Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

1

أهمية نقاوة القلب

لقد انتهينا في الكتاب الأول من الحديث عن “الرحمة” والآن نبدأ بالحديث عن “نقاوة القلب”

ونقاوة القلب تعني نقاوة العين التي بها نعاين الله، ولا شك يزداد اهتمامنا بنقاوة القلب قدر ما يكون ما نراه بالقلب عظيمًا.

نقاوة القلب ومديح الناس

ومهما بلغ اهتمامنا بنقاوة القلب، فلن نستطيع أن نمنع بعض النجاسات من التسلل إليه، من ذلك مديح الناس لنا على أعمالنا الصالحة. فإن سلكت سلوكًا شريرًا، كان ذلك مضرًا لك. وإن أردت أن تحيا حياة مستقيمة دون أن يمدحك أحد، فستتضايق لأن في عدم مدحهم للحياة المستقيمة شرًا. فإن لم يمدحوك أخطأوا، وإن مدحت صرت أنت في خطر من مدحهم، ما لم يكن قلبك نقيًا.

فقلبك يكون نقيًا متى سلكت باستقامة لا إرضاء للناس، بل رغبة في مدح الحق في ذاته. لذلك ستسلك باستقامة ولو لم يمدحك أحد، غير أنك تدرك أن مدحهم للحق يكون مفيدًا لهم، طالما لا يمدحونك أنت بل يمجدون الله الساكن فيك الذي أنت هيكله. وبذلك يتم قول النبي “بالربّ تفتخر نفسي. يسمع الودعاء فيفرحون”(1). فالعين النقية لا تتطلع إلى المديح عند صنعها للحق، ولا تهتم بنظرة الناس عند فعلها للخير، لأنها لا تفعله لأجل إرضائهم. فإن كنت لا تنظر إلا إلى مديحهم – هؤلاء الذين بسبب جهلهم ما بداخل قلب الإنسان يمدحون حتى الأعمال الباطلة – فستكون مستعدًا لأن تزيف أعمالك حتى تبدو صالحة، وبذلك يكون قلبك مزدوجًا. فالقلب لا يكون نقيًا ما لم يسمُ على مديح الناس مهتمًا بالله وحده، مجاهدًا في إرضاء فاحص القلوب وحده.

فكلما قل اشتياقك نحو مديح الناس إليك، أنتج قلبك النقي أعمالاً تستحق ثناء أعظم.

2

احترزوا أن تصنعوا صَدَقَتَكم (بركم) قدام الناس لكي ينظروكم.

أي احترزوا من السلوك بالبر لأجل هذا الهدف، فتتركز سعادتكم في نظرة الناس إليكم “وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات”. وفقدانكم للأجر السماوي لا يكون بسبب نظرة الناس إليكم بل لسلوككم بهذا الهدف. لأنه ماذا يقصد بقوله في مقدمة الموعظة “أنتم نور العالم. لا يمكن أن تُخفَى مدينة موضوعة على جبل. ولا يوقدون سراجًا ويضعونهُ تحت المكيال بل على المنارة فيضيءُ لجميع الذين في البيت. فليضيءْ نوركم هكذا قدام الناس لكي يَرَوا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات”(2) أي لا يكون الهدف هو مديح الناس بل تمجيد الآب السمائي.

ففي هذا الأصحاح لم يمنعنا الرب من صنع البر أمام الناس لكنه حذرنا من أن نصنعه بغرض الظهور أمامهم.

3

يقول الرسول “فلو كنت بعد أُرضي الناس لم أكن عبدًا للمسيح”(3)، بينما يطلب إرضاءهم في موضع آخر إذ يقول “كما أنا أيضًا أرضي الجميع في كل شيء”. وقد يحسب قليلو الفهم وجود تناقض بين القولين.

لقد قال بعدم إرضائه للناس، لأنه اعتاد على صنع البر لإرضاء الله لا البشر، والذي لمحبته لله يريد تغيير قلوب البشر وهذا يتطلب إرضاءهم، لا كجزاء لنا على أعمالنا الحسنة، بل لأنه من لا يقدم نفسه كمثال لمن يرغب في خلاصهم لا يكون قد أرضى الله، وفي نفس الوقت لا يمكن أن يتمثلوا بمن لم يرضهم.

إن هذا الأمر يشبه إنسانًا يبحث عن سفينة تصل بها إلى وطنه، ففي بحثه يقول إنه لا يطلب السفينة بل يطلب وطنه، وهو في قوله هذا لم يكذب لأنه لا يطلب السفينة في ذاتها، بل لأجل الوصول إلى وطنه. هكذا يليق بالرسول أن يقول “في إرضاء الناس لست أرضيهم بل أرضي الله، لأنني لا أهدف نحو إرضائهم في ذاته بل أرغب فيمن أطلب خلاصهم أن يقتدوا بي”.

وهذا يشبه قوله عن العطاء الذي جمع للقديسين “ليس لأني أطلب العطية بل أطلب الثمر المتكاثر لحسابكم” (في4: 17).فهو لا يطلب العطية لذاتها، بل لكونها ثمرتهم. فإذ قدموا بإرادتهم ما طلبه منهم، أعلن تقدمهم لا بحسب العطية التي أخذها بل بكونها دليل على محبتهم.

4

وعندما أكمل قوله “وإلاَّ فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات” لم يشر إلا إلى التحذير من طلب مديح الناس كجزاء لأعمالنا.

+ + +

الصّدقة ونقاوة القلب

5

“فمتى صنعت صَدَقَة فلا تصوِّت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤُون في المجامع وفي الأزقَّة لكي يُمَجَّدوا من الناس”.

يجب ألا نشتاق إلى الظهور بمظهر المرائين، هؤلاء الذين يظهرون للناس بغير ما في داخل قلوبهم. فهم، يتقمصون شخصيات الآخرين. فمن يقوم بدور Agamenom في مأساة… لا يتحول إلى نفس الشخصية بل يتقمص شخصيته، ولهذا يدعى مرائيًا. والأمر عينه في الكنيسة أو في أي وجه من أوجه الحياة، فمن يأخذ مظهرًا مختلفًا عما في داخله يكون مرائيًا. فيتظاهر بالبر، مخفيًا حقيقة نفسه، واضعًا كل جزاء أعماله في مديح الناس… فهؤلاء لا ينالون جزاء من الله فاحص القلوب، بل عقابًا على خداعهم. لقد نالوا جزاءهم من البشر. ولذلك يقول “قد استوفوا أجرهم”، كما يقول لهم “ابعدوا عني يا أيها المخادعين، فأنتم أخذتم اسمي ولم تعملوا أعمالي”.

إن من يقدم صدقته لا لشيء سوى نوال مجد بشري، يكون قد استوفى أجره، لا لنواله المجد البشري، ولكن لمجرد تصرفه بهذا الهدف. أما من يصنع البر ولا يرغب في مديح الناس، فسيلتصق به المدح وينتفع بواسطته كثيرون، مقتدين به، دون أن يشعر هو بانتفاعه شيئًا من مديحهم.

6-7

تقديم الصدقة في الخفاء

وأما أنت فمتى صنعت صَدَقَةً فلا تعرّف شمالك ما تفعل يمينك.

“يناقش أغسطينوس ما يقصد بكلمة “شمالك” الذي يخبئ عنه الصدقة هل هو غير المؤمنين أم الأعداء أم الزوجة أم حب مديح الناس؟”.

1- غير المؤمنين: إن فهمنا كلمة “شمالك” على أنه غير المؤمنين، كان معنى هذا أننا لا نخطئ إذا اهتممنا بإرضاء المؤمنين وحدهم، مع أن الرب يمنعنا من أن يكون هدفنا هو إرضاء الناس أيًا كانوا.

ومن ناحية أخرى، إن من يسر بك قد يقتدي بك، لذلك وجب علينا أن نعمل حسنًا لا أمام المؤمنين فحسب، بل وغير المؤمنين أيضًا، حتى يمجدوا الله بأعمالنا الصالحة التي نضعها، فيقبلون على الخلاص.

2- الأعداء: لو كان “الشمال الذي لا نعرفه ما تصنعه يميننا” هو العدو، فلماذا كان الرب يشفي بمراحمه البشر، بينما كان اليهود “الأعداء” حوله؟! ولماذا جلب الرسول بطرس غضب الأعداء عليه وعلى بقية التلاميذ، بإبرائه المقعد الذي كان يطلب صدقة عند باب الجميل(4)؟!

وإن كان من الضروري علينا ألا نعرف العدو ما نصنعه من صدقات فكيف ننفذ الوصية “إن جاع عدوك فأطعمه خبزًا”؟!

3- الزوجة: لقد اعتاد الشهوانيون اعتبار الزوجة هي الشمال الذي لا نعرفه ما تصنعه يميننا. وهذا رأي باطل وسخيف. ولم أكن أرغب في الإشارة إليه لو لم يسقط فيه كثيرون، فمن المعروف أن النساء أكثر بخلاً في الإنفاق على الاحتياجات المنزلية، لذلك يخبئ الرجال عنهن ما يتصدقون به حتى لا تحدث منازعات عائلية. وكأن الرجال وحدهم هم المسيحيون، وكأن الوصية لم توجد للنساء، وإلا فما هو شمال المرأة الذي تخبئ عنه صدقتها؟! هل يعتبر الرجل شمال الزوجة؟!.

إن هذا التفسير يفسد النص، فإذ يحسب كل من الطرفين أن الآخر شمال بالنسبة له، لتصرف كل منها في ممتلكات الأسرة بغير إرادة الطرف الآخر. ومثل هذا الزواج لا يكون مسيحيًا.

 إنه ينبغي على كل منهما أن ينفذ وصية الرب بتقديم الصدقة. فإن عارض أحدهما الوصية، كان غير مؤمن، وعندئذ يكون أحدهما مؤمنًا والآخر غير مؤمن. وبذلك ينبغي على المؤمن أن ينفذ