Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

الفصل الأول

1

مقدمة عامة على التطويبات (1)

لو تأمل إنسان بتقوى وورع في العظة التي قالها ربنا يسوع المسيح على الجبل، كما جاءت في إنجيل متى، لوجد فيها كل المبادئ السامية اللازمة للحياة المسيحية الكاملة.

وبقولنا هذا لا نكون مغالين، بل نستشف هذا الأمر من كلمات الرب نفسه، فالعظة كاملة من حيث شمولها جميع الوصايا التي توَّجه الحياة. لهذا قال الرب: “فكل من يسمع أقوالي هذه، ويعمل بها، أشبهّهُ برجلٍ عاقلٍ بنى بيتهُ على الصخر. فنزل المطر وجاءَت الأنهار وهبَّت الرياح ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط، لأنهُ كان مؤَسَّسًا على الصخر. وكل من يسمع أقوالي هذه، ولا يعمل بها، يُشبَّه برجلٍ جاهلٍ بنى بيتهُ على الرمل. فنزل المطر وجاءَت الأنهار وهبَّت الرياح وصدمت ذلك البيت فسقط. وكان سقوطهُ عظيمًا” (مت 24:7-27). إذ لم يقل الرب: “من يسمع أقوالي” فقط، بل أضاف “من يسمع أقوالي هذه”، لذلك أظن أنه قد أشار بما فيه الكفاية إلى أن هذه العظة التي نطق بها على الجبل تقود الراغبين في السلوك بموجبها إلى حياة الكمال، حتى يُشبهوا بحق بذلك الذي بني على الصخر.

لقد قلت هذا لمجرد إظهار كمال العظة الواضحة أمامنا، في وصاياها التي تشّكل حياة المسيحي، لأننا سنعالج هذا الفصل بعناية أوفر فيما بعد.

2

افتتح متى الموعظة كما يلي:

ولما رأَى الجموع صعد إلى الجبل. فلما جلس تقدَّم إليهِ تلاميذهُ. ففتح فاهُ وعلَّمهم قائلاً.

لو سُلنا ماذا يعني بالجبل، فحسنًا نفهم أنه يقصد وصايا البرّ العظيمة. لأنه توجد وصايا أقل (2) أعطيت لليهود. ومع هذا فهو إله واحد، تكلم في القديم بواسطة أنبيائه وخدامه القديسين، معلنًا الوصايا الأقل لشعب يعرف الله عن طريق الخوف، ولكن الذي يوزع الأزمنة بترتيبٍ كاملٍ، أعطي بواسطة ابنه الوصايا العظمى لشعبٍ قد تهيأ للتحرر بالمحبة.

علاوة على ذلك عندما أعطيت الوصايا الصغرى للصغار والعظمى للعظماء، إنما أعطيت بواسطة الله الذي وحده يقدم للبشرية الدواء المناسب بحسب أحوالها.

ولا نعجب من أن تُعطى الوصايا العظمى التي لأجل ملكوت السماوات والصغرى التي للملكوت الأرضي بواسطة ذلك الواحد، الله نفسه صانع السماء والأرض. لذلك قيل بالنبي عن برّ الله: “عدلك مثل جبال الله” (مز 6:36)، وهذا قد يعني حسنًا أنه يليق بالسيد الواحد أن يعلم الأمور العظيمة على جبل.

إنه يعلم جالسًا، وهذا يليق بمقام وظيفة المعلم.

“فلما جلس تقدم إليه تلاميذه”، ليكونوا قريبين منه بالجسد ليسمعوا كلماته، كما هم قريبون منه بالروح بتنفيذ وصاياه.

“ففتح فاه قائلاً”. وربما كانت هذه الدقة تشير برقةٍ إلى طول العظة بنوع ما. وربما يكون هذا القول لأنه الآن فتح فاه، بينما اعتاد في الشريعة القديمة أن يفتح أفواه الأنبياء(3).

3

ماذا يقول إذن؟

طوبى للمساكين بالروح. لأن لهم ملكوت السماوات.

نقرأ في الكتاب المقدس عن التعب من أجل الأمور الزمنية “الجميع باطل وكآبة الروح” (4)، أما كلمة كآبة الروح Presumption of spirit، فتعني الوقاحة والكبرياء والغطرسة، ومن المعتاد أيضًا أن يُقال عن المتكبر إن به أرواحًا متعالية، وهذا صحيح، لأن الريح تدعى روحًا. وبهذا كُتب: “النار والبرَد والثلج والضباب الريح العاصفة Spirit of tempest” (مز 8:148) حقًا إن المتكبر يدعى منتفخًا كما لو كان متعاليًا مع الريح. وهنا يقول الرسول: “العلم ينفخ، ولكن المحبَّة تبني” (1 كو 1:8)…

لنفهم بالحقيقة أن المساكين بالروح هم المتواضعون وخائفو الله أي الذين ليس لديهم الروح التي تنتفخ.

بالحق ليس للتطويبات أن تبدأ بغير هذه البداية، ما دامت موضوعة لأجل بلوغ الحكمة العالية “رأس الحكمة مخافة الرب” (مز10:111)، ومن الناحية الأخرى “الكبرياء أول الخطايا” (حكمة يشوع 15:10).

إذن فليبحث المتكبر عن الممالك الأرضية ويحبها، ولكن “طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات”

الفصل الثاني

4

طوبى للوُدَعاءِ، لأنهم يرثون الأرض

أظنها تلك الأرض التي وردت بالمزمور. “قلت أنت ملجأي نصيبي في أرض الأحياء” (مز5:142)، لأنها تعني ثباتًا واستقرارًا في الميراث الدائم، الذي فيه تستريح الروح، بواسطة التدبير، بوجودها في موضعها. وذلك كالجسد تمامًا، إذ هو من الأرض يستريح عليها ويتغذى بطعامها…

الودعاء هم الذين يذعنون لضعف الآخرين، ولا يقاومون شرهم، بل يغلبونه بالخير (رو21:12).

5

طوبى للحزانى. لأنهم يتعزَّون

الحزن هو التأسف بسبب فقدان أشياء محبوبة. غير أن الذين يهتدون إلى الله يفقدون تلك الأشياء التي اعتادوا اقتنائها في هذا العالم كأشياء ثمينة، لأنهم لا يفرحون فيما بعد بما كانوا يبتهجون به قبلاً. فإذا وجدت محبة الأشياء الأبدية، فإنهم يكونون مجروحين بقدر ضئيل من الحزن. لهذا يتعزون بالروح القدس الذي دُعي بسبب هذا “بالباركليت” أي المعزي، حتى يتمتعوا إلى التمام بما هو أبدي بفقدانهم المتع الوقتية.

6

طوبى للجِياع والعِطاش إلى البرِّ. لأنهم يُشبَعون

إنه يدعو هذا الفريق بمحبي الحق والصلاح الذي لا يفنى، لذلك يشبعون بذلك الطعام الذي قال عنه الرب نفسه “طعامي أن أعمل مشيئة أبي” أي البرّ، ويرتوي بذلك الماء الذي قال عنه أيضًا: “ومَنْ يشرب… يصير فيهِ ينبوع ماءٍ ينبع إلى حياةٍ أبديَّة” (يو14:4).

7

طوبى للرُّحَماءِ، لأنهم يُرحَمون

الذين ينقذون البائسين مطوبون، لأن عملهم هذا يرتد إليهم بطريقة يتحررون بها من البؤس.

8

طوبى للأَنْقِياءِ القلب، لأنهم يعاينون الله

يا لغباوة الباحثين عن الله بهذه العيون الخارجية، إذ لا يُرى الله إلا بالقلب، وذلك كما هو مكتوب في موضع آخر “التمسوه بقلب سليم” (حك1:1)، لأنه ما هو القلب النقي سوى القلب السليم والبسيط. وكما أن هذا النور لا يُرى إلا بعيونٍ نقيةٍ، هكذا لا يُرى الله ما لم يكن ذاك الذي يراه (أي القلب) نقيًا.

9

طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناءَ الله يُدعَون

يكون كمال السلام حيث لا توجد مقاومة. فأبناء الله صانعو سلام، لأنه ينبغي للأبناء أن يتشبهوا بأبيهم. إنهم صانعو سلام في ذواتهم. إذ يسيطرون على حركات أرواحهم، ويخضعونها للصواب أي للعقل والروح، ويقمعون شهواتهم الجسدية تمامًا، وهكذا يظهر ملكوت الله الذي فيه يكون الإنسان هكذا:

كل ما هو سامٍ وجليلٍ في الإنسان يسيطر بدون مقاومة على العناصر الأخرى الجسدانية (التي يشترك فيها مع الحيوان)، وينبغي أن يخضع ذلك العنصر السامي لشيء أفضل أيضًا، ألا وهو الحق، ابن الله المولود، لأنه لا يستطيع الإنسان السيطرة على الأشياء الدنيا ما لم تخضع ذاته لمن هو أعظم منه. هذا هو السلام الذي يعطي الإرادة الصالحة، هذه هي حياة الإنسان الحكيم صانع السلام.

أما رئيس هذا العالم (الشيطان)، المسيطر حيثما وجد الضلال والاضطراب، فيبتعد عن إنسانٍ تسود حياته السلام والترتيب الكامل ويسيطر عليها ابن الله. فعندما ينشأ هذا السلام من الداخل ويثبت، فإن جميع الاضطهادات التي يثيرها رئيس هذا العالم من الخارج، لا تستطيع أن تهز شيئًا من ذلك البناء الداخلي، بل تؤدي قوة البناء من الداخل إلى فشل مكائد إبليس من الخارج.

لذا أكمل الرب قائلاً: “طوبى للمطرودين من أجل البرّ، لأن لهم ملكوت السماوات”. 

الفصل الثالث

10

ترتيب التطويبات

في العبارات الثمانية الأولى، كان يتحدث رب المجد إلى الجميع، أما ما جاء بعد ذلك فحدّث به بصفةٍ خاصةٍ الحاضرين. “طوبى لكم إذا عيَّروكم وطردوكم”. فالعبارات السابقة كانت موجهة بصيغة عامة، لأنه لم يقل: “طوبى لكم أيها المساكين بالروح، لأن لكم ملكوت السماوات” ولم يقل: “طوبى لكم أيها الودعاء لأنكم ترثون الأرض”، بل قال: “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض”، وهكذا حتى العبارة الثامنة حيث يقول: “طوبى للمطرودين من أجل البرّ لأن لهم ملكوت السماوات”.

 فالعبارات الثمانية تخص الماثلين أمامه رغم توجيهها بصيغة عامة للجميع، والحديث الأخير يخص الجميع بالرغم من توجيهه بصفة خاصة إلى الحاضرين معه.

لهذا يجب أن نتأمل بعناية في عدد العبارات الماثلة أمامنا وترتيبها.

1- بدأت التطويبات بالتواضع. “طوبى للمساكين بالروح” أي لغير المنتفخين، عندئذ تخضع الروح للسلطان الإلهي خوفًا من عقابها في الحياة الأبدية، رغم ما يبدو لها من سعادة في الحياة الحاضرة.

2- عندئذ تعرف الروح الكتب المقدسة الإلهية، حيث ينبغي لها أن تعرفها بوداعة وتقوى، لئلا تتجاسر وتنقد ما قد يبدو للجاهل غير معقولٍ، وتصبح غير قابلة للتعليم بسبب المناقشات السقيمة.

3- بعد ذلك تبدأ الروح في التعرف على مقدار أشراك هذا العالم التي تسقط فيها بسبب الخطايا الشهوانية، فتحزن على فقدانها للخير الأعظم، والتصاقها بما هو دنيء.

4- يظهر الجهاد بعد ذلك – في المرحلة الرابعة – حيث يبرز الجهاد، فيبتعد العقل عن الأمور التي سقط فيها بسبب لذة إغراءاتها. هنا يُجاع إلى البرّ، ويعطش إليه، ويكون الاحتمال (القوة) ضروريًا جدًا، حيث لا يمكن ترك ما فيه لذة بدون ألمٍ.

