Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

ثالثًا: عدم إدانة الآخرين

59

وطالما يصعب علينا معرفة هدف الآخرين من اكتنازهم للأشياء الزمنية… فقد يكون قلبهم بسيطًا أو مزدوجًا، لذلك يليق أن يقال: لا تدينوا لكي لا تدانوا، لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون. وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم.

أظن أننا من هذه الوصية نتعلم ضرورة افتراض أحسن قصد ممكن لأعمال الآخرين التي يمكن أن نشك في نيتها. أما عندما كتب: “من ثمارهم تعرفونهم” فقد قصد بها الثمار التي لا يمكن الشك فيها مثل الدعارة والتجديف والسرقة والسكر وأمثال ذلك التي سمح بالحكم فيها (من الكنيسة) حيث يقول الرسول: “لأنه ماذا لي أن أدين الذين من الخارج. ألستم أنتم تدينون من الداخل” (1 كو 12:5). فلا ندين إنسانًا على أكل معين، فقد يأكل بنية صالحة بدون شهوة، لهذا يمنع الرسول الممتنعين عن أكل اللحم وشرب الخمر عن إدانة من يأكلونه ويشربونه، قائلاً: “لا يزدرِ مَنْ يأكل بمَنْ لا يأكل. ولا يدِنْ مَنْ لا يأكل مَنْ يأكل”. كما يقول: “مَنْ أنت الذي تدين عبد غيرك. هو لمولاهُ يثبت أو يسقط” (رو 3:14، 4).

60

ويدخل ضمن هذا النوع من الأعمال التي يحتمل أن تصنع بقصد صالح أو شرير قول الرسول “إذًا لا تحكموا في شيءٍ قبل الوقت حتى يأْتي الربُّ الذي سينير خفايا الظلام ويظهر آراءَ القلوب. وحينئذٍ يكون المدح لكل واحدٍ من الله”(1). فأي حكم على هؤلاء يكون فيه تهور منا. ويقول الرسول في عبارة أخرى “خطايا بعض الناس واضحة تتقدَّم إلى القضاءِ. وأما البعض فتتبعهم”(2). فالخطايا الظاهر نيتها دعاها خطايا واضحة، لا يتهور القضاء في الحكم عليها. أما الخطايا الخفية فتتبعهم وهي لا تدوم مخفية. إذن فلنحكم (ككنيسة) على الأعمال الواضحة، أما الخفية فلنتركها لحكم الله، فسيأتي الوقت تنكشف فيه.

61

ينبغي علينا ألا نحكم على الآخرين في أي حالة من الحالتين التاليتين:

(1) إذا كانت النية غير واضحة.

(2) إذا كانت حالة الشخص المستقبلة غير ثابتة فهناك احتمال أن يصير صالحًا أو شريرًا.

مثال ذلك، لو أن إنسانًا لم يرغب في الصوم بحجة مرض معدته. فإن لم تصدقه تكون قد تهورت في حكمك، كذلك لو عرفت أن النهم والسكر رذيلتان واضحتان، فتوبخ من يرتكبهما كأنه لن يصلح بعد، تكون قد تهورت في حكمك.

ليتنا لا نحكم على الأمور الغير واضح نيتها، كما لا نحكم على الأمور الواضح نيتها، كأننا قد يئسنا من رجوع من يرتكبها إلى الحق… لذلك قيل “لا تدينوا لكي لا تدانوا“.

62

لكن قد يحيرنا قول الرب “لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم”. فهل إذا حكمنا على أحد بتهور يحكم الله علينا بتهور؟! أو إذا كِلنا شيئًا بكيلٍ ظالمٍ هل يرد الله لنا ذلك بكيلٍ ظالمٍ؟!

إنه لا يمكن أن يحكم بتهور أو يجازي أحدًا بكيلٍ ظالمٍ، بل قال بهذه العبارة، قاصدًا أننا بتهورنا نعاقب أنفسنا لا الآخرين. فقد نتصور أن الظلم يضر المظلوم، لكن بالعكس غالبًا لا يضر المظلوم بل الظالم نفسه. فما هو الضرر الذي أصاب الشهداء من مضطهديهم؟! لا شيء، بل عاد الضرر على المضطهدين أنفسهم. فإن كان البعض عاد إلى الحق لكن أثناء اضطهادهم كانت شرورهم قد أعمتهم عن الحق.

وبنفس الطريقة نفسر “كلَّ الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون” (مت 52:26). فكم من كثيرين ضربوا بالسيف دون أن يهلكوا بالسيف كبطرس الرسول الذي ضرب أذن عبد رئيس الكهنة دون أن يموت بالسيف، لكن صلب حتى لا يظن أنه هرب من الضرب بالسيف بواسطة غفران خطاياه. ومع هذا فماذا يقولون عن اللصين الذين صلبا مع السيد المسيح (لو 33:23-23)، فهل صلبا جميع الذين قتلوهم حتى استحقا الصلب؟! إنه من المضحك أن نقول بذلك. إذن ماذا يقصد بالعبارة: “كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون” سوى أن الروح ستموت بارتكابها للخطية مهما كانت هذه الخطية؟!…

63

ينصحنا الرب ألا نحكم على أحد بتهور أو بظلم، لأنه يرغب في أن نصنع كل شيء بقلب بسيط متجه دائمًا نحو الله. هذا وإذ يكون استعداد من يحكم على الآخرين هو البحث عن خطايا الغير لتوبيخهم وإدانتهم، لا لإصلاحهم وتهذيبهم في محبة… كل هذا بسبب كبريائهم أو حسدهم، لذلك أضاف رب المجد:: “ولماذا تنظر القَذَى الذي في عين أخيك. وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها

فلو سقط أخوك في خطية الغضب، تسقط أنت في خطية الكراهية (بإدانتك له). وهناك فرق شاسع بين الغضب والكراهية كما هو بين القذى والخشبة. لأن الكراهية هي غضب مزمن، فبطول الزمن اشتد القذى (الغضب) حتى صار يدعى بحق خشبة (الكراهية). فإنك إن غضبت على إنسان فلا بد أنك ترغب في رجوعه إلى الحق، أما إذا كرهته فلا يمكن لك أن تشتاق إلى رجوعه.

64

أم كيف تقول لأخيك دعني أُخرِج القَذَى من عينك، وها الخشبة في عينك؟ يا مرائي أَخرِج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذٍ تبصر جيّدًا أن تُخرِج القَذَى من عين أخيك.

أزل عنك الكراهية حتى تستطيع إصلاح من تحبه. حسنًا يقول الرب “يا مرائي” لأن الإنسان المحب، وحده الذي له أن يشتكي من خطايا الآخرين، أما الشرير، فمتى اشتكى على الآخرين يكون مرائيًا، إذ يظهر نفسه بصورة غير التي هو عليها… فهناك صنف من المتصنعين يشتكون من خطايا الآخرين كالكراهية والضغينة بقصد الظهور بمظهر أصحاب المشورة… لنحذر لئلا نسقط في هذا، كذلك إذا اضطررت إلى الكشف عن أخطاء الآخرين أو انتهارهم، فلننظر إلى أنفسنا إن كنا نرتكب نفس الخطايا، أو سبق لنا ارتكابها. فإن كنا لم نرتكبها لنعلم أننا بشر معرضون للخطية. أما إن كنا قد ارتكبنا الخطية من قبل وقد تحررنا منها، فلنذكر ضعفنا على الدوام. لذلك وجب علينا أن نكمن لمن نكشف أخطاءهم المحبة لا الكراهية… ولنحذر لئلا ننشغل بخطاياهم… فلا نلوم الخاطئ ولا ننتهره، بل نحزن بشدة على حالتنا هذه، غير طالبين منه أن يطيعنا، بل أن يجاهد معنا.

65

عندما يقول الرسول “فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود. وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس. وللذين بلا ناموسٍ كأني بلا ناموس. مع أني لست بلا ناموس لله بل تحت ناموسٍ للمسيح لأربح الذين بلا ناموسٍ. صرت للضعفاءِ كضعيفٍ لأربح الضعفاءَ. صرت للكلّ كلَّ شيءٍ لأخلّص على حالٍ قومًا” (1 كو 20:9-22). فبلا شك لا يفعل هذا تصنعًا كما قد يحسب البعض، مبررين بذلك تصنعهم الممقوت. فهو يفعل هذا حبًا فيهم، متأثرًا بضعفات الآخرين حاسبًا إياها ضعفًا له. وقد سبق أن وضع هذه القاعدة “فإني إذا كنت حرًّا من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين” (1 كو 19:9). وتظهر محبته وشفقته على الضعفاء كما لو كانت ضعفاتهم ضعفه هو. وليس تصنعًا منه قوله “فإنكم إنما دُعِيتم للحريَّة أيُّها الإخوة. غير أنهُ لا تصيّروا الحرَّية فرصة للجسد بل بالمحبة اخدموا بعضكم بعضًا” (غلا13:5).

66

فعلينا ألا نستخدم التوبيخ إلا نادرًا. وإذا اضطررنا إلى استخدامه يجب علينا أن نسعى بشغف إلى خدمة الله لا أنفسنا. ليكون لنا هدف واحد، فلا نفعل شيئًا بقلب مزدوج. لنخرج من أعيننا خشبة الحسد أو الحقد أو التصنع، حتى نتمكن من الإبصار فنخرج القذى من عيني أخينا. للنظر إلى القذى بعيني الحمامة، اللتين لعروس المسيح (نش 1:4)، التي اختارها الله لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن. أي نقية لا غش فيها (أف 27:5). 

+ + + 

عدم طرح الدّرَر

67

قد يسيء البعض فهم “لا غش فيها Guileless” حاسبًا أن من يخبئ الحقيقة عن الآخرين، في أي ظرف من الظروف يكون كمن يتكلم باطلاً. لقد أضاف الرب لا تعطوا القدس للكلاب. ولا تطرحوا دُرَركم قدام الخنازير. لئَلاَّ تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزّقكم. فالرب نفسه رغم عدم نطقه بالكذب قط، أخفى حقائق معينة إذ يقول: “إِن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأَقُول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن” (يو 12:16). كما يقول الرسول بولس: “وأنا أيُّها الاخوة لم أستطع أن أكلّمكم كروحيّين بل كجسديّين كأطفالٍ في المسيح. سقيتكم لبنًا لا طعامًا لأنكم لم تكونوا بعدُ تستطيعون بل الآن أيضًا لا تستطيعون” (1 كو 1:3، 2).

68

لنتساءل… ماذا يقصد الرب بالقدس والدرر؟ وما هو المقصود بالكلاب والخنازير؟…

(1) القدس: الشيء المقدس هو الشيء الذي يكون من الكفر تدنيسه وإفساده، فمجرد المحاولة أو الرغبة في تدنيسه أو إفساده يعتبر جريمة حتى ولو لم يدنس الشيء أو يفسد.

(2) الدرر: يقصد بها الأمور الروحية التي ينبغي أن تكون لها مكانة عظيمة في نظرنا، لأنها مخبأة في مكان خفي. كما لو كانت تجلب من العمق وتغطى بغطاء من الرموز كما لو كانت قشرة لها.

ويمكننا أن نفهم القدس والدرر على أنهما شيء واحد، لكنه دعي “مقدسًا” بسبب وجوب عدم إفساده، وسمي “دررًا” لوجوب عدم الازدراء به، فالإنسان يسعى نحو إفساد ما لا يرغب في إبقائه سليمًا ويحتقر ما يحسبه تافهًا ومنحطًا. لذلك يقال عن الشيء المحتقر أنه مدوس بالأقدام.

يقول الرب “لا تعطوا قدسكم للكلاب” لأن الكلاب تهجم على الشيء وتمزقه وبالرغم من عدم قدرتها على تمزيقه وإفساده لأنه سيبقى سليمًا بلا دنس، لذلك فلنفكر فيما يرغبه أولئك الذين يقاومون الروح بعنف وعداء شديد، هؤلاء الذين يرغبون في تدمير الحق قدر المستطاع لو أمكن تدميره. أما الخنازير فتختلف عن الكلاب إذ لا تهجم على الشيء لتمزقه بأسنانها لكنها تدنسه إذ تدوسه بأرجلها بطياشة “ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير. لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم”.

إذن لنفهم “الكلاب” على أنها تشير إلى “مقاومي الحق”. والخنازير على “محتقري الحق”.

69

لم يقل الرب “تلتفت وتمزق الدرر” بل “وتمزقكم” لأنهم إذ يدوسون الدرر ينتظرون من ملقين الدرر أن يسمعوا منهم شيئًا آخر فلا يجدوا فيمزقونهم. فليس من السهل أن نجد ما يبهج الخنازير التي تحتقر الأمور الإلهية، تلك التي نكتشفها بعد جهد عظيم.

فلست أعلم كيف يستطيع مقدم الدرر هذا أن يهرب من تمزيقه بواسطة هذه الجماعات الثائرة والمحتقرة للأمور الروحية.

هذا ونلاحظ أن كلاً من الكلب والخنزير نجس (بحسب الشريعة الموسوية) لهذا لنحذر من كشف الأمور المقدسة لمن لا يستطيع قبولها، مفضلين أن نتركه هو يطلب منا أن نكشف ما خفى عنه، عن أن نكشف له فيهاجم ويزدري.

إن سر عدم قبولهم للأمور الروحية هي الكراهية التي بسببها دعوا “كلاب” والازدراء الذي بسببه دعوا “خنازير”.

فعلى من يرغب في نقاوة قلبه ألا يظن نفسه ملومًا لإخفائه شيئًا عمن لا يستطيع احتماله. وهذا لا يبيح الكذب، لأن الإخفاء لا يعتبر نطقًا بالباطل. من ثم فالخطوات الأولى هي إزالة العوائق التي تمنعه من قبول الحق. فإن كانت النجاسة هي العائق عن قبوله الحق، فلينق أولاً بالكلمة أو بالفعل قدر ما تستطيع.

70

لا يظن أن ربنا أعطى القدس للكلاب أو طرح الدرر للخنازير، عندما نطق بكلمات لا يقبلها كثيرون من الحاضرين بل قاوموها واحتقروها لأنه قدمها لمن كان في قدرتهم قبولها، وإن كان يوجد معهم من هم غير قادرين على قبولها، فوجود هؤلاء لا يمنعه من تقديمها لمن يقبلها.

فعندما سأله الذين كانوا يجربونه، أجابهم على أسئلتهم حتى لا يكون لهم ما يقاومون به… وبذلك هيأ المجربون للمسيح فرصة ليستفيد منها الذين كان لهم الاستعداد لقبول كلمته.

تحدثت بهذا حتى لا يمتنع غير القادرين عن الإجابة بحجة أنهم لا يعطون القدس للكلاب أو يطرحون الدرر أمام الخنازير. فمن يعرف الإجابة فليجب ولو لفائدة غير السائلين ما دام الحديث عن أمور مفيدة وتعاليم خلاصية. فكثيرًا ما يسأل بعض الكسالى أسئلة لا تهمهم بل وقد تكون ضارة بهم، ومع ذلك فينبغي علينا إما أن نجيب على السؤال مباشرة، وذلك في الأمور المفيدة. مثل سؤال الصديقين عن مصير المرأة التي تزوجت بسبعة أخوة فلمن منهم ستكون زوجة في الحياة الأبدية؟ فقد أجابهم الرب بأن في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء. أو أن تكون الإجابة على السؤال بسؤال فإذا ما أجاب على سؤالنا يكون قد أجاب على سؤاله. أما إذا رفض الإجابة، فيليق بنا عدم إجابته على سؤاله. فعندما سألوا السيد ليجربوه “هل نعطي الجزية لقيصر أم لا ؟ أجابهم” وما هي الصورة التي تحملها العملة التي تقدمتم بها؟ فلما أجابوه أنها تحمل صورة قيصر أجابوا على أنفسهم فاستنتج لهم إجابة سؤالهم من إجابتهم لسؤاله “أعطوا إذَا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”(3).

وعندما سأله رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب بأي سلطان يفعل هذا، أجابهم بسؤال خاص عن معمودية يوحنا، فلما لم يجيبوا عليه لأنهم عرفوا أن بإجابتهم عليه ينفضحون، لم يجرأوا على الحديث بشر عن يوحنا خوفًا من الشعب، حينئذ قال لهم يسوع “ولا أنا أقول لكم بأيّ سلطانٍ أفعل هذا”(4). فهذا الرفض على الإجابة كان في نظر الحاضرين رفضًا عادلاً. لأن رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب رفضوا إبداء رأيهم في يوحنا المعروف تمامًا. فقد سبق لهم أن أرسلوا إلى يوحنا يسألونه عن نفسه من هو، إذ بالحري لكونهم كهنة ولاويين أرسلوا إليه ظانين إياه أنه المسيح، أما هو فأجابهم بأنه ليس هو، إنما شاهد للمسيح(5). فلو قبلوا شهادة يوحنا لعرفوا بأي سلطان يصنع السيد المسيح هذا. 

اسألوا… اطلبوا… اقرعو

71

إذ يسمع الإنسان تلك الوصية التي تمنعنا من إعطاء القدس للكلاب وطرح الدرر أمام الخنازير، قد يعترض شاعرًا بجهله وضعفه، لأن الوصية تمنعه من أن يعطي ما لم يأخذه بعد، قائلاً “أي قدس هذا الذي تمنعني من إعطائه للكلاب، وأي درر تلك التي تمنعني من طرحها للخنازير، فإنني أشعر بأنني لا أملك شيئًا من هذا”. لهذا يليق برب المجد أن يردف قائلاً:

اسألوا تُعطَوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتَح لكم. لأن كل من يسأَل يأخذ. ومن يطلب يجد. ومن يقرع يُفتَح لهُ.

يشير السؤال إلى نوالنا قوة الفكر ومتانته، حتى نتمكن من العمل بالوصايا. أما الطلب فيشير إلى وجود الحق. فالحياة المباركة تكمن في كل من العمل والمعرفة. فالعمل يتطلب قوة، أما المعرفة فتتطلب إيضاحًا للأمور. فالأول يسأل والثاني يطلب. لذلك فالأول يعطي والثاني يوجد غير أن المعرفة تخص معرفة الطريق لا امتلاكه، لكن من وجد الطريق الحقيقي فسيملك أيضًا، لأنه يفتح لمن يقرع.

72

ولكي نفهم ما يقصد بالسؤال والطلب والقرع، نفترض وجود رجل أعرج، فمثل هذا يعطى له أولاً الشفاء أي القدرة على المشي، وهذا ما قصده الرب بالسؤال. لكن ماذا ينتفع بالمشي أو حتى بالجري إن استخدمه في طريق منحرف؟ لذلك فالخطوة الثانية هي أن يجد الطريق المؤدي إلى المكان المطلوب.. وهذا ما قصد به الطلب. لكن ما المنفعة إن كان قادرًا على المشي وعرف الطريق وكان الباب مغلقًا.. لذلك قال: “اقرعوا”.

73

لقد وهبنا الرب رجاء لا خداع فيه بوعده “لأن كل من يسأل يأخذ. ومن يطلب يجد. ومن يقرع يفتح له”، من ثم فنحن نحتاج إلى المثابرة. وقد ضرب لنا أمثلة كما سبق أن استخدم الأمثلة في حديثه عن عدم القلق من جهة الطعام واللباس. لذلك نجده يقول:

أم أيُّ إنسانٍ منكم إذا سأَلهُ ابنهُ خبزًا يُعطيهِ حجرًا. وإن سأَلهُ سمكةً يُعطيهِ حيَّةً. فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تُعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات يَهَبُ خيراتٍ للذين يسأْلونهُ.

لكن كيف يستطيع الأشرار أن يعطوا عطايا صالحة؟! لقد دعاهم أشرارًا لأنهم لا زالوا إلى الآن محبين للعالم وخطاة. وقد دعيت الأشياء صالحة بحسب مشاعرهم، فهي رغم كونها صالحة حسب طبيعتها لكنها أمور زمنية خاصة بهذه الحياة الواهية. غير أن الأشرار لا يعطون هذه العطايا من عندهم لأن للرب الأرض وملؤها (مز 1:24). الذي صنع السماء والأرض والحجر وكل ما فيها (مز 6:146).

فإن كنا ونحن أشرار نعرف كيف نعطي ما يسألونه منا فلا نخدع أبناءنا بل نعطيهم أشياء صالحة ليست منا بل من الرب، فكم بالأكثر يكون رجاؤنا في الرب أن يعطينا عندما نطلب منه أمورًا صالحة. 

رابعًا: محبة الناس

74

عند سيرنا في طريق الحكمة نجد قوة ونشاطًا يكمنان في الأخلاق الطيبة التي تسمو بحسب نقاوة القلب وسلامته، الأمر الذي عالجه الرب بإطالة مختتمًا إياه بقوله “فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم بهم. لأن هذا هو الناموس والأنبياءُ“… والعبارة “كل ما تريدون” تتضمن معنى “الأعمال الصالحة” لأنه لا توجد إرادة “كل ما تريدون” إلا فيما هو صالح، أما ارتكاب الأمور الشريرة فيحدث عن الشهوة لا الإرادة.

75

مقارنة مع ما ورد في مت37:22-40

إن الوصية القائلة “أن نفعل للناس ما نريد أن يفعله الناس بنا” تبدو كما لو كانت تخص محبتنا لأقربائنا فقط دون أن نتكلم عن محبتنا لله. وقد جاء في موضوع آخر أن هناك وصيتان بهما “يتعلق الناموس كله والأنبياء وهما محبة الله والناس”. فلو قال “كل ما تريدون أن يفعل بكم”… لشملت هذه العبارة الوصيتين لأن كل إنسان يريد أن يكون محبوبًا من الله والناس وبالتالي فعليه أن يحب الله والناس، لكنه ذكر “يفعل الناس” ومع ذلك أضاف “لأن ذلك هو الناموس والأنبياء”. فعندما تحدث عن الوصيتين قال “يتعلق الناموس كله والأنبياء” أما هنا فلم يذكر “كله” تاركًا مجالاً للوصية الأخرى الخاصة بمحبة الله.

فإذن يتكلم الرب هنا معقبًا على الوصايا الخاصة بسلامة القلب، يخشى من أن يكون للإنسان قلبًا مزدوجًا من جهة البشر، هؤلاء الذين لا يريدون القلب المزدوج… فكل إنسان لا يرغب في أن يعامله شخص مزدوج القلب.

76

كيف نصل إلى نقاوة القلب؟

إن تنقية العين والعمل على سلامتها، يمكنها من رؤية نورها الداخلي والتأمل فيه. والعين موضع البحث هنا هي عين القلب. وهي تكون سليمة:-

(1) لمن يصنع أعماله الصالحة بغير قصد إرضاء الناس. أما إذا أرضاهم فيوجه هذا الرضى نحو خلاصهم وتمجيد الله لا الافتخار الفارغ.

(2) إذا صنع شيئًا صالحًا بقصد خلاص أخيه فلا يقصد من ذلك الحصول على ضروريات الحياة.

(3) ولا يدين أحدًا…

(4) وكل إنسان يقدمه لإنسان لا ينتظر منه جزاءً زمنيًا.

بهذا يكون القلب سليمًا ونقيًا فيعاين الله.. لذلك “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله”.

77

إن موضوع نقاوة القلب يهم قليلين. وقد بدأ يتحدث عن البحث عن الحكمة التي هي شجرة الحياة…، لذلك فإن عينًا كهذه أعطيت لها هذه الوصايا تقف لترى الباب الضيق والطريق الكرب، لذلك يكمل الرب قائلاً:

ادخلوا من الباب الضيّق. لأنهُ واسع الباب ورَحْب الطريق الذي يؤَدّي إلى الهلاك. وكثيرون هم الذين يدخلون منهُ. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤَدّي إلى الحياة. وقليلون هم الذين يجدونهُ.

لم يقل بهذا لأن نير الله صعب أو حمله ثقيل، بل لأن قليلين هم الذين يرغبون في التخلص من أتعابهم، غير مبالين بالذي يصرخ قائلاً “تعالوا إليَّ يا جميع المُتعَبين… وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلموا مني. لأني وديع ومتواضع القلب… لأن نيري هيّن وحملي خفيف”(6)… 

الأنبياء الكذبة

78

لنتطلع نحن إلى أولئك الذين يحسبون أنفسهم حكماء وعارفي الحق لمجرد قلة عددهم مثل الهراطقة. فلكي لا يستغلوا القول بأن قليلين هم الذين يجدون الباب الكرب والطريق الضيق، أضاف الرب للحال:

احترزوا من الأنبياء الكَذَبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذِئَاب خاطفة.

على أن هؤلاء لن يستطيعوا أن يخدعوا ذوي العيون السليمة، الذين يعرفون كيف يميزون بين الشجر من ثماره، إذ يقول “من ثمارهم تعرفونهم”. وقد أضاف الرب التشبيهات التالية:

هل يجتنون من الشوك عنبًا أو من الحسك تينًا. هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارًا جيّدة. وأما الشجرة الرديَّة فتصنع أثمارًا ردية. لا تقدر شجرة جيّدة أن تصنع أثمارًا رديَّة. ولا شجرة رديَّة أن تصنع أثمارًا جيدة. كل شجرة لا تصنع ثمرًا جيّدًا تُقطَع وتُلقَى في النار. فاذًا من ثمارهم تعرفونهم.

79

لنحذر جدًا في تفسيرنا لهذه العبارة، لئلا نظن وجود طبيعتين مختلفتين للشجر، أحداهما تنتمي إلى الله والأخرى لا تنتمي إليه، هذا خطأ في التفسير سبق لي أن عالجته في كتبي الأخرى وبخاصة عند الرد على أتباع ماني. وإنني سأوضح كيف أن هاتين الشجرتين لا تؤيدان معتقدهم:

أولاً: من الواضح أن رب المجد يتحدث عن البشر لا عن الطبيعة البشرية…

ثانيًا: إن الهراطقة يهتمون بالقول “لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارًا رديئة ولا شجرة رديئة أن تصنع أثمارًا جيدة” وبهذا يظنون أنه لا يمكن لإنسان شرير أن يصير صالحًا ولا الصالح أن يصير شريرًا، مع أن المسيح لم يقل “لا تقدر شجرة جيدة أن تصير رديئة ولا رديئة أن تصير جيدة” بل قال “لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارًا رديئة ولا شجرة رديئة أن تصنع أثمارًا جيدة”. فالشجرة هي روح الإنسان وثمارها هي أعماله. وبذلك لا يستطيع إنسان شرير أن يصنع أعمالاً صالحة ولا الصالح أعمالاً شريرة. فإن أراد الشرير أن يصنع أعمالاً صالحة فيصير أولاً صالحًا. وهذا ما يقوله رب المجد نفسه في عبارة أخرى بأكثر وضوح “اجعلوا الشجرة جيدة أو اجعلوها رديئة”(7) فلو قصد رب المجد وجود طبيعتين بشريتين أحداهما شريرة والأخرى صالحة لما قال “اجعلوا” لأنه مَن مِن البشر يستطيع أن يخلق طبيعة بشرية؟! كذلك نجده أضاف قائلاً “يا مرائين كيف تقدرون أن تتكلموا بالصالحات وأنتم أشرارًا!!” فطالما كان الإنسان شريرًا لا يستطيع صنع الأعمال الصالحة وإلا لما كان شريرًا. لذلك قيل بحق إن الثلج لا يمكن أن يسخن وأما إذا سخن فلا يعود بعد ثلجًا بل ماء. هكذا يمكن للشرير أن يتحول عن كونه شريرًا ولكنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصنع شيئًا صالحًا طالما هو شرير.

غير أن الشرير أحيانًا يكون نافعًا، ولكن نفعه هذا ليس من ذاته. مثال ذلك قيل عن الفريسيين “كل ما قالوا لكم أن تحفظوهُ فاحفظوهُ وافعلوه. ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا”(8). فهم يتكلمون بأشياء صالحة، فكل من يصغى إلى كلماتهم ويعمل بها يستفيد. ولكن هذه الفائدة ليست نابعة منهم بل كما يقول “على كرسي موسى جلس“. فهم يعلمون بالعناية الإلهية تعليم الشريعة، ويستطيعون أن يفيدوا من يصغون إليهم رغم عدم استفادتهم هم شخصيًا وقد تحدث النبي عن هذا الأمر قائلاً “زرعوا حنطة وحصدوا شوكًا”(9). لأنهم يعلمون الصلاح ويصنعون الشرور. فمن ينصت ويصنع بقولهم لا يجتني عنبًا من الشوك وإنما يجتني عنبًا من الكرمة بواسطة الشوك. وذلك كمن يقطف عنبًا خلال السياج أو كمن يجتني العنب من كرمة التفت حول الشوك. فالثمرة ليست من الشوك بل هي ثمرة الكرمة.

80

السؤال الهام هو: ما هي هذه الثمار التي منها تعرف الشجرة؟ لأن كثيرين يرون الثمار خاصة بثياب الحملان لا بالحملان نفسها فيخدعون من الذئاب الحاملة ثياب الحملان. من هذه الثمار الصوم، والصلاة، والصدقة، هذه الأمور التي يمكن حتى للمرائين أن يصنعونها، لذلك قال الرب “احترزوا من أن تصنعوا بركم قدام الناس لكي ينظروكم”.

فكثيرون يتصدقون بسخاء على الفقراء لا بعطفهم عليهم بل بدافع الكبرياء.

وكثيرون يصلون أو بالحري يظهرون كما لو كانوا يصلون، مع أنهم في حقيقتهم لا يتطلعون إلى الله بل إلى مدح الناس.

وكثيرون يصومون مظهرين زهدًا عجيبًا لينالوا كرامة من الذين يستصعبون هذه الأمور.

فبمثل هذه الحيل والخداعات تخطف الحملان الذئاب وتفترس تلك التي لا تستطيع أن تدرك حقيقتها. إذن لا ينصحنا الرب بالصدقة والصلاة والصوم كثمار نعرف بها الشجرة لأنها تخفي ثياب الحمل لا الحمل ذاته… وذلك متى صنعت بقصد سليم. أما إذا صنعت في خداع فإنما تخفي تحتها ذئاب، ولا يعني هذا أن تكره الحملان ثوبها (الصوم. الصلاة. الصدقة) لمجرد لبس الذئاب لها.

81

لقد أخبرنا الرسول عن الثمار التي بها نعرف أن الشجرة رديئة وهي: “وأعمال الجسد ظاهرة التي هي زنا عهارة نجاسة دعارة عبادة الأوثان سحر عداوة خصام غيرة سخط تحزُّب شقاق بدعة حسد قتل سكر بَطَر وأمثال هذه التي أسبق فأقول لكم عنها كما سبق فقلت أيضًا إن الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله” ويخبرنا أيضًا عن الثمار التي تعرف بها الشجرة الجيدة فيقول “وأما ثمر الروح فهو: محبَّة فرح سلام طول أناةٍ لطف صلاح إيمان وداعة تعفُّف”(10). ينبغي علينا أن نفهم كلمة “فرح” هنا بالمعنى الدقيق لها، لأن الأشرار لا يتحدثون عن الفرح في معناه الدقيق بل في صورته المتطرفة. فالمعنى الدقيق للكلمة تعني الفرح الخاص بالصالحين فقط، ذلك كما يقول النبي “لا فرح للأشرار يقول الرب”(11).

وأيضًا كلمة “الإيمان لا يقصد بها أي إيمان بل “الإيمان الحقيقي”. وهكذا بالنسبة للأمور الأخرى، فإن لها مشابهات لدى الأشرار والمخادعين يضللون بها الإنسان غير النقي العينين. لذلك حسن جدًا أن تكون العين أولاً سليمة وعندئذ تنظر إلى الأشياء التي تحذرها حتى لا تخدع بها.

82

لنحذر لئلا أثناء جهادنا من أجل الحكمة التي في المسيح وحده “المذَّخر فيهِ جميع كنوز الحكمة”(12). أقول لنحذر لئلا يخدعنا الهراطقة ومحبو العالم باسم المسيح نفسه. لذلك أضاف الرب قائلاً ليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات. بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات. فلا نحسب أن قولهم “يا رب يا رب” ثمرة تعلن عنهم أنهم شجرة جيدة، إنما صنع إرادة الآب السماوي أي صنع ما قد تنازل المسيح معلنًا ذاته مثالاً لنا… هو الثمرة التي للشجرة الجيدة.

83

يليق بنا أن نسأل. كيف يتفق القول “ليس كل من يقول يا رب يا رب…” مع قول الرسول: “ليس أحد يقدر أن يقول يسوع ربُّ إلاَّ بالروح القدس” (1 كو 3:12)؟ فلا نستطيع القول بأن من كان به الروح القدس لا يدخل ملكوت السماوات طالما كان مثابرًا إلى النهاية. كما لا نستطيع أن نؤكد بأن الذين يقولون “يا رب يا رب” دون أن يدخلوا ملكوت السماوات معهم الروح القدس. ففي قول الرسول “لا يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس” يقصد بكلمة “يقول” المعنى الدقيق لها أي الإرادة والفهم عند القول، بينما كلمة “يقول” الواردة في كلام السيد المسيح فيقصد بها المعنى العام. لأن من ينطق دون أن يرغب فيما يقول ولا يفهمه يبدو كما لو كان “يقول” وأما من يعبر بقوله عن إرادته وعقله فهذا “يقول” بحق. وهذا يشبه تفسيرنا لكلمة “فرح” السابق شرحها كثمرة من ثمار الروح. إذ يقصد بها المعنى الدقيق لها لا المعنى العام الذي ورد في قول الرسول نفسه “لا تفرح بالإثم”(13) كما لو كان من الممكن أن يفرح الإنسان بالإثم، مع أن الفرح يملكه الإنسان الصالح وحده. هكذا أيضًا هؤلاء يبدو كما لو كانوا يقولون “يا رب” وهم لا يدركون ما ينطقون به ولا يقتنعون بالتأمل في الإرادة فيه، إنما ينطقون بفمهم فقط. أما الذين ينطقون بالكلام معبرًا عن حقيقة إرادتهم وقصدهم، فهؤلاء “يقولون” بالحق والصدق. عن هؤلاء يقول الرسول “ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس”.

84

فعلينا ألا نخدع لمجرد تسميتهم باسم المسيح دون أن يكون لهم الأعمال، بل ولا الأعمال ولا المعجزات أيضًا تخدعنا، لأن الرب الذي صنع المعجزات لغير المؤمنين، حذرنا من أن نُخدع بالمعجزات ظانين أنه حيثما وجدت المعجزة المنظورة توجد الحكمة غير المنظورة. لذلك أضاف قائلاً “كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب أَليس باسمك تنبَّأْنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوّاتٍ كثيرة. فحينئذٍ أصرّح لهم أني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم” فهو لا يعرف غير صانعي البر. لهذا منع الرب تلاميذه من أن يفرحوا بصنع المعجزات مثل خضوع الشياطين لهم قائلاً “بل افرحوا بالأحرى أن أسماءَكم كُتِبَت في السماوات”(14). أي في مدينة أورشليم التي لا يملكها سوى الأبرار والقديسون كما يقول الرسول: “ألستم تعلمون أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله” (1 كو 9:6).

85

لكن قد يقول قائل بأن الظالمين لا يستطيعون فعل هذه القوات المنظورة، وأنهم يقولون كذبًا “باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات”. لكننا لننظر ما صنعه ساحرو مصر المقاومون لموسى خادم الله(15). وإن كانت لم تصنع باسم المسيح فلنقرأ ما قاله الرب نفسه عن الأنبياء الكذبة “حينئذ إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدقوا لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا. ها أنا قد سبقت وأخبرتكم(16).

86

كم يلزم للإنسان أن تكون عينه نقية وسليمة حتى يجد طريق الحكمة الذي تعترضه خداعات الأشرار الضالين وأخطارهم. فبعينه النقية يهرب من هذه الخداعات إلى السلام الأكيد والحكمة الراسخة القوية. لأن الخطورة هي أن ينشغل بالمناقشات والجدال فلا يرى ما يراه القليلون. لأن مخاطر الأشرار في ذاته تافهة، لكن خطورته أن ينشغل الإنسان به فيضطرب، لذلك يقول الرسول “وعبد الرب لا يجب أن يخاصم بل يكون مترفّقًا بالجميع صالحًا للتعليم صبورًا على المشقَّات مؤَدّبًا بالوداعة المقاومين عسى أن يعطيهم الله توبةً لمعرفة الحق”(17). لذلك طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون.

87

يا لها من خاتمة مرعبة تلك التي ختم بها الرب العظة، إذ يقول فكل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبّههُ برجلٍ عاقلٍ بنى بيتهُ على الصخر. لأن بالعمل يثبت الإنسان ما قد سمعه وما فهمه. فإن كان المسيح هو الصخرة كما يشهد الكتاب المقدس، إذن فالذي يعمل بما يسمعه إنما يبني على المسيح.

فنزل المطر وجاءَت الأنهار وهبَّت الرياح ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط. لأنهُ كان مؤَسَّسًا على الصخر. فالإنسان المؤسس على المسيح لا يخاف من الخزعبلات المظلمة، لأنه ماذا يعني بالمطر سوى أمور رديئة، ولا يخشى إشاعات البشر التي كما أظن مرموز إليها بالرياح، ولا يخاف من هذه الحياة (التي كما لو كان) تفيض على الأرض بالشهوات الجسدية… أما الإنسان الذي يسمع ولا يعمل بها فيكون في خطر من هذه الأمور الثلاثة لأنه بدون أساس راسخ، فبسماعه دون العمل يبني دمارًا. لذلك أردف في الحال “وكل من يسمع أقوالي هذه ولا يعمل بها يُشبَّه برجلٍ جاهلٍ بنى بيتهُ على الرمل. فنزل المطر وجاءَت الأنهار وهبَّت الرياح وصدمت ذلك البيت فسقط. وكان سقوطهُ عظيمًا. فلما أكمل يسوع هذه الأقوال بهتت الجموع من تعليمهِ. لأنهُ كان يعلّمهم كمن لهُ سلطان وليست كالكَتَبَة.

هذا ما قصده النبي في قوله “كلام الرب كلام نقي كفضةٍ مصفَّاة في بوطة الأرض ممحوصة سبع مرَّاتٍ”(18). فقد لاحظنا الرقم 7 في الوصايا، كما في فاتحة الموعظة في عبارات المطوبين. في أعمال الروح القدس التي أشار إليها إشعياء النبي(19). (التي قارناها بعبارات المطوبين) وعلى كل ينبغي علينا أن ننفذ ما قد سمعناه من الرب إن أردنا أن نبني على الصخر.


(1) 1 كو 5:4.

(2) 1تي24:5.

(3) مت15:22-34.

(4) مت23:21-27.

(5) يو19:1-27.

(6) مت28:11-30.

(7) مت33:12، 34.

(8) مت3:23.

(9) إر13:12.

(10) غلا19:5-23.

(11) أش21:57.

(12) كو3:2.

(13) 1كو6:13.

(14) لو20:10.

(15) خر7، 8.

(16) مت23:24-35.

(17) 2تي24:2،25.

(18) مز6:12.

(19) أش2:11،3.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى