يُدخل سر تجسّد ابن الله وكلمته إلى تألّه الإنسان. يشدّد آباء الكنيسة القديسون على أن الله صار إنساناً لكي يجعل الإنسان إلهاً. لا يبلغ أي إنسان إلى التألّه إلا عِبر ابن الله وكلمته المتجسّد. يناقش اللاهوتيون المعاصرون ما إذا كان التجسّد قد استلزم سقطة آدم وإذا كان التجسّد مستقلاً عن سقوط الإنسان. وتقوم هذه المناقشة لأنّ هناك نصوصاً لآباء الكنيسة حول هذه السقطة.
أ) الموقف العام لآباء الكنيسة
تنبغي الإشارة منذ البداية إلى أنّ الآباء القديسين لا يواجهون هذا السؤال على منوال سكولاستيكي بطريقة افتراضية. فهم لم يفكروا في ما إذا كان المسيح ليتجسّد ولا لو لم يسقط آدم. هذه الأسئلة تشير إلى استعمال مفرط للعقل في مجهود لفهم أسرار الله، وهذا سكولاستيكية نموذجية وليس لاهوتاً أرثوذكسياً. يهتمّ لاهوت الكنيسة الأرثوذكسية بالأحداث التي جرت ويتعاطى مع مسألة شفاء الطبيعة البشرية والناس جميعاً. ينظر هذا اللاهوت إلى الطبيعة البشرية الساقطة وكيفية شفائها للبلوغ إلى التألّه الذي صار من خلال تجسد الله.
في التعليم الآبائي أن في التجسّد اتّحد ابن الله وكلمته أقنومياً بالطبيعة البشرية وهكذا تألّهت هذه الطبيعة وصار الدواء الحقيقي والوحيد لخلاص الإنسان وتألّهه. من خلال المعمودية المقدسة يستطيع الإنسان أن يصير عضواً لجسد المسيح ومن خلال المناولة المقدسة يستطيع أن يشترك في الجسد المؤلّه للمسيح، الجسد الذي أخذه من والدته السيدة. لو لم تتم هذه الوحدة الأقنومية بين الطبيعتين الإلهية والبشرية، لما كان التألّه ممكناً. لهذا السبب كان التجسّد الغاية الأخيرة لخلق الإنسان. إن آلام المسيح وصليبه هي الأمور التي أضافها سقوط آدم. يقول القديس مكسيموس أن التجسّد كان لخلاص الطبيعة، والآلام كانت بهدف تحرير أولئك الذين بالخطيئة امتلكهم الموت.
يقول القديس أثناسيوس الكبير أنه كان ينبغي أن يتجسّد ابن الله لسببين أساسيين. أولاً، ليغيّر الفاسد إلى عدم الفساد والمائت إلى عدم الموت، وهو ما لم يحدث بالتوبة البسيطة إنما باتّخاذ الله الجسد البشري المائت والسريع التأثر. ثانياً، لكي يتجدد الإنسان بالمسيح لأن الابن وكلمة الله هو المثال الأول للإنسان.
هذا الموقف اللاهوتي للقديس أثناسيوس لا يعارض موقف آباء الكنيسة الآخرين الذين سوف نراه بعد قليل والذين يتكلّمون عن أن التجسّد الإلهي لا يفترض السقوط كشرط مطلق. وهذا لسببين أساسيين.
أولاً لأن في التحليلات التي يقدمها، ينظر القديس أثناسيوس إلى الإنسان الساقط بشكل خاص فيتحدث عن سقوط الإنسان وإعادة تجديده. يرتكز لاهوت القديس على الحقيقة القائمة. وهو يهتم بشكل جدي بتجديد وإصلاح هذا الإنسان الذي لبس الموات وإمكانية التجربة.
ثانياً، لأنه يتحدث عن سر التجسد الإلهي وتدبير الله كما نعرفه اليوم. فعندما يتكلّم عن التجسد والتألّه هو يعني تجسد المسيح وآلامه وصليبه وقيامته. يرى القديس أثناسيوس هذا كافياً ولا يتابع إلى تحاليل أخرى.
إذاً، تختلف افتراضات القديس أثناسيوس الكبير عن افتراضات غيره من الآباء القديسين الذين سوف نتوقف عندهم في الجزء التالي. إنهم لا يتكلمون عن الأمور نفسها. ينبغي أن نكون قادرين على ولوج نوس الآباء وتعليمهم كي لا نكون مخطئين.
ب) موقف القديس نيقوديموس الأثوسي
في تحليله للتعليم الآبائي حول النقطة ذاتها، يصل القديس نيقوديموس إلى خلاصة أن تجسد ابن الله وكلمته لم يكن نتيجة سقوط الإنسان بل كان الهدف الأول من خلقه، لأن بهذا يمكن الوصول إلى التألّه. هذا يبدو صحيحاً عندما نفكر بأن سقوط آدم لم يكن لـِ”يلزم” الله أن يصبح إنساناً ولم يكن المسيح ليأخذ الطبيعة البشرية إلى الأبد. هذا ما يتركنا نستنتج بأن السقوط تمّ لكي يتجسّد الله وبأنّه في النهاية لم يكن سيئاً بل كان بركة.
يطوّر القديس نيقوديموس الأثوسي هذه النقطة اللاهوتية في دراسة ممتازة عنوانها: “دفاع عن النص الذائع الصيت حول سيدتنا والدة الإله في كتاب الحرب اللامنظورة” الذي يشكّل مثالاً للمقالة اللاهوتية. لقد كان القديس نيقوديموس الأثوسي لاهوتياً عظيماً في الكنيسة لأنه استوعب التعليم الآبائي بشكل عميق وعبّر عنه بشكل مؤثّر ومثمر.
لقد حدّد الحافز لكتابة دفاعه عبارة من كتاب “الحرب غير المنظورة” الذي كان منتشراً في ذلك الحين فكتب: “إنّ كل العالم المنظور وغير المنظور تكوّن لهذا الهدف، لوالدة الإله، ووالدة الإله كانت من أجل سيدنا يسوع المسيح”.
لقد أثارت هذه المقالة بعض لاهوتيي ذالك الزمان الذين عبّروا عن شكوك حولها. لهذا كتب القديس نيقوديموس في بداية دفاعه: “بما أن بعض المعلّقين المهتمّين باللاهوت المقدّس والذين قد قرؤوا ما كتبت عن السيدة والدة الإله… محتارون… أنا أعتذر هنا لتقصيري عن حل مشكلتهم”. إنه لأمر مثير للإعجاب أن يبدأ القدّيس دفاعه بتواضع كبير من دون أن يفتري وأن ينتقد لاهوتيي زمانه الذين كانوا ينتقدونه. فهو يتقدم إلى شرحه من دون هوى إنما بهدوء ورزانة. بالواقع، إن المواضيع اللاهوتية تستلزم حواراً جدياً، وإلا فالروح القدس لا يعمل.
بعد تقديم حججه اللاهوتية، التي سوف نعرضها في ما يلي، يستنتج: “أرى أن هذه الكلمات القليلة تكفي للاعتذار من الحكّام المشكورين والقرّاء لما كتبت عن والدة الإله، وأنا أسألهم ألاّ يفرِطوا بلومي، لأني لا أكتب ما كتبت من رأيي ولا من عقيدتي، بل اتّبعت عقائد اللاهوتيين الذين تكلّموا قبلي. وإذا كان البعض يوبخني محرّكاً بالانفعال فليوبّخ بالأحرى مكسيموس المتوشح بالله، غريغوريوس التسالونيكي وإندراوس العظيم وغيرهم من الذين استعرت منهم هذه العقيدة”.
إنّ هذا النص مذهل ويظهر طريقة القدّيس في مواجهة الحالات المماثلة. في البداية يتكلّم القديس نيقوديموس بتهذيب. فهو يصف قرّاءه بالمشكورين ويسألهم بألاّ يلوموه بإفراط. إنه يأمل بألاّ يكون متّهموه محرّكين بالهوى. مع أنّه يعرف أنهم مشبَعين من الأهواء، فإنّه لا يتوجّه إليهم باتهامات سطحية. من ثمّ يشدّد على أنّه لا يعبّر عن نظرته هو لكنه يروي تعليم آباء الكنيسة القدّيسين الذين منهم استعار هذه العبارة.
في ما يلي سوف نعالج بتحليل أكثر نظرة القديس نيقوديموس الأثوسي اللاهوتية التي بحسبها “كل العالم المنظور وغير المنظور تكوّن لهذا الهدف، لوالدة الإله، ووالدة الإله كانت من أجل سيدنا يسوع المسيح”، أي أن تجسّد المسيح كان الهدف الأصلي للخليقة وغايتها. هذا يعني أنه هكذا تمّ اتحاد الإنسان بالله، وبالتالي التجسّد كان مستقلاً عن سقطة آدم.
ج) التدبير الإلهي هو إرادة الله السابقة
لكي يدعم نظرته، يأخذ القديس نيقوديموس مقاطع من الكتاب المقدّس وآباء الكنيسة القديسين. فمن الكتاب المقدّس يأخذ بشكل أساسي ثلاث مقاطع، الأول من الأمثال حيث يقول: “الرب قناني أول طريقه من قبل أعماله منذ القدم” (أمثال 22:8). الثاني هو من رسالة بولس إلى الكولوسيين، حيث يسمّى المسيح بكر كل خليقة: “الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة” (كولوسي 15:1). وبطريقة مماثلة يورِد المقطع من رسالة بولس إلى الروميين: “لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعيّنهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكراً بين إخوة كثيرين” (روما 29:8).
في تفسيره لهذه المقاطع على أساس تعليم الآباء القديسين، يقول أنها لا تشير إلى الألوهة، لأنّ الكلمة لم يُخلَق من الله، ولا هو أول المخلوقات كما قال أريوس، لكن هذه المقاطع تشير إلى بشرية المسيح التي “هي بداية كل قضاء تنبأ به الله قبل أي شيء آخر، إنها أولى ما قام به”. هكذا، سر تدبير الإبن المتجسّد وكلمة الله يبدأ من كل طرق الله، إنّه بكر كل خليقة “وقد تمّ تحديده قبل تعيين كل المخلَّصين”.
عند القديس مكسيموس المعترف مقطع مميّز يدعم نظرته. سوف أستشهد هنا بجزء كبير منه لأن معناه مهم وله وزنه. “إنّه سرّ التجسّد لعظيم وعميق. إنه الأمر المبارَك الذي لأجله كل الأشياء توطدت أهدافها”. إن تجسّد المسيح هو سر عظيم وعميق لأجله أوجد الثالوث القدوس العالم كله. ويتابع القديس مكسيموس: “إنه الغاية التي تصوَّرها الإله سلفاً لأول الخليقة محدداً ما نسميه الهدف الذي لأجله كل شيء كان من دون أن يكون هو لأي شيء”. إن هذه العبارة مذهلة لأنها تظهر أن سر التجسد هو الغاية الإلهية التي كانت من بدء خليقة الكائنات وكل شيء كان لهذا الهدف وليس لأي هدف آخر. هذا يعني أن قرار التجسّد سبق. بالتأكيد، يجب فهم هذا الأمر بمعنى أن الوقت ليس موجوداً في الله. ويتابع القديس مكسيموس بشكل معبّر: “أوجد الله جواهر الكائنات بهذا الهدف. إنه بشكل رئيسي غاية العناية الإلهية والأمور التي يقدمها، ونحو هذه الغاية تكون في الله خلاصة كل الأمور التي صنعها”. خلق الله العالم لهذا الهدف، فغاية العناية الإلهية وإعادة كل الخليقة هي التجسد.
هذا المقطع مفاجئ ومميّز جداً ولا يستطيع أحد أن يفسّره بطريقة أخرى. إذاً، إذا كان هذا المقطع من تعليم القديس مكسيموس صحيحاً، فسوف يثبّت أن تألّه الإنسان تمّ بالفعل عِبر الاتحاد الأقنومي بين الطبيعتين الإلهية والبشرية في شخص كلمة الله. وهكذا، فالسيّدة والدة الإله التي منها أتّخذ المسيح جسداً، كانت حصيلة خلق كل العالم، المنظور وغير المنظور. الإنسان هو خلاصة كل الخليقة.
يقول القديس غريغوريوس بالاماس بالإشارة إلى إثبات الآب عند معمودية المسيح في نهر الأردن: “هذا هو ابني الحبيب”، أنّ هذا الصوت يظهر أنّ كل ما كان في العهد القديم، الناموس والوعود والتبنّي، كان غير كامل “ولا مختار ومكمّلاً بحسب رأي الله المسبَق، بل كان يتطلّع نحو الغاية الحاضرة ومكمّلاً نحو الحاضر، وهذه الأمور أتِمَّت”. من ثمّ يقول أنه ليس فقط أحداث العهد القديم بل أيضاً بداية العالم والإنسان كانت موجّهة نحو المسيح. وفما هو يتابع، يشدّد أن خلق الإنسان أيضاً كان لهذا الهدف. خُلق الإنسان على صورة الله “لكي يكون قادراً يوماً ما على احتواء النموذج الأصلي”. هنا يميّز القديس غريغوريوس بالاماس بشكل حكيم بين إرادة الله السابقة، التي هي رغبته الصالحة، وإرادته الصالحة النهائية أي تجسّد كلمة الله من جهة، وإرادة الله بالتدبير أي ناموس العهد القديم من جهة أخرى. إن تجسّد إبن الله وكلمته هو الرغبة الإلهية السابقة وبالتالي هو مستقلّ عن سقوط الإنسان.
يستنتج القديس نيقوديموس الأثوسي في إشارته إلى هذه المقاطع: “أتسمع أن الله خلق الإنسان على صورته لكي يكون قادراً على احتواء النموذج الأصلي للتجسّد؟ ولهذا صنع الله الإنسان وحدة من العالم العقلي والحسي، وموجَزاً وخلاصةً لكل المخلوقات حتى باتحاده معه يتحد بكل المخلوقات، كما يقول القديس بولس، والخالق والخليقة يصبحان واحداً بالأقنوم بحسب مكسيموس المتوشّح الإله”.
إن حقيقة كون التدبير الإلهي، سر تجسّد ابن الله وكلمته، هو إرادةَ الله السابقة، تظهر من أن الملائكة استفادوا من التجسد أيضاً. نحن نعرف جيداً أن الإنسان أخطأ وليس الملائكة الذين يمجدون الله بلا انقطاع. كون الملائكة استفادوا من التجسد يعني أن هذا الخير كان في فكر الله وهو إرادته الكاملة وليس تدبيراً. بحسب القديس نيكيتا ستيثاتوس، الملائكة كانوا بلا ميل نحو الشر، ولكن بعد التجسد، وخاصةً بعد قيامة المسيح، صاروا ثابتين ضد الشر “ليس بالطبيعة بل بالنعمة”. لقد بلغوا الثبات، بحسب القديس يوحنا الدمشقي، وحصلوا على الصمود بحسب القديس غريغوريوس بالاماس. وهكذا أيضاً كان الإنسان سوف يحصل على التألّه بالنعمة من خلال تجسد المسيح حتى ولو لم يكن السقوط.
بالطبع علينا أن نكرر أن الآباء لم يقاربوا هذا الموضوع افتراضياً كون هذه المقاربة هي طريقة التفكير السكولاستيكية، لكننا استعملنا هذه العبارة الافتراضية لكي نقدّم تشديداً خاصاً على الحقيقة الإيجابية التي مفادها أن من خلال المسيح أتى تألّه الإنسان. من خلال تجسد المسيح صار الملائكة، بالإضافة إلى كونهم غير متغيرين، صاروا أيضاً أكثر تقبّلاً للإستنارة.
يستعمل القديس نيقوديموس حججاً أخرى لكي يظهر أن التجسد هو الإرادة الأصلية، كما يسمّيها النبي إشعياء، كونها قديمة والأولى بين تصاميمه. في الله جوهر، أقنوم وقوى. القوى، والفعل الذي به يشترك الله مع الخلائق، خارجية. الأقنوم هو أكثر داخلية والجوهر هو الأعمق في الداخل. “بهذه الثلاثة اتّخذ الله إلى الأبد هذه الروابط الثلاث العامة”. يشترك الآب بالجوهر إلى الأبد مع الابن والروح، بولادة الابن وبثق الروح. “الابن اتّخذ علاقة أقنومية من الشركة مع البشرية، من خلال هذه العلاقة عرف مقدّماً وأدرك مسبقاً الوحدة الفعلية التي بعد هذه العلاقة في الزمن”. وعلى المنوال نفسه، “اتّخذ الله علاقة أبدية… ليشترك بالقوى مع الخلائق الباقية، ومن خلال هذه العلاقة هو عرف مقدّماً وأدرك مسبقاً مصير كل الخلائق العقلية والجسدية”. بما أن هذه العلاقة الأقنومية هي أكثر داخلية من علاقة القوى، فالمعرفة المسبقة للوحدة الأقنومية بين الطبيعتين الإلهية والبشرية سابقة للوحدة بالقوى وأكثر أصالة منها.
يظهر هذا أيضاً في كلمات الآباء القديسين عن والدة الإله التي هي الشخص الذي خدم سر التجسّد والتي قدّمت جسدها ليكون الوحدة الأقنومية بين الطبيعتين الإلهية والبشرية. وهكذا يقول القديس اندراوس الكريتي “والدة الإله هي… هدف عهد الله لنا. إنها تجلّي الأعماق العويصة غير المفهومة؛ إنّها الهدف الموضوع سلفاً لكل الأجيال لصنع الأجيال؛ إنّها تاج النبوءات الإلهية؛ إنها الإرادة الإلهية التي تفوق الوصف والتي لا سبيل لوصفها بكل ما في الكلمة من معنى قبل الأزل لحراسة الإنسان”.
هذه النظرة اللاهوتية مقبولة إذا افتكرنا أن المسيح هو بداية خلق العالم وتألّه الإنسان ووسطهما ونهايتهما. فقط من هذا المنظار يمكننا أن نرى أن سر التجسد مستقل عن سقوط الإنسان. يقول القديس مكسيموس المعترف أن ربنا يسوع المسيح هو “بداية الأجيال ووسطها ونهايتها، الماضية والحاضرة والمستقبلة”. وفي تفسير هذا الكلام يقول القديس نيقوديموس الأثوسي أن هذا السر هو بداية الخلائق، لأن هدف هذا السر كان بداية المعرفة السابقة لخلق كل الخلائق وسبب هذه المعرفة وهذا الخلق. إنه الوسط لأنه منح الملء لمعرفة الله المسبقة وبالتالي الثبات للملائكة وعدم الموت وعدم الفساد والخلاص للبشر. إنه أيضاً النهاية لأن هذا السر صار الكمال والتأله والمجد والبركة للملائكة والبشر ولكل الخليقة.
د) استنتاجات بعد تحليل هذا الموقف اللاهوتي:
يصل القديس نيقوديموس إلى استنتاجين.أولاً، أنه “لا بد لسر التجسد من أن يكون، أولاً وقبل كل شيء لأن هذا السر كان إرادة الله المسبقة، كما نقول مع القديس غريغوريوس التسالونيكي، بالدرجة الأولى بسبب صلاح الله غير المتناهي والجوهري والأسمى، وبالأحرى بسبب هذا الأساس الأكثر عمقاً للصلاح الأبوي، كما قال مكسيموس الحامل الإله”. ثانياً لأن هذا كان ضرورياً لكل الخلائق الروحية والجسدية كبداياتها ووسطها ونهايتها، كما أُظهر.
الاستنتاج الثاني هو أن والدة الإله أيضاً، كونها الوسيلة الأكثر مباشرة وصراحة والسبب المشترك الضروري لهذا السر (لأن جسد المسيح هو جسد مريم بحسب الطوباوي أوغسطين)، كانت معروفة مسبقاً ومسامة من الله قبل كل الخلائق الأخرى، وكل الخلائق الأخرى سيمت ووُجدت من خلالها، كون هذا هو الهدف الذي في فكر الله مسبقاً، كما أنه النهاية التي من أجلها تكوّنت كل الأشياء، كما قال القديس أندراوس.
قد يبدو للوهلة الأولى أن كل ما يُشرح هنا، استناداً إلى تعليم الآباء القديسين، يشير إلى أمور نظرية لا تحمل أي تأثير على الحياة الروحية. ولكن هذا خطأ لأن للعقيدة علاقة عميقة وحميمة بحياة الإنسان الروحية. تُثبَت هذه الحقيقة في هذا التعليم اللاهوتي.
يظهر كل ما رأينا أن كلمة الله صار إنساناً لا لكي يسترضي الصلاح الإلهي، كما يقول اللاهوتيون الغربيون، بل ليؤلّه الطبيعة البشرية بالمحبة والإحسان. إن استرضاء الصلاح الإلهي يعطي بعداً قانونياً للحياة الروحية لأنه يشير إلى أن كل نسكنا يهدف إلى استرضاء الله. من ناحية أخرى، ليس الله مَن يحتاج مداواة بل نحن. لذلك تجسد المسيح كان إرادة الله المسبقة والهدف المُطلَق لخلق الإنسان. لم يكن الإنسان ليستطيع أن يبلغ الشركة مع الله لو لم يكن هناك وحدة أقنومية بين طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية، لأن هناك فرق عظيم بين المخلوق وغير المخلوق. لم يكن المخلوق ليستطيع أن يتحد مع غير المخلوق لو لم تكن هذه الوحدة الأقنومية بين الإثنين في شخص المسيح. ما أُضيف بسقوط الإنسان هو آلام المسيح وصليبه وموته وقيامته. وهذه الأمور مفهومة بالطبع بحقيقة أن من خلال تجسده اتّخذ المسيح طبيعة بشرية فائقة النقاوة لكنها قابلة للموت وللهوى.
أرى من واجبي أن أنهي بالقول بأن القديس نيقوديموس الأثوسي، كما يظهر من هذه الأشياء القليلة التي ذكرناها، هو لاهوتي وأب عظيم للكنيسة في التقليد الآبائي والكنسي. إنه لاهوتي أرثوذكسي يرى خلاص الإنسان في العلاج ضمن الافتراضات المسبقة الأرثوذكسية. إذا كان البعض يرى الأمور غير ذلك فلأنهم لا يعرفون تعليم القديس نيقوديموس الذي يقرؤونه مجتزأً ومن خلال افتراضاتهم الخاصة. ولهم يكرر القديس كلماته التي وجّهها إلى متّهميه في حينه: “أرجو ألاّ تفرِطوا بلومي، لأني لا أكتب ما كتبت من رأيي ولا من عقيدتي، بل اتّبعت عقائد اللاهوتيين الذين تكلّموا قبلي. وإذا كان البعض يوبخني محرّكاً بالانفعال فليوبّخ بالأحرى مكسيموس المتوشح بالله، غريغوريوس التسالونيكي وإندراوس العظيم وغيرهم من الذين استعرت منهم هذه العقيدة. للذي يعطي البداية المجد إلى الأبد”.
الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس
تعريب الأب أنطوان ملكي
عن مجلة التراث الأرثوذكسي