5- لهذا ففي المرحلة الخامسة يُعطى للمثابرين على الجهاد مشورة للتخلص من الأشياء (المهلكة)، فلا يستطيع أحد أن يتخلص من أشراك بؤس عظيمة كهذه بدون معونة من هو أعظم منه. يا لها من مشورة عادلة! فعلى الراغب في معونة من هو أعظم منه، أن يساعد من هو أضعف منه فيما هو قوي فيه، لذلك “طوبى للرحماء لأنهم يرحمون”.

6- تأتي في المرحلة السادسة نقاوة القلب، ذلك القلب الذي يستطيع بالضمير الصالح للأعمال الصالحة أن يعاين الصلاح الأعظم. هذا هو الصلاح الذي يدرك بالذهن النقي الهادئ.

7- أخيرًا المرحلة السابعة وهي الحكمة نفسها، أي التأمل في الحق، متشبهًا بالله، عندئذ يقول “طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون”.

أما المرحلة الثامنة فكما لو كانت تعود إلى نقطة البداية، لهذا دعي ملكوت السماوات في كلى المرحلتين الأولى والثامنة. ففي الأولى: “طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات” وفي الثامنة: “طوبى للمطرودين من أجل البرّ لأن لهم ملكوت السماوات”. وكأنه يقول: من سيفصلنا عن محبة المسيح، أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف. (رو 45:8) فالأشياء التي تجلب الكمال سبعة، لأن الثامنة ليست إلا توضيح وإظهار لما هو كامل وذلك كالأولى، فكأنها بدأت من جديد… 

الفصل الرابع

11

كلمات إشعياء النبي عن روح الرب والتطويبات

يبدو أن أعمال الروح القدس التي تكلم عنها إشعياء النبي (5) تقابل هذه المراحل أو العبارات السبعة، إلا أنه يوجد بينهما اختلاف في الترتيب. فكلمات النبي إشعياء تتدرج من الأعظم إلى الأقل، وأما هنا فيصعد من الأقل إلى الأعظم.

فإشعياء يبدأ بالحكمة وينتهي بمخافة الرب، لأن “رأس الحكمة مخافة الرب”. لذلك إذ رتبنا ما ورد في إشعياء النبي ترتيبًا تصاعديًا (بدلاً من ترتيبه التنازلي) فسيبدأ بمخافة الرب، ثانيًا التقوى، ثالثًا المعرفة، رابعًا القوة (الاحتمال)، خامسًا المشورة، سادسًا الفهم، سابعًا الحكمة.

أولاً: مخافة الرب تقابل المتواضعين، الذين قيل عنهم: “طوبى للمساكين بالروح” أي غير المنتفخين، هؤلاء الذين يخاطبهم الرسول قائلاً: “لا تستكبر بل خَفْ” (رو20:11)، أي لا ترتفع.

ثانيًا: التقوى تقابل الودعاء، لأن الباحث بتقوى يكرم الكتاب المقدس ولا ينتقد ما لم يفهمه بعد، وهذا هو الوديع الذي قيل عنه (طوبى للودعاء).

ثالثًا: المعرفة تقابل هؤلاء الحزانى، الذين بواسطة الكتاب المقدس عرفوا الشرور التي تسلطت عليهم. والتي كانوا يشتهونها بجهلٍ كما لو كانت أشياء صالحة ومفيدة، فحزنوا نادمين عليها.

رابعًا: القوة تقابل هؤلاء الجياع والعطاش، الذين يجاهدون باجتهادٍ لنوال الفرح من الأشياء الحقيقية، باحثين بشغف لتوجيه حبهم بعيدًا عن الأشياء الزمنية. عن هؤلاء قيل: “طوبى للجياع والعطاش إلى البر”.

خامسًا: المشورة تقابل الرحماء، لأن العلاج الوحيد للهروب من شرور كثيرة هو أن نغفر للآخرين مادمنا نطلب المغفرة، ونساعد الآخرين قدر استطاعتنا مادمنا نطلب عونًا بسبب ضعفنا. وعن هؤلاء قيل: “طوبى للرحماء”.

سادسًا: الفهم يقابل أنقياء القلب. فكأن العين قد تنقت لتنظر ما لم تره عين، وما لم تسمع به أذن، وما لم يخطر على قلب بشر. وعن هؤلاء قيل: “طوبى للأنقياء القلب”.

سابعًا: الحكمة تقابل صانعي السلام، ففي صانع السلام يصبح كل شيء منظمًا، فعواطفهم لا تثور على العقل، بل يخضع كل ما في الإنسان لروحه، بينما تخضع روحه لله. وعن هؤلاء قيل: “طوبى لصانعي السلام”.

12

الجزاء

علاوة على ذلك دُعي الجزاء الوحيد، أي ملكوت السماوات، بأسماء مختلفة حسب كل مرحلة من هذه المراحل (6).

ففي الأولى أعطي الجزاء “ملكوت السماوات“، وهو أعلى مراتب حكمة الروح وأكثرها كمالاً، لذلك قيل: “طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات”. فكأنه قيل: “رأس الحكمة مخافة الرب”.

أعطى الرب للودعاء ميراثًا، كما لو كان ذلك ميثاقًا من الآب للباحثين عنه بتقوى. “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض”.

أعطى للحزانى عزاءًا، لأنهم عرفوا ما فقدوه، وعرفوا في أي الخطايا سقطوا، “طوبى للحزانى لأنهم يتعزون”.

أعطى للجياع والعطاش شبعًا، إنعاشًا للمجاهدين والمناضلين من أجل الخلاص “طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، لأنهم يشبعون”.

أعطى للرحماء رحمة، لأنهم يقبلون مشورة حقيقية رائعة، فيعاملهم الأعظم منهم (الله) بنفس المعاملة التي يعاملون بها من هم أقل منهم. “طوبى للرحماء، لأنهم يُرحمون”.

أعطى لصانعي السلام التشبه به، بكونهم كاملي الحكمة، يأخذون صورة الله بواسطة تجديد حياتهم. “طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون”.

حقًا يمكن لهذه المواعيد أن تتحقق في هذه الحياة، وذلك كما نعتقد بأنها تحققت مع الرسل؛ لأنه لو كان يقصد تحقيقها في السماء لما أمكن التعبير عنها بكلمات.

طوبى للمطرودين من أجل البرّ.

هذه العبارة التي ترجع إلى نقطة البداية (أي ليست مرحلة ثامنة، إنما تظهر كمال الشخص بتحقيقه المراحل السبع السابقة).

ربما يتضح معناها بالختان في اليوم الثامن في العهد القديم وقيامة الرب بعد السبت، أي في اليوم الثامن والأول في نفس الوقت، كما يتضح بالاحتفال بالأيام الثمانية المفرحة التي تشيد عند اهتداء الإنسان، كذلك بنفس العدد الذي للخماسين، لأنه يضرب سبعة سبع مرات ينتج الرقم 49، ويُضاف إليه اليوم الثامن ينتج العدد 50، وكأننا عدنا إلى البداية، ذلك اليوم الذي فيه حل الروح القدس. فبالروح القدس نصل إلى ملكوت السماوات، ونأخذ ميراثًا، ونتعزى، ونشبع، وننال رحمة، ونتنقى، ونصير صانعي سلام، (فتتم التطويبات السبعة الأولى فينا)، إذًا نصير كاملين هكذا، نحتمل كل الأتعاب التي تجلب علينا من الخارج (أي من خارج الإنسان) من أجل البرّ والحق. 

الفصل الخامس

13

طوبى لكم إذا عيَّروكم وطردوكم، وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا، لأن أجركم عظيم في السماوات.

===هكذا يقول الرب، ليعلم المسيحي بالاسم، أي الذي يبحث عن ملذات هذا العالم وغنى هذه الأمور، إن سعادتنا داخلية، كما قيل عن الكنيسة بلسان النبي: “جميع مجدها في الداخل” (7). فقد وعد الرب بالتعيير الخارجي والطرد والاحتقار، إلا أن لهذه الأشياء جزاءً عظيمًا في السماوات، يشعر بها الذين يحتملونها هاتفين مع الرسول “نفتخر أيضًا في الضيقات عالمين أن الضيق ينشئُ صبرًا والصبر تزكية والتزكية رجاءً والرجاءُ لا يُخزِى لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا” (8). واحتمال هذه الأتعاب المفيدة ليس بالأمر الهين، ولكن احتمالها من أجل المسيح لا يكون بفكر هادئ فحسب بل وبفرح أيضًا.

كثير من الهراطقة الخادعين للنفوس تحملوا أتعابًا كثيرة كهذه إلا أنهم حرموا من الجزاء، لأنه لم يقل “طوبى للمطرودين” فقط بل أضاف “لأجل البر” فحيث لا يوجد إيمان قويم لا يوجد بر، لأن البار بالإيمان يحيا (9).

ولا ينبغي أن يظن المنقسمون أن لهم هذا الجزاء، لأنهم يشبهون الهراطقة، وحيث هم بلا محبة فهم بلا بر، لأن “المحبة لا تصنع شرًّا للقريب” (10) فلو كانت لديهم محبة لما مزقوا جسد المسيح الذي هو الكنيسة إلى أجزاء.

14

قد نسأل ما هو الفرق بين قوله “إذا عيروكم” وقوله “قالوا عليكم كل كلمة شريرة” ما دام المعنى يبدو واحدًا؟

إن القول بكلمة التعيير يكون بسخرية في حضرة المعّير، كما قيل لربنا “أَلَسْنَا نقول حسنًا إنك سامريّ وبك شيطان” (11)، وهذا يختلف عن تجريح سمعتنا في غيابنا، كما كتب عن المسيح أيضًا “بعضهم يقول إنهُ صالح. وآخرون يقولون لا بل يضلُّ الشعب” (12).

ثم التعيير يكون فيه عنف أو تدبير للمكائد كما جاء عن الذي خان المسيح والذين صلبوه.

والحقيقة المؤكدة أيضًا أنه لم يقل “وقالوا عليكم كل كلمة شريرة” فحسب بل أضاف “من أجلي” و “كاذبين”. وأظن أن هذه الإضافة قد وضعت لأجل الراغبين في المجد الزمني باعتباره بديلاً عن طردهم وتجريح سمعتهم كما يرغبون في أن يقال عنهم إنهم أتباع المسيح بسبب ما يتحملونه من شرور وآلام، ولكن ما يقال عنهم قد يكون صحيحًا إن كان بسبب أخطائهم، وقد لا يكون صحيحًا إذا اتهموا بأمور لم يفعلوها، وفي هذه الحالة أيضًا لا يحتملونها من أجل المسيح. لأن الذي يدعى مسيحيًا دون الإيمان الحقيقي وتعاليم الكنيسة ليس بتابع المسيح.

15

افرحوا وتهللوا. لأن أجركم عظيم في السماوات

أنني لا أظن الذي دعي بالسماوات هنا هو ذاك الجلد الذي نراه في عالمنا المنظور، وبذلك لا يكون جزاؤنا في أشياء زائلة زمنية بل أبديًا سماويًا. وأعتقد كذلك أن كلمة “في السماوات” تعني الجلد الروحي الساكن فيه البر الأبدي…إذ يقول الرسول عنها “فإن سيرتنا نحن هي في السماوات” (13). ولهذا يدرك المتهللون بالروح هذا الجزاء المنتظر في العالم، غير أن إدراكهم يكمل من جميع النواحي عندما يأخذ الفاسد عدم فساد (أي في الحياة الأبدية).

فأنهم هكذا طردوا الأَنْبِياءَ الذين قبلكم

لقد استخدم كلمة “الطرد” في هذا الموضع في معناها العام قاصدًا بها التعيير وتجريح السمعة مشجعًا المطرودين حسنًا بمثال الأنبياء، لأن الذين يتكلمون بالحق اعتادوا أن يعانوا من الطرد ومع هذا لم يكفوا عن التبشير بالحق بسبب الخوف من الطرد.

+ + + 

الفصل السادس

16

رسالتنا في العالم

يلي ذلك عبارة “أنتم ملح الأرض”، مشيرة إلى تلك الجماعات التي تفتقر إلى الأمور الأبدية التي لا يمكن أن يأخذها أو يعطيها إنسان، ساعية بشغف للاغتناء من الأشياء الأرضية. خائفة من العوز… هذه ما هي إلا جماعات بلا طعم… بلا ملح!! “ولكن إن فسد الملح فبماذا يملح“، أي إن كنتم أنتم الذين بواسطتكم تحفظ الأمم من الفساد تخسرون ملكوت السماوات بسبب الخوف من الطرد الزمني، فمن هم الذين يرسلهم الرب لخلاص نفوسكم إن كان قد أرسلكم لأجل خلاص الآخرين؟!

لذلك فإن الملح الفاسد “لا يصلح بعد لشيء إلا لأن يطرح خارجًا ويداس من الناس”، والذي يدوسه الناس ليس هو المطرود بل الخائف من الطرد، ذلك هو الإنسان الأرضي الذي يداس من الناس، أما الذي يعاني أتعابًا كثيرة بالجسد مع ثبات قلبه في السماويات فهو ليس بأرضي حتى يداس من الناس.

17

أنتم نور العالم

وبنفس الطريقة التي تحدث بها قبلاً “أنتم ملح الأرض” يقول الآن “أنتم نور العالم”. في الأولى لا تفهم الأرض على أنها تلك التي ندوسها بأقدامنا بل البشر القاطنين فيها، أو الخطاة الذين لأجل إصلاح فسادهم أرسل الرب الملح الرسولي. و”العالم” هنا لا يعني السماء والأرض بل البشر الساكنين في العالم أو مريديه، هؤلاء لأجل إنارتهم أرسل الرب الرسل.

لا يمكن أن تُخفَى مدينة موضوعة على جبل أي المدينة المؤسسة على بر عظيم ممتاز، الذي يشير إليه الجبل الذي يعظ ربنا.

ولا يوقدون سراجًا ويضعونهُ تحت المكيال

ماذا يقصد بهذا؟

1- “تحت مكيال” تعني إخفاء السراج؛ كأنه يقول “ولا يوقد أحد سراجًا ويخبئه”

2- أم يقصد بالمكيال شيئًا آخر، وذلك لأن وضع السراج تحت المكيال يعني أننا نحجب النور الروحي ونغلف الروح نفسها بأغلفة المادة الكثيفة وملذات الجسد تلك التي تكال وتقاس، فلا نبشر بالحق ما دمنا نخشى تحمل أي ضيق في أمور جسدية زمنية.

3- أم يقصد بالمكيال نوال الجزاء بمقياس، فينال كل شخص جزاء بحسب  أعماله، كقول الرسول “ينال كلُّ واحدٍ ما كان بالجسد بحسب ما صنع”(14)، كما قيل في موضع آخر كما عن المكيال الذي للجسد “وبالكيل الذي بهِ تكيلون يكال لكم” (15).

4- أم قصد بذلك أن الأشياء الصالحة الزمنية التي تكمل في الجسد تحدث في الإطار الزمني المحدود، بينما لا تلتزم الأمور الروحية الأبدية بحدود كهذه “لأَّنهُ ليس بكيلٍ يعطي الله الروح”. (16)

لذلك فإن كل من يخفي نور التعاليم الصادقة ويخبئها بالأشياء الجسدية الزمنية يضع سراجه تحت المكيال.

بل على المنارة

الذي يخضع جسده لخدمة الله يضع السراج على المنارة فيكون التبشير بالحق في مرتبة أعلى وخدمة الجسد في مرتبة أدنى. ومع هذا فإن التعاليم تزداد وضوحًا بصورة محسوسة باستخدام الحواس الجسدية، أي عندما تسخر الحواس المختلفة (اللسان والفكر وأعضاء الجسد) في التعليم، لذلك يضع الرسول سراجه على المنارة عندما يقول هكذا: “أُضارِب كأني لا أضرب الهواءَ. بل أقمع جسدي وأستعبدهُ حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا” (17).

فيضيءُ لجميع الذين في البيت

أظن أن الذي دعي بالبيت هنا هو مسكن البشر، أي العالم نفسه، وذلك كقوله “أنتم نور العالم”. إلا أنه إذا فهم شخص ما البيت على أنه الكنيسة فهذا صحيح أيضًا.

+ + +

الفصل السابع

18

إرضاء الناس

فليضيءْ نوركم هكذا قدام الناس لكي يَرَوا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات.

لو قال: “فليضيء نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة” فقط، لبدى كأنه جعل مديح الناس هدفًا، هذا الذي يطلبه الهراطقة وملتمسو الكرامات والمتهافتون على المجد الزائل. وقد قيل عن هذه الجماعات “فلو كنت بعد أُرضي الناس لم أكن عبدًا للمسيح” (غل 10:1)، ويقول النبي عن الذين أرضوا البشر “أخزيتهم لأن الله قد رفضهم”، و”لأن الله قد بدد عظام الذين يرضون البشر” (مز 5:53)، ويقول الرسول “لأنكم مُعجبِين” (غل 26:5)، كما يقول “ولكن ليمتحن كلُّ واحدٍ عملهُ وحينئذٍ يكون لهُ الفخر من جهة نفسهِ فقط لا من جهة غيرهِ” (غل 4:6).

لذلك لم يقل “لكي يروا أعمالكم الحسنة” فقط، بل أضاف “ويمجدوا أباكم الذي في السماوات” لأن الإنسان يرضي الآخرين بأعماله الحسنة، لا لأجل إرضائهم في ذاته، بل لتمجيد الله فيرضي البشر ليتمجد الله في عمله، لأنه يليق بالذين يعجبون بالأعمال الحسنة أن يمجدوا الله لا الإنسان. وذلك كما أظهر ربنا عند شفاء المفلوج، يقول معلمنا متى “تعجبوا ومجَّدوا الله الذي أعطى الناس سلطانًا مثل هذا” (18).

ويقول المتشبه به بولس الرسول “غير أنهم كانوا يسمعون أن الذي كان يضطهدنا قبلاً يبشّر الآن بالإيمان الذي كان قبلاً يتلفهُ. فكانوا يمجدون الله فيَّ” (19).

19

بعد ما نصح الرب سامعيه أن يعدوا أنفسهم لاحتمال كل شيء من أجل الحق والبر وعدم إخفاء ما أوشكوا أن يتسلموه من الوصايا، وبعدما وجههم إلى ضرورة تعليم الآخرين، غير هادفين في ذلك نحو تمجيد ذواتهم بل مجد الله، بدأ الآن يخبرهم ويعلمهم ما ينبغي لهم أن يعلموه. فكأنهم سألوه قائلين: هوذا نحن مستعدون لاحتمال كل شيء من أجل اسمك وعدم إخفاء تعاليمك، فما هي هذه التعاليم التي منعتنا من إخفائها والتي من أجلها أمرتنا باحتمال كل شيء؟ هل ستذكر لنا وصايا تخالف ما جاءت بالناموس؟

يجيب قائلاً “لا تظنُّوا إني جئْت لأَنقض الناموس أو الأَنْبِياءَ. ما جئْت لأنقض بل لأكمّل”.

+ + + 

الفصل الثامن

20

تكميل الشريعة الموسوية

العبارة “ما جئْت لأَنقض بل لأكمّل” لها معنيان وسننظر في كلا المعنيين. فقد قصد الرب إما تكميل ما كان ناقصًا في الناموس، أو تنفيذ ما ورد فيه.

لنتأمل في المعنى الأول، فالذي يكمل ما كان ناقصًا لا ينقض ما قد أوجده بل يثيته بإضافة ما يكمله. لذلك أعقب الرب قائلاً فأني الحقَّ أقول لكم إلى أن تزول السماءُ والأرض لا يزول حرف (I) واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل.

فإن كانت الإضافة كاملة فبالأولى تكون البداية كاملة. لذلك يفهم قوله “لا يزول حرف (I) واحد أو نقطة واحدة من الناموس” على أنها تعبير عن كمال الناموس.

لقد أشار بحرف صغير، لأن حرف (I) أصغر الحروف إذ يتكون من خط صغير، ثم أشار إلى النقطة وهي التي توضع على الحرف، مظهرًا بذلك أن لأصغر الأجزاء في الناموس قيمة.

فمن نقض إِحدى هذه الوصايا الصُّغرى وعلَّم الناس هكذا يُدعَى أصغر في ملكوت السماوات.

قصد بالحرف الواحد والنقطة الواحدة الوصايا الصغرى، لذلك من نقضها وعلم الناس حسب ما نقضه، يدعى أصغر في ملكوت السماوات وكما سنرى فيما بعد أنه سوف لا يكون في ملكوت السماوات إلا العظماء.

وأما من عمل وعلَّم “أي بما لم ينقضه” فهذا يُدعَى عظيمًا في ملكوت السماوات. وسنرى فيما بعد أن ملكوت السماوات لا يوجد فيه إلا العظماء.

+ + + 

الفصل التاسع

21

هل من ضرورة لتكميل الناموس؟

فأني أقول لكم إن لم يزِد برُّكم على الكتَبَة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات.

يقصد بذلك أنه إن لم تنفذوا، لا وصايا الناموس الصغرى فحسب التي يبدأ بها الإنسان، بل وتلك التي أضيفها – أنا غير الناقض للناموس- لن تدخلوا ملكوت السماوات.

لكنكم قد تسألونني: إن كان عند حديثه عن الوصايا الصغرى قال بأن الذي ينقض واحدة منها ويعلم الناس بما نقضه يدعى الأصغر في ملكوت السماوات، وأن من عمل وعلم بها يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات؛ فما حاجتنا بعد إلى ما سيضيفه رب المجد لتكملة الوصايا الصغرى ما دام الذي يعمل ويعلم بها يدعى عظيمًا ويمكنه دخول ملكوت السماوات؟

لذلك فالعبارة “وأما من عمل وعلم فهو يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات” تفهم على أنها: من عمل وعلم لا الوصايا الصغرى فحسب بل والتي سيضيفها الرب أيضًا. والآن ما هي هذه الوصايا؟

يقول “إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين”، لأنه إن لم يزد بركم على برهم لن تدخلوا ملكوت السماوات. لذلك من نقض الوصايا الصغرى وعلم الناس بما ينقضه يدعى أصغر، وأما من عملها وعلم الناس بها فليس من الضروري أن يدعى عظيمًا ومعدًا لملكوت السماوات. ولكنه لا يكون أصغر كالذي نقضها. فلكي يكون عظيمًا ينبغي عليه أن يعمل وصايا المسيح التي تزيد على الكتبة والفريسيين ويعلم بها.

فبر الفريسيين هو عدم القتل، وبر المعدين لملكوت السماوات هو عدم الغضب باطلاً. الوصية الصغرى هي أن لا تقتل، ومن ينقضها يدعى اصغر في ملكوت السماوات، وأما من عمل بها فليس من الضروري أن يكون عظيمًا، بل يرتفع إلى درجة أسمى من الأولى، ولكنه يصير كاملاً إن كان لا يغضب باطلاً. وبالتالي سوف لا يكون قاتلاً.

لهذا فمن يعلمنا عن عدم الغضب لا ينقض الوصية الخاصة بعدم القتل بل بالأحرى يكملها. إذ في عدم الغضب نتنقى من الداخل في قلوبنا، ومن الخارج أيضًا “بعدم القتل”.

22

القتل والغضب

قد سمعتم أنهُ قيل للقُدَماءِ لا تقتل. ومن قتل يكون مستوجب الحُكم. وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيهِ باطلاً يكون مستوجب الحُكم. ومن قال لأخيهِ رَقا يكون مستوجب المجمع. ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنَّم.

ما الفارق بين “يكون مستوجب الحكم”، “يكون مستوجب المجمع”، “يكون مستوجب نار جهنم”؟ لأن هذه العبارات صعبة للغاية، فهي تذكرنا بمراحل مختلفة تتدرج بما هو أخف إلى ما هو ثقيل حتى تبلغ إلى نار جهنم. فإن كان الاستحقاق للحكم أخف من الاستحقاق للمجمع، وهذا الأخير أخف من الاستحقاق لنار جهنم، فينبغي لنا أن نفهم الغضب على الأخ باطلاً أقل من القول “رقًا”، وهذا الأخير أقل من “يا أحمق”، لأن الحكم لا يكون متدرجًا ما لم يكن الخطأ متدرجًا كذلك.

23

كلمة رَقا Raca كلمة غامضة وهي ليست كلمة لاتينية ولا يونانية، أما العبارات الأخرى فهي دارجة في لغتنا… (20).

من ثم فالتفسير الأكثر احتمالاً هو ما قاله لي رجل عبراني كنت قد سألته عن هذه الكلمة فأجابني بأنها لا تعني سوى مجرد تعبير عن انفعال الغضب. ويسمى رجال النحو هذه الكلمات التي تعبر عن انفعالات الفكر “أدوات تعجب” وكذلك كقول الحزين! Alas والغاضب! Hah!، وهذه الكلمات…. يصعب ترجمتها من لغة إلى لغة لذلك لم يستطع المترجمون اليونانيون واللاتينيون ترجمتها من العبرية فوضعوها كما هي.

24

هذه الانفعالات لها درجات، فيأتي الغضب في المرحلة الأولى حيث يحفظ الانفعال في داخل القلب دون أن يعبر عنه بحركة ظاهرة. أما إذا نتج عن الغضب تعبير بكلمة لا معنى لها سوى دلالتها على الغضب فتكون هذه الحالة في مرتبة أسوأ من الأولى.

وأما الحالة الثالثة وهي إذا عبر عن الغضب بتعبير يستخدمه المجتمع للذم، فمن يشك في أن هذه المرحلة أكثر سوءًا من المرحلتين السابقتين.

ففي المرحلة الأولى يوجد انفعال الغضب في الداخل، وفي الثانية يوجد الغضب مصحوبًا بانفعال ظاهري، أما في الحالة الثالثة فيوجد الغضب والانفعال الظاهري مصحوبًا بكلمة ذم.

للنظر الآن إلى الثلاث درجات من الأحكام: الحكم، المجمع، نار جهنم. ففي الحكم يترك للمتهم فرصة للدفاع عن نفسه. وأما المجمع فبالرغم من اعتباره “حكمًا” إلا أنه يختلف عنه في كون دينونة المتهم غير مشكوك فيها، فالقضاة في المجمع عليهم أن يضعوا صيغة الحكم، وأن يحددوا مدى الجزاء الذي يوقع على المتهم. أما في نار جهنم فدينونة الشخص غير مشكوك فيها – كما في الحكم – وكذلك أمر جزائه غير مشكوك فيه – كما في المجمع، ففي هذه الحالة دينونة الشخص وجزاؤه مؤكدان.

لقد رأينا درجات مختلفة للانفعالات وجزاءها، أما جزاءات الروح فمن يستطيع أن يخبرني عن طرقها غير المنظورة؟! لذلك ترى فرقًا شاسعًا بين حكم الفريسيين والبر الأعظم للداخلين ملكوت السماوات. فلأن القتل أشر من التعيير، فأننا نجد في شريعة الفريسيين لا يتقدم إلى المحاكمة غير القاتل، أما في البر الأعظم فيتقدم الغاضب إلى المحاكمة.

المحاكمة الأولى بشرية نهايتها قتل الجسد، أما الثانية فإلهية نهايتها نار جهنم، غير أن الذي يقول بأن القاتل يعاقب بعقوبة أعظم من الذي يغضب، فإنه يجبرنا على القبول “بجهنمات مختلفة” لأن الغضب وهو أقل من القتل عقوبته نار جهنم.

25

ينبغي لنا أن نلاحظ في العبارات الثلاثة السابقة وجود كلمتين مفهومتين ضمنًا، وهما “لأخيه”، “باطلاً”.

فالعبارة الأولى واضحة “من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم”.

أما العبارة الثانية “من قال لأخيه رَقا”، فيفهم أن القول باطل، وبذلك يكون مستوجب المجمع.

وأما العبارة الثالثة “من قال يا أحمق”، فهنا يفهم ضمنًا أنها موجهة “لأخيه – وباطلاً”، وبذلك نستطيع أن ندافع عن بولس الرسول، عندما يدعو أهل غلاطية أغبياء (21)، لأنه لا يدعوهم بذلك باطلاً.

وهذه العبارة الأخيرة “من قال يا أحمق” تخص معاملتنا لأخوتنا، وليس لأعدائنا، لأن السيد المسيح لم يبدأ حديثه بعد عن معاملتنا للأعداء.

+ + + 

 الفصل العاشر

26

مصالحة الإخوة

فإن قدَّمت قُربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك فاترك هناك قُربانك قُدَّام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك. وحينئذ تعال وقدِّم قُربانك.

يظهر من هذا النص أنه يتحدث عن معاملة الإخوة، لأن هذا النص مرتبط بالنص السابق بحرف عطف، فلم يقل “لكن إذا قدمت…” بل قال “فإن قدمت قربانك إلى المذبح”.

إن كان لا يجوز الغضب على الأخ باطلاً، أو القول له رقًا، أو يا أحمق، فبالأولى لا يجوز لنا أن نحتفظ بالغضب في داخلنا، فيتحول إلى كراهية. وقد قيل عن هذا “لا تغرب الشمس على غيظكم” (22).

لو فهم ما أمرنا به في هذه الوصية حرفيًا، أي متى تذكرنا أن لأخينا شيئًا عند تقديم قرباننا، نتركه قدام المذبح ونذهب نصطلح معه، حينئذ يحق لنا أن نقدم القربان، لو فهم هذا حرفيًا – لظننا أنه لا يمكن تنفيذ الوصية إلا إذا كان الأخ حاضرًا معنا، لأنه لا يمكن ترك القربان أمام المذبح مدة طويلة حتى نعود من عند أخينا. فلو تذكرنا شيئًا بخصوص أخ غائب مقيم فيما وراء البحار، فمن غير المعقول أن نترك قرباننا قدام المذبح حتى نعود ونقدمه لله بعد أن نجتاز ممالك وبحارًا. لهذا نأخذ هذا النص بمعنى روحي داخلي. 

27

يمكن تفسير “المذبح” على أنه الإيمان الذي في الهيكل الداخلي “حياتنا”، هذا الذي يرمز له بالهيكل المنظور.

لأن أي تقدمة نقدمها لله، سواء كانت نبوة أو تعليم أو صلاة أو مزمور أو تسبحة أو أي تقدمة روحية أخرى تشغل الذهن، لا يمكن قبولها عند الله ما لم يعضدها الإيمان القويم، أي ما لم توضع على المذبح غير المتزعزع، حتى تكون تقدمتنا كاملة وصادقة.

كثير من الهراطقة بلا مذبح للإيمان تقدموا بتقدمات ناطقين بهرطقاتهم لأجل تمجيد ذواتهم، فإذا ثقل حمل هذه التقدمات ألقوا بها على الأرض “أي لم توضع على مذبح الإيمان”.

وعلى من يتقدم بتقدمة أن يكون نقي النية، لذلك إذا رغبنا في تقديم أي تقدمة في قلوبنا، أي في هيكل الله الداخلي… وتذكرنا أن لأخينا شيئًا علينا أي أسأنا إليه، وجب مصالحته. أما إذا كان قد أساء هو إلينا، فيكون لنا نحن شيء عليه، وفي هذه الحالة لا يلزم الذهاب لمصالحته، لأنك لا تطلب صفحًا ممن أخطأ إليك، بل عليك أن تغفر له ليغفر لك الرب خطاياك.والمصالحة مع الأخ لا تتم بمجرد الذهاب إليه بل بالمصالحة في الداخل بعواطفك، حيث تخضع معتذرًا لأخيك في حضرة الله الذي تريد أن تقدم له قربانك. وبذلك فإذا كان الأخ الذي أخطأت إليه حاضرًا فإنك تستطيع أن تهدئه بفكرك الذي تنقى، وتعيده إلى محبته وعطفه عليك بطلبك المغفرة منه. هذا يمكن أن يحدث إن كنت قد سبقت وانسحقت أمام الله أولاً طالبًا المغفرة فتذهب إلى أخيك لا بخجل بل مدفوعًا بحب قوي. عندئذ تعود إلى ما سبق أن فكرت فيه، وهو تقديم قربانك. 

28

من يستطيع أن يسلك في الحياة دون أن يغضب على أخيه باطلاً، أو يقول له “رقًا” أو “يا أحمق”، الأمر الذي يرتكبه الإنسان بكبرياء! ومن يستطيع إذا سقط في إحدى هذه الأخطاء أن يسأل الصفح – بفكر منسحق – إلا غير المنتفخ بروح الكبرياء الباطل؟!… لأن الانسحاق هو العلاج الوحيد للغضب “لذلك طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات” (23).

+ + +


(1) هذه العناوين الجانبية أضيفت في الترجمة لمجرد التقسيم والتوضيح.

(2) يتكلم أغسطينوس عن وصايا العهد القديم على أنها وصايا أقل، ليس بمعنى أنها غير إلهية أو معيبة، بل لأنها تكمل بوصايا العهد الجديد التي جاءت مكملة لا ناقضة لها. كما ذكر أنها الوصايا التي تثبت خوف اللَّه في قلوب البشر المبتدئين في معرفتهم للَّه، أما وصايا العهد الجديد فجاءت تثبت حرية أولاد اللَّه بالمحبة التي لو أعطيت لأولاد اللَّه بهذه الصورة في العهد القديم لأساء الشعب فهمها واستعمالها. كذلك وصايا العهد الجديد اهتمت بملكوت السموات، أما وصايا العهد القديم التي بلا شك تهدف إلى ملكوت السموات إلا أنها اهتمت بالأمور الأرضية لأن الشعب كان بدائيًا في علاقته مع اللَّه وتعلقه بالسماويات.

(3) يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن السيد المسيح فتح فاه وعلم، لأنه علم قبل ذلك بسلوكه وأعماله الحسنة من غير أن يفتح فاه.

(4) حسب طبعة رومية، أما طبعة بيروت “الكل باطل وقبض الريح”.

(5) إش2:11،3 “ويحلُّ عليهِ روح الرب روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب (التقوى). ولذَّتهُ تكون في مخافة الرب” (حسب الترجمة البيروتية)، أما طبعة الكاثوليك فقد ورد فيها ويستقر عليه روح الحكمة والفهم. روح المشورة والقوة. روح العلم وتقوى الرب ويتنعم بمخافة الرب.

(6) لاحظ كيف يربط أغسطينوس بين المطوبين وعمل روح الرب الوارد بسفر إشعياء النبي والجزاء.

(7) مز13:45 الطبعة الكاثوليكية – أما البيروتية فهي “مجد ابنة الملك في خدرها”.

(8) رو3:5،5.

(9) رو17:1.

(10) رو10:13.

(11) يو48:8.

(12) يو12:7.

(13) في20:3.

(14) 2كو10:5.

(15) مت2:7.

(16) يو34:3

(17) 1كو26:9، 27.

(18) مت8:9.

(19) غلا23:1،24.

(20) لقد أراد البعض تفسير كلمة “رقًا” من اليونانية مفترضين في الشخص رث الثياب يدعى رقًا، لأن كلمة rag تدعى في اليونانية (روكس pokve) ومع هذا فلو سألناهم: ماذا يدعى ذو الثياب الرثة في اليونانية فأنهم لا يجيبون بأنه يدعى “رقًا”.

(21) غلا1:3.

(22) أف26:4.

(23) لاحظ كيف يربط أغسطينوس ترتيب الوصايا بترتيب التطويبات، بعد أن ربط بين التطويبات بعضها البعض ربطًا مسلسلاً عجيبًا.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى