هو (1) من بلدة “الحفّة”، مركز قضاء “الحفّة” في محافظة اللاذقية السورية. ذهب، مرة، واثنين من رفاقه في تجارة باتجاه “جسر الشاغور”(2).كان رفيقاه مسيحيين. وقد صحبهم سائس مسلم. فتصدى لهم في الطريق رجال مسلّحون وصرخوا في وجوههم: “أسلموا تسلَموا!”(3).
فاللذان كانا معه شهرا إسلامهما للحال، وكان منهما واحد من قرية “شتيغو” التي تبعد حوالي خمسة كيلومترات عن الحفّة، ولعله من آل بدر أو القدسية. وأما جبرائيل المعروف بـ “جبرا” فأبى أن يشهر إسلامه وتمسّك بإيمانه المسيحي. فهدّده المسلّحون فلم يأبه لهم. فانهالوا عليه ضرباً بأعقاب البنادق فلم يستسلم. عبارة واحدة بقي يتفوّه بها: “أنا مسيحي!”. فازداد ضاربوه حنقاً وعنفاً عليه حتى اسودّ بدنه كله وسال دمه. ولما لم يعد يقوى على التفوه بكلمة واحدة جعل سبّابة يده اليمنى فوق سبّابة يده اليسرى بشكل صليب ورفعهما الى فمه وقبلّهما. وإذ استمرّ جلاّدوه يضربونه بلا هوادة خارت قواه وسقط مغمى عليه. فظنّوه قد مات، فتركوه وانصرفوا.
ثم ان السائس الذي عاين ما حدث وسمع ما قيل، وكان صالحاً أميناً، فقد عاد الى “الحفّة” وخبّر. فخرج نسيم حنا الياس، ابن أخت الشهيد، الى بعض أصحابه المسلمين مستجيراً فأجاروه ورافقوه الى حيث وقعت الحادثة. فلما بلغوا الموضع أخذوا الشهيد على بغل فربطوه وعادوا الى البلدة. وإذ وصلوا به الى هناك استعاد وعيه لكنه لم يستطع ان يكلّم أحداً بكلمة. فقط أشار الى أقربائه بما فهموا منه انه يريد ان يتناول جسد الرب ودمه. فجيء بالقدسات للحال وناوله الكاهن اياها بعدما جعلته أخته المدعوّة أفروسيني نصير الياس على صدرها. فلما أخذ القدسات تمّت شهادته وأسلم الروح ( 1918 م).
هذا وقد دفن (4) الشهيد عند مدخل كنيسة البلدة المسمّاة على اسم القدّيس، رئيس الملائكة، ميخائيل. صلاته تنفعنا، آمين.
(عن القديسون المنسيّون في التراث الأنطاكي للأرشمندريت توما بيطار)
هذا وقد كان لعائلة الشهيد، تعقيب على ماجاء في الكتاب، وبالأخص الحاشية رقم (4)، ونوردها هنا كما وضعها أحد الأخوة في منتديات الشبيبة الأرثوذكسية
الشهيد جبرا موسى نصير
1862 – 1920م
نحن الخوري ميخائيل نصير، كاهن بلدة الحفة وتوابعها للروم الأرثوذكس، أبناء وأحفاد الشهيد جبرا نصير وجميع أفراد عائلته في بلدة الحفة ومحافظة اللاذقية وسورية وبلاد الاغتراب. نقدم ردّاً توضيحياً مفصلاً على ما ورد في كتاب ” القديسون المنسيون في التراث الأنطاكي” المنشور عام 1995م ونشر في الصفحة رقم /561 / في الملحق رقم /3/ والحاشية رقم /4/ الواقعة في الصفحة رقم / 562 / من هذا الكتاب، الذي قام بجمعه ونشره الأب الجليل الأرشمندريت توما بيطار من دير دوما – لبنان.
لقد تكلمت الأم أنطونينا [1] وهي رئيسة دير كفتون – لبنان، عن حادثة استشهاد المرحوم جبرا موسى نصير [2]، وقد أغفلت بعض الحقائق التاريخية وأضافت بعضها الآخر. لذا نتقدم هنا عبر هذه المقالة بأسفنا الشديد لما نشر عبر هذا الكتاب وخاصة في حاشيته رقم /4/ عن هذه الحادثة، ونبيًنها لكل المؤمنين الذين يرغبون بمعرفة الحقيقة بدقة وأمانة، وذلك حفاظاً على تاريخ كنيستنا (كنيسة القديس مار ميخائيل بالحفة) وعلى مشاعر مؤمنينا في البلدة وتوابعها وعلى أبناء وأحفاد وعائلة الشهيد.
ولد جبرا موسى نصير في بلدة الحفة [3] عام /1862م/. ذهب في أحد المرات إلى منطقة جسر الشغور [4] بقصد التجارة واسترجاع حصانه الذي سرق منه في البلدة، وقد رافقه في رحلته هذه صديقين، الأول وهو مسيحي من قرية أشتبغو [5] من عائلة “قدسيّة” والآخر هو سائس خيل مسلم من عائلة ” كليّة”. وعند وصولهم إلى منطقة حراجية كثيفة قرب قرية الدريبات في وطى بداما [6] أعترض طريقهم مجموعة من المسلحين (قطّاع الطرق) [7] رافعين بنادقهم في وجوههم صارخين ومهددين (أسلموا تسلموا) وذلك لينكروا إيمانهم، وفي الحال أسلم المرافقان خوفاً من القتل، و تم إخلاء سبيلهما أما جبرا فأبى أن يشهر إسلامه وينكر إيمانه [8] وتمسك بكل قوة بإيمانه المسيحي، فعاد المسلحون وهددوه بالقتل مجدداً ولكنه لم يأبه لهم، عندها انهالوا عليه ضرباً بأعقاب البنادق فلم يستسلم، وبقي يردد ويقول لهم أنا مسيحي لا أستسلم. فأزداد ضاربوه حنقاً وعنفاً عليه حتى سقط أرضاً مضرجاً بدمائه وقد أسود جسده كاملاً وسال دمه.
ولما لم يعد قادراً على التفوه بكلمة واحدة وخارت قواه، جعل سبابة يده اليمنى فوق سبابته اليسرى على شكل صليب و رفعهما إلى فمه و قبلهما. عندها عاود جلادوه الضرب والركل بأقدامهم بلا هوداة حتى أغمي عليه، معتقدين بأنه قد مات، فتركوه وانصرفوا. لقد عاد المرافقان بسرعة إلى بلدة الحفة ليخبروا أفراد عائلته عن هذه الحادثة، وقد كان السائس قد عاين وسمع كل ما حدث. وبقي الشهيد جبرا ملقى على الأرض البرية مغمى عليه ومضرجاً بدمائه، فوق الثلوج المتراكمة حيث كان الطقس بارداً جداً [9] . بينما كانت إحدى نساء قرية أنكزيك (الغسانية) [10] تقوم بجمع الحطب، وتدعى مطيعة عبود شاهدت الشهيد وتعرفت عليه، ملقى على الثلوج مضرجاً بدمائه، رجعت إلى القرية وأخبرت الرجال الذين أغاثوها وحملوا حسده ونقلوه إلى بيوتهم للاهتمام به، ريثما يحضر أحد من أهله، وقد بقي على هذه الحالة مدة يومين.
وصل إلى قرية أنكزيك وفد من أهالي بلدة الحفة ليقوموا بنقله إلى بلدته، وقد ضم الوفد، يوسف نصير أخيه الكبير، وولداه جرجس و اسطفان نصير وكذلك المختار ليوس نعمة نصير وأبن أخته فروسيين وهو نسيم الياس ورافقهم أيضاً اثنان من وجهاء بلدة الحفة المسلمين، أحدهما من عائلة “الجندي” والآخر من عائلة ” أبو سليمان”، وضعوا جبرا المغمى عليه على بغل بعد أن غطوه بجلود الخراف ثم ربطوه إلى البغل وعادوا به إلى البلدة، وعندما وصلوا به إلى منزله أستعاد وعيه ولكنه لم يستطع أن يتكلم مع أحد.
بقي ممددا بلا حراك بالرغم من قدوم كل أهل البلدة لملاقاته. ذهب ابنه جرجس إلى اللاذقية لجلب طبيب لعلاجه، وأثناء ذلك كانوا يحاولون التكلم معه، وقد تكلم كلمات معدودة [8+]، وقد ساءت حالته الصحية جداً عندها أشار إلى من حوله أنه يرغب بتناول جسد ودم الرب يسوع، فحضر كاهن بلدة الحفة الخوري عبدالله نصير، [11] وناوله إياها وهو ملقى في حضن أخته فروسيين نصير. فلما تناول القدسات تمت شهادته وأسلم روحه الطاهرة.
هذا وقد دفن جسده الطاهر في ساحة كنيسة القديس مار ميخائيل بتاريخ 27 كانون الثاني 1920م وذلك جانب جدارها الشمالي قرب الباب الشمالي [+9] . بتاريخ 3 أيار 1942 توفي أخيه الكبير يوسف نصير وقد تم دفنه بقربه، وفي 2 نيسان 1962 م دفن المتقدم في الكهنة الخوري عبدالله نصير بجوارهم.
إن أهالي البلدة المؤمنين بالرغم من كل الظروف الصعبة التي مروا بها، لم يتزعزع إيمانهم بأرضهم ولم يغادرها وهم باقون على إيمانهم المسيحي الحقيقي متسلحون بأجدادهم وشهدائهم القديسين. نؤكد هنا عبر هذا الكتاب لكل المهتمين بأن رفاة أجدادنا وقديسينا لم يتم تشتيتها كم ذكر بالكتاب، أو جرفها مع الأتربة وإنما بقيت في مكانها وقد تم فقط إزالة الجزء العلوي للأضرحة. وسنوضح عبر السطور التالية سبب ذلك.
عقد اجتماع لأهل البلدة في الكنيسة مع سيادة المطران أغناطيوس هزيم راعي أبرشية اللاذقية بسبب توسيع وترميم الكنيسة، وافق الجميع على ذلك وبارك سيادته المشروع. بدأ العمل بالمشروع حيث أزيل سقف الكنيسة وتم ترحيل القرميد والخشب، بعدها أزيل الجزء العلوي من الأضرحة التي تقع بقرب الجدار الشمالي للكنيسة بغية هدم الجدار و إزاحته لتوسيع الكنيسة، عندها وقبل الشروع بهدم الجدار وبطلب خاص من سيادة المطران تم وقف العمل في التوسيع وأقتصر العمل على إعادة بناء السقف. هذا ما حصل وتم سقف الكنيسة بالأسمنت المسلح وزرع ألواح القرميد فوقه، وإصلاح الجدران مع الهيكل. كل ذلك تم بمساعدة المحسنين والمؤمنين من أهل البلدة بالمال والعرق والجهد المتواصل وبإشراف راعي الكنيسة الخوري ميخائيل نصير [12]، وبعدها وسّعت الساحة وبنيت صالة كبيرة ألحقت بالكنيسة، ومازالت الأعمال متتالية ومنها الشروع في بناء نصب تذكاري فوق رفاة أجدادنا وبنفس المكان بمباركة أحفادهم [13]، صلاتهم تنفعنا وتغفر لنا. آمين.
حواشي تابعة للسيرة كما وردت في كتاب “القديسون المنسيون في التراث الأنطاكي”
(1) أفضت لنا بهذه المعلومات الأم أنطونينا، رئيسة دير سيدة كفتون التابع لأبرشية جبل لبنان، وهي ابنة نسيم حنا الياس الذي اهتمّ بإعادة الشهيد الى البلدة. وتقول الأم أنطونينا ان هذه هي القصّة التي سمعتها منذ الطفولية وما زال العديدون في بلدة الحفّة يردّدونها الى اليوم. على ان تقصياً للمعلومات بين من حفظوا الخبر، لا سيما المسنّين منهم، ربما ساعد في الكشف عن المزيد المفيد منها، كالتاريخ المحدّد الذي قضى فيه الشهيد مثلاً.
(2) ناحية جسر الشاغور كانت، قديماً، احدى أبرشيات سورية الثانية وكانت تعرف باسم Seleucobelos. أقدم أساقفتها المذكورين في كتب التاريخ Aristonicus الذي اشترك في مجمع انطاكية (363م) ومرقيانوس الذي اشترك في مجمع القسطنطينية (المجمع المسكوني الثاني 381م). ومن أساقفتها، أيضاً، كيرياكوس الذي عاش في أيام الامبراطور يوستنيانوس (القرن 6)، والذي اشترك في رفع عريضة ضد ساويروس الانطاكي، جنباً الى جنب مع بولس افاميا وسويريانوس عرطوز واستفانوس شيزر (Larissa) وسرجيوس حماه وسواهم (أنظر Devresse، R. في Le Patriarchat d’Antioche p. 74، 183).
(3) هذا التعبير قد وجدناه شائعاً بين الناس وكأن حوادث عديدة ردّدت الذاكرة الشعبية صداها كانت تقع، هنا وثمة، بيد جماعات ظنّت ان في تصرفها غيرة على الإسلام أو استغلته لمآرب شخصية.
(4) من المؤسف ان أبناء البلدة جهلوا في الماضي قيمة رفات الشهيد. فلما أرادوا توسيع الكنيسة قاموا بجرف الرفات مع الاتربة من أمام الكنيسة دونما تمييز، وألقوا بها بعيداً. ترى إذا استطلع المرء الأمر أيكون بإمكانه ان يتعرف الى ما ينفعه في هذا الشأن؟ لسنا نعلم! نعلم فقط ان هذه عينة من الجهل والإهمال واللامبالاة التي خلفتها قرون من القهر والتغريب. أترانا ندوس رفات القدّيسين، أحيانا، ولا نعلم؟ ليس هذا ببعيد ولا بمستغرب! فإنه ينسب الى الأب القدّيس بائيسيوس الآثوسي (12 تموز 1994) انه فيما كان في رحلة بالطائرة، مرة، ارتجّت نفسه فجأة فسأل: أين نحن؟ فقيل له: فوق البلاد السورية. فأجاب: هذه أرض ملأى برفات القدّيسين!.
حواشي تابعة للتعقيب:
[1] تدعى لميا نسيم الياس، هي حفيدة المرحومة فروسين نصير أخت الشهيد جبرا، غادرت بلدة الحفة منذ أكثر من 50 عام.
[2] كل أهل البلدة يعرفون الشهيد باسم جبرا وليس باسم جبرائيل، كما ورد في عنوان المقالة حسب ما تم نشره في الكتاب. ويوجد له حفيد بنفس الاسم هو المرحوم جبرا اسطفان نصير وآخر هو المرحوم جابر جرجس نصير.
[3] تقع هذه البلدة شرق مدينة اللاذقية على بعد حوالي 25 كم وعلى سلسلة الجبال الساحلية الغربية لبلاد الشام. وعلى ارتفاع حوالي 350م عن سطح البحر.
[4] تقع بلدة جسر الشغور على نهر العاصي الذي يجري ضمن سهل الغاب. وكان يوجد علاقات تجارية متبادلة ما بين البلدتين الحفة والجسر الشغور.
[5] قرية قرب بلدة الحفة على بعد 2 كم يقطنها المسيحيون فقط ويوجد أخرى بقربها يقطنها المسلمون وحالياً تم تغيير أسمها إلى قرية النزهة.
[6] تقع هذه القرية في الطريق المؤدية إلى مدينة جسر الشغور، المسافرون كانوا يعبرون من الغرب نحو قرية كندّة ثم الناجية إلى وطى بداما إلى قرية الزعينية التي تقع غرب قرية انكزيك. وتوجد هذه القرى على سلسلة من الجبال الحراجية الجميلة والكثيفة.
[7] كانوا قديماً يطلقون على قطاع الطرق لقب ” الشّتى”، يقومون بسلب أموال وأرزاق.
[8] [8+] قال له أحد أصدقائه المسيحيين والذي كان في رفقته، عندما زاره بعد رجوعة إلى المنزل وكان يحتضر” ما كنت تقولا.لهاك الكلمي!!!… ما كنت تقولا وتخلص حالك” ففتح أعينة وصرخ به ” أنقلع من وجهي ما بدي شوفك”.
[9] [9+] معلومات كتبها المرتل حنا الخوري عبدالله نصير على ِأحد جلدات كتب الكنيسة ” كتاب المعزي” تأليف عام 1858م ” أنه بأمر الله تعالى قد صارت ثلجة عظيمة نهار الاثنين الواقع 27 كانون الثاني 1920م وبقيت ثلاثة أيام وبها صار وفاة المرحوم جبرا نصير” و تاريخ الوفاة مدون على الكتب الموجودة في مكتبة الكنيسة وعلى الشاهدة الموجودة كانت موجودة على قبره.
[10] قرية الغسانية (أنكزيك) قديماً، قرية تقع في أعالي الجبال الساحلية لبلاد الشام وتطل على سهل الغاب، يقطنها المسيحيون وتقع قرب مدينة جسر الشغور
[11] متقدم في الكهنة، كاهن لبلدة الحفة وتوابعها. ولد عام 1880 سيم كاهناً 1912 توفي 2 نيسان 1962 م وقد شارك في جنازته صاحب الغبطة المرحوم مطران اللاذقية أرسانيوس حداد.
[12] كاهن بلدة الحفة وتوابعها، ولد 1929م وسيم كاهناً في عام 1960م.
[13] المرحوم المحامي موسى نصير بن جرجس بن الشهيد جبرا نصير تولد 1924م ، وهيبة نصير ابنة اسطفان ابن جبرا نصير تولد 1924م ، فؤاد نصير ابن إبراهيم بن يوسف 1925م ، المرحوم جاد نصير ابن اسطفان ابن جبرا نقلاً عن والدته المرحومة رضا نصار زوجة المرحوم اسطفان ابن جبرا نصير.