حياته
ولد القديس باسيليوس في قيصرية كبادوكية[1] سنة 330م. من عائلة وجيهة أرستقراطية .جدّه لأبيه كان يدعى باسيليوس، ترك كلّ أملاكه الواسعة وأمواله للحفاظ على إيمانه في عهد الإمبراطور ديوكليتيانوس. أبوه كان أستاذ الخطابة في قيصرية وجدّته لأبيه هي مكرينا التي كانت تلميذة القديس غريغوريوس صانع العجائب.
أمّه أماليا كانت أيضاً من عائلة أرستقراطية . إحتمل أبوها العذاب والإضطهاد وأخوها كان أسقفاً قي قيصرية كبادوكية (حالياً قيصرية تركيا) . كان لأب باسيليوس تسعُ أولادٍ[2]، خمسُ بناتٍ وأربعةُ ذكور. كرّس معظمهم حياته لخدمة الكنيسة . نعرف من بين الذكور : باسيليوس، غريغوريوس النيصصي، بطرس، نافكراتيوس[3]، ومن البنات نعرف القديسة مكرينا أخته.
قضى جزءاً من طفولته في ممتلكات أبيه في البنط قرب نهر إيريس [4]، كان أبوه الأستاذ الأوّل ولكن بعد وفاته سنة 345م نزل باسيليوس إلى قيصرية كبادوكية لمتابعة دراسته هناك، حيث تعرّف إلى صديقه القديس غريغوريوس اللاهوتي، ثم أنتقل إلى القسطنطينية ثم إلى أثينا[5] التي كانت مركزاً في العلم والثقافة حيث كان صديقه غريغوريوس قد سبقه إليها.
أمضى باسيليوس ما يقرب الخمس سنوات في أثينا وهناك توطدت بينه وبين غريغوريوس النازينيزي-اللاهوتي أواصر الحب والأهداف الروحية حتى أن غريغوريوس نفسه يقول أنهما كانا روحاً واحداً في جسدَين وفي مكان آخر يقول غريغوريوس :”عرفنا شارعَين في المدينة، الأوَّل يؤدّي إلى الكنائس والمذبح والثاني إلى الجامعة ومعلمي العلوم. أما الشوارع التي تؤدي إلى المسارح والملاعب والأماكن غير المقدسة فتركناها لغيرنا”.وفي أثينا تحلّق حولهما عدد من الطلاب فألّفوا أوّل رابطة طلابية مسيحية في العالم. في عام 355 وصل إلى أثينا تلميذاً آخر وهو يوليان (صار فيما بعد إمبراطوراً ) لمتابعة دروسه، كان الأمير الشاب على علاقة وثيقة بباسيليوس واعتاد أن يدرس معه ولكنه تأثر بالوثنية حتى صار يعرف بإسم “الجاحد” .
ظهرت عبقرية باسيليوس في دراسته حتى أن غريغوريوس يقول أنه كان بارعاً في كل فرع من فروع العلم كما لو كان متخصصاً فيه وحده. بعد إنتهاء دراسته عاد سنة 356 إلى وطنه أما غريغوريوس فبقي في أثينا لوقت قصير يعلِّم الخطابة والبلاغة. وفي كبادوكية حرَّك مسلك أخته وأمّه دعوته الروحية فهما قد حوّلتا منزل الأسرة ليكون منسكاً وسط الطبيعة الهادئة فجذب هذا المنسك عدداً من النساء .
أخذ باسيليوس يدرس الكتاب المقدس فوجد فيه نوراً يختلف عن نور المؤلفات الوثنية فإعتمد، وقرر أن يبحث عن النساك المشهورين ليقتدِ بهم، فزار مصر وسوريا وأنطاكية وبلاد ما بين النهرين وعندما عاد إلى قيصرية كبادوكية رُسم شماساً وشارك في مجمع القسطنطينية سنة 360 م. لكنه لم يبقَ في قيصرية بسبب إنزعاجه من اسقفها الآريوسي، ثم باع كل ما يملكه ووزعه على الفقراء والمحتاجين ونسك أولاً في ممتلك لغريغوريوس صديقه ولكنه عاد واختار منطقة في بلاد البنط لما تمتاز به من جمال طبيعي خلاّب وربما فعل هذا لإستمالة صديقه غريغوريوس فكتب اليه واصفاً المكان قائلاً:” أرشدني الله إلى منطقة تتفق تماما واسلوبي في الحياة أنها حقاً ما كنّا نتوق إليه في أحلام يقظتن، فما كان يظهره الخيال لي بعيداً أصبحت أراه أمامي، جبلٌ عالٍ تكسوه غابة كثيفة ترويها في الشمال جداول دائمة الجريان وعند سفح الجبل يمتد سهل فسيح كثير الفاكهة بسبب الرطوبة، أما الغابة المحيطة التي تتنوّع فيها الشجار وتزدحم فهي تعزلني في قلعةٍ حصينة”.
حتى أنه يرى حكمة الله وراء هذا الجمال فيقول :” إذا كنت في حدود الليل تتأمل النجوم وجمالها الأخّاذ فأنك ترى الفنان الذي صمَّمَها وترى الذي زيّن السماء بهذه الورود، وإذا كنت في الصباح المبكر فأنك تتعلم الكثير عن عجائب النهار . فمما هو منظور تصل إلى اللامنظور”.
أما عن طعامه فأنه ما كان يتناول إلاّ ما هو ضروري لسدّ رمقه.ولم يكن ذلك الطعام سوى الخبز والماء يقول غريغوريوس أخوه أنه كان يقمع جسده فيعامله كما يعامل سيدٌ غضوبٌ عبداً هارباً.
أليس هو الذي قال ؟:” هذا ما يليق بالراهب : التمسكن،عقل منخفض، نظر مطرق إلى الأرض، وجه مقطّب، لباس مهمل، ثوب وسخ حتى يكون حالنا كحال النائحين الباكين، ثوب بقدر الجسد لأن الغرض منه شيء واحد هو ستر الجسد من الحر والبرد… كذلك الطعام خبزة واحدة تسدّ الجوع، والماء ليروي ظمأ العطشان” [6].مع أنه كان يشدد كثيراً في قوله :” إن الصوم الحقيقي هو سجن الرذائل، أعني ضبط اللسان، وإمساك الغضب وقهر الشهوات الدّنسة”[7].
زاره صديقه غريغوريوس فبقي بقربه سنة ونصف وهناك أنصرفا إلى دراسة الكتب اللاهوتية دراسة عميقة ونسّقا كتاب الفيلوكاليا وعملا معاً على تنظيم الحياة الرهبانية وتحلّق حول باسيليوس عدد كبير من مريدي الرهبنة فوضع لهم القانون الكبير والصغير ولذلك اشتهر باسيليوس بأنه منظِّم الحياة الرهبانية في الشرق وفي ذلك الوقت سمع أن اسقف قيصرية قَبِل قانون الإيمان الآريوسي فترك وحدته لإقناعه بالإيمان النيقاوي فعاد الأسقف عن الدستور الآريوسي وهو على فراش الموت . ثم أقنعه صديقه غريغوريوس بالذهاب إلى قيصرية للعمل مع الأسقف افسافيوس ففعل ولكن سرعان ما نشب الخلاف بينهما لأن باسيليوس اكتسب شهرة واسعة فثار حسد الأسقف وأنتهى الأمر إلى القطيعة فعاد باسيليوس إلى منسكه لوقت قصير . وفي هذا الوقت كتب ضد الإمبراطور يوليان الذي تمسك بالوثنية ولما التقى في الشرق الإمبراطور فالنس كثر الخطر على الأرثوذكسية فطالب الشعب بعودة باسيليوس وبعد عدة محاولات تم التوفيق بينه وبين الأسقف فاستخدم باسيليوس كل علمه وفصاحته لإحباط الآريوسيين ولكن الاحتياجات اللاهوتية لم تمنعه من تكريس عمل اجتماعي مهم فمن المحتمل أن المؤسسة العظيمة”الباسيلية” التي أقامها في ضواحي قيصرية لعلاج المرضى وإراحة المسافرين وإعالة الفقراء وضع تصميمها في أواخر سنوات كهنوته . ومن ابرز حوادث تلك الفترة هي المجاعة التي اجتاحت كل الإقليم سنة 368 فلم يكتفي بحثِّ الأغنياء والتجار على الرحمة بل باعَ ممتلكاته التي آلت إليه بعد وفاة أمّه ووزعها على المحتاجين . وفي منتصف سنة 370 توفى افسافيوس فطالب به معظم المؤمنين اسقفاً لكن معارضيه كانوا من الأساقفة الآريوسيين وبعض المؤمنين الآريوسيين وكان لأسقف نزينـز دور مهم في انتخاب باسيليوس اسقفاً لأنه حضر وهو على فراش المرض إلى الدورة الإنتخابية . وهكذا رسم اسقفاً عام 370 م [8]فبدأ عمله الصعب في مجالات متعددة فكان هناك فريق من الأساقفة الذين رفضوا الاشتراك في تنصيبه يعاملونه بكل استخفاف وصمّمت حكومة الإمبراطور على تقسيم منطقة قيصرية إلى قسمين والهدف إضعاف باسيليوس فاختيرت مدينة تيانا لتكون العاصمة الجديدة . وهكذا طالب اسقف تيانا بتقسيم كنسي يتبع التقسيم الإداري وأن تتمتع متروبوليته بامتيازات مساوية لامتيازات قيصرية فقرر باسيليوس مقاومة هذا التقسيم وحتى يعزز موقفه رسَم صديقه غريغوريوس على سازيا وسام أخاه غريغوريوس اسقفاً على نيصّا لكن صديقه غريغوريوس هرب من المدينة بعد أن لاقى صعوبات كبيرة فذهب باسيليوس في صراع مع الإمبراطور الذي كان يعبر آسيا الصغرى مصمما على ملاشاة الإيمان الأرثوذكسي فكان مصير كبادوكية متوقفا على باسيليوس . هدده الإمبراطور أما بالعزل أو الاشتراك مع الآريوسيين واستدعاه مودستوس الحاكم وطالبه بالخضوع وهدده بمصادرة أملاكه وبتجويعه وتعذيبه ونفيه فردَّ باسيليوس أن لا شيء من هذه التهديدات ترهبه فليس له شيء يصادر سوى قليل من الخرق وبعض الكتب أما النفي فلا يضعه وراء أراضي الله لأن الأرض كلها دار غربة أما التعذيب فلا يخيف جسماً قد مات فعلاً . فأعلن مودستوس الحاكم قائلاً له أنه لم يكلمني أحد بهذه الجرأة حتى الآن فأجابه القديس ذلك لأنك ربما لم يؤتى لك أن تواجه اسقفاً حقيقياً . بعد التهديد لجأ الحاكم إلى الوعد لكن الوعد فشل أيضاً . وفي عيد الظهور الإلهي دخل الإمبراطور إلى الكنيسة محاطاً بالحاشية الكبيرة فرأى باسيليوس واقفاً على المذبح فلم يتحرك باسيليوس وظل جامداً كالتمثال وكان شيئاً لم يحدث .كان الوفاق ظاهرياً بين الإمبراطور وبين باسيليوس لكن القديس لم يسمح للآريوسيين بأن يشتركوا معه في الخدمة، ولذلك أقنع الآريوسيون الإمبراطور بنفي باسيليوس فأمر بنفيه . اعدّ القديس عدَّته للرحيل لكن إبن الإمبراطور مرض مرضاً مفاجئاً وعزت أمه الأمر إلى نفي باسيليوس فأرسل الإمبراطور إثنين يتوسلان إلى القديس أن يصلي من أجل الطفل غير المعمَّد فطلب باسيليوس قبل ذهابه أن يُعمَّد الطفل على يد كاهن أرثوذكسي لكن الإمبراطور حنث بوعده وعمَّد الطفل على يد كاهن آريوسي فساءت حالة الطفل ومات في تلك الليلة .أما الإمبراطور فلم يوقع قرار النفي . لكن الآريوسيين ظلوا يستهدفون باسيليوس فعقدوا مجمعاً في أنقره أدانوا فيه مبدأ ألـ ” OMOOUSIOS ” ” Omoousios “،” التماهي”. ولكن بسبب نشاط باسيليوس المتواصل لم يعد جسمه قادراً على تحمل الأعباء ففي سن الأربعين دعا نفسه عجوزاً وفي شتاء سنة 378 اقترب من الموت أما في سنة 379 فرقد رقدة الموت بعمر 49 سنة ودفن في قيصرية .
تعيّد له كنيستنا في 1 كانون الثاني و30 كانون الثاني من كل سنة، والكنيسة الغربية في 14 حزيران[9]. وكانت، قبل القرن التاسع للميلاد، تُعيِّد لهُ في أول كانون الثاني.
جمجمته إلى اليوم، موجودة في دير اللافرا الكبير في جبل آثوس.[10]
بعض ملامحه:
كان القديس باسيليوس طويل القامة، نحيف الجسم، ناشف القسمات، أصفر اللون، نظراتُهُ تأمليَّة، أصلع الرأس تقريباً، ذا لحية طويلة. كان بطيئاً في الكلام، كثيراً في التفكير، خجولاً يتحاشى الجَدل العلني، جريئاً، شجاعاً عندما يلتزم الدفاع عن قضية عادلة، محباً للعزلة والصمت. يتمتع بالقدرة على ضبط النفس. يحافظ على هدوئه وبرودة أعصابه.
هذا وقد ورد أنهُ فقد أسنانه في حدود السادسة والأربعين. وكانت أوجاع بدنِهِ عارمة لدرجة أنهُ من سن الثالثة والأربعين كان أعجز عن الأتيان بأية حركة من دون وجع.
كان يعمل بشكل شبه متواصل. يكتب ديملي ويزور الكنائس ويقارع أعداء الايمان ويدافع عن الأرثوذكسية.
عجائبهُ:
حاول الإمبراطور والنس نفي القديس باسيليوس، لأنّه كان مدافعاً عن الإيمان القويم في وجه أعداء الإيمان. ولكن، ثلاث مرات حاول أن يوقِّع أمر نفيه وثلاث مرات انكسر قلمه. في المرَّة الثالثة جاءه خبر أن ولده غلاتوس، البالغ من العمر ست سنوات، يحتضر. وقد أرسلت إليه زوجتُهُ تقول لهُ: “أتعلم لماذا يُحتضر ولدنا؟ لأن إيمانك بالله غير مستقيم ولأنك تضطهد رجل الله!” فأرسل والنس في طلب باسيليوس وقال لهُ:”إذ كان إيمانك مرضياً لله فاشفِ ولدي بصلواتك!”. فأجاب القديس:” إذ كنت تنضمُّ إلى جماعة الرأي القويم يحيا ولدك”. فوافق الملك. وكان أن رفع باسيليوس يديه وصلَّى فمنَّ عليه الرَّب الإله بشفاء ابن الملك. فسُرَّ الملكُ سروراً عظيماً، لكن قلبُهُ لم يكن نقيِّاً. ولما جاء الأريوسيون ليعمِّدوا الصبي، بعد حين، مات بين أيديهم.
طروبارية باللحن الأول
في كل الأرض المتقبلة أقوالك، قد خرجتْ نغمتكَ أيها الأب البار، التي بها يليق بالله شرعتَ وأعلنتَ طبيعة الكائنات، وثقَّفت أخلاق البشر، يا ذا الكهنوت الملوكي باسيليوس، فتشفع إلى المسيح الإله أن يخلص نفوسنا.
قنداق باللحن الرابع
لقد ظهرتَ قاعدةً غير متزعزعة للكنيسة، موزعاً للبشر كافةً سلطاناً لا يُسلب، خاتماً إياهم بعقائدك، أيها البار المظهر الأشياء السماوية باسيليوس.
مؤلفاته
جمع باسيليوس الفكر العملي إلى الدقة اللاهوتية والعقل المحلل وفي مؤلفاته يتبع طريقاً منهجياً ويستعمل لغةً نقيةً ورفيعةً جداً.يمكننا تقسيم مؤلفاته إلى :
- دفاعية.
- تفسيرية .
- عقدية.
- خطابية.
- نسكية وليتورجية ورسائل .
الدفاعية: كتاب إلى الشباب وهو عبارة عن محاضرتين وجّههما إلى شباب كبادوكية لما منع الإمبراطور يوليان من إعطاء دروس في المدارس العامة في الفيلولوجيا( أي علم اللغة أو الكلام) والخطابة والفلسفة . رأى باسيليوس أن يتبع الطلاب المسيحيون الدروس عند الوثنيين لكن يجب عليهم أن يكونوا متيقظين. وفي كتابه هذا يجد باسيليوس أن دراسة الفيلولوجيا الكلاسيكية نافعة ولكن إلى حدّ. فللحياة بعُدان بُعدٌ للحياة الحاضرة وبُعدٌ للحياة المستقبلة، فاللاهوت المسيحي يعلّم أيضاً عن الحياة المستقبلة لكن الشباب قد لا يفهمون هذا التعليم لذلك يجب أن ينصرفوا إلى دراسة الفيلولوجيا الكلاسيكية ويأخذوا منها ما هو حسن كما يفعل النحل بالزهر فيختارون نصوصاً تهدف إلى تدريبهم الخلقي.
تفسير ستة أيام الخلق :كتاب من 9 خطب يشرح فيها سفر التكوين من1_26 فيه يدحض النظرية الفلسفية الكونية عن أزلية الكون ووجوده الذاتي الأمر الذي يؤدي إلى الفرضية الثنائية.فيدرس الخلائق تفصيلياً ويتكلم على حدوثها (خلقها). وفي الخطبة الأخيرة يعد أنه سيتحدث عن خلق الإنسان لكنه لم يفعل ذلك .يبدأ عظته بقوله:” الله هو الذي خلق السماء والأرض.فكّر البعض أن السماء وُجدت بفعل الصدفة، وبقوة ذاتية متحركة. لكن نحن أبناء الإيمان، فلا مجال للشك عندنا بأن سبب وجود هذا العالم هو الله وحده. وفي الحقيقة كثرت آراء العلماء، وتضاربت تعاليم الفلاسفة، ولم يجمعوا في وقت من الأوقات على رأي واحد، إذ كان كل رأي ينقضه رأي آخر ويخالفه تماماً. وهكذا سقطت كل الآراء بتفاعل ذاتي وتضارب غريب”[11].
المؤلفات التفسيرية: لا شك أن كتابة (ستة أيام الخلق )يمكن أن يدرج هنا لكنه من الكتب الدفاعية .هناك خِطب أخرى تفسيرية تشرح المزامير وضعها عندما كان كاهناً .يتحدث باسيليوس في خطبته الأولى عن أهمية شعر المزامير أما في تفسيره للمزامير فيهتم في المسائل الفيلولوجية ويتوسع في المواضيع الخلقية .
هناك تفسير لسفر إشعياء 1_6 لكن يصعب علينا أن نُبدي الرأي في أصالته لأن منهجه يقترب من منهج اوريجنس الإستعاري .
المؤلفات العقائدية: بعد أن أُبسل افنوميوس في مجمع القسطنطينية سنة 360 الذي حضره باسيليوس عندما كان شماساً وضع افنوميوس دفاعاً ينطلق من المفاهيم الأرسطية الخاصة بجوهر الكائنات ووصل إلى النتيجة التي تقول أن الجوهر الإلهي يتمثل (يصبح مماثلاً)لعدم الولادة وأن جوهر الابن المولود مخالف لجوهر الآب.
كتب باسيليوس عام 364 داحضا استنتاجات افنوميوس وفرضياته الخاصة بقدرة الإنسان في الولوج إلى جوهر الله غير المدرك.بعد أربع سنوات كتب افنوميوس دفاعاً ضد دفاع باسيليوس لكن باسيليوس كان في آخر أيامه فتولى أخوه غريغوريوس الردّ عليها .
كتاب في الروح القدس [12]أنه أهمّ أعمال باسيليوس الآبائية استخدم باسيليوس المجدلة التي تقول :
“zoxa to theo meta tou iyou sin to agio pnevmati”
“Doxa tw Qew meta tou yiou sin tw Agiw Pnevmati”
“المجد لله مع الابن والروح القدس “
بخلاف المجدلة الشائعة في عصره التي تقول:”المجد لله في الإبن بالروح القدس:
“zoxa… zia… en…” “ Doxa … dia … en …”
فأثار هذا الاستعمال ردّات فعل عند أخصامه فطلب منه صديقه امفيلوكيوس أن يكتب عن الموضوع فدوَّن باسيليوس هذا الكتاب سنة 375 برهن فيه أن الروح واحد في الكرامة مع الآب “omotimia” “ Omotimia” والتي هي مترادفة مع ” Omoousia ” ” Omoousia ” وأكّد أن الصيغة التي يستخدمها تستند إلى الكتاب والتقليد وعقيدة مجمع نيقية وأكّد على عمل الروح في النفس البشرية أي أن أُقنوم الروح حاضر في النفس يكمِّل عمل الإبن المتجسد(الروح القدس يبقى مع الإنسان إلى يوم الدين حيث يفارقه )
المؤلفات الخطابية: هناك نحو 25 خطبة أصلية معظمها ذات محتوى خلقي أهمها خطبة (احترس لنفسك) ملخصها أنه عندما ننتبه لأنفسنا ننتبه لله :” …إهتمّ لذاتك، لا أعني أن تهتم بما لك أو لما هو حواليك بل أن تهتم لنفسك لا غير، فنحن شيء، وما هو لنا شيء آخر، وما حوالينا شيء آخر .إنما نحن بالنفس والروح لأننا كوِّنا على صورة الخالق. وأما ما هو لنا فهو الجسد وحواسه . وما حوالينا فهو المال والأشغال وسائر مقتضيات العيش… إهتم لذاتك، ولا تتعلّق بالزائلات كأنها خالدة ولا تستخف بالخالدات كأنها زائلة”[13].” الحكيم لا يتقي غير المخوف، ولا يرجو غير المدرك، ولذلك لا يخاف الآلام ولا يرجو دوام اللذات العالمية، لأنها سريعة الزوال، فإذ لا يخاف هذه الآلام يحتمله، وإذ لا يرجو هذه اللذات فلا يطلبها”[14].
وخطبة أخرى بعنوان “الله ليس سبباً للشرّ” يؤكد فيها أن الشرّ ليس موجوداً من الناحية الكيانية . وهناك خطب مهمة بالنسبة لعصره ضد سابيليوس وآريوس والرافضين للتشابه.
المؤلفات الليتورجية: يؤكّد غريغوريوس اللاهوتي أن باسيليوس وضع نظماً للصلاة ولذلك فسٌر بعضهم هذا المقطع بأنه تنظيم على القداس الإلهي ينسب المجمع الخامس_السادس البنديكتي تروللو إليه ليتورجيا سرية .
المؤلفات النسكية: أهم المؤلفات هي القوانين النسكية الموضوعة تحت شكل سؤال وجواب . القوانين المطوٌلة في 55 فصل تبحث في مسلٌمات الحياة النسكية وفي ممارساتها من محبة وطاعة وإمساك . أما القوانين الموجزة فهي مؤلفه من 313 فصل تسعى إلى تطبيق الخطوط الرئيسة المعطاة في القوانين المطولة وإلى الإجابة عن كل مسألة صغيرة وخاصة .
الرسائل: مجموعة رسائله لها أهمية موازية لأهمية أهمّ أعماله وابتدأ الجمع لهذه الرسائل منذ أيام غريغوريوس اللاهوتي الذي جمع قسماً منها لذلك نرى مجموعة مهمة من المختارات من القرن الخامس.المجموعة الحالية تضم 366رسالة وهي من الوثائق المهمة الفريدة من نوعها في الكنيسة الشرقية لأن باسيليوس وجهها إلى شخصيات مختلفة وكتب لهم مواضيع شتى وهي تتنوع من رسائل توصية إلى مقالات لاهوتية وتنظيمية .
لاهوته
إن عطاء باسيليوس اللاهوتي الفياض دليل عشق الحكمة الإلهية، ودرس شريعة الرب وتأمل أحكامه، وعيش مع الخالق وعدم إرتواء من محبته، إنه كإبن حقيقي لله، اكتسب موهبة ترجمة الحقائق الإلهية، واقتنى موهبة إيضاح عمل الكلمة وفعل الروح القدس، فغدا مستودع الروح وآنية النعمة وأباً من الآباء لا يغفل عن ذكر الله، فاض لسانه وقلبه وقلمه بالحب الإلهي وبالكلام الإلهي مشتركاً في القوى الإلهية غير المخلوقة ومعايناً الله.[15]
دعته الكنيسة بـ ” كاشف السماء” و”ركن العقيدة ” و” نور التقى” و”منارة الكنيسة”[16] أنه اخضع العلم الذي تلقاه في أثينا إلى الخبرة المسيحية بعيداً عن كل جدلية فارغة .كافح في سبيل الإيمان الصحيح لأنه آمن أنه مثلما ادخل الشيطان تجربة المعرفة من الخارج قبل السقوط هكذا يحاول أن يُدخل من جديد الرفض اليهودي وتعدد الآلهة الهليني .وفي مكان آخر يقول :”عندما تؤذي الأبالسة العقل يلجأ إلى عبادة الوثن أو أي نوع من أنواع المروق والكفر” وكان يحسب اعتداد الهراطقة بعقلهم جهلاً حتى قال :”أنني أنفر كرهاً من جهل الهراطقة “وعندما خاطب اتباع صابيليوس وآريوس والقائلين بعدم مساواة الابن للآب قال :”ابحث في كل شيء جعلت كل شيء خاضع لمنطق التقسيم، هلا فحصت كل شيء ،أحويت الكل في عقلك هلا عرفت كل ما تحت الثرى وهلا عرفت ما في الأعماق؟” ويقول:”دع عقلك يركض إلى ما شاء ودعه يرتفع إلى ما فوق فستجده قد ضلَّ كثيراً وعاد إلى ذاته لأنه في كل مرة يدوس في أماكن فارغة “.
لذلك اعتاد الرجوع إلى الإيمان الذي سُلم في المعمودية واعتاد استخدام البراهين الليتورجية .لم يقبل أخصامه إلا بسلطان الكتاب المقدس ولذلك سعى إلى برهان شرعية الاحتكام إلى التقليد يقول:”أن العقائد والتعاليم التي حُفظت في الكنيسة حصلنا على بعض منها من التعليم المكتوب وعلى البعض الآخر في سر سُلم إلينا من تقليد الرسل ولهما نفس الفعالية بالنسبة إلى التقوى”.العقائد (مجموعة الأعراف غير المدونة ) التعليم (التعليم الرسمي للكنيسة).
وهكذا أن العقائد تسلمناها في سرّ أي عن طريق الأسرار .لفظة الأسرار تشير عنده إلى سرَّي المعمودية والشكر .اللذين يرجعان في رأيه إلى اصل رسولي ويستشهد ببولس الرسول عندما يذكر التقاليد التي تسلمها المؤمنون مشافهة أو كتابة اليهم .يقول باسيليوس:”شرع الرسل منذ البدء في الإهتمام بكل ما يختص بالكنائس فحفظوا في السرّ هيبة الأسرار”.ويستشهد بمقاطع لها طبيعة ليتورجية وطقسية مثل رسم إشارة الصليب عند قبول الموعوظين، الإتجاه إلى الشرق الوقوف المستمر نهار الأحد أثناء سر الشكر ،استدعاء الروح القدس، تبريك الماء والزيت،رفض الشيطان، التغطيس في الماء ثلاثاً.وهذه الأمور وسائل للشهادة الإيمانية وهي تأتي من التقليد السرّي: “من التقليد السرّي والصوفي ومن التعليم الذي لا يُعلن ولا يُقال”. لكن لم يكن هذا التقليد السرّي عقيدة باطنية مخصصة للنخبة لأن النخبة هي الكنيسة.
يلجأ باسيليوس إلى ما يُسمى نظام الكتمان (علـى غير المؤمنين ) وهذا النظام له صلة برتبة الموعوظين وهدفه تعليمي وتثقيفي.أن دستور الإيمان والصلاة الربانية كانا جزئَين من نظام الكتمان، فلم يكن جائزاً أن يُعرضا لمن هم خارج الإيمان. فدستور الإيمان كان مدّخراً لآخر مرحلة من مراحل تعليم الموعوظين. فالأسقف كان ينقل دستور الإيمان لهم مشافهة.وكانوا هم يتلونه غيباً في خدمة “نقل أو ترداد دستور الإيمان”. ولذلك أكد باسيليوس أهمية الاعتراف بالإيمان في المعمودية وهذا الإعتراف كان تقليداً يُسلّم في سرّ إلى الذين تنصروا حديثاً. الفرق بين العقيدة والتعليم كان في طريقة النقل .العقيدة تُحفظ بصمت أما التعاليم فتُنشر وتُعلن. وأكد أيضاً أهمية قانون الإيمان.فردَّ على الآريوسيين:”بأننا لا نقدر أن نفهـم قصد الكتاب بعيداً عن قانون الإيمان غير المدون “.
الكتاب المقدس هو من الروح القدس لكن يجب أن يكون تفسيره روحياً ونبوياً. فموهبة التمييز مهمة لفهمه:”لأن ناقد الكلمات يجب أن ينطلق من الإستعداد الذي ينطلق من المؤلف .أرى أنه من المستحيل على كل إنسان أن يأخذ على نفسه التدقيق في كلام الرب ما لم يملك الروح الذي يهب قوة التمييز.”لذلك كان تقليد الإيمان المرشد الضروري والدليل إلى دراسة الكتاب المقدس.
تعاليمه
- تعليم باسيليوس عن الزمن:
- الله:
- الخليقة (علم الكون Cosmologia):
- تركيب المادة وتشكيلها:
- خلق الله للعالم:
- الميزة الإنسانية والإلهية لعلم الكون:
- اكتمال العالم:
- مفاهيمه الإجتماعية:
- اليوم الثامن:
- تعليمه عن الأسرار:
تعليم باسيليوس عن الزمن:
نجد في مؤلفات باسيليوس ألفاظاً تتعلق بمفهوم الزمن مستقاة من الفلسفة الهلينية مثل السرمدية، والدهر، والمدة الزمنية. لكنه يستخدم هذه الألفاظ على نحو يخالف المفهوم التقليدي للفلسفة فيعطيها معنى جديداً.
أن اوريجنس وبعض الفرق المسيحية ميّزوا بين الأزل “AIZION – aidion” والدهر “AION – aiwn” وعلى هذا الأساس وصلوا إلى القول بمرؤوسية الإبن للآب (لأن الإبن مولود قبل الدهور وهذا لا يعني أنه منذ الأزل) هذا التمييز استخدمه آباء الكنيسة لتأكيد المسافة الفاصلة بين الثالوث والعالم المنظور، غير أن الافلطونيين المحدَثين قالوا أن الأزلية ادنى من الأبدية. أما الفكر الآبائي الذي استخدم لفظــة الــ “AION – aiwn” كما استخدمها الكتاب المقدس فأشار إلى جزء كبير من الزمن ولم يُشر إلى وضع لا زمني لذلك اعتبر باسيليوس أن الأزلي هو فوق الدهر وفوق الزمن، فالأزلي بالمعنى الدقيق يعود إلى الله المثلث الأقانيم لكن الــ “AIZION – aidion” يجب أن لا يتمثل (يتطابق) مع اللامولود “AGENNITON – aggennhton”. بخلاف ما فعله إفنوميوس وأتباعه الذين رفضوا أزليــة الابن لأنـه مولود. باسيليوس يحدد لفظة اللامولود بأنه ذلك الذي لا بدء له ولا مسبب لوجوده أما الأزلي فهو الذي له وجود اقدم من الزمن والأبدية.لذلك فالإبن هو مولود أزلي.أما الآب فهو غير مولود أزلي ولا بدء له . وطالما أن الإبن أزلي مع الآب فلا وجود لواسطة بين الآب اللامولود والإبن المولود أي لا يوجد جزء من الزمان في العلاقة بينهما.لذلك يقول باسيليوس :”الإبن كائن قبل الدهر وكائن دائماً ووجوده لم يبدأ قط ولا واسطة بينه وبين الآب”.
ومن جهة أخرى يحاول أن يدحض إنكار الهراطقة لأزلية الإبن فيشير إلى أن الإبن لا يمكن اعتباره احدث من الآب من حيث وجوده لأنه سيوجد وقت يفرق فيه بين ولادة الإبن وعدم ولادة الآب فإذا وجد وقت كهذا فماذا نسميها؟ طالما أننا لا نقدر أن نسميها زمناً ولا دهراً . أما إذا قبلنا بأن هناك زمن يتوسط بين الآب والإبن فأننا نبرهن أن الكتاب خاطئ لأنه يعلم أن الإبن خُلق قبل الدهور. إذا يستحيل على المرء أن ينكر أزلية الإبن ويستحيل عليه أن يحاول تحديد الإبن تحديداً زمنياً أو بالأحرى تحديد خالق الزمن تحديداً زمنياً. والأزلية تنسب أيضاً إلى الروح فهو كان موجوداً من قبل ويكون مع الآب والإبن قبل الدهور. وطالما أن الازلي يعود إلى الوضع الذي يسبق الدهر فالعقل لا يمكن أن يتجاوز معنى البدء وتخيله،لا يقدر أن يدخل إلى مكان لا وجود فيه إلى اللامكان والزمان ولا يقدر الإنسان أن يدرك شيء اقدم من البدء.
لذلك لا يمكن للقياس المنطقي أن يفهم أن هناك وقت لم يكن فيه الإبن لأنه يناقض الفعل كان .كان يعني أنه أزلي وغير زمني لذلك قال الإنجيلي الكائن الذي كان والقدير.كما هو الكائن كذلك هو”الذي كان”.في كتابه في الروح القدس في الفصل 14:6يقول: “لا يمكن أن يكون الإبن بعد الآب في الزمان فهو خالق الأزمنة لذلك لا يوجد زمان يمكن الإشارة إليه كوقت يفصل بين الآب والإبن، فالضرورة تحتم وجود الآب مع الإبن في وقت واحد حتى نقدر أن نتكلم على آب وابن. أليس تهوراً لا مثيل له أن تقاس الحياة التي تعلو كل الأزمنة بمقاييس زمنية، أليس تهوراً أن يُقال أن الآب يُقارن بالإبن في الزمان؟ فالتسلسل والتتابع ينطبق على الخليقة في الزمن وليس على الكائن قبل كل الدهور”.
الله:
بما أن الله ذاتي الحقيقة فهو يستمد برهان وجوده من ذاته في حين أن الإنسان يستمد براهين وجوده من الخارج لأنه مخلوق والمخلوق لا يعرف جوهر الخالق.
بما أن الله مثلث الأقانيم فكل اقنوم يختلف عن الآخر “بطريقة وجوده” فالأقانيم واحدة في اتحادها وحيث يكون الروح حاضر هناك يقيم المسيح، وحيث يكون المسيح هناك الآب. إذاً كل اقنوم يكشف عن الاقنومَين الآخرَين لأنهم يشتركون في الجوهر والعمل.ويشدد باسيليوس على الاختلاف بين تعدد الآلهة وتعدد الأقانيم لأن العلاقة لا تُفهم على نحو بشري بل على نحو خلاصي.
الخليقة (علم الكون Cosmologia):
يرفض باسيليوس منذ البدء المنهج الارسطي الذي يبدأ بالتحليل الاختياري للظواهر الطبيعية ويتقدم في دراسة الأوضاع الطبيعية حتى الغاية الأخيرة للظواهر. فعلم الكون عند باسيليوس يقترب من منهج أفلاطون ولكن على أساس اختلافَين أساسيَين،يجعلان التشابه بينهما ظاهرياً:
-تفهم علة الخليقة عند أفلاطون من خلال الميثولوجية، أما باسيليوس فيدرس علة الكون من خلال الكشف أو الإعلان ويفسره تفسيراً واقعياً وليس مجازياً.
-فلسفة أفلاطون لا تقبل الخلق، أما العقيدة المسيحية فتؤكد خروج المنظورات وغير المنظورات من العدم.
تركيب المادة وتشكيلها:
يؤكّد باسيليوس أنه من الصعب تفسير ماهية الكائنات لأنها لا تدرك بالنظر ولا تخضع لحاسة أللمس خضوعاً كلياً. ولا يقبل باسيليوس أن المادة بدأت في الوجود مع الزمن بل أنها غير موجودة في الواقع (فكرة تبناها غريغوريوس النيصصيّ). يعتبر باسيليوس أنه من المستحيل أن توجد طبيعة ذاتية الوجود فإذا طرح الإنسان من فكره خاصة وراء خاصة من خواص المادة فأنه سيصل إلى مفهوم عدم الوجود ولذلك يدحض أزلية المادة و يقول أنه من الكفر أن تساوي المادة بالله. “إذا اعتبرنا أن المادة تستوعب حكمة الله فأن وجودها سيقابل قوة الله أما إذا اعتبرناها اقل من حكمة الله فأن الله يبقى عمله نصف منتهٍ ولذلك يجب أن لا نتصوّر بأن الله يعمل مثلما يعمل الإنسان الذي يأخذ المادة من الخارج ويطبقها على نظامه و تفكيره. أما الله فقبل أن يخلق المنظورات عرف من أي نوع يجب أن يكون عليه العالم ووفق هذا المخطط خلق المادة المناسبة له”.
بعض الفلاسفة يؤمنون بأن السموات تتواجد منذ الأزل مع الله، مثل أفلاطون وعالم المُثُل، وبعضهم الآخر يؤمنون بأن السماء اله لا بدء له ولا نهاية وأنها علّة بتنظيم المخلوقات. ولعلّ باسيليوس يشير هنا إلى أفلاطون و أرسطو، وطبعاً إلى المفهوم الأفلاطوني المحدَث عن الفيض الأزلي فهؤلاء جميعاً آمنوا أن الله علّة الكون من دون أن تكون له إرادة حرّة، هذا التفكير هو في نظر باسيليوس قياس منطقي باطل ،لأنهم لم يفهموا أنه إذا كان جزء من أجزاء العالم خاضع للفساد والفناء فلأن الكل سيخضع بالضرورة إلى الفساد الذي خضع له الجزء ،وإذا كانت أجزاء العالم محدودة فأن العالم كله محدود.العالم إذاً مخلوق وليس شيئاً موجوداً في ذاته ومستقلاً أو أزلياً مع الله.
يدحض باسيليوس حجة فلسفية أخرى عن أزلية الكون المرتكزة على أزلية الحركة (الدائرة تعبر عن الكمال). يقول باسيليوس أن طبيعة الأجساد التي تتحرك لا يمكن أن تكون بغير بداءة. رغم أن المرء يصعب عليه أن يعرف بدء الدائرة. إلاّ أن الدائرة تبدأ من نقطة واحدة فالذي رسمها وضع لها مركزاً “Centre” ومسافة للشعاع والقطر “Rayon et Diametre” ولذلك قياساً على ذلك فأن الحركة الدائرية للأجرام السماوية بدأ في الزمن، لذلك فحركتها المستمرة تدل على أن العالم له بدء وله نهاية. لذلك فأن علم نظام الكون عنده هو إنقضائي أيضاً. هذا لم يمنع باسيليوس من قبول النظرية الشائعة في عصره وهي أن العناصر الأربعة “الاستقساء” التراب والماء والنار والهواء هي التي يتألف منها الكون[17]. وحاول أن يدعم في كتاباته هذا الرأي من الكتاب المقدس.
خلق الله للعالم:
لم يخلق العالم لوحده أي بمعزل عن الإرادة الإلهي لأن الخلق لا يضع الله تحت النواميس الطبيعية. فهذه النواميس لم توجد قبل المكان والزمان ولا يمكن فصلها عن الخلق ولذلك فإن بدء الخليقة لا يمكن فهمه ضمن الزمان لأن البدء كان اللحظة الأُولى للزمن لأنه خلق مع الكون. فيؤكد أن البدء الزمني لا وجود له ضمن مسافة زمنية ولا يمكن فهمه كفترة من الزمن وإلا استطعنا أن نميّز في البدء بدأً ووسطاً ونهاية.
أن عبارة “في البدء”، تظهر عند باسيليوس، أن العالم بدأ وجوده بلا زمن ومباشرة حالما أراد الله ذلك. الخليقة هي في الوقت نفسه كشف عن الله الذي يتدخل في جوهر المخلوقات وكيانها، فيؤلّف بينها ويصوغها وفق ذاته وإرادته. وهكذا تخدم الخليقة الهدف الإلهي. ولا شيء يوجد خارج العناية الإلهية. فالعالم ليس وحده في مسيرته حتى النهاية فالعناية الإلهية توجه الكائنات إلى الكمال.
إن علم الكون الكتابي لا تهدف إلى إرضاء خلق الإنسان العقلي، فتعليم المسيحية عن العالم هو قبل كل شيء كشف وإعلان وليس علماً .لذلك عندما يتحدث باسيليوس عن الخليقة لا يقدم لسامعيه معلومات علمية ولا يهمه أن يفسر الظواهر الطبيعية إنما يعطي الأساس اللاهوتي لعلم الكون.
الميزة الإنسانية والإلهية لعلم الكون:
لا يدرس باسيليوس العالم باستقلال عن الإنسان والله وهكذا ينجح في إقامة علاقة بين علم الكون وعلم الإنسان والعرفان الإلهي. فعلم الكون بكونه كشفاً فهو يهدف إلى كمال الإنسان، فالعالم المخلوق ليس له قيمة بحدِّ ذاته إنما يأخذ قيمته من الإنسان الموجود فيه. العالم مكان لكمال الإنسان. النفوس الناطقة تتعلم في العالم ضمن الظواهر والمحسوسات، يقدر العقل أن يتوصل إلى وجود اللامحسوسات فالمكان الترابي يصبح “المدرسة المشتركة لكل الناس” وفي هذه المدرسة يساعد الكشف الإنسان على إكتشاف الأبدية والثبات في عالم التغيّر والفناء. فالعالم يأخذ بُعداً إنقضائياً لأن القوى الإلهية تنكشف فيه وتفعل. العالم هو أيضا مدرسة لمعرفة الله لكن العرفان الذي يتلقاه من الإعلان الطبيعي هو محدود لأن أعمال الله لم تخرج من الجوهر الإلهي.
فالطبيعة لا تكشف عن هذا الجوهر كما أن البيت لا يكشف عن جوهر البناء والإنسان عندما ينظر إلى الخليقة بنور الكشف الإلهي يمجد الصانع الحكيم لأن جمال المخلوقات يذكّره بالجمال الفائق.إن العالم بعد السقوط يئنّ ويتمخّض مع الإنسان الذي افتقر من النعمة، لكن العالم هو المحل الأمثل لكي يدربه ويربيه. كل ما في الطبيعة يتطلع بشوق إلى الرجوع إلى واهب الحياة. فمعنى العالم لا يوجد في بدئه لكن في غايته. الغاية تعطي قيمة للحاضر ومعنى للماضي. فالتاريخ يسير في الزمن لأن جسد المسيح لم يكتمل بعد وملء الجسد يفترض اكتمال التاريخ كله. لذلك فنهاية العالم والزمان شيء طبيعي ولكنه مجهول. كل ما هو مركّب في طبيعته لا يمكن أن يكون أزلياً لأنه سينحلّ. فهذا العالم مائت لأن تكوين المنظورات مركّب وكل ما هو مركّب ينحلّ لكن حيث لا يوجد فناء فهناك الثبات أي ملكوت الله.
اكتمال العالم:
من أصعب المسائل في اللاهوت المسيحي هو عودة كل شيء إلى الله. نعرف أن أوريجنس لم يخرج عن مفهوم الدوران فاعتبر أن المادة هي:
-نتيجة التبدل والتغير وعدم ثبات الأرواح التي خُلقت.
-المادة هي عقاب لأنها ابتعدت عن الله.
-الامتحان التدريبي الذي يساعد في الإصلاح الروحي هي المادة.
أما عند باسيليوس فالأساس مختلف لأن الكمال لا يعود إلى حياة روحية ،غير مادية، قبل خلق العالم أو إلى حالة ما قبل السقوط فقط، فالخليقة تسير كلها في المسيح إلى الله.والكمال الإنقضائي المنتظَر هو أسمى من الكمال قبل السقوط وملكوت الله لا يُقارن بالفردوس.
اتّبع باسيليوس خط الرواقيين فيما يخص النار(بدون النار لن يُخلق عالم جديد) وعودة الكائنات إلى الله هو وضع ثابت لاوجود فيه لسقوط ونهوض.
مفاهيمه الإجتماعية:
يقول باسيليوس أن الإنسان كائن غرس الله فيه الصفة الاجتماعية عند الخلق عندما قال: “ليس حسن أن يكون الإنسان وحده على الأرض”. وأعطاه الكلمة لكي يكشف عن إرادة قلبه وينقل للآخرين خفايا ذاته وأعطاه المواهب الروحية لكي يتكامل البشر. وأبناء المجتمع يستطيعون أن يكونوا نفساً واحدة إذا ما اقتدوا بحياة الملائكة والقديسين .لكن الحياة الحاضرة هي مواجهة مع المشاكل الروحية والاجتماعية.
المُلكية في المسيحية ليست جماعية لكن استخدامها هو جماعي.الفرد هو وكيل الخيرات الأرضية ومدبرها وليس مالكاً لها. والمدبر الأمين يحمل المسؤولية مقتدياُ بحكمةِ المدبّر الأكبر.
يقول: من لا يُلبس العريان ولا يُطعم الجائع ليس سوى مختلس يعري الثوب عن مرتديه.
المحبة اللاأنانية التي تجاهد من أجل الآخر، وحزن على ضرره، وتفرح لنجاحه، هي مبدأ جديد أدخله يسوع إلى العالم. من يحب يخدم أحباء الله. في المحبة قضاء على التصرف المشين ضد القريب.
وهذه المحبة اللاأنانية تتبرعم أيضاً في العائلة المسيحية وتأخذ ملء أبعادها في محبة الرجل وطاعة المرأة اللتين تؤلفان واقعاً واحداً الرجل بمحبته يطيع المرأة والمرأة بمحبتها تطيع الرجل[18].
لكن باسيليوس لم ينسى الواقع البشري الضعيف في المؤسسة الزوجية لهذا تراه يغضّ الطرف عن بعض الشواذ الذي يسود بين الزوجين شرط أن يخضع أصحابها لممارسات التوبة التي تفرضها الكنيسة لترفع أبناءها من مستوى الدنيويات إلى العلويات. فعذر مثلاً رجلاً هجرته زوجته فتزوّج أخرى، ولم يعتبر هذه الأخيرة زانية، إنما فرض عليهما ممارسات توبة شديدة، تخفيفاً لوضعهما الشاذ قانوناً والمستعصى حلّه إجتماعياً ورعوياً[19].
اليوم الثامن:
الممارسة في الخدم الإلهية والصلوات يوم الأحد تعكس مضمون هذا النهار المميز، يقول باسيليوس:” إننا نقيم الصلوات وقوفاً في اليوم الأول من الأسبوع، ليس فقط لأننا نحن قائمون مع المسيح الملزمين بابتغاء ما هو فوق، بل إننا نذكر أنفسنا، ونحن واقفون وقت الصلاة في اليوم المكرّس للقيامة، بالنعمة التي وُهبت لنا وأيضا لأن ذلك اليوم يبدوا على نحو ما صورة للجيل الآتي. بما أنه بدء اليوم، فقد دعاه موسى لا “الأول” بل “واحداً”، إذ قال : وكان مساء وكان صباح يوم واحد، كما لو كان اليوم عينه يعود غالباً. وعلاوة على ذلك، إن هذا اليوم الواحد والثامن ليمثّل في ذاته ذلك اليوم الواحد والثامن الحقّ الذي يأتي المرتل بذكره في بعض عناوين مزاميره، وهو عبارة عن الحالة التي ستتبع هذا الزمان، أي ذاك اليوم الذي لا نهاية له، ولن يعرف مساءً ولا صباحاً، أي ذاك الجيل الذي لا يزول ولا يشيخ.
فمن الملازم أن تعلّم الكنيسة أبناءها أن يقيموا الصلوات وهم وقوف في ذلك اليوم، وإذ ينطبع في ذهننا تذكر لا ينقطع للحياة التي لا نهاية له، فلا بدّ أن نعدّ الزاد لذلك الرحيل…”[20].
تعليمه عن الأسرار:
يعلّم باسيليوس حول الأسرار فيقول في سرّ المعمودية مثلاً :”يقول الرب: إذهبوا وتلمذوا كل الأمم وعمّدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس.فالمعمودية هي ختم الإيمان، والإيمان هو اعتناق الألوهة. فيجب إذن أن يؤمن المرء أول، ثم يوسم بالمعمودية[21] …واليك في منتهى الوضوح موضوع بحثنا: لماذا يُضم الماء إلى الروح القدس؟ لأن للمعمودية غاية مزدوجة : محو جسد الخطيئة فلا يعود يثمر للموت، والحياة بالروح القدس ليثمر فينا ثمار القداسة. إن الماء، بقبوله الجسد، يمثّل صورة الموت، كما لو كان الجسد في القبر. والروح القدس ينفخ في النفس قوة محيية فيجدّدها وينقلها من حالة الموت في الخطيئة إلى الحالة الأصلية، أي صداقة الله الحميمة. فهي الولادة من فوق، أي من الماء والروح: نموت في الماء ولكن الروح ينشئ فينا الحياة. بثلاث غطسات وثلاث تسميات يتم سرّ المعمودية العظيم، لكي تُمثَّل صورة الموت ويستنير المعتمدون بحصولهم على معرفة الله[22]“.
وفي سر الشكر يقول: “إن التناول كل يوم والشركة في جسد المسيح ودمه القدوس لحسن ومفيد… على إننا نتناول أربع مرات في الأسبوع: في يوم الرب، والأربعاء، والجمعة والسبت، والأيام الأخرى، إذا كان تذكاراً للقديسين[23]“.
الحواشي
[1] أحد الآباء الكبادوكيين الثلاثة المشهورين :1_ باسيليوس الكبير 2_ غريغوريوس النيصصي 3_ غريغوريوس اللاهوتي، ثلاثتهم عاشوا في عصر واحد وكانوا من إقليم واحد هو كبادوكية في آسيا الصغرى كانت عاصمته قيصرية، وكان لهم أكبر الأثر في تاريخ المسيحية وبتثبيت الإيمان الأرثوذكسي انتشرت المسيحية في كبادوكية بتأثير من غريغوريوس أسقف قيصرية الجديدة. وفي هذه المنطقة إحتلّ عدد من الرجال شأناً عظيماً في الأدب والحياة الكنسية والإجتماعية.أما الآباء الثلاثة فتربطهم علاقات حميمة.
باسيليوس هو الأخ الأكبر لغريغوريوس النيصصي، وهو صديق حميم جدّاً لغريغوريوس اللاهوتي.مساهمة الكبادوكيين مهمة جدّاً لأن بها انتصرت الكنيسة على البدع وطوّرت صياغتها اللاهوتية ولا ننسى مساهمتهم في إنشاء حياة رهبانية مهمة في كبادوكية. فكانوا نماذج في كل شيء وعلى الأخصّ في القيادة الكنسية وفي الخط اللاهوتي الصحيح .راجع : حياة الصلاة الأرثوذكسية ص658
[2] السنكسار الأرثوذكسي :عشرة أولاد :5ذكور 5 إناث: راجع سير القديسين ،الجزء الثاني ،دير القديس سلوان الآثوسي،1997
[3] نكراتيوس : المرجع السابق ص 318
[4] Encyclopedia Grolier 1997 (CD)
[5] Encyclopedia Grolier 1997 (CD)و Encyclopedie Encarta 98 (CD)
[6] راجع بستان الرهبان : الطبعة الثانية، مكتبة السائح، ص 130
[7] المرجع نفسه: ص 340
[8] Encyclopedie Encarta ” basile, saint, (CD)
[9] راجع: السنكسار الأرثوذكسي الجزء الثاني ص: 334. و Ency. ENCARTA : في 2 كانون الثاني
[10] راجع: السنكسار الأرثوذكسي الجزء الثاني ص: 334
[11] القديس باسيليوس الكبير : سلسلة الفكر المسيحي ص:316
[12] راجع: أقدم النصوص المسيحية، سلسلة النصوص اللاهوتية، القديس باسيليوس الكبير، مقال عن الروح القدس، الكسليك 1979
[13]راجع :القديس باسيليوس الكبير، سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم، الجزء 12،البولسية ص257
[14] بستان الرهبان : ص 349
[15] النور : باسيليوس الكبير لاهوتياً : سنة 1980 عدد 4
[16] المرجع السابق ص 40
[17]– معظم الآباء اعتقدوا كذلك . أنظر أيضاً :يوحنا الدمشقي في كتابه المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي:المقالة التاسعة عشر “في الخليقة المنظورة”.
[18]– راجع : مجلة النور سنة 1980 عدد 4.
[19]– اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر جزء 3 ص 269.
[20]– في الروح القدس: 27 و67. راجع: أقدم النصوص الليتورجية الجزء 3 “السبت والأحد”، ص 133.
[21]– ضد إفنوميوس 5:3 راجع: اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر، الجزء3 ص 82 .
[22]– مقالة في الروح القدس:المرجع السابق ص 84 .
[23]– أقدم النصوص المسيحية، الجزء 3، السبت والأحد: ص 61.