Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

الفصل التاسع عشر

56

عدم مقاومة الشر

سمعتم أنهُ قيل عين بعينٍ وسنّ بسنٍّ. وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرَّ. بل مَنْ لطمك على خدّك الأيمن فحوِّل لهُ الآخر أيضًا. ومَنْ أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فأترك لهُ الرِداءَ أيضًا. ومن سخَّرك ميلاً واحدًا فاذهب معهُ اثنين. مَنْ سأَلك فأعطِهِ. ومن أراد أن يقترض منك فلا تردَّهُ.

برّ الفريسيين الأصغر هو عدم تجاوز حدود الانتقام، أي ألا ينتقم الإنسان بأكثر مما أصابه. ومع ذلك فليس من السهل أن نجد شخصًا يرغب في أن يرد الضربة بضربة واحدة، ويرد بكلمة واحدة على من أساء إليه بكلمة. فالإنسان يرغب دائمًا في الانتقام بصورة مغالى فيها جدًا، وذلك بسبب الغضب والشعور بأن المسيء يجب أن يعاقب عقابًا مضاعفًا.

فالشريعة الموسوية التي جاء فيها “عين بعين وسن بسن”، تحد من الروح السابقة لأنها تطالب بألا يزيد الانتقام عن مقدار الضرر الذي أصاب الشخص.

هذه الشريعة هي بداية السلام، أما السلام الكامل فهو في عدم الانتقام.        

57

والشريعة الموسوية، أي انتقام الإنسان بقدر ما ناله من ضرر، تأتي متوسطة بين أسلوبين، الأسلوب الأول المتخلف عنها حيث ينتقم الشخص بشر أعظم مما أصابه، والثاني هو ما جاء به رب المجد معلمًا تلاميذه عدم مقاومة الشر.

فبحسب ترتيب الأزمنة حدث تحولاً من الخصومة العظيمة (أي رغبة الإنسان في الانتقام بأكثر مما أصابه) إلى اتفاق عظيم بواسطة الشريعة (أي الانتقام بقدر ما أصابه).

درجات الوصول إلى البر الأعظم

“يستعرض أغسطينوس فيما يلي تطور علاقة الإنسان بأخيه، مبتدئًا من الإنسان البدائي الذي يبدأ بالشر، وينتهي بالإنسان الكامل الذي يفرح باحتمال ضعفات الآخرين”.

1- الإنسان البدائي يبدأ بالاعتداء على أخيه.

2- والإنسان الذي لا يبدأ بالشر، لكنه يقاوم الشر بشر أعظم، لا يكون بعد قد بلغ مستوى الشريعة الموسوية.

3- أما في الشريعة الموسوية فقد طلب من الإنسان أن لا يتعدى انتقامه قدر الشر الذي أصابه، وبهذا يكون قد تنازل عن جزء من حقه، إذ العدالة تقتضي معاقبة البادئ بأكثر مما صنع.

لذلك فإن هذه الشريعة غير الكاملة، لم تستخدم القوة على من يصنع الشر بل استخدمت العدالة المصطبغة بالرحمة. هذه الشريعة كملت بواسطة من جاء ليكمل الناموس لا لينقضه.

لا تزال هناك خطوتان متوسطتان (الرابعة والخامسة)، تركهما الرب ليفهما ضمنًا، متحدثًا بالحق عن أعلى مراتب الرحمة (المرحلة السادسة)، فيوجد من لم يصل بعد إلى تنفيذ وصية البر الأعظم، منفذًا إحدى الدرجتين المتوسطين وهما:

4- عدم مقاومة الشر بشر أعظم أو مساو له بل أقل منه فيقابل الضربتين بضربة واحدة أو فقء العين بقطع الأذن.

5- أما من يسمو على الدرجة السابقة، فإنه لا يقابل الشر بشر، مقتربًا بذلك من وصية الرب دون أن يبلغها بعد.

6- أما درجة الكمال المسيحي، ففيها يأمر رب المجد بعدم مقاومة الشر. فهو لم يأمر فقط بعدم مقابلة الشر بشر بل بعدم مقاومته، قائلاً “بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر”. ولم يقل “من لطمك لا تلطمه” بل بالأحرى إن كان يرغب في لطمك مرة ثانية فقدم ذاتك له. وإن الذين يخدمون أبناءهم، أو أصدقاء أعزاء لديهم، أو أطفالاً صغارًا، أو أناسًا معتوهين. هؤلاء يدركون قيمة احتمال ضعف الآخرين بفرح رغم ما يلحق بهم من أضرار. وإن نتج عن احتمالهم هذا نفعًا لمن يخدمونهم، فلا بد أنهم سيضاعفون خدمتهم واحتمالهم حتى يشفوا من ضعفهم.

إذًا ماذا يوصينا طبيب النفوس – الرب يسوع – بأقربائنا؟ … إنه لا يطلب منا سوى احتمال ضعفاتهم، لأجل خلاصهم. فإن شرور أقربائنا تنبع عن ضعف نفوسهم ومرضها.

58

ماذا يقصد بالخد الأيمن والآخر

  إن وجه الإنسان يعبر عن شخصه. ويقول الرسول “إن كان أحدهم يستعبدكم. إن كان أحد يأكلكم. إن كان أحد يرتفع. إن كان أحد يضربكم على وجوهكم” مفسرًا الضرب على الوجه بأنه إهانة واحتقار، إذ يكمل قائلاً “على سبيل الهوان”(1).

  والرسول يذكر ذلك مبينًا أنه إن كان عليهم أن يحتملوا من يضربهم على وجوههم، فكم بالأكثر ينبغي أن يحتملوا من أحبهم حتى رغب في أن ينفق لأجلهم(2).

وقد احتمل الرسول بولس اللطم على الخد الأيمن ثم الأيسر. فقد احتمل ما احتمله التلاميذ من تعيير بسبب اسم المسيح الذي دعي عليهم (أي احتمل اللطم على الخد الأيمن). بعد ذلك قدم الخد الأيسر مضحيًا بأمجاده العالمية (جنسيته الرومانية)(3). فعندما أعلن عن جنسيته الرومانية لم يكن يقصد بذلك الافتخار أو الانتقام ممن أساءوا إليه. بل بالعكس كان بولس يعلن عن رومانيته لتهيئ له فرصة للحديث عن المسيح معلنًا بذلك محبته لخلاص نفوس هؤلاء الذين أكرموه لأجل رومانيته وأهانوه لأجل مسيحيته.

  وبالمثل أيضًا عندما ضرب بأمر رئيس الكهنة فقد رد عليه بمحبة، رغم ما يبدو من إجابته أنه كان غاضبًا، إذ قال “سيضربك الله أيها الحائط المبيض”. فرده هذا يبدو شتيمة، أما حقيقة أمره فهو نبوة. فالحائط المبيض هو الرياء أو التظاهر في مظهر الكهنوت، كما لو كانت هناك قذارة مخبأة في غلاف أبيض. فالرسول احتفظ بالتواضع بصورة عجيبة. فعندما قيل له “أتشتم رئيس كهنة الله؟” أجاب: “لم أكن أعرف أيها الإخوة أنهُ رئيس كهنةٍ لأنهُ مكتوب رئيس شعبك لا تَقُل فيه سوءً”(4)، فإجابته هذه تظهر مدى الهدوء الذي كان يتحدث به، فيما حسب أنه يتكلم بغضب فقد أجاب بسرعة ولطف، الأمر الذي لا يحدث من شخصٍ غاضبٍ أو معتذرٍ (بسبب الشتيمة)… فكأنه قال: إنني أعرف رئيس كهنة آخر – المسيح – الذي أحتمل أنا من أجله أتعابًا كهذه، هذا الذي لا يجوز شتمه، وأنتم قد شتمتموه، لأنه لا يوجد في نفسي شيء سوى اسمه الذي تكرهونه.

  لهذا يلزم للشخص ألا يفتخر بكراماته الزمنية، بل يعد قلبه لاحتمال كل الأشياء حتى يستطيع أن يرتل بفرح مع النبي قائلاً “قلبي مستعد يا الله. قلبي مستعد” (مز 8:56).

  كثيرون تعلموا كيف يقدمون الخد الآخر (أي أن يهانوا في أمجادهم الزمنية) ولكنهم لم يتعلموا كيف يحبون ضاربيهم.

  والمسيح رب المجد، واضع الوصية ومنفذها الأول، عندما لطم على خده بواسطة خادم رئيس الكهنة رد قائلاً “إن كنت قد تكلَّمت رديًّا فاشهد على الرديء وإن حسنًا فلماذا تضربني”(5)، فهو لم يقدم الآخر ولكن مع ذلك فقد كان قلبه مستعدًا لخلاص الجميع لا بضرب خده الآخر فقط من ذلك العبد، بل وبصلب جسده كله.

59

من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا.

  إن هذه الوصية ينبغي أن تفهم على أنها تهتم بتهيئة القلب داخليًا في كل ما تملك. فما قيل عن الثوب والرداء لا يقصد به المعنى المحدود لهما بل يقصد بهما كل ما نمتلكه في هذه الحياة.

  وإن كان هذا أمر الضروريات فكم بالأكثر ينبغي لنا أن نزدري بالكماليات؟!!

  ليتنا نحتقر كل تلك الأشياء التي نحسبها ملكًا لنا ويخاصمنا إخوتنا بسببها… ليتنا ننقل ملكيتها إليهم.

  قلنا إن هذه الوصية تنطبق على جميع ممتلكاتنا… ولكن هل يعتبر العبيد من الممتلكات التي نقتنيها وبذلك تطبق الوصية عليهم؟

  على المسيحي ألا يمتلك عبدًا بالطريقة التي يمتلك بها حصانًا أو منقولات ذهبية أو فضية، حتى لو كان ثمن هذه الممتلكات أغلى من ثمن العبد.

  فإن كان المسيحي كسيد للعبد قد هذبه وأدبه بطريقة تقوده إلى خوف الله أفضل من معاملة السيد الذي يرغب في أخذه منه، فلا أظن أن أحدًا يتجاسر مزدريًا بالعبد، تاركًا إياه للسيد الآخر كما يترك الثوب. إذًا ينبغي للسيد أن يحب أخاه العبد كنفسه.

60

  يجب أن نلاحظ بعناية أن كل ثوبtunic هو رداء garment، وليس كل رداء ثوبًا. فمن ثم كلمة “رداء” أعم من كلمة “ثوب”. لذلك أظن أنه عندما قال الرب “ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء” كان يقصد أن من يرغب في أخذ الثوب ينبغي أن نترك له الملابس الأخرى.

61

ومن سخرك ميلاً واحدًا فاذهب معه اثنين (آخرين)

  بالتأكيد أن الرب لا يقصد كثيرًا تنفيذ هذه الوصية بالسير على الأقدام، بقدر ما يعني إعداد الذهن لتنفيذ الوصية. فتاريخ الكنيسة الذي يعتبر مرجعًا لمثل هذه الأمور. لا يشير إلى تنفيذ هذه الوصية (حرفيًا) بواسطة القديسين أو الرب نفسه في وجوده بالجسد على الأرض، مع أنه تنازل وأخذ جسدًا معطيًا لنا مثالاً نقتفي إثر خطواته، ولكننا نجدهم في الوقت نفسه، مستعدين لاحتمال كل ما يصيبهم من شرور بشجاعة.

  ولكن لماذا حدد الرب يسوع المسافة بميلين (آخرين)؟ هل قصد بذلك مجرد السير، أم أنه قصد تكميل الميلين بميلين آخرين فيصبح العدد ثلاثة، هذا الرقم الذي يعني الكمال، حتى يتذكر من ينفذ هذه الوصية أنه يتمم البر الكامل في احتمال أتعاب الآخرين بلطف حتى إلى الميل الثالث؟

  إن عرض رب المجد لهذه الوصايا الثلاثة في هذا الترتيب إنما يتدرج في الاحتمال من الأسهل إلى الأصعب.

  المثال الأول: من يلطمك على خدك الأيمن… حول له الآخر.

  المثال الثاني: من يأخذ ثوبك… أعطه الرداء.

  المثال الثالث: من يسخرك ميلاً… سر معه اثنين (آخرين).

  ففي الوصية الأولى، طلب تقديم الخد الثاني، عند اللطم على الخد الأيمن، أي الاستعداد لاحتمال ما يصيبنا مضافًا إليه شيء آخر أقل منه، لأنه إنما يقصد بالأيمن شيئًا أهم من الأيسر. فاحتمالنا اللطم على الخد الأيسر أي الإهانة في الأمور البسيطة يكون هينًا، ما دمنا نستطيع احتمال الإهانة في أمور عزيزة علينا (أي اللطم على الخد الأيمن).

  وفي الوصية الثانية الخاصة بطلب الثوب، أوصى الرب بإعطاء الرداء أيضًا، أي إعطاء ما يساويه أو أكثر منه قليلاً دون أن يبلغ إلى الضعف.

  وفي الوصية الثالثة الخاصة بالميل، أوصى الرب بإضافة ميلين آخرين إلى الميل الأصلي، أي أمر بوجوب إحتمال الضعف أيضًا…

+ + +

الفصل العشرون

أنواع الأضرار التي ينبغي لنا أن نحتمله

  1- أضرار يمكن فيها إصلاح الضرر وإعادته إلى أصله.

  2- أضرار لا يمكن فيها إصلاح الضرر وإعادته إلى أصله.

62

النوع الأول

  هي تلك الأضرار التي لا يمكن فيها إصلاح الضرر الناشئ. وفي هذه الحالة، غالبًا ما يسعى الإنسان إلى الانتقام ممن أساء إليه. ولكنه ماذا ينتفع ذلك الإنسان الذي يرد الضربة بضربة؟! هل بانتقامه لنفسه بالضربة، عاد جسده المضروب إلى حالته الأولى؟! ومع هذا فإن العقل المضطرب يندفع إلى مثل هذا الانتقام لكي يهدأ. ومع ذلك فالشخص القوي الثابت لا يسر بالانتقام بل بالحري يرى أنه ينبغي له احتمال ضعفات الآخرين، وأن الانتقام لا يمكن أبدًا أن يهدأ نفسه.

63

الفرق بين الانتقام والتأديب

لا يعني ما سبق ذكره أننا نتنحى عن توقيع التأديب، كوسيلة التهذيب، وذلك كما تمليه المحبة نفسها، على أن توقيع التأديب لا يمنع من كون الإنسان مستعدًا لاحتمال أضرارًا أكثر ممن يؤدبه. ولكن لا يستطيع الإنسان ذلك ما لم يكن قد تغلب على الكراهية التي تدفع للانتقام، وهذه الغلبة لا تكون إلا بالمحبة الشديدة. فنحن لا نخاف أن يكره الأب ابنه الصغير عندما يؤدبه كي لا يخطئ مرة أخرى.

إن كمال المحبة يظهر لنا في الله الآب نفسه الذي نقتدي به، عندما قال فيما بعد ذلك “أَحِبُّوا أعداءَكم… أحسنوا إلى مُبغِضيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئُون إليكم”(6).

ومع هذا فقد قيل عنه بالرسول “لأن الذي يحبُّهُ الربُّ يُؤَدّبهُ ويجلد كل ابن يقبلهُ(7)“. يقول الرب أيضًا “وأمَّا ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيدهِ ولا يستعدُّ ولا يفعل بحسب إرادتهِ فيُضرَب كثيرًا. ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحقُّ ضرباتٍ يُضرَب قليلاً”(8). لذلك فمن أعطي له سلطان التأديب، فليؤدب بحسب النظام الطبيعي، بنفس الإرادة الصالحة التي للأب نحو ابنه الصغير الذي لا يمكن أن يكرهه.

وإنه لمن الخطأ أن يترك الخاطئ بدون تأديب، فمن يؤدب بمحبة لا يقصد جعل الخاطئ بائسًا، بل يرغب في إسعاده بالتأديب، ولكن على المؤدب أن يكون مستعدًا لاحتمال شرورًا أكثر من الشخص الذي يؤدبه، سواء أكان في سلطانه أم يمنعه من ذلك أو ليس في سلطانه ذلك.

لقد استخدم بعض الآباء القديسين أحيانًا عقوبة الموت في الحكم على البشر، ومع ذلك فهم يعرفون جيدًا أن الموت (الذي يفصل الروح عن الجسد) ليس بعقاب، ولكن لأن الكثيرين يشعرون بخوف من الموت، لذلك استخدمت عقوبة الموت لتخويف الخطاة. والحقيقة أن الموت لا يضر من يؤدب به، إنما الذي يجلب الضرر هي تلك الخطية التي تتزايد ببقاء الخطاة أحياء في الجسد.

إن استخدام الآباء للسلطان الإلهي في الحكم بالموت على الخطاة لم يكن بتهور بل كان بحكمة. فحكم إيليا النبي بالموت على كثيرين من الخطاة سواء بالقتل أو بطلبه نارًا من السماء لإبادتهم (أنظر 1مل40:18، 2مل10:1)، هذا الحكم إنما حدث بروح المحبة لخير البشرية ونفع المؤمنين.

لذلك عندما طلب التلاميذ من السيد المسيح نفس الطلب، أن تنزل نار من السماء على أهل السامرة الذين لم يقبلوا السيد المسيح متمثلين بإيليا النبي، لم ينقد الرب ما صنع النبي، بل انتهر جهل التلاميذ، موبخًا معرفتهم البدائية برسالة المسيح الخلاصية، موضحًا لهم أنهم بذلك لا يرغبون في التهذيب بمحبة، بل يرغبون في الانتقام بكراهية(9). وبعد ما علمهم الرب عن محبة القريب كالنفس، وبعد ما حل الروح القدس عليهم في يوم الخمسين، لم يعودوا بعد يطلبون مثل هذه الأمور الانتقامية، بل أصبحت هذه الطلبات نادرة جدًا في العهد الجديد(10) إذا ما قورنت بالعهد القديم. إن العلاقة بين الله والإنسان في العهد القديم، كالعلاقة بين السيد والعبد، تقوم على الخوف. أما في العهد الجديد، فلم نصبح بعد عبيدًا بل أبناء إذ قد تحررت نفوسنا من عبودية الخوف بالمحبة الإلهية.

64، 65

إن أتباع ماني ينقدون العهد القديم ولا يعترفون به لأجل تلك الأحكام. ولكن عليهم أن يتأملوا ما قاله بولس الرسول بخصوص الخاطئ الذي أسلم إلى الشيطان لهلاك الجسد “لكي تخلص الروح” (1 كو 5:5). ورغم أن هذا النص لا يفهم منه موت الجسد إلا أن الرسول كان يفرض هذا التأديب لا عن كراهية بل في حبٍ كما يتضح من قوله “لكي تخلص الروح”(11).

  وليلاحظ هؤلاء الهراطقة ما جاء في كتب الكنيسة التي يعترفون بها، حيث كتب فيها أن الرسول توما لعن الشخص الذي ضربه بيده، طالبًا له الموت، بصورة قاسية جدًا، رغم طلبه من أجل روح هذا الشخص حتى لا يحرم من ميراث العالم الآتي. لذلك لا ينبغي لهم أن يثوروا بصورة عنيفة على التأديبات الجسدية الواردة بالعهد القديم، متجاهلين بأي روح فرضت هذه الأديبات وفي أي مرحلة من ترتيب الأزمنة جاءت.

66

رأينا فيما سبق هذا النوع من الضرر (الذي لا يمكن إصلاحه أو تعويضه)، وكيف ينبغي على المسيحيين أن يحتملوه، لا بعقل مشحون بالكراهية بل بمحبة مستعدين لاحتمال ضرر أكثر من أجل ضعف الآخرين. ومع ذلك فإنهم لا يهملون إصلاح من أساءوا إليهم، بل يسعون إلى تهذيبهم، باستخدام النصح، وأحيانًا بسلطان التأديب، إن كان قد أعطي لهم.

النوع الثاني

هناك نوع آخر من الضرر يمكن فيه إعادة الشيء إلى أصله تمامًا، وهذا النوع ينقسم إلى قسمين: الأول يخص المال والآخر يخص العمل. لأجل ذلك أضاف رب المجد هذين المثلين: الأول الخاص بالثوب، والثاني الخاص بالخدمة الإلزامية للميل والميلين. فالثوب المغتصب يمكن إعادته، ومن أجبر شخصًا على القيام بخدمة له يمكنه أن يرد الخدمة مرة أخرى إن وافق المسخر على ردها…

67

من سألك فأعطه

لا يكتفي رب المجد بعدم مقاومتنا للشر، بل يأمرنا بصنع الخير ما أمكن، لذلك أردف قائلاً: “من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده”.

إن رب المجد يقول “من سألك” وليس “كل شيء يسأله منك”، حتى يكون عطاؤنا للسائلين بحكمة واستقامة. لأنه هل تعطي لمن يسألك مالاً كي يستخدمه في صنع الشر بأخيه، أو يصنع به أمرًا نجسًا؟

إذًا بالتأكيد رب المجد يقصد أن نعطي، عندما لا يكون العطاء سببًا في ضرر لنا أو للسائل، وذلك بقدر فهمنا وإذا كنا وعلينا قبل أن نرفض العطاء (الضار) أن نوجه السائل إلى الحق، وبذلك نكون قد قدمنا له شيئًا أفضل مما يطلب.

68

ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده

إن المعطي المسرور يحبُّهُ الرب(12). فالعبرة ليست في العطاء بل في السرور في العطاء.

وعندما نعطي فنحن نقرض الآخرين، وإذا لم يقوموا بإعادته فسيرده الرب لنا أضعافًا. إذًا من يصنع رحمة لأخيه، يعوضه الرب أكثر مما يعطي(13).

وحديث رب المجد يحتمل معنيين:

أ – الإقراض بقصد إعادة القرض إلى صاحبه.

ب- الإقراض دون توقع إعادة القرض إلى صاحبه في هذه الحياة.                     

وإن الذين يضعون نصب أعينهم الجزاء السمائي، يرغبون في العطاء دون استرجاعه في الحياة الحاضرة. فهم يترددون في إقراض الآخرين إذا علموا أنهم سيقومون بإرجاع القرض، كأنهم يرفضون استعادته من غير الرب ذاته.

والوحي الإلهي ينصح بأن نصنع الإحسان بهذه الطريقة قائلاً: “ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده”. فعندما نقرض شيئًا لإخوتنا نسترد منهم قدر ما أعطيناهم، ولكن عندما نقرض الرب ولا ننتظر شيئًا من الناس فإنه يرده لنا أضعافًا مضاعفة.

+ + +

الفصل الحادي والعشرون

69

محبة الأعداء

“سمعتم أنه قيل: تحبُّ قريبك وتبغض عَدُوَّك. وأما أنا فأقول لكم أَحِبُّوا أعداءَكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مُبغِضيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئُون إليكم ويطردونكم. لكي تكونوا أبناءَ أبيكم الذي في السماوات. فإنه يشرق شمسهُ على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين. لأنهُ إن أحببتم الذين يحبونكم فأيُّ أجرٍ لكم. أَليس العَشَّارون أيضًا يفعلون ذلك. وإن سلَّمتم على إخوتكم فقط فأيَّ فضل تصنعون. أَليس العَشَّارون أيضًا يفعلون هكذا. فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل”.

ولكن من أين لنا القدرة على احتمال كل تلك الأضرار السابق الإشارة إليها، إلا إذا كنا قد نفذنا أوامر السيد المسيح بمحبتنا لأعدائنا ومضطهدينا؟ فإن كمال الرحمة والمحبة والاحتمال لا يمكن أن يمتد إلى أكثر من الأعداء. لذلك اختتم رب المجد ذلك بقوله: “فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل” على أنه ينبغي أن نذكر أن كمال الله يختلف عن كمال نفوسنا كبشر.

70

إن بعض الناس يكرهون حتى الذين يحبونهم، مثل الأبناء الذين يكرهون آباءهم عندما يؤدبونهم. فشريعة العهد القديم سمت بالإنسان إلى درجة محبته لقريبه… أما في شريعة المسيح، التي جاءت مكملة لا ناقضة للناموس، فقد سما السيد المسيح بالإنسان إلى درجة الكمال، عندما بلغ به إلى محبة الأعداء. فالدرجة التي سمت إليها شريعة العهد القديم، درجة بسيطة يمكن للعامة الوصول إليها.

كما ينبغي ألا نفهم ما جاء بالناموس “تبغض عدوك” على أنه وصية موجهة للإنسان البار، بل بالحري هي سماح معطى للإنسان الضعيف.

71

ولقد يبدو لقليلي الفهم أن بعض النصوص الكتابية مناقضة لشريعة السيد المسيح الآمر بمحبة الأعداء. فلقد جاء في العهد القديم كثير من الأدعية ضد الأعداء، مثال ذلك “لتَصِر مائدتهم… فخًّا” (مز 22:69)، “ليكن بنوهُ أيتامًا وامرأته أرملة” (مز 9:109) وغيرها من تلك العبارات التي جاءت في نفس المزمور متنبئة عن يهوذا.

أما في العهد الجديد فلقد جاءت بعض النصوص التي يبدو فيها شيء من التعارض مع وصية الرب ووصية الرسول “باركوا لاعنيكم” (رو 14:12). مثال ذلك ما قاله رب المجد عندما لعن المدن التي لم تقبل كلمته (مت 20:11-25)، وما جاء على لسان الرسول عن شخص معين ليجازه الرب حسب أعماله” (2 تي 14:4).

72

إذ تأملنا في المشكلة السابقة لوجدنا حلها أمرًا سهلاً جدًا. فالنبي كان يتنبأ عن تلك اللعنات التي أوشكت أن تحدث. فهو لم يكن يرغب فيها بل كان يتكلم بها بروح من يراها مقدمًا. كذلك كلمات الرب وكلمات الرسول، فهي لا تحوي أمورًا يرغبونها للآخرين بل نبوات عنهم. إن السيد المسيح عند قوله “الويل لك يا كفرناحوم “لم ينطق سوى بما سيلحق بها من شر نتيجة عدم إيمانها، وإن هذه اللعنات لا يرغب فيها الرب حاقدًا عليها، بل يراها بسلطانه الإلهي.

أما الرسول، فهو لم يقل “لعل الرب يجازيه” بل “سيجازيه الرب حسب أعماله”… وهذه كلمات من يتنبأ لا من يلعن. وبالمثل بالنسبة لرياء اليهود، الذي سبق الحديث عنه، فقد كان الرسول يتنبأ عن رئيس الكهنة حين قال “سيضربك الله أيها الحائط المبيض”.

ولقد اعتاد الأنبياء النطق بالنبوات عن الأمور المستقبلة في صورة دعاء في صيغة الماضي “لماذا ارتجت الأمم وتفكَّر الشعوب في الباطل”(14). فهو لم يقل “لماذا سترتج الأمم وتفكر الشعوب في الباطل” رغم أن هذه الأمور لم تحدث في الماضي بل ستحدث في المستقبل. كذلك ما قيل بلسان النبي داود عن السيد المسيح “يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون”(15) فهو لم يقل “سيقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي سيقترعون”.

من كل هذا نرى أن اختلاف أساليب الحديث لا ينقص أي درجة من صدق الحقائق بل بالأحرى يزيد من تأثيرها على أفكارنا.

+ + +

الفصل الثاني والعشرون

73

إن رأَى أحد أخاهُ يخطئُ خطيةً ليست للموت يطلب فيعطيهِ (الرب) حياةً للذين يخطئُون ليس للموت. تُوجَد خطية للموت. ليس لأجل هذه أقول أن يطلب(16).

فالوحي الإلهي يأمرنا بعدم الصلاة لأجل بعض إخوة معينين، وفي نفس الوقت يأمرنا بالصلاة لأجل الذين يسيئون إلينا ويطردوننا.

إن بعض الخطايا التي تصدر من الإخوة تعتبر أشر من طرد الأعداء لنا، وعلى ذلك يمكن التوفيق بين الأمرين السابقين. إن هؤلاء الإخوة، يقصد بهم المسيحيين، إذ يقول الرسول “لأن الرجل غير المؤْمن مقدَّس في المرأَة والمرأة غير المؤْمنة مقدَّسة في الأخ(17)، كما يقول أيضًا “ولكن إن فارق غير المؤمن فليفارق. ليس الأخ أو الأخت مستعبدًا في مثل هذه الأحوال”.

لذلك أظن أن الأخ الذي عرف الله بنعمة ربنا يسوع المسيح، تعتبر خطيته للموت إن كان يعمل على إفساد رابطة المحبة بين الإخوة، مندفعًا بذلك بنار الحسد ومقاومة النعمة التي سبق أن عملت فيه.

أما إذا كان الأخ لا يزال محبًا لأخيه، ولكن لطبيعته البشرية يضعف بجهل في واجباته نحو علاقته بأخيه، فإن خطيته هذه لا تكون للموت. لهذا قال رب المجد على الصليب “يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”(18) إذ أنهم لم يكونوا بعد قد اشتركوا في نعمة الروح القدس، ولم يصيروا بعد أعضاء في وحدة الأخوة المقدسة.

ويصلي المبارك إسطفانوس (في سفر أعمال الرسل) لأجل راجميه لأنهم لم يكونوا قد آمنوا بعد بالسيد المسيح، وهم بذلك لم يكونوا بعد مقاومين لنعمة قد أعطيت لهم.

لذلك أظن أن الرسول بولس لم يطلب من أجل إسكندر النحاس، لأنه كان قد أخطأ للموت، إذ بينما هو أخ غير أنه كان يعمل على إفساد وحدة الإخوة بحسده وشروره. بينما نجد الرسول يطلب للذين لم يتخلوا عن محبتهم له لكن لأجل الإضطهاد كانوا خائفين. فيقول “إسكندر النحَّاس أظهر لي شرورًا كثيرة. وليجازهِ الربُّ حسب أعمالهِ. فاحتفظ منهُ أنت أيضًا لأنهُ قاوم أقوالنا جدًّا”(19). ثم تحدث بعد ذلك عن أولئك الذين يطلب لأجلهم المغفرة قائلاً “في إحتجاجي الأول لم يحضر أحد معي بل الجميع تركوني. لا يحسب (الله) عليهم”.

74

التوبة المقبولة

إن التفرقة بين الخطيئتين السابقتين تلقي أمامنا ضوءًا للتمييز بين خطية يهوذا الخائن وبطرس المنكر، فالاختلاف بينهما ليس في عدم المغفرة ليهوذا وقبول توبة بطرس، لأنه إن كان الرب يوصينا (نحن البشر) بأن نغفر لمن يطلب العفو منا(20)، فلا بد أنه يغفر للتائبين إليه. لكن يتضح أمامنا أن خطية يهوذا كانت شنيعة إلى الحد الذي جعله لا يقدر أن يتواضع أمام الله طالبًا الغفران. هذا كله رغم معرفته لخطيته بواسطة ضميره الشرير، وإعلانه لخطيته أمام الآخرين قائلاً “قد أخطأْت إذ سلَّمت دمًا بريئًا”(21). وبعد اعترافه بخطيته لم يسأل المغفرة عنها بتواضع، لكنه مضى يائسًا وخنق نفسه.

من هذا المثال يمكننا أن نعرف ما هي الشروط التي ننال بها الغفران عند توبتنا، فإن كثيرين يعرفون خطاياهم بسرعة، ويحزنون عليها، بل ويرغبون في عدم العودة إليها مرة أخرى، لكنهم لا يتواضعون وينسحقون طالبين المغفرة رغم شعورهم بأنهم مخطئون.

75

ما هي الخطية التي بلا غفران؟

ربما تكون هذه الخطية هي التجديف على الروح القدس، أي مقاومة روح المحبة والإخاء بعد قبول نعمة الروح القدس، بسبب حسد الإخوة والحقد عليهم، فتكون هذه الخطية التي قال عنها رب المجد أنها لا تغفر في هذا العالم ولا في الآتي.

وإننا نتساءل الآن: هل جدف اليهود على الروح القدس عندما قالوا لربنا أنه ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين؟!

لنا إجابتان للرد على هذا السؤال. الأولى أنهم جدفوا على ربنا يسوع لأنه قال عن نفسه في موضع آخر “إن كانوا قد لقبوا رب البيت ببعلزبول فكم بالحري أهل بيته؟”. والإجابة الثانية أننا قد نفهم قولهم هذا على أنه تجديف على الروح القدس، وذلك لأنهم لم يشكروا الرب على إحساناته العظيمة الواضحة بسبب حسدهم له وحقدهم عليه، على أننا لا ننسى أنهم لم يصيروا مسيحيين بعد.

فالتفسير الثاني، وهو أنهم جدفوا على الروح القدس (رغم أنهم غير مسيحيين) غير مقبول. ويتضح ذلك من حديث ربنا “من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له. وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي”. فكأن رب المجد يقول لهم إنه سيغفر لهم تجديفاتهم عليه، على شرط أن يتوبوا ويؤمنوا به ويقبلوا الروح القدس. ولكن بعد قبولهم الروح القدس إن حسدوا الإخوة وقاوموا الروح القدس الذي قبلوه، فلن يغفر لهم لا في هذا الدهر ولا في الآتي. وهذا التفسير صحيح لأنه لو كان رب المجد يقصد بحديثه السابق أنهم جدفوا على الروح القدس، وبالتالي ليس لهم غفران، ما كان هناك مجال بعد لنصحه إياهم قائلاً “اجعلوا الشجرة جيدةً وثمرها جيّدًا. أو اجعلوا الشجرة رديَّةً وثمرها رديًّا”(22).

76

وينبغي علينا ألا نظن وجود تناقض في الكتاب المقدس، فالكتاب الذي يأمرنا بمحبة أعدائنا والإحسان لمبغضينا والصلاة لأجل الذين يطردوننا، في نفس الوقت يأمرنا بعدم الصلاة لبعض الإخوة. وأحيانًا ينبغي لنا أن نصلي ضد البعض رغم قول الكتاب المقدس “باركوا ولا تلعنوا”(23) وقوله “لا تجازوا أحدًا عن شرّ بشرٍّ”(24).

فكثيرون لا رجاء في خلاصهم (وذلك أمثال أريوس ونسطور وأوطيخا وسابليوس وماني… هؤلاء الذين قسموا الكنيسة، ونقضوا الإيمان، وأصروا على هرطقاتهم، حتى صار وجودهم في العالم مصدر ضرر كبير على النفوس البسيطة). إن القديسين كانوا يصلون ضدهم، يصلون لا لأجل توبتهم ورجوعهم عن خطاياهم بل لكي يحل بهم الحكم النهائي. إن مثل هؤلاء لا يطلب منا أن نصلي لأجلهم، إذ لا ينبغي لنا أن نصلي في الوقت الذي نتيقن فيه أن صلواتنا سترفض أمام الديان الأعظم.

هذه الصلوات تختلف عن تلك التي قدمها داود النبي ضد يهوذا الخائن، تلك التي لم تكن صلاة بقدر ما كانت نبوة عن المستقبل. وأيضًا تختلف هذه الصلوات عن تلك التي قدمها الرسول بولس ضد إسكندر التي سبق الحديث عنها بما فيه الكفاية.

إن هذه الصلوات تشبه تلك التي وردت في سفر الرؤيا(25) حيث تقدم بها الشهداء طالبين الانتقام لهم، هذا بالرغم من أن الشهيد الأول (إسطفانوس) طلب الغفران لراجميه.

77

ولكن ينبغي ألا يختلط علينا أمر تلك الصلوات الموجهة ضد هؤلاء الأشخاص. لأنه من يستطيع أن يجزم عما إذا كانت هذه الصلوات التي يتقدم بها هؤلاء القديسون ذوو الثياب البيضاء، ضد قاتليهم أم هي ضد مملكة الخطية ذاتها؟

إن هناك انتقام حقيقي يريده الشهداء وأصحاب البر والرحمة، ألا وهو هلاك مملكة الخطية، تلك التي يعاني منها ضحاياها أهوالاً كثيرة. وهذه المملكة هي نفسها التي يجاهد ضدها الرسول قائلاً “إذًا لا تملكنَّ الخطية في جسدكم المائت”(26). إذًا لا يمكن هلاك هذه المملكة إلا بإخضاع الجسد للروح، كما أنه يمكن هلاكها جزئيًا بإدانة المصرين على استمرار وارتكاب الخطية، حتى لا يكونوا مصدر ضيق مستمر للأبرار الراغبين في تمليك المسيح عليهم.

أنظر إلى الرسول بولس، ألا يبدو أنه ينتقم للشهيد إسطفانوس في شخصه عندما يقول: “هكذا أُضارِب كأني لا أضرب الهواءَ. بل أقمع جسدي وأستعبدهُ” (1 كو26:9، 27) ، لأنه حينما كان يضطهد إسطفانوس وغيره من الشهداء كان يستعبد أجسادهم ويذلها، فكأنه انتقم لهم في ذاته باستعباده لجسده وقمعه له.

إذًا من يستطيع أن يجزم بأن الشهداء القديسين لم يكونوا يسألون من الرب انتقاما كهذا لأنفسهم (أي إبادة مملكة الخطية)؟ لأننا نجد في مثل هذا الطلب رغبة في إنهاء عالم الخطية الذي تحملوا فيه عذاباتهم. إنهم يصلون لأجل أعدائهم حتى يمكن رجوعهم إلى الرب، كما يصلون ضد أولئك المصرين على الخطية إلى النهاية، لأن الله في عقابه لمثل هؤلاء لا يكون منتقمًا حاقدًا بل مدبرًا للبر الأعظم.

لذلك ليتنا لا نتردد في محبة أعدائنا والإحسان إلى مبغضينا والصلاة لأجل الذين يسيئون إلينا.

الفصل الثالث والعشرون

78

لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات

ليتنا نفهم هذا النص على أساس العطية التي تحدث عنها يوحنا قائلاً “فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء الله”(27) لأن السيد المسيح وحده هو ابن بالطبيعة، هذا الذي لم يعرف الخطية قط، أما نحن فقد أعطانًا سلطانًا أن نصير أولادًا له قدر ما نطيع وصاياه، لذلك يعطينا الرسول صفة “التبني”، التي ندعى بها إلى مشاركة المسيح في الميراث الأبدي(28). وبذلك صرنا أولادًا لله بنسب روحي، فنحن أبناء في ملكوت الله ولسنا بعد غرباء، كما أننا في نفس الوقت جبلته وخليقته. فلقد وهبنا الله عطاءين: الأول به أوجدنا من العدم، والثاني به تبنانا حتى نتمتع كأبناء بنصيبنا في الحياة الأبدية.

لم يقل “اصنعوا هذه الأمور لأنكم أبناء الله” بل اصنعوها “لكي تكونوا أبناء”.

79

ولكن عندما دعانا ابن الله الوحيد نفسه إلى هذه البنوة، إنما دعانا للتشبه به لذلك قال: فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين. ولكن ما هي هذه الشمس؟! إما أن تكون شمسًا غير منظورة للعين الجسدية، أي تلك الحكمة التي قيل عنها أنها “ضياء النور الأزلي” (حك 26:7)، كما قيل عنها “شمس البرً تشرق عليَّ” وأيضًا: “لكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البرّ” (مل 4: 2).

وبالمثل يكون المطر غير منظور، قاصدًا به تعاليم الحق واروائها لنفوسنا، لأن السيد المسيح جاء للصالحين والأشرار، وبُشّر به للأبرار والظالمين.

وإما أن تكون هي تلك الشمس المنظورة التي تراها جميع المخلوقات، كذلك المطر يكون هو ذلك المطر المنظور الذي عليه تنمو النباتات التي تقّوت الجسد. وهذا التفسير أظنه أكثر احتمالاً، لأن الشمس الروحية لا تشرق سوى على الصالحين والقديسين، إذ نرى في سفر الحكمة الأشرار يبكون قائلين: “لم تشرق علينا الشمس” (حك 6:5)، كما لا يروي المطر الروحي غير الصالحين، لأنه قصد بالشرير تلك الكرمة التي قيل عنها: “وأوصي الغيم أن لا يمطر عليهِ مطرًا” (إش 6:5).

ولكن سواء فهمنا الشمس والمطر بمعنى أو بآخر، فلنقتدِ بصلاح الله، إذ أمرنا بمشابهته إن كنا نريد أن نكون أبناء له.

أين ناكر المعروف هذا الذي لا يشعر بعظم نعمة هذه الحياة التي تجلبها الشمس المنظورة والمطر المادي؟ إن هذه النعمة توهب في هذه الحياة للجميع، للأبرار كما للأشرار.

غير أنه لم يقل “يشرق الشمس” بل أضاف علامة الملكية (شمسه)، أي التي صنعها وأوجدها، دون أن يأخذها من أحد، وذلك كما جاء في سفر التكوين عند خلقه الكواكب. إنه يليق بالله أن يقول عن كل ما خلقه أنه ملكه. فبوصيته هذه ينصحنا أن نكون أسخياء في إعطاء أعدائنا الأشياء التي لم نخلقها نحن، بل أعطيت لنا من الله.

ولكن من يستطيع أن يكون مستعدًا لاحتمال شرور الآخرين لأجل خلاصهم، بل ويحتمل شرورًا مضاعفة لأجل نفعهم، بل ومن يستطيع أن يعطي كل من يسأله أو يستطيع ألا يرد من يريد أن يقترض منه، ومن يستطيع أن يحب أعداءه ويحسن إلى مبغضيه ويصلي لأجل الذين يطردونه… أقول من يستطيع تنفيذ هذه الأمور غير الشخص الرحيم تمامًا؟! متممًا بذلك القول الإلهي “إني أريد رحمة لا ذبيحة”. لذلك “طوبى للرحماء لأنهم يرحمون“.


(1) 2كو20:11،21.

(2) 2كو15:12.

(3) أع37:16.

(4) أع5:23.

(5) يو23:18.

(6) مت44:5.

(7) عب6:12.

(8) لو47:12،48.

(9) لو52:9-56.

(10) حنانيا وسفيرة

(11) كان يقصد الرسول أن يعزل هذا الشخص وأمر بعدم مخالطته (1كو11:5،13). ويبدو أن هذا الأخ قد حزن حزنًا مفرطًا حتى كاد أن يبتلع من الحزن، لذلك كتب الرسول في رسالته الثانية مطالبًا بمسامحته (2كو5:2-8).

(12) 2كو7:9.

(13) “من يعطي المسكين يقرض الرب”.

(14) مز1:2.

(15) مز18:22.

(16) 1يو16:5.

(17) كلمة “الأخ” هنا مترجمة حسب النص الإنجليزي 1كو14:7،15.

(18) لو34:23.

(19) 2تي14:4-16.

(20) مت21:18، لو3:17.

(21) مت4:27،5.

(22) مت24:12-33.

(23) رو14:12.

(24) رو17:12.

(25) رؤ10:6.

(26) رو12:6.

(27) يو12:1.

(28) رو17:8، غلا5:4.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى