التشديد على جسدانية يسوع وحتى بعد قيامته: “جسّوني وانظروا فإن الروح لا لحم له ولا عظام كما ترون لي” (لو39:24، 42، يو27:20 إلخ…).

وبالطبع فأهمية التشديد على تجسد يسوع الحقيقي من أم بشرية ترجع بالدرجة الأولى إلى ضرورة انتساب يسوع إلى جنسنا كي يصبح أخانا فيتشارك معنا في اللحم والدم ويكفر عن خطايا الشعب (عبر14:2، 17)، غالباً في طبيعتنا الألم والموت.

قسم آخر من الهراطقة أنكر تمام طبيعة المسيح البشرية كآريوس الذي قال بأن الكلمة اتخذ جسداً فقط دون نفس، و ابوليناريوس الذي ادعى بأن كلمة الله اتحد مع جسم بشري ونفس حيوانية ولكن دون نفس روحانية. الكتاب يدحض أيضاً هذه البدع ولا سيما حين يتكلم عن نفس يسوع أو روحه البشرية: “نفسي حزينة حتى الموت” (مت38:26). “يا أبت في يديك أستودع روحي” (لو46:23)، (مت50:27)، (يو30:19)، (مر37:15)، أو حين يتحدث عن صلواته (لو42:22) إلخ… جوهر صراع الآباء ولا سيما الكبادوكيين منهم، للتأكيد على تمام طبيعة المسيح البشرية هو “إن ما لم يتخذ لم يشف”.

خلاصة القول أن من يتعمق في إعلانات الله إن كان في العهد القديم أو الجديد يدرك أن مركز هذه الإعلانات وغايتها هو الإله الآتي في الجسد لكي يخلص. أي أن هذا المخلص ليس هو فقط إلهاً وابناً حقيقياً لله بل هو أيضاً إنسان وابن حقيقي للبشر (يو40:8)، (تك15:3)، (إر5:3)، (إش14:7)، (إش3:56ـ10)، (مت20:8)، (مت9:11)…إلخ. ولذلك فقد كان هاجس الكنيسة منذ البداية الشهادة لحقيقة وتمام لاهوت وناسوت المسيح ليس فقط أمانة للإعلان الإلهي الذي تسلمته بل وحرصاً على خلاص البشر الذي لا يمكن أن يتم إلا إذا آمنوا بأن المخلص هو إله حقيقي تام وإنسان حقيقي تام وذلك للأسباب التالية:

  1. المخلص هو الوسيط بين الله والبشر (1تيم5:2). وبديهي أن هذه الوساطة لا يمكن أن تنجح إلا إذا كان الوسيط قريباً من كلا الطرفين أو جامعاً في شخصه كلتا طبيعتيهما.
  2. المخلص هو معلم ونور العالم (لو18:4، يو12:8). لا أحد يستطيع أن يعلن عن الآب إلا كلمته الخاصة لأنه لا أحد يعرف الآب إلا الابن (مت27:11) ولا أحد يستطيع أن يخبر عن الآب إلا الابن (يو18:1). لأنه من عرف فكر الرب أو صار له مشيراً (رو34:11). وبالمقابل فنحن لا يمكننا أن نتعلم إلا إذا صار هذا الابن منظوراً وقريباً وشبيهاً بنا.
  3. المخلص هو محرر ومحيي جنس البشر (غل13:3)، (عب22:12ـ25). فنحن لا يمكننا أن نتخلص من الموت والفساد ونقتبل الخلود إلا إذا اتحدنا مع غير الفاسد والخالد. ولا يمكن أن يتم هذا الاتحاد إلا إذا صار غير الفاسد والخالد بشراً.

لكن على الرغم من كل ما ذكرنا، فهناك ميزتان أساسيتان تختلف بهما طبيعة المسيح البشرية عن طبيعتنا بعد السقوط وهما:

أ ـ الولادة الفائقة الطبيعة:

كلمة الله هو الوحيد الذي ولد بحسب الجسد من عذراء أي بدون زرع بشري وبواسطة الروح القدس. أهمية هذه الولادة لا تنحصر في الدلالة على ألوهية السيد أو إعفاء المسيح من وراثة ذنب (مسؤولية) الخطيئة الجدية كما هي الحال بالنسبة للاهوت الغربي. بل ترجع بالدرجة الأولى إلى توقف السيادة الجهنمية للشيطان على الخليقة، وذلك لأول مرة بسبب ولادة يسوع الفائقة الطبيعة. لأن كل ولادة لذرية آدم وحواء بطريق التناسل الطبيعي تعني بالدرجة الأولى وراثتهم ضعف الموت وبالتالي وجودهم بمستويات مختلفة تحت سلطان الشيطان والخطيئة والموت.

هذا هو الموقف العام للاهوت الآبائي والذي يعبر عنه القديس إيريناوس، بعد أن يتحدث عن ولادة يسوع المختلفة عن ولادة البشر فيضيف: “لأنه كما بالولادة السابقة كنا نرث الموت هكذا بالولادة الجديدة هذه نستطيع أن نرث الحياة .ويتابع في مكان آخر من مؤلفه ذاته الحديث عن تأثير هذه الولادة في حياة الإنسان فيقول: “لأنه كيف يمكن أن يتجنب (الإنسان) الولادة الخاضعة للموت إلا بولادة جديدة تعطى من الله بطريقة عجيبة وغير متوقعة أي بإعادة تلك الولادة التي تأتي من العذراء بواسطة الإيمان؟ أو كيف سيحصل هؤلاء (البشر) على التبني من الله إذا كانوا سيبقون في تلك الولادة التي يحصل عليها الإنسان بحسب طبيعته في هذا العالم”؟

إن عدم وجود طبيعة السيد البشرية تحت سلطان الخطيئة والموت والشيطان بسبب ولادته الفائقة الطبيعة، لايعني بأنها كانت منذ ولادته، كما علّم يوليانوس الأليكارنسي غير قابلة للفساد والموت، بل فقط لم تكن بصورة حتمية تحت سلطانهما إذ كان بإمكانها أن تقبلهما وبإمكانها أن تتغلب عليهما كما كانت طبيعة آدم قبل السقوط لأجل هذا فالمسيح هو آدم الثاني الذي خضع طوعياً وفعلياً للألم والموت لكي يبيدهما، وبدون أن يسيطر عليه الشيطان والخطيئة. القديس يوحنا الدمشقي يوضح لنا هذه النقطة أكثر فيميز بين نوعين من الفساد الأول يتعلق بالأهواء غير المعابة كالجوع والعطش والتعب والألم الجسدي والنفسي، والموت أي افتراق النفس عن الجسد وما شابه …، والثاني يتعلق بانحلال الجسد إلى عناصره الأصلية التي منها أُخذ. واضح أن جسد السيد تعرض طوعياً للفساد من النوع الأول لكي يبطله. ولم يتعرض البتة إلى الفساد من النوع الثاني كما أشار النبي داود (أع31:2).

2 ـ أما الميزة الثانية لطبيعة المسيح البشرية على طبيعتنا وهي خلوه الدائم من الخطيئة فلا تتعلق فقط بولادته الفائقة الطبيعة من العذراء، بل، خصوصاً بالوحدة الأقنومية لطبيعته الإلهية والبشرية، لذلك سوف نشرحها لاحقاً عندما سنتكلم عن نتائج هذه الوحدة.

ب- وحدة شخص المسيح:

حجر الصدمة الثالث للهراطقة، بالنسبة لسر التجسد، كان شخص المسيح نفسه. فبعد أن جاهدت الكنيسة طويلاً لكي تؤكد على كمال لاهوت المسيح وكمال ناسوته، تابعت صراعها مريراً قروناً أخرى ضد الهرطقات المتنوعة التي حاولت تشويه الإيمان بوحدة شخص المسيح (Ο χριστός). ولذلك سميت تلك النزاعات بالنزاعات الخريستولوجية. ومن يدرس بعمق تلك النزاعات يدرك بكل تأكيد أن هاجس آباء الكنيسة لم يكن مجرد الحفاظ على صيغ وتعابير نظرية موروثة بل التشديد على موضوع الخلاص المتعلق أساساً بالمخلص المتجسد، أي الموحد في شخصه اللاهوت والناسوت لكي يتم تأله طبيعتنا وخلاصها من الفساد والموت.

أول هرطقة هاجمت في الصميم هذه الوحدة نبعت من المدرسة الأنطاكية الجديدة التي كانت تدافع عن وجود طبيعتين تامتين في المسيح وتستنكر الوحدة الطبيعية أو الأقنومية التي كان ينادي بها ابوليناريوس. وقد وصل الأمر بيثودوروس الموبسوستي أحد معلمي هذه المدرسة إلى القول بوجود شخصين في المسيح يرتبطان أو يتساكنان بحسب النعمة أو الرضى المتبادل، لأنه لا يمكن أن توجد في نظره طبيعة لا شخص لها. هذه الأفكار كانت الخليفة التي حدت بنسطوريوس أحد تلاميذ هذا المعلم أن يهاجم في القسطنطينية بعد أن صار بطريركها، الذين ينسبون إلى العذراء لقب والدة الإله. وبالطبع فهذا الهجوم كان نقطة الانطلاق لكي يؤكد صاحبه أن “الكلمة” الإله الحق، لا يمكن أن تنسب إليه الولادة أو الألم أو أية صفة بشرية، لأن هذه جميعها تخص المسيح الإنسان وحده. وهكذا فصل في المسيح بصورة جذرية بين شخصين الإله والإنسان.

الأسقف القديس كيرلس الإسكندري كان صوت الكنيسة الدّاوي الذي استخدمه الروح القدس في تلك الآونة لكي يوضح أن “الكلمة ” رغم أنه ضم إلى شخصه الإلهي طبيعتنا البشرية بتمامها إلا أنه بقي واحداً وبدون أن تتحول فيه لا الطبيعة الإلهية ولا الطبيعة البشرية. الطبيعة البشرية التي اتخذها السيد لم يكن لها شخص بشري مختلف عن الكلمة بل الكلمة نفسه كان شخص أو أقنوم هذه الطبيعة. لأن “الكلمة” صنع لنفسه جسداً بواسطة التدبير وهكذا فالسيد هو نفسه واحد في طبيعتين اتحدتا وحدة طبيعية (ένωσιςφυσική) وليس “ارتباطاً” أو “صلة” (συνάφια) كما ادعى نسطوريوس ونتيجة هذه الوحدة هي طبيعة واحدة متجسدة للإله الكلمة (μία φύσις του Θεού λόγου σεσαρκωμένη).

هدف الأب القديس كيرلس من هذه العبارة، أن يشدد بأن الطبيعة البشرية لم تؤلف في المسيح شخصاً منفصلاً بل كانت محمولة من الإله الكلمة. وكما أن الأنطاكيين كانوا يماثلون (يطابقون) بين الطبيعة والشخص، كذلك يطابق هو هنا طبيعة الإله الكلمة مع شخصه عانياً بطبيعة واحدة شخصاً واحداً. لكن من الواضح أن هذه الطبيعة بعد التجسد تسمى طبيعة متجسدة لأن ابن الله أضاف إلى لاهوته الناسوت.

إن الفهم المغلوط لهذه العبارة بالذات هو الذي مهد لبروز الهرطقة الثانية المتعلقة بشخص المسيح وهي هرطقة أوطيخه الذي لا نعرف كثيراً عن آرائه، لأنه نشرها شفاهاً وليس كتابةً. ولكن من أقواله البالغة التحفظ، أمام مجمع القسطنطينية المنعقد عام (448) اعترف أن السيد كان من طبيعتين قبل التجسد ولكن بعد التجسد طبيعة واحدة، وإن جسده ليس مساوٍ في الجوهر لجسدنا، مما يعطي الانطباع أنه اعتقد بتحول الطبيعة البشرية إلى إلهية باختلاط الطبيعتين فيه.

على هرطقة نسطوريوس أجابت الكنيسة في مجمعها المسكوني الثالث، أما في المجمع المسكوني الرابع فقد أدانت هرطقتي أوطيخه ونسطوريوس معاً مستخدمةً ضد هرطقة أوطيخه عبارات مباشرة قاطعة: “وهو نفسه مساوٍ لنا في جوهر الناسوت مماثل لنا في كل شيء ما عدى الخطيئة…”، “بطبيعتين بلا اختلاط ولا تغيير” … “من غير أن يُنفى فرق الطبائع بسبب الاتحاد بل أن خاصة كل واحدة من الطبيعتين ما زالت محفوظة تؤلفان كلتاهما شخصاً واحداً أو أقنوماً واحداً لا مقسوماً ولا مجزوؤاً إلى شخصين”. لأنه لو تغيرت إحدى الطبيعتين أو تحولت إلى الطبيعة الأخرى أو اختلطت معها فنتج عن ذلك طبيعة جديدة، لما كان بالإمكان أن نقول بعد عن المسيح أنه إله حقيقي أو إنسان حقيقي، ولما بقيت عنده الصفات الإلهية أو الإنسانية التي تؤهله كلتيهما كما رأينا، لأن يكون مخلصاً حقيقياً. إضافة إلى أن الاختلاط بين الطبيعتين هو مستحيل بسبب المسافة الكيانية غير المحدودة بينهما والتي لا يمكن عبورها البتة.

أما بشأن الهرطقة النسطورية فقد أدان مجمع خلقيدونية فكرة تقسيم شخص المسيح الواحد إلى شخصين بتشديده على وحدته الأقنومية في عبارات متنوعة جازمة، من بينها: “ومعروف هو نفسه مسيحاً وابناً ورباً ووحيداً واحداً بطبيعتين بلا… انقسام ولا انفصال”. وهذا يعني أنه رغم محافظة كلا الطبيعتين على تمامهما وكمالهما فيه إلا أنهما لا تقومان فيه بطريقة مستقلة أي ليس لكل منهما أقنومها الخاص، بل هما طبيعتان متحدتان حقاً وللأبد بلا انقسام ولا انفصال، وسر اتحادهما هو أنهما طبيعتان حقيقيتان لشخص أو أقنوم واحد وهو الكلمة الإلهي ذاته. ولو كانت وحدة الطبيعتين وحدة أخلاقية بين شخصين كما يظن النساطرة لما عبّر اللاهوتي يوحنا الإنجيلي بقوله: “والكلمة صار جسداً” (يو14:1). أو الرسول بولس: “أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة” (غلا4:4). لأن الذي تجسد أو ولد هو واحد الكلمة ابن الله. ولو كان الذي تألم أو صلب أو مات هو شخص آخر بشري غير شخص ابن الله لما قال بولس الإلهي: “لأنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” (1كو8:2). أو “كنيسة الله التي اقتناها بدمه” (أع28:20). وعموماً فالكتاب المقدس مليء بالعبارات التي تظهر وحدة شخص يسوع المسيح الأقنومية وخصوصاً في المواضع التي تتحدث عن تجسده أو التي يظهر فيها ربنا يسوع كإله وإنسان حقيقي أو تنسب إليه صفات إلهية وإنسانية معاً. (مت63:26)، (يو13:3، 58:8)، (لو31:1ـ33)، (أع15:3)، (رو32:8)، (لو24:5)، (1كو6:8)، (رؤ17:1، 10:4)، (يو16:3)، (عب8:13)، (يو18:1)، (مت17:3)، (أف11:4)، (1كو6:8)، (أف8:4ـ10)، (1تي16:3)، (في6:2ـ8)، (عب31:1)، (1كو4:10)، (كول9:2)، (تي13:2).

التراث الآبائي بدوره يؤكد وحدة المسيح الأقنومية بوضوح لا لبس فيه. من كتابات الآباء، والتي تسبق في الزمن نشوء الهرطقات الخريستولوجية نعطي كمثال كلمة القديس أفرام السرياني: “لقد قدموا قصبة السخرية إلى ذراع الخالق العظيم، لقد سمروا على الصليب الشبر الذي قاس السماء. إن الله بمسيحه أبرأ الخلائق وأبدعها. لقد سمّر أبناء آدم اليدين اللتين جبلتا آدم. انتصب الله في المحكمة ولطمه العبد على وجهه…”.

في أوائل القرن السابع نبتت الهرطقة الخريستولوجية الثالثة كمحاولة لإيجاد حل وسط بين القائلين بالطبيعة والقائلين بالطبيعتين، فقالت بفعل واحد ومشيئة واحدة لطبيعتي المسيح الواحد. لكنها ليست في الحقيقة سوى امتداد أو تطوير لهرطقة أوطيخه التي توحي بإمكان اختلاط الطبيعتين أو ذوبان الطبيعة البشرية في الطبيعة الإلهية.
ضد هرطقة المشيئة الواحدة حدّد المجمع المسكوني السادس (680ـ681): إن فيه (في المسيح) مشيئتين طبيعيتين وفعلين طبيعيين بدون انقسام أو تحول أو انفصال أو اختلاط حسب تعليم الآباء القديسين. وهاتان المشيئتان الطبيعيتان ليستا متضادتين الواحدة للأخرى (معاذ الله) كما ادعى الهراطقة الكفرة، بل تخضع مشيئته البشرية بدون مقاومة أو تلكؤ لمشيئته الإلهية الكلية القدرة. لأنه يجب أن تتحرك مشيئة الجسد وتخضع للمشيئة الإلهية كما يقول القديس أثناسيوس الكلي الحكمة. وكما أن جسده دعي جسد الله الكلمة هكذا مشيئة جسده الطبيعية تدعى مشيئة الله الكلمة كما يقول هو نفسه: “قد أتيت من السماء لا لأفعل مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني”.

وقد تبع المجمع السادس في تحديده هذا تعليم القديسين صفرونيوس ومكسيموس المعترف والبابا أغاثون، ولكن بصورة خاصة القديس مكسيموس الذي ميز في الإنسان بين الإرادة الطبيعية والتي تعبر عن نفسها في أية طبيعة بشرية بحاجتها إلى الأكل والشرب ونفورها من الألم … إلخ أي بين “تريد θέλειν” وبين “الإرادة الشخصية γνώμη”، “كيف تريد πώς θέλειν”، وبين هاتين الإرادتين توجد مراحل (الإرادة، المشورة، التفضيل، الانتقاء).

بحسب تعليم الكنيسة الشرقية أخذ ابن الله المتجسد إرادة جسده الطبيعية التي عند البشر عامة ولكن ليس إرادة بشرية تخص شخصاً بشرياً، لأنه هو ذاته ابن الله شخص أو أقنوم طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية ولذلك لا يمكن أن تعارض مشيئته البشرية مشيئته الإلهية، إذ يريد جسده دائماً ما يريده الله الكلمة شخص “وأنا” هذا الجسد.

من هنا نستطيع أن نفهم كذلك تعبير القديس المسمى بـ “ديونيسيوس” “إن ليس للمسيح سوى طريقة فعل واحدة لاهوتية ـ ناسوتية” والذي وافق عليه القديس مكسيموس θεανδρική ενέργεια والتي لا تعني نفي المشيئتين الطبيعيتين أو الفعلين الطبيعيين اللذين يعبر عنهما هذا الفعل الواحد ولا اختلاطهما أو ذوبان أحدهما في الأخرى بل خضوع المشيئة البشرية للإلهية واتحاد الفعلين بحيث يصبحان فعلاً واحداً إنسانياً إلهياً بدون اختلاط أو تحول أو انقسام أو انفصال كما في معجزة الشفاء باللمس أو الكلام …إلخ.

أما عن تميز إرادة المسيح البشرية عن إرادته الإلهية ولكن في نفس الوقت خضوعها لها فيحدث الكتاب المقدس عنه بكل وضوح (إش7:53)، (مت39:26)، (لو42:22)، (يو38:6، 34:4، 19:5،30، 31:14)، (فيل8:2)، (رو19:5)، (عب9:10، 8:5). وكذلك الآباء القديسون الذين نقدم منهم قول القديس أثناسيوس المشار له في قرار المجمع المسكوني السادس والذي يعلق فيه على آية (مت39:26): “تظهر هنا إرادتا يسوع، الإرادة البشرية التي هي من الجسد، والإرادة الإلهية التي هي من الله فتطلب الإرادة البشرية بسبب ضعف الجسد إبعاد الآلام إلا أن الإرادة الإلهية تبدي استعدادها لها”.

الكنيسة الكاثوليكية بلسان علمائها المدرسيين تميز في إرادة المسيح البشرية إرادتين إرادة العقل أو الروح وهي الإرادة الروحية التي تخضع للإرادة الإلهية وإرادة الجسد أو الحس التي تنفر من الألم. ولذا فهم يتكلمون عن إيرادات المسيح الثلاث، ويضيف غيرهم إليها إرادة التآسي التي بها يرق لشقاء الآخرين فيتكلمون هكذا عن إيرادات المسيح الأربع.

هذا التعليم المتطرف يسهل الانزلاق نحو افتراض شخصين إله وإنسان في المسيح. لكل منهما إرادته الخاصة وهو ما يقترب من تعليم نسطوريوس في حين أن الكنيسة الأرثوذكسية تتبع بأمانة تعليم المجمع المسكوني السادس والآباء القديسين بأن الإرادة البشرية في المسيح هي إرادة طبيعته البشرية وليس شخصه البشري، إذ لا وجود إلا لشخصٍ واحد في المسيح هو شخص كلمة الله المتجسد كما أسلفنا.

وأخيراً لابد أن نؤكد من جديد بأن اتخاذ الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس للطبيعة البشرية طبيعة ثانية له واتحاده معها لا يعني بأن كل الثالوث قد تجسد أو اتحد بالطبيعة البشرية بل كما يقول القديس يوحنا الدمشقي: “لم نسمع قط أن الألوهة صارت إنساناً أو تجسدت أو تأنست إنما تعلمنا بأن الألوهة اتحدت مع الناسوت في واحد من أقانيمها”.

هذا يعني أن الاتحاد بين اللاهوت والناسوت لم يُنتِج أي تغيير في الثالوث الأقدس، ولذلك بقي ابن الله بعد تجسده كما كان قبل تجسده محتفظاً بكامل علاقاته الأقنومية وصفاته الجوهرية دون أي تغيير. التغيير يخص فقط الطبائع المخلوقة، ولذلك يمكن القول أن طبيعته البشرية قد تألهت أو تمجدت نتيجة لاتحادها مع طبيعته الإلهية ولكن أيضاً بدون تحول جوهري في طبيعتها الخاصة. كما أن الإتحاد الأقنومي الذي قام بين كلمة الله الأزلي وطبيعته البشرية وقت الحبل به من العذراء لم ينفك أبداً، وسوف يدوم إلى الأبد لأنه “لن يكون لملكه انقضاء” (لو33:1).

ج- نتائج الوحدة الأقنومية:

كان للوحدة الغريبة التي حصلت، ابتداءً من لحظة التجسد، بين الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس والجسد الذي اتخذه من العذراء، وهي ما سميت بالوحدة الأقنومية أو الاتحاد الأقنومي نتائج بالغة الأهمية بالنسبة لخلاصنا. فمنها ماحصل على صعيد جسد السيد كخلوه من الخطيئة وتألهه، ومنها ما انعكس على صعيد إيماننا بهذه الوحدة وتعبيراتنا البشرية عنها كسجودنا للمسيح الواحد، وإطلاقنا لقب والدة الإله على مريم العذراء وإسنادنا صفات بشرية إلى ابن الله أو إسنادنا صفات إلهية إلى ابن الإنسان:

1 ـ خلو طبيعة المسيح البشرية من الخطيئة:

تفترض المهمة الخلاصية للمخلص أن يكون هو شخصياً خالياً من الخطيئة التي يريد تخليص الناس منها. ولهذا تولى قدوس القديسين نفسه عملية الخلاص.

والواقع أن ولادة يسوع الفائقة الطبيعة من العذراء، كما شرحنا سابقاً، هي التي أوقفت سريان سلطان الخطيئة والموت والشيطان على طبيعتنا البشرية ولأول مرة بعد سقوطها. إلا أن توقف فاعلية الخطيئة والموت والشيطان على طبيعة المسيح البشريةلم يكن سببه فقط أن ولادته قد صارت عن غير طريق التناسل الطبيعي بل ولأن الروح القدس قد حلَّ على العذراء فطهرها من كل خطيئة، ولأن قوة العلي أي الابن القدوس هو الذي صار شخص أو أقنوم الجسد الذي اتخذه منها: “الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظلك، لذلك القدوس المولود منك يدعى ابن الله” (لو35:1).

وفي الحقيقة فإن مجرد قولنا أن ابن الله القدوس صار إنساناً يعني بصورة ضمنية وحتمية أن تصبح طبيعته البشرية قدوسة وخالية من الخطيئة لأنه شخص هذه الطبيعة. إذ الخطيئة في جوهرها انفصال عن الله ومخالفة لإرادته فكيف يمكن لطبيعة الإله البشرية المتحدة معه كيانياً وأقنومياً، أن تصنع ما هو مخالف لإرادته ؟، وكيف يمكن لابن الله أن يرتكب في جسده أعمالاً تشوبها خطيئة مع أنه أتى لكي يدين الخطيئة ويبيدها: “فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطيئة ولأجل الخطيئة، دان الخطيئة في الجسد” (رو3:8).

طهارة المسيح من كل خطيئة شخصية تشع في أرجاء الكتاب المقدس بوضوح كلي: (يو29:8، 46،30:14)، (1يو5:3)، (1بط22:2)، (2كو21:5)، (عب15:4، 26:7) وتشهد بها الكنيسة وآباؤها بإجماع لا شك فيه: “شبيه بنا في كل شيء ما عدا الخطيئة” (المجمع المسكوني الرابع).

ومع كل ما ذكر فنحن يجب أن لا ننسى بأن المسيح قد أخذ طبيعة البشر الحقيقية بعد السقوط ولكن بدون خطيئة. أي أنهالم تكن تماماً كطبيعة آدم قبل السقوط، لأن السيد اتخذها مع ضعفاتها التي تولدت بعد السقوط، أي مع الأهواء غير المعابة (كالجوع والتعب والألم وإمكانية انفصال النفس عن الجسد … إلخ). وليس الأهواء المعابة (كالكبرياء والبغض والحسد والشراهة…إلخ). إنه بلا خطيئة.

وهكذا قَبِل طوعياً الألم ومايتعلق به ولم يلاشِ قوته بل سمح أن يتقبله بأقصى أبعاده وتعرض لتجارب ذات صعوبات حقيقية، لكنه لم يكن ممكناً أن يخطئ أو يُغلب أمامها، لأن إرادة طبيعته البشرية كانت تخضع دائماً لإرادته الإلهية. فكان هدف اتخاذ الرب يسوع، إذاً، لطبيعةٍ بشرية حاملة لضعفات الأهواء غير المعابة هو تقويتها من خلال انتصارها على هذه الأهواء. لذلك ولأول مرة في المسيح فقدت هذه الأهواء قوة سيطرتها على الطبيعة البشرية، وأصبح المسيح المثال الحقيقي لنا في الجهاد والغلبة معطياً إيانا قوة جديدة بواسطة اتحادنا معه عبر نعمته الإلهية.

2 ـ تأله الطبيعة البشرية في المسيح:

يقصد بتأله الطبيعة البشرية للمسيح رفعها إلى الدرجة القصوى من الكمال الممكن بالنسبة إليها، بحيث لا تفقد صفاتها الخاصة. وقد علّم الآباء هذه العقيدة استناداً إلى معطيات الإعلان الإلهي وحياة الكنيسة: “من بين الطبيعتين الأولى ألهت والثانية تألهت” (غريغوريوس اللاهوتي). “كما أن جسد يسوع المسيح الفائق الطهارة والقداسة تأله ولم ينمحِ بل بقي في حالته البشرية” (المجمع المسكوني السادس). “أتجرأ أن أقول بأنها (أي الطبيعة البشرية) صارت شبيهة بالله لأن الذي مُسح صار إنساناً والممسوح إلهاً ولم يحدث هذا بتغير الطبائع بل بواسطة الوحدة التي تمت في الجسد أي بحسب الأقنوم، والتي بموجبها اتحد الجسد بدون انفصال بالإله الكلمة، وبواسطة تداخل الطبائع الواحدة في الأخرى بالطريقة التي نتكلم فيها عن توهج الحديد بالنار. وكما نعترف أن التجسد صار دون تحول أو تغيير هكذا نفهم أيضاً تأله الجسد. ونتيجة لواقع أن الكلمة صار جسداً، فلا الكلمة خرج عن حدود ألوهيته وخصائصه الإلهية، ولا الجسد الذي تأله لأنه لم يتغير في طبيعته ولا في خواصه البشرية” (القديس يوحنا الدمشقي).

3 ـ مريم العذراء هي والدة الإله:

إنكار نسطوريوس لهذا اللقب كان الدلالة الواضحة على عدم إيمانه بالوحدة الأقنومية لشخص المسيح والتي حاربه من أجلها القديس كيرلس الإسكندري: “من لا يعترف حقيقةً بأن عمانوئيل هو الله، وأن العذراء القديسة، لهذا السبب، هي والدة الإله، لأنها ولدت جسدانياً الجسد الذي صاره الإله الكلمة… فليكن محروماً”.

وقد علّم الكتاب المقدس حقيقية أمومة العذراء لابن الله (إش14:7، لو31:1، 35، 43، غل4:4) وتحدث الآباء الرسوليون عنها أيضاً. إلا أنه منذ القرن الثالث ومابعد جرى إطلاق كلمة والدة الإله عليها بشكل عام لدرجة أن القديس غريغوريوس اللاهوتي يقول: “من لا يعترف بأن مريم هي أم الله، فهو منفصل عن الله”.

4 ـ السجود الواحد للمسيح الواحد:

من البديهي أن وحدة شخص المتجسد الأقنومية تقتضي أن يسجد له مع جسده سجوداً واحداً، لأن هذا الجسد هو جسد ابن الله الخاص وهو ماتعلّمنا إياه كلمة الله بجلاء: (يو22:5ـ23، فيل9:2ـ10، رو11:5ـ13، مت 17:28، أع 13:7ـ14، عب6:1، 6:2ـ9، 1كو27:15، أف6:2). والكنيسة عبر آبائها ومجامعها المسكونية (الثالث والخامس والسابع)…

من الآباء نقتطف تصريحاً للقديس أثناسيوس الكبير يقول فيه: “نحن لا نسجد لجسد منفصل عن الكلمة ولا نريد ونحن نعبد الكلمة أن نفصله عن الجسد لأننا نعلم بأن الكلمة صار جسداً معترفين به نفسه وحتى في الجسد إلهاً. من هو إذاً ذاك الذي بلا عقل ليقول للسيد: “اخرج من جسدك حتى أعبدك”…

من القديس يوحنا الذهبي الفم ننقل تعليماً آخر ذا فائدة كبرى: “بالحقيقة إنه لأمر عظيم وعجيب أن جسدنا يجلس في السماء ويتقبل سجوداً من الملائكة ورؤساء الملائكة والشيروبيم والسيرافيم”.

5 – تبادل الصفات أو تعميمها Η αντίδονις ή κοινοποίησις των ιδιωμάτων:

لقد أشرنا سابقاً إلى هذه النقطة في حديثنا عن وحدة شخص المسيح، وكيف أن الكتاب المقدس والتراث الآبائي ينسبان إلى ربنا يسوع صفات إلهية وإنسانية معاً. وبالتحديد فلأن لطبيعتي الإله المتجسد أقنوم أوحد، تنسب له كإله كافة صفات الطبيعة البشرية، بينما تنسب له كإنسان كافة صفات الطبيعة الإلهية. ولهذا نستطيع القول عن المسيح مثلاً أنه إلهنا الذي ظهر على الأرض وتردد بين الناس أو أنه الإنسان غير المخلوق وغير الموصوف وغير المدرك إلخ… من الكتاب المقدس نذكر مثلاً واحداً من الأمثلة العديدة التي قدمناها سابقاً: “لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” (1كور8:2).

انتقل إلى أعلى