Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

الفصل الحادي عشر

29

إرضاء الخصم

كُنْ مراضيّا لخصمك سريعًا ما دمت معهُ في الطريق. لئلاَّ يسلّمك الخَصم إلى القاضي ويسلّمك القاضي إلى الشُّرَطي فتُلقَى في السجن. الحقَّ أقول لك لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير.

لا شك أن القاضي هو المسيح، “لأن الآب لا يدين أحدًا بل قد أعطى كلَّ الدينونة للابن”(1).

ولا شك أنه يقصد بالشرطي الملائكة، فقد قيل “ملائكة قد جاءَت تخدمهُ”(2). إننا نؤمن بمجيئه مع ملائكته ليدين الأحياء والأموات.

وكذلك ما يقصده بالسجن، إذ من الواضح أنه عقاب الظلمة، التي دعاها السيد المسيح في عبارة أخرى “الظلمة الخارجية”(3). لذلك فإنني أعتقد أن التمتع بالجزاء الإلهي يكون داخليًا، في العقل نفسه، أو قد يكون أمرًا داخليًا أكثر من هذا، وذلك كالفرح الذي قيل للعبد الذي يستحقه “أدخل إلى فرح سيّدك”(4)، هذا الفرح الذي يشبه ما يحدث في ظل أحكام العالم عندما يخرج الشخص الملقى في السجن إلى الحرية.

30

ولكن ما معنى إيفاء الفلس الأخير(5)؟

The ultermost farthing?

1- لقد ذكر الفلس الأخير لإظهار عدم ترك شيء بدون جزاء. وذلك كالقول “حتى الثمالة”(6) للتعبير عن شيء إنسكب جميعه حتى آخر نقطة.

2- أو ذكره، للتعبير عن الخطايا الأرضية. فكلمة farthing تعني الجزء الرابع، والأرض هي الجزء الرابع في العالم. لأن العالم يتكون من أربعة أجزاء تبدأ بالسماء، فالهواء، فالماء وتنتهي بالأرض. لذلك يقصد بالقول “حتى توفي الفلس الأخير” أي الجزء الرابع، إيفاًءً للخطايا الأرضية. لأنه يقال للخاطي. “لأنك تراب earth وإلى ترابٍ تعود”(7).

إنني أعجب إن كان التعبير “حتى توفي” يعني خروجًا من هناك بعد وفاء الدين، لأنه لا توجد توبة أو فرصة للعودة إلى حياة صالحة فيما بعد.(8)

ربما التعبير “حتى توفي” يشبه ما جاء في العبارات التالية:

+ “اجلس عن يميني حتى أضع أعداءَك موطِئًا لقدميك”(9) لأن جلوسه عن اليمين لا يبطل وضع أعدائه تحت قدميه.

+ أو ما قاله الرسول “لأنهُ يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداءِ تحت قدميهِ”(10)، فوضعهم تحت قدميه لا يبطل ملكه.

فكما فهمنا من هذه العبارة أنه يملك إلى الأبد طالما هم تحت قدميه إلى الأبد، هكذا نفهم من العبارة “لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير”. أنه لا يخرج قط لأنه يدفع الفلس الأخير دومًا، طالما يعاقب عقابًا أبديًا عن خطايا أرضية.

وقولنا هذا لا يمنع مناقشة موضوع العقاب أو ما سماه الكتاب المقدس عقابًا أبديًا، لأنه يمكنني توضيح ذلك وإن كان من الأفضل تجنب بحثه.

31

من هو الخصم؟

لننظر الآن إلى ذلك الخصم الذي أمرنا بمصالحته وإرضائه سريعًا ما دمنا معه في الطريق، فهو إما أن يكون:-

1- الشيطان.2- إنسان.3- الجسد.

4- الله.5- وصايا الله.

هل الخصم هو الشيطان؟

لا أعلم كيف نؤمر بمصالحة الشيطان، أي يكون لنا قلب واحد وفكر واحد معه. لأن البعض يترجم الكلمة اليونانية الخاصة بالمصالحة على أنها (قلب واحد)، وآخرون يترجمونها (فكر واحد).

لا يمكن أن نؤمر بصنع الإحسان مع الشيطان، لأن الإحسان إليه يؤدي إلى صداقة. ولم يقل أحد أن نكون أصدقاء للشيطان، كما لا يليق أن نصنع عهد صلح مع من نعلن ضده الحرب، بل ننال إكليلاً متى انتصرنا عليه.

هل هو إنسان؟

أما كونه إنسانًا، فرغم ما أمرنا به الكتاب المقدس مسالمة الجميع ما أمكن، الأمر الذي يفهم منه عمل الإحسان للجميع، إلا أننا لا ندري كيف نقبل فكرة تسليمنا للقاضي بواسطة إنسان. فما دام القاضي هو المسيح الذي يظهر أمام كرسيه جميع البشرية، كقول الرسول(11)، فكيف يستطيع أن يسلمني من يظهر معي على عدم المساواة؟

إن كان شخص ما يسلم آخر إلى القاضي بسبب إساءته له، فإن أخطأ الإنسان إلى جماعة، فهل تسلم الجماعة إنسانًا؟!

إذن ليق بالشريعة أن تسلم من أخطأ إليها – بإساءته إلى أخيه – إلى القاضي. ويؤيد هذا أنه لو أخطأ شخص ما في حق أخيه بقتله، فلا يكون هناك مجال لمصالحته، لأنه ليس معه بعد ذلك في الطريق، أي في الحياة. فإن تاب القاتل وهرب إلى الملجأ (مراحم الله) متقدمًا بقلب منكسر إلى الله، فسيقبله ذاك الذي يغفر خطايا العائدين إليه، ويفرح بالتائب الواحد أكثر من تسعة وتسعين بارًا(12).

هل الخصم هو الجسد؟

إن إحتمال كون الخصم، الذي نؤمر بالإحسان إليه ومراضاته والخضوع له هو الجسد، يعتبر إحتمالاً ضعيفًا. لأن من يحب جسده ويرضيه ويخضع له، بالحري يكون خاطئًا.

32

هل الخصم هو الله؟

ربما يفهم ذلك، لأن الله أمرنا بالخضوع له ومراضاته، أي مصالحته وإلا طردنا من أمامه لصنعنا الخطية، وفي هذه الحالة يكون الله خصمًا لنا. إذ يقول يعقوب الرسول “يقاوم الله المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمةً”(13)، “والكبرياء أول الخطايا”، “أول كبرياء الإنسان ارتداده عن الرب”(14) ويقول الرسول: “لأنهُ إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنهِ فبالأولى كثيرًا ونحن مُصالَحون نخلص بحياتهِ”(15)

لذلك فمن لا يتصالح مع الله في الطريق، أي في الحياة الحاضرة، بموت ابنه، سيسلمه الآب إلى القاضي. “لأن الآب لا يدين أحدًا بل قد أعطى كلَّ الدينونة للابن”(16).

غير أن هذا التفسير قد يشك في أمره، لأنه كيف يمكن أن يقال أن الله مع البشر في هذه الحياة، وفي نفس الوقت يكون الله خصمًا للأشرار؟ حقًا إنه معنا في الطريق، وذلك لوجوده في كل مكان، فقد قيل “إن صعدتُ إلى السماوات فأنت هناك. وإن فرشتُ في الهاوية فها أنت. إن أخذت جناحَي الصبح وسكنت في أقاصي البحر فهناك أيضًا تهديني يدك وتمسكني يمينك” (مز8:139-10)، فالقول بأن الله مع الأشرار، قول غير مقبول رغم أن وجود الله لا يخلو منه مكان. وذلك كقولنا بأن العميان غير محاطين بالنور مع أن النور يحيط بهم.

بذلك لم يبق أمامنا إلا تفسير واحد وهو أن نفهم أن الخصم هو وصايا الله.

هل الخصم هو وصايا الله؟

أي شيء سيكون خصمًا لمحبي الخطية مثل وصايا الله أي شريعته المدونة في الكتاب المقدس، ذلك الكتاب الذي وهب لنا ليكون معنا في الطريق، أي في الحياة الحاضرة، لكي ننفذ تعاليمه سريعًا ولا نخالفها حتى لا يسلمنا إلى القاضي؟ فعلينا أن نخضع له سريعًا لأنه من يعلم متى نرحل من هذه الحياة؟!

من يستطيع أن يخضع للكتاب المقدس غير الذي يقرأه ويستمع له بتقوى، خاضعًا له كما لو كان لسلطان عظيم، غير متضايق مما يجده معارضًا لخطاياه، بل بالحري يحبه لأنه يبكته عليها، ويفرح به لأنه يشفي أمراضه، ويصلي ليفهم ما بدا له غامضًا أو غير مقبول، عالمًا أنه ينبغي تقديم كل وقار لسلطان كهذا.

من يستطيع أن يفعل هذا إلا الذي يتقدم إلى الكتاب المقدس في وداعة التقوى ليعرف إرادة الله ويثبتها من غير جدال سقيم؟! لذلك “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض”.

الفصل الثاني عشر

33

الزنا والشهوة

قد سمعتم أنهُ قيل للقُدَماءِ لا تزنِ. وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى إمرأَةٍ ليشتهيها فقد زنى بها في قلبهِ.

البر الأصغر هو عدم الزنا بالفعل، أما برّ ملكوت الله الأعظم فهو عدم ارتكاب الزنا، ثم جاءت الوصية الأخيرة مثبتة للأولى، لأنه ما جاء الرب ناقضًا بل مكملاً للناموس.

يجب أن نلاحظ أنه لم يقل “من اشتهى امرأة” بل “من ينظر إلى امرأة ليشتهيها” أي ينظر إليها بهذه النية، فهذه النظرة ليست إثارة للذة الجسدية بل تنفيذًا لها، لأنه بالرغم من ضبطها فستتم لو سمحت الظروف بذلك.

34

مراحل الخطية

فالخطية تكمل على ثلاثة مراحل: إثارتها، التلذذ بها، ثم إرضائها (تنفيذها).

فالإثارة تحدث عن طريق الذاكرة أو الحواس كالنظر أو السمع أو الشم أو التذوق أو اللمس. فإن نتج عن هذه لذة لزم ضبطها، فلو كنا صائمين، فبرؤيتنا للطعام تثور شهوة التذوق، وهذه الشهوة تنتج لذة. فعلينا ألا نرضيها بل نضبطها إن كان لعقلنا، الذي يمنعنا من إرضائها، السيادة. أما إذا أرضيناها فستكون الخطية قد كملت في القلب، فيعلم بها الله ولو لم يعلم بها البشر.

إذن هذه هي خطوات الخطية:

تتسلل الإثارة بواسطة الحواس الجسدانية، كما تسللت الحية في إثارة حواء، لأنه حيثما تسربت الأفكار والتصورات الخاطئة إلى نفوسنا، تكون نابعة من الخارج، من الحواس الجسدية. وإن أدركت الروح أي إحساس خفي عن غير طريق هذه الحواس الخمسة، كان هذا الإحساس مؤقتًا وزائلاً. فتتسلل هذه التصورات إلى الفكر في دهاء الحية.

إن مراحل الخطية الثلاث تشبه سقوط الإنسان الوارد في سفر التكوين، فتأتي الإثارة من الخارج من الحواس كما أحدثتها الحية. أما التلذذ بالخطية فيحدث في الشهوة الجسدية مثل ما تلذذت حواء، أما إرضاء الخطية فيحدث في العقل كما في آدم. ولسبب الخطية طرد الإنسان من الفردوس، أي من نور البرّ الأعظم، إلى الموت.

من يقدم اللذة لا يجبر الإنسان على قبولها، فعلى الإنسان ألا ينزل من مرتبته السامية، التي فيها يكون للعقل السيادة. إلى مرتبة أدنى، لأن الله خلق الإنسان في مرتبة أسمى من الحيوان. فالإنسان لا يجبر على قبول اللذة، فإن قبلها عوقب بواسطة شريعة الله العادلة، لأنه أخطأ بإرادته.

على أنه، قبل أن تتحول الخطية إلى عادة لا يكون فيها لذة، أو تكون بصورة بسيطة يستهان بها، ويكون الخضوع لها خطية عظيمة مادامت هذه اللذة محرمة. لأن من يستسلم لها يصنع الشر في قلبه. وبعد الاستسلام لها وتنفيذها يخيل له أنه قد أشبع رغبته والأمر قد انتهى، ولكن متى عاد ما يثيرها مرة أخرى، أثيرت اللذة بصورة أشد من الأولى. ومع ذلك فهي أقل من اللذة التي تنتج عن العادة. إن اللذة في المرة الثانية يصعب الانتصار عليها، ومع ذلك فإذا كان مخلصًا لنفسه، مستعدًا للحرب الروحية فسيشفى منها، بل ومن العادة أيضًا. وذلك بمعونة مسيحه قائد المعركة الروحية. وبذلك يخضع الرجل للمسيح والمرأة للرجل(17) وذلك بحسب الترتيب الطبيعي.

35

أنواع الخطية

كما أن للخطية مراحل ثلاث أي الإثارة – اللذة – إرضاؤها، هكذا تنقسم الخطية إلى أنواع ثلاث: خطية في القلب، بالعمل، بالعادة. الأصناف الثلاثة تشبه ثلاثة أموات:-

1- الميت الأول كما لو كان في المنزل ولم يحمل بعد، وذلك عند إرضاء الشهوة في القلب.

2- الميت الثاني كما لو كان قد حمل خارج المنزل، وذلك عندما يبلغ الرضا حد التنفيذ (دون أن تكون الخطية قد صارت عادة بعد).

3- الميت الثالث كما لو كان في القبر فاسدًا (أنتن) وذلك عندما تكون الخطية قد بلغت حد العادة.

ونرى في الإنجيل أن الرب أقام هذه الأنواع الثلاثة من الأموات، مستخدمًا عبارات مختلفة عند إقامتهم. ففي الحالة الأولى قال “طليثا قومي”(18)، وفي الثانية “أيُّها الشابُّ لك أقول قُمْ”(19) وأما في الثالثة فقد إنزعج بالروح وبكى وبعد ذلك “صرخ بصوتٍ عظيم هلمَّ خارجًا”(20).

36

يفهم من الزنا جميع الشهوات الجسدية والحيوانية. فالكتاب المقدس يتحدث عن عبادة الأوثان كزنا، ويدعو الرسول بولس الطمع عبادة أوثان، وبالتالي يكون زنا.

إذن كل شهوة شريرة تدعى بحق زنا لأن الروح تفسد بتركها الشريعة السامية التي تحكمها وتبيع عرضها بشهوة دنيئة لا تتناسب وسمو الروح!!

لذلك ليت كل من يشعر باللذة الجسدية، عاصيًا الرغبة الخيرة التي فيه، مأسورًا بالخطية، يتذكر قدر استطاعته أي سلام يفقده بواسطة الخطية، فيصرخ “وَيحي أنا الإنسان الشقي. مَنْ ينقذني من جسد هذا الموت. أشكر الله بيسوع المسيح”(21) فإذ يصرخ بشقاوته، يطلب معونة المعزي. وإذ يعرف شقاوته يكون اقترابه للتطويب غير بعيد، لذلك “طوبى للحزانى لأنهم يتعزون”.

+ + +

الفصل الثالث عشر

37

العثرة

فإن كانت عينك اليُمنى تُعثِرك فاقلعها وأَلقِها عنك. لأنهُ خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقَى جسدك كلهُ في جهنَّم.

إننا نحتاج إلى شجاعة عظيمة لقطع أحد أعضائنا، لذلك فهو يقصد بالعين شيئًا محبوبًا للغاية فلقد اعتاد الراغب في التعبير عن محبته لآخر أن يقول “إنني أحبه كعيني أو حتى أكثر من عيني”. لذلك ربما قصد الرب من العين شدة المحبة.

بالرغم من أن لكلا العينين عملاً متساويًا، إلا أن البشر يخشون فقدان العين اليمنى. وعلى هذا يكون معنى العبارة السابقة أنه إذا أعثرك شيء ما تحبه – كعينك اليمنى – في الطريق اقلعه والقه عنك، لأنه خير لك أن يهلك شيء من الأشياء التي تحبها وتتمسك بها كعضو من أعضائك، ولا يلقى جسدك كله في جهنم.

38

أردف الرب بعد ذلك بعبارة مماثلة تخص اليد اليمنى:

وإن كانت يدك اليُمنى تُعثِرك فاقطعها وأَلقِها عنك. لأنهُ خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقَى جسدك كلهُ في جهنَّم.

بقوله هذا يجبرنا أن نبحث ما قاله عن العين اليمنى بأكثر تدقيق. وليس هناك تفسير للعين اليمنى أكثر ملاءمة من أن يقصد بها الصديق المحبوب حبًا شديدًا، الذي تصبح علاقته كعلاقة العضو بالجسد. هذا الصديق يكون مشيرًا حكيمًا لصاحبه كما لو كان عينًا يرى بها الطريق، ويكون مشيرًا مخلصًا في الأمور الإلهية، لأنه عين يمنى. أما العين اليسرى فتشير إلى صديق يشير في الأمور الخاصة باحتياجات الجسد، الذي يلزم الحديث عنه كعثرة ما دامت العين اليمنى أهم من اليسرى (أي أنه إذا أعثرتنا العين اليمنى نقلعها، فكم تكون اليسرى إذا أعثرتنا). ويكون المشير (العين) عثرة إذا قاد صاحبه إلى هرطقة خطيرة في زي التدين والتعليم.

أما اليد اليمنى فإنها تشير إلى الشخص الذي يساعد ويعمل في الأمور الروحية، فالتبصر في الأمور الروحية له مكانته في العين كذلك العمل في الأمور الروحية له مكانته في اليد اليمنى، وبالتالي فاليد اليسرى تعني الأعمال الضرورية لإحتياجات الجسد.

+ + +

الفصل الرابع عشر

39

الطلاق (**)

وقيل مَنْ طلَّق امرأته فليُعطِها كتاب طلاق. أما أنا فأقول لكم أن مَنْ طلَّق امرأته إلاَّ لعِلَّة الزنى يجعلها تزني. ومَنْ يتزوَّج مطلَّقةً فأنهُ يزني.

فالشريعة الموسوية لم تأمر بالطلاق، بل أمرت من يطلق امرأته أن يعطيها كتاب طلاق، لأن في إعطائها كتاب طلاق ما يهدئ من ثورة غضب الإنسان. فالرب الذي أمر قساة القلوب بإعطاء كتاب طلاق أشار إلى عدم رغبته في الطلاق ما أمكن.

لذلك عندما سئل الرب نفسه عن هذا الأمر أجاب قائلاً “إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أَذِنَ لكم”(22)، لأنه مهما بلغت قسوة قلب الراغب في طلاق زوجته، إذ يعرف أنها بواسطة كتاب الطلاق تستطيع أن تتزوج من آخر، لذلك يهدأ غضبه ولا يطلقها.

ولكي ما يؤكد رب المجد هذا المبدأ – وهو عدم طلاق الزوجة باستهتار – جعل الاستثناء الوحيد هو علة الزنا. فقد أمر بضرورة إحتمال جميع المتاعب الأخرى (غير الزنا) بثبات من أجل المحبة الزوجية ولأجل العفة. وقد أكد رب المجد نفس المبدأ بدعوته من يتزوج بمطلقة زانيًا.

شرح الرسول هذا الأمر قائلاً بأن الزوجة تكون مرتبطة ما دام رجلها حيًا، ولكن إن مات رجلها فيسمح لها بالزواج. وفي هذه المسألة لم يذكر الرسول رأيه الخاص – كما في بعض نصائحه – بل يوصي بأمر الرب، وذلك بقوله “وأما المتزوّجون فأوصيهم لا أنا بل الربُّ أن لا تفارق المرأَة رجلها… ولا يترك الرجل إمرأَتهُ” (1 كو10:7، 11). أعتقد أنه بنفس القاعدة إذا ترك الرجل زوجته. ربما أن الترك يكون بسبب الزنا – ذلك الاستثناء الوحيد الذي أراده الرب – لذلك فلا يسمح للمرأة أن تتزوج ما دام رجلها حيًا ولا للرجل أن يتزوج ما دامت المرأة التي طلقها حية.

حقًا لتعتبر زيجات مباركة بالأكثر تلك التي يستطيع فيها كلا الطرفين، سواء بعد إنجاب الأطفال أو قبل الإنجاب لعدم الإهتمام بأن يكون لهما نسل أرضي، أن يتفقا اتفاقًا مشتركًا على الامتناع تلقائيًا كل عن الآخر. على أنه ينبغي أن يكون الاتفاق برضى الاثنين. حتى لا ينتج عن ذلك ترك الواحد للآخر (دون إرادة الثاني) فيخالف وصية الرب التي لا تسمح بالترك. فإن اتفق كلاهما معًا فسيحيا حياة روحية لا جسدية وبالتالي لا يكون قد طلقها.

تعليق

لقد ذاق أغسطينوس مرارة الزنا والشر حتى بلغ سن الثالثة والثلاثين من عمره وتمتع بحلاوة العفة والطهارة، وقد تحولت أحاسيسه وعواطفه نحو محبة إلهه… إنه يرى المسيح الأساس الحقيقي الذي تبنى عليه حياتنا وأفكارنا وتصرفاتنا كبيرها وصغيرها. لذلك لا يرى في الزواج مجرد إتحاد جسدي يهدف لإشباع غريزة جنسية بل اتحادًا جسديًا وروحيًا مع اتحادهما بالمسيح، فعلاقة الزوج بزوجته ليست مجرد علاقة جنسية بل علاقة محبة كعلاقة المسيح بعروسه “الكنيسة” كقول الرسول “أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها” (أف25:5،26).

فالذي يربط الزوجين ويوحدهما هو الروح القدس لا الشهوة، لذلك إن كان الزواج صحيحًا فلا يمكن أن يحله أمر من الأمور سوى الزنا، ذلك الاستثناء الذي سمح به المسيح. وفي هذا يقول القديس أغناطيوس الشهيد “يجب على المتزوجين والمتزوجات أن يجروا اتحادهم برأي الأسقف لكي يكون الزواج مطابقًا لإرادة الله لا بحسب الشهوة” رسالة بوليكربوس فصل 6. ويذكر أغسطينوس في عظته الأولى من “عظات على فصول منتخبة من العهد الجديد” بأن الذي يأخذ زوجة ويلتقي بها لمجرد الشهوة فليعلم أنه مريض ويحتاج إلى شفاء.

غير أنه بلغ بأغسطينوس أن يرى أن الزواج يكون أكبر بركة لو لم يوجد بين الزوجين اتصالاً جنسيًا، ليس احتقارًا لهذا الأمر بل لأن الرباط الذي يربطهما هو الحب الخالص… وذلك كمن يرجو أن يحيا في هذا العالم بدون طعام لا لأن في الطعام نجاسة بل لأنه ليس هدفًا بل مجرد وسيلة للحياة (أنظر عظته الأولى التي أشرت إليها في هذا التعليق).

يجب أن نلاحظ بغاية الدقة أن أغسطينوس لم يحرم الزواج أو الاتصال الجسدي بين الزوجين وإلا كان مخطئًا.

يجب أيضًا ملاحظة أن عدم اتصالهما الجسدي لا يكون دائمًا لأنه ما داما قد أرادا البتولية فلم تزوجا؟! ألم تكن البتولية أو الرهبنة أفضل لهما؟! بل لو امتنع أحد الزوجين عن الآخر بدون تمييز فقد يعرض الآخر أو نفسه للعثرات، لهذا نهى الرسول عن مثل هذا الامتناع قائلاً: “لا يسلب أحدكم الآخر إلا أن يكون على موافقة إلى حين لكي تتفرغوا للصوم والصلاة ثم تجتمعوا معًا لكي لا يجربكم الشيطان بسبب عدم نزاهتكم (1كو5:7). أما بالنسبة لبعض القديسين الذين عاشوا في حياة البتولية رغم زواجهم أمثال البابا ديمتريوس الكرام (البابا 12) بطريرك الإسكندرية والقديس مقاريوس الكبير وغيرهما فذلك لأنهم قد أجبروا هم وزوجاتهم على الزواج رغم إرادتهم من عائلاتهم مع أنهم قد رغبوا هم ونساؤهم في البتولية أو الرهبنة.

حقًا هناك مناسبات ينبغي فيها الامتناع المؤقت عن الاتصال الجنسي – لا بكونه دنسًا أو نجسًا – بل يشبه الامتناع عن الأطعمة (الصوم) وذلك للتفرغ للعبادة ويشترط في ذلك موافقة الزوجين معًا حتى لا يعثر أحدهما. هذه المناسبات هي:-

1- ليلة التناول من الأسرار الإلهية.

2- أيام الصوم.

3- أيام الآحاد لأنها أيام مقدسة للرب يتفرغون فيها للعبادة.

4- يوم الزواج وذلك لتناولهما من الأسرار الإلهية… وحتى يشعرا بأن الهدف من زواجهما ليس مجرد إشباع الغريزة الجنسية بل المحبة أولاً في المسيح يسوع.

+ + +

الفصل الخامس عشر

40

لقد حيرت العبارة التالية صغار النفوس المشتاقين للحياة بحسب وصايا المسيح. إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباهُ وأمَّهُ وامرأته وأولادهُ وإخوتهُ وأخواتهِ حتى نفسهُ أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا”(23).

قد يبدو لناقصي الفهم أن هذه العبارة تناقض منع طلاق الزوجة لغير علة الزنا. ففي الموعظة على الجبل يطالب الله بعدم الطلاق إلا لعلة الزنا، بينما في هذه العبارة يريد من تابعيه أن يبغضوا زوجاتهم.

إلا أننا ندرك أن حديثه في هذه العبارة لا يختص بالعلاقات الجنسية، وإلا فما الداعي لذكر الأب والأم والإخوة في نفس الأمر بل بالحقيقة “ملكوت السماوات يُغصَب والغاصبون يختطفونهُ”(24) يا لعظم هذا الاغتصاب الذي فيه يحب الإنسان عدوه ويبغض أباه وأمه وزوجته وأولاده وأخواته!!! إن الذي دعانا إلى ملكوت السماوات أمرنا بهذه الوصايا جميعًا، ولكن كيف لا تناقض هذه الوصايا بعضها البعض؟! يستطيع رب المجد أن يوضحها لنا بسهولة، ومع ذلك لا نستطيع تنفيذها وحدنا، مع أنه بالسيد المسيح يسهل تنفيذها.

لا يوجد في ملكوت السماوات قرابات زمنية من هذا النوع لأنه “ليس يهوديّ ولا يونانيّ. ليس عبد ولا حرُّ. ليس ذكر وأنثى”(25)، “بل المسيح الكلُّ في الكلّ”(26)، ويقول الرب نفسه “لأنهم في القيامة لا يزوّجون ولا يتزوَّجون بل يكونون كملائكة الله في السماءِ”(27). لذلك فعلى راغبي ملكوت السماء ألا يبغضوا الأشخاص في ذواتهم، بل تلك العلاقات الزمنية العابرة التي جاءت نتيجة الولادة الجسدية والموت، هذان الأمران اللذان يربطان الجماعات في الزيجات الأرضية(28).

41

فلو سألنا مسيحيًا صالحًا له زوجة، وقد يكون لديه أبناء منها عما إذا كان يرغب في أن تكون له علاقة جسدية بزوجته في ملكوت السماوات، فإنه رغم محبته لزوجته في الحياة الحاضرة وارتباطه بها، سيجيب بلا تردد رافضًا بشدة أن تكون علاقته بها في السماء علاقة جسدية، لأنه يهتم بتلك الحياة التي فيها يلبس الفاسد عدم فساد وهذا المائت عدم موت (1كو 53:15، 54).

هل لي أن أسأله مرة أخرى عما إذا كان يرغب في أن تكون زوجته معه بعد القيامة هناك، حيث يكون لها ذلك التغير الملائكي الذي وعد به الرب القديسين، فإنه سيجيب بالإيجاب بشدة، قدر ما رفض بشدة في الحالة الأولى.

لهذا ما يحبه المسيحي الصالح في المرأة هو كونها مخلوق إلهي، هذه التي يرغب لها التجديد والتغير دون أن يهتم بالعلاقة الشهوانية(29). وبنفس الطريقة يحب الإنسان عدوه. لا لأجل عداوته له بل لكونه إنسانًا يرغب له نفس النجاح الذي يريده لنفسه، أي بلوغ ملكوت السماوات.

وهذا ما ينطبق أيضًا على الأبوة والأمومة وبقية العلاقات الجسدية، فنبغض فيهم العلاقات الجسدية، بقدر ما نحب كل ما يؤدي بهم إلى الوصول لملكوت السماوات فهناك لا نقول لأحد “أبي” بل جميعنا نقول لله “أبانا”، ولا نقول لأحد “أمي” بل نقول جميعنا لأورشليم السماوية “أمًا”، ولا نقول لأحد “أخي” بل يقول كل للآخر “أخانا”.

حقًا سيكون هناك زواج من جانبنا إذ نتقدم جميعًا كزوجة واحدة لذاك الذي خلصنا من نجاسة هذا العالم بسفك دمه، لذلك يلزم لتلميذ المسيح أن يكره تلك الأمور الزائلة المتعلقة بأقربائهن وبقدر كراهيته لهذه الأمور قدر ما يحب أشخاصهم، راجيًا لهم حياة أبدية.

42

لذلك قد يحيا المسيحي في وفاق مع زوجته، إما لأجل الشهوة الجسدية التي سمح بها الرسول دون أن يأمر بها، أو لإنجاب الأطفال الأمر الذي يستحق المدح في الحياة الحاضرة، أو لصداقتها كأخت بدون أي اتصال جسدي، فتكون له زوجته وكأنها ليست له. هذا الأمر ممتاز وجليل في المسيحية إذ فيه لا يهتم بالعلاقة الزمنية بل يحب البركات الأبدية.

فلكي نحب البركات الأبدية – وجب علينا ألا نهتم بالأشياء التي اشتياقنا لها أقل، تلك التي بعد قليل ستنتهي وتضمحل. مثال ذلك إن كنا لا نبغض حياتنا في العالم الحاضر لأنها زمنية فلا نشتاق للحياة المقبلة الأبدية.

أما كلمة “نفسه” في العبارة “إن كان أحد… ولا يبغض… حتى نفسهُ أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا”(30)، تعني “الحياة الزمنية”: التي قال عنها السيد المسيح أنه يلزمها الطعام الفاسد. أَليست الحياة أفضل من الطعام؟(31). أي يقصد “بالنفس” الحياة الزمنية التي تحتاج للطعام.

كذلك عندما يقول أنه يضع نفسه عن خرافه. يقصد أيضًا حياته الأرضية مؤكدًا ذلك بموته على الصليب لأجل خرافه.

الفصل السادس عشر

43

يسمح الله بتطليق الزوجة بسبب الزنا، لكن ماذا يقصد هنا بالزنا؟ هل يقصد المعنى العام الذي نفهمه، أي إرتكاب النجاسة؛ أم المعنى الذي يستخدمه الكتاب المقدس عند حديثه عن الأمور المحرمة كعبادة الأوثان والطمع. وبذلك يكون الزنا هو كل تعدٍ على الناموس بسبب الشهوة الشريرة. ولكي نكون مدققين نفحص رأي الرسول عندما يقول “وأما المتزوّجون فأوصيهم لا أنا بل الربُّ أن لا تفارق المرأَة رجلها. وإن فارقتهُ فتلبث غير متزوّجة أو تصالح رجلها. ولا يترك الرجل امرأته” (1 كو 10:7، 11)(32). فقد يحدث أن تفارقه بسبب الزنا، لأنه لا يجوز لها تركه إلا لهذا السبب، كالرجل الذي لا يترك زوجته إلا لنفس العلة، وإلا فما الداعي أن يكمل الرسول قائلاً: “لا يترك الرجل امرأته”. فالرسول لم يضف “لعلة الزنا” التي سمح بها رب المجد، لأنها مفهومة ضمنًا أن الترك لعلة الزنا، فيخضع الرجل للقاعدة التي تخضع لها المرأة، فإذا ترك زوجته (لعلة الزنا) يلبث غير متزوج أو يصالح زوجته. لأنه ليس بالأمر الشرير أن يصطلح مع امرأته التي زنت، مثل تلك المرأة التي لم يجرؤ أحد على رجمها، والتي قال لها الرب: “اذهبي ولا تخطِئي أيضًا”(33). لذلك نجد أن الرب أجبر الزوج على عدم تطليق زوجته لغير علة الزنا، أما في حالة الزنا فلا يأمره بتطليقها بل سمح له بذلك. وهذا يشبه القول بالسماح للمرأة أن تتزوج بعد وفاة زوجها، فإن تزوجت قبل وفاته تكون مخطئة، أما إذا لم تتزوج بعد وفاته فلا تكون مخطئة لأنها لم تؤمر بالزواج بل يسمح لها بذلك.

نلاحظ أن في شريعة الزواج يخضع الرجل لنفس القواعد التي فرضت على المرأة. فعندما يحدث الرسول المرأة “ليس للمرأَة تسلُّط على جسدها بل للرجل”(34)، يحدث الرجل أيضًا: “وكذلك الرجل أيضًا ليس له تسلط على جسده بل للمرأة”. فما دامت القواعد بينهما متشابهة، لذلك لا يجوز للمرأة أن تترك رجلها إلا لعلة الزنا كالرجل تمامًا.

44

هل عبادة الأوثان زنا؟

لنفهم ماذا يقصد من كلمة “زنا” مستشيرين في ذلك الرسول الذي قال “وأما الباقون فأقول لهم أنا لا الرب”. فقبلاً كان يتحدث مع المتزوجين بأمر الرب وأما الآن فيحدث الباقين كما من نفسه، فمن هم هؤلاء الباقون؟ هل هم غير المتزوجين؟! إن ما جاء في حديث الرسول بعد ذلك لا يؤيد كونهم غير متزوجين لأنه أكمل قائلاً “إن كان أخ له إمرأة غير مؤمنة وهي ترتضي أن تسكن معه فلا يتركها”. فلم يزل بعد يحدث المتزوجين. إذًا ماذا يقصد بالباقين سوى أنه كان قبلاً يحدث المتزوجين المؤمنين، أي كلا الزوجين مؤمنًا، وأما الآن فيحدث الباقين أي المتزوجين الذين آمن أحدهم دون الآخر؟!

ماذا يقول لهم؟ “إن كان أخ له امرأة غير مؤمنة وهي ترتضي أن تسكن معه فلا يتركها. والمرأة التي لها رجل غير مؤمن وهو يرتضي أن يسكن معها فلا يتركها. والمرأة التي لها رجل غير مؤمن وهو يرتضي أن يسكن معها فلا تتركه”. فالرسول لم يأت بوصية الرب بل يقدم نصيحة كما من نفسه، حتى إذا خالف أحد هذه النصيحة لا يكون متعديًا على وصية الرب، ومن نفذها يكون قد يكون عمل عملاً حسنًا. وهذا الأمر يشبه تقديمه النصيحة للعذارى دون أن تكون وصية، ممتدحًا البتولية. فمن يقبل نصيحته ينتفع بها، ومن لا يقبلها لا يكون قد تعدى وصية إلهية. فهناك فارق بين الوصية والنصيحة والسماح.

الوصية: فالمرأة توصى بعدم مفارقتها لرجلها. فإن فارقته تبقى غير متزوجة أو تصالح رجلها.

النصيحة: ينصح الرسول المؤمن أن لا يترك امرأته غير المؤمنة إن كانت ترتضي السكنى معه، لذلك يجوز له أن يتركها… كذلك ينصح العذراء بالبتولية، فإن تزوجت لم تكن قد سمعت لنصيحة الرسول، ولكنها لا تكون قد خالفت الوصية. وقد أعطى السماح بذلك بقوله “ولكن أقول هذا على سبيل الإذن لا على سبيل الأمر”.

فإن كان يجوز للرجل ترك المرأة إن كانت غير مؤمنة، بالرغم من أنه يستحسن عدم تركها؛ كذلك لا يجوز له ترك زوجته إن كانت مؤمنة إلا لعلة الزنا. بهذا يكون عدم إيمانها ذاته هو زنا، لأن كلا الأمرين يجيزان له تركها.

45

ماذا تقول أيها الرسول؟ هل لا يترك المؤمن زوجته غير المؤمنة التي ترتضي السكنى معه؟ يجيب بالإيجاب. فلماذا تقول “أقول لهم أنا لا الرب”، مع أن الرب نفسه أوصى بعدم ترك المرأة إلا لعلة الزنا؟!

يجيب الرسول: إن عبادة الأوثان والخرافات المهلكة التي يتبعها غير المؤمنين هي الزنا. وقد سمح الرب بترك المرأة بسبب الزنا دون أن يأمر بضرورة تركها، تاركًا للرسول فرصة ليوصي بعدم ترك الرجل لامرأته غير المؤمنة. والحكمة من وصية الرسول هو أن عدم تركها قد يترك لها فرصة للإيمان. فيقول “لأن الرجل غير المؤْمن مقدَّس في المرأَة والمرأَة غير المؤْمنة مقدَّسة في الرجل” (1 كو 14:7).

أظن أن بعض النساء صرن مؤمنات بواسطة أزواجهن المؤمنين كما صار بعض الرجال مؤمنين بواسطة زوجاتهن المؤمنات.

لم يؤيد الرسول نصيحته بذكر أسماء بل بأمثلة قائلاً “وإلا فأولادكم نجسون. وأما الآن فهم مقدسون”. لأن أولادكم الآن مسيحيون، هؤلاء الذين تقدسوا بسبب إيمان أحد الوالدين أو كليهما معًا. وقداسة هؤلاء الأولاد لم تكن تحدث لو انهار الزواج بإيمان أحد الزوجين (أي ترك الطرف الآخر لعدم إيمانه) ولكن المؤمن احتمل غير المؤمن تاركًا له مجالاً للإيمان. واحتمال الضعفاء هذا من مشورة الرب إذ يقول: “ومهما أنفقت أكثر فعند رجوعي أوفيك” (لو 35:10).

47

ولكنه عندما يقول “إلا لعلة الزنا” لم يذكر زنا أي الطرفين، هل زنا الرجل أم زنا المرأة؟ لأنه لم يسمح بترك الزوجة الزانية فحسب، بل وتلك التي تجعل زوجها يزني. مثال ذلك إن كانت المرأة تجبره على عبادة الأوثان، فسيتركها بسبب الزنا، ليس من جانبها فحسب بارتكابها الزنا، بل ومن جانبه أيضًا حتى لا يرتكب الزنا.

إنه لظلم شديد أن يسمح للرجل بترك زوجته الزانية إن كان هو أيضًا زانيًا. “لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك. لأنك أنت الذي تدين تفعل هذه الأمور عينها(35) لذلك يشترط في الراغب في ترك زوجته بسبب الزنا ألا يكون زانيًا. والأمر عينه يكون بالنسبة للمرأة.

من يتزوج بمطلقة فهو يزني

قد تسأل عما إذا كانت تعتبر المرأة المطلقة زانية كزوجها الجديد؟ لقد أمرها الرسول ألا تتزوج أو تصالح زوجها. ولكن هذا يحدث لو كانت هي تركته. لأن هناك فارق بين تركها لزوجها وبين كون زوجها يتركها. فإن تركت زوجها وتزوجت بآخر، بدا أنها تركت الأول لأجل رغبتها في الزواج بالثاني، وهذا بلا شك زنا.

أما إذا كان زوجها تركها مع أنها ترغب في البقاء معه، فإن من يتزوجها يكون زانيًا، كقول الرب نفسه. أما بالنسبة لها فهل تعتبر زانية؟

قد يبدو أن الرجل وحده زانيًا لمخالفته للوصية، أما المرأة فغير زانية، ولكن لأن المرأة كانت الوسيلة في جعل الرجل الثاني زانيًا فهي زانية.

من هذا نستنتج أنه ينبغي للمطلقة سواء هي تركت زوجها أو زوجها هو الذي تركها، ألا تتزوج أو لتصالح رجلها(0*).

الفصل السابع عشر

51

القسم

أيضًا سمعتم أنهُ قيل للقُدَماءِ لا تحنث بل أوفِ للرب أقسامك. وأما أنا فأقول لك لا تحلفوا البتَّة. لا بالسماءِ لأنها كُرسيُّ الله. ولا بالأرض أنها مَوطِئُ قدميهِ. ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم. ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرةً واحدةً بيضاءَ أو سوداءَ. بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا. وما زاد على ذلك فهو من الشّرِّير.

بر الفريسيين عدم الحنث بالقسم، أما بر ملكوت السماوات فهو عدم القسم البتة، وبالتالي عدم الحنث بالقسم. فالذي لا يتكلم قط لا يتكلم باطلاً، هكذا من لا يحلف قط لا يحنث بقسم أبدًا.

ولكن ماذا نقول عن الرسول بولس الذي كثيرًا ما يجعل الله شاهدًا على صدق أقواله. إذ يقول:

+ “والذي أكتب بهِ إليكم هوذا قدام الله أني لست أكذب فيهِ”(36)

+ “الله أبو ربّنا يسوع المسيح الذي هو مبارك إلى الأبد يعلم أني لست أكذب”(37).

+ فإن الله الذي أعبدهُ بروحي في إنجيل ابنهِ شاهد لي كيف بلا انقطاع أذكركم”(38).

إنه من المضحك أن نقول بأن الرسول لم يقسم، لأنه لم ينطق بكلمات القسم مثل “بالله” بل قال “الله شاهد”، وحتى لا يظن أحد أن هناك خلافًا بين التعبيرين، أقول لقليلي الفهم بأن الرسول أقسم بهذه الطريقة أيضًا، إذ يقول “إني بافتخاركم… أموت كل يومٍ”(39). لا يظن أحد أن الرسول قصد بهذه العبارة أن افتخارهم يجعله يموت كل يوم. والذي يحسم النزاع في هذا الأمر هو النص اليوناني لكلمة “بافتخاركم” حيث تعتبر اصطلاحا يعبر به عن القسم.

لهذا فإن رب المجد أمر بعدم القسم، حتى لا يسعى أحد إلى القسم كأنه شيء صالح، لأن في سعيه هكذا يعتاد على القسم وبالتالي يحنث بقسمه.

لذلك فمن يفهم “القسم” على أنه ليس أمرًا صالحًا، بل يستخدمه للضرورة القصوى، أن يكف ما استطاع عنه، ولا يتفوه به إلا في حالة الضرورة القصوى، حين لا يصدقه المستمعون له بدون قسم، ويكون حديثه نافعًا لهم (أي ليس لفائدة من يقسم بل للمستمعين). وقد أشار رب المجد إلى ذلك بقوله “ليكن كلامكم نعم نعم لا لا” فمن يقول هكذا يكون قد صنع شيئًا صالحًا، لأن “ما زاد عن ذلك فهو من الشرير” أي لا ينطق بالقسم إلا في حالة الضرورة النابعة من الشرير، أي الناتجة عن ضعف الآخرين ونحن نصلي يوميًا لكي ينجينا الرب من الشرير(40).

إن رب المجد لم يقل “ما زاد عن ذلك شرير”، لأن من يقسم لا يكون قد صنع شرًا، إذ القسم في ذاته ليس صلاحًا ولا شرًا، وإنما ضرورة لإقناع الضعفاء من أجل نفعهم، بل قال فهو من الشرير أي ناتج عن شر من يقسم لأجله.

لا يستطيع أحد غير المختبرين أن يدرك صعوبة التخلص من عادة القسم، وأن يدرك كيف يصعب على من اعتاد على القسم ألا يقسم بتهور.

52

لكننا قد نسأل: لماذا أضاف رب المجد إلى قوله “وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا”، “لا بالسماء لأنها كرسي الله… إلى قوله ولا تحلف برأسك؟”.

أظن أن السبب في هذه الإضافة هو أن اليهود كانوا يعتبرون أن من يقسم بهذه الأمور لا يكون قد ارتبط بقسم أمام الله. رغم ما جاء في الشريعة “أوف للرب أقسامك“. فإن أقسموا بالسماء أو الأرض أو أورشليم أو رؤوسهم ظنوا أنهم لا يرتبطون بقسم أمام الله. هذا الخطأ لم ينتج عن الوصية بل عن عدم فهمهم لها فهمًا صحيحًا. لذلك أخبرهم رب المجد أنه لا يوجد بين مخلوقات الله ما هو ليس بذي قيمة، حتى يظن أحد أنه يمكنه القسم بها باطلاً. فخليقة الله من أعلى السماء إلى أسفل الأرض، من عرش الله إلى الشعرة البيضاء أو السوداء… جميعها تحكمها العناية الإلهية.

لا بالسماء لأنها كرسي الله ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه.

إن أقسمت بالسماء أو بالأرض فلا تظن أنك لم ترتبط بقسمك أمام الله، لأنك ارتبطت بالذي له السماء كرسيًا والأرض موطئًا لقدميه.

ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم

هذا التعبير أجمل من القول “مدينتي” بالرغم من أن رب المجد يقصد ذلك ضمنًا… فمن يقسم بأورشليم يرتبط أمام الرب الملك العظيم.

ولا تحلف برأسك

أي شيء يعتبره الإنسان ملكًا له أكثر من رأسه؟! ولكن كيف تكون ملكًا لنا، ما دام ليس لنا سلطان لجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء؟! لذلك فمن يقسم برأسه يرتبط بالقسم أمام الله، الذي له السلطان على كل شيء بطريقة غير منطوق بها.

وهكذا نفهم بقية أنواع القسم الأخرى التي لا يمكن حصرها، كالقسم الذي نطق به الرسول “أني بافتخاركم… أموت كل يوم” وحتى تدركوا كيف إرتبط الرسول بالقسم أمام الله، نجده أضاف “الذي لي في يسوع المسيح”(41).

53

أريد أن أبدي ملاحظة للجسدانيين، أنه لا ينبغي لنا أن نظن أن السماء دعيت كرسي الله والأرض موطئ قدميه، على أن الله له أعضاء جسدية مثلنا، يجلس بها في السماء وعلى الأرض وذلك كما يحدث عند جلوسنا، بل يقصد بالكرسي “الحكم”. ففي نظام العالم الكامل نجد للسماء مظهرًا أعظم مما للأرض، فكأن القوة الإلهية حالة بالأكثر في السماء، لذلك قيل عن الله أنه جالس في السماء وتطأ قدميه الأرض.

كلمة “السماء” تعني من الناحية الروحية القديسين، كما تعني “الأرض” الأشرار. فالقديس (الشخص الروحي) يحكم في كل شيء ولا يحكم فيه أحد(42)، وهكذا يوضع الأشرار في مستوى الأرضيات حيث يقال لهم “أنك تراب earth وإلى التراب تعود”، لذلك يليق بالله أن يدعوهم موطئًا لقدميه، متممًا بذلك عدله الإلهي حيث يدين كل واحد حسب أعماله.

الفصل الثامن عشر

54

وعندما نختتم هذا الجزء (من آية 29-37)، نتأمل في المشقات والمتاعب التي يعانيها المؤمن حين يجاهد بكل قوته ليتحرر من سلطان العادة الشريرة.
فليكن مثل هذا الإنسان مستعدًا لأن يقلع عينه أو يقطع يده إن كانتا تمنعانه من دخول الملكوت (آية 29-30) ليته لا ينهزم لسبب آلام القطع بل يحتمل في إخلاص المحبة الزيجية، ومهما بلغت أتعابه وضيقاته الروحية لا يخضع للفساد أي للزنا.

فإذا كان لإنسان زوجة عاقر أو مشوهة الخلقة أو بها عيب في جسدها كأن تكون صماء أو عمياء أو عرجاء، أو مبتلية بالأمراض والآلام والضعف وما إلى ذلك مما يظن أنه مرعب للغاية، فيما عدا الزنا، فليته يحتمل هذه الأمور من أجل محبته التي تعهد بها ومن أجل وحدة الزيجة ولا يتخلى عن زوجته هذه.

فإن كان الإنسان لم يتزوج بعد، فليته لا يتزوج بامرأة مطلقة رغم جمالها وصحتها وغناها وعدم عقرها. لأنه إن كان ترك المرأة للأسباب السابقة غير جائز؛ فكم يكن الزواج بمطلقة؟ (آية 31-32).

هكذا فليتحرر الإنسان من الزنا، أي ليتحرر من سلطان الشهوة والفساد.
ولينطق بالحق، مناديًا به لا بأقسام كثيرة بل باستقامة قلب (آية 33-37).
وليت هذا الإنسان يصعد إلى قلعة الجهاد الروحي، حيث يلقي من فوق – كما من مكان عال – كل العادات الشريرة التي تثور ضده، والتي سبق ذكرها.

ولكن من يستطع أن يحتمل أتعابًا كثيرة مثل هذه لم يكن قد التهب قلبه بمحبة البر، كأنه هلك من الجوع والعطش، وعندما يصل إلى درجة الجوع والعطش سيندفع مجاهدًا لنوال ملكوت السماوات لكي يشبع. فلولا جوعه وعطشه إلى البر ما كان يحتمل بشجاعة أتعابًا كثيرة مثل هذه للتخلص من العادات الشريرة.

لذلك “طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون”.

55

إن مثل هذا الإنسان يتعرض لأتعاب كثيرة ناتجة عن قسوة التجارب والجهاد، ثم بالأكثر تلك الأتعاب التي تدركه من حياته الماضية.

فإذا خاف من عدم قدرته على الوفاء بما تعهد به، عليه أن يأخذ مشورة تعينه. ولكن ما هي هذه المشورة سوى أن من يرغب في عون إلهي بسبب ضعفه، عليه أن يحتمل ضعف الآخرين ويساعدهم ما استطاع.

لذلك فلننظر إلى وصايا الرحمة: فالوديع والرحيم يظهران كما لو كانا شخصًا واحدًا، غير أنه يوجد اختلاف بينهما: فالوديع الذي تحدثنا عنه قبلاً لا ينفذ وصايا الله التي تبدو غير مقبولة عنده، أو تلك التي تقف ضد خطاياه.

أما الرحيم فهو ذلك الإنسان الذي بإعانته للضعفاء يعينه الله على تنفيذ ما يصعب عليه من الوصايا.

+ + +


(1) يو22:5.

(2) مت11:4.

(3) أنظر متى12:8.

(4) مت23:25.

(5) كلمة farthing تعني الجزء الرابع، وقد اعتمد أغسطينوس في تفسيره الثاني على هذا الأصل لمعنى الكلمة.

(6) ترجمة ل “to the very drags”.

(7) تك19:3.

(8) لأن الذي يفي الدين هو دم المسيح وحده… ذاك الدم الذي يفي عن الذين يؤمنون به إيمانًا حيًا (عاملاً بالمحبة)، وإن كان قد قدم الثمن للجميع. لاحظ كيف يشرح أغسطينوس هذا النص شرحًا رائعًا، فيقول بأن السجن هو جهنم التي لا يخرج منها الإنسان لعدم قدرته على الوفاء بدينه.

هذا هو التفسير الذي يجمع عليه كل آباء الكنيسة، فالسجن ليس هو المطهر كما يقول الكاثوليك.

(9) مز1:110.

(10) 1كو25:15.

(11) 2كو10:5

(12) لو7:15.

(13) يع6:4.

(14) حكمة يشوع15:10،14.

(15) رو10:5.

(16) يو22:5.

(17) 1كو3:11، أف23:5.

(18) مر41:5.

(19) لو14:7.

(20) يو33:11-44.

(21) رو 24:7،25.

(**) نرجو أن تقرأ التنويه الموجود في الصفحة الرئيسية للكتاب… (الشبكة)

(22) مت8:19.

(23) لو26:14.

(24) مت12:11.

(25) غلا28:3.

(26) كو11:3.

(27) مت3:22.

(28) لقد أدرك أغسطينوس محبة أمه له وصلواته وجهادها الطويل ودموعها المنسكبة بغزارة ليلاً ونهارًا، وأسفارها الطويلة لأجل عودته إلى اللَّه وتوبته. إنه يرجو لو تحولت كل علاقات الأمومة والأبوة والأخوة إلى مثل هذه العلاقة الملتهبة بالحب المقدس، فيسعى بكل جهده من أجل بلوغ أقربائه ملكوت السموات معه.. فتكون الرابطة بينهما هي رباط المحبة المتدفقة لخلاص النفس ووصولها إلى المسيح… فيردد مع السيد المسيح “لأن من يصنع مشيئة اللَّه هو أخي وأختي وأمي” مر35:3. فلا تقف هذه القرابات حائلاً عن الوصول إلى المسيح.

(29) نفهم من أقوال أغسطينوس أن على الزوجين أن يحبا بعضهما البعض ويهتم كل منهما بالحياة الروحية للآخر فلا تكون علاقتهما ببعض مجرد اتصال جسدي، سوف ينتهي ويزول بزوال العالم… وذلك كنظرتنا إلى الطعام، فهو ليس بالشيء المحرم أو النجس ومع ذلك فينبغي ألا يكون هدفًا لنا، لأنه طعام فاسد لا يبقى إلى الأبد.

فالزواج سر مقدس له كرامته وقدسيته لأن مؤسسه رب المجد نفسه. ويقول عنه أغسطينوس نفسه “إن قداسة السر، لها في زيجتنا (المسيحية) قوة أكثر من قوة ثمرة الأولاد في الدم” (في الزيجة 21:18، 32:24).

(30) لو26:14.

(31) مت25:6.

(32) لاحظ أن أغسطينوس يفسر الترك على أنه التطليق

(33) يو11:8.

(34) 1كو4:7.

(35) رو1:2.

(*) البندان 49،50 لم يترجما وهما يخصان بعض الأسئلة المتعلقة بالزواج.

[وأيضاً البندان 46 و48 غير موجودين في الكتاب… (الشبكة)]

(36) غلا20:1.

(37) 2كو31:11.

(38) رو9:1.

(39) 1كو31:15.

(40) مت13:6.

(41) 1كو31:15.

(42) 1كو15:2.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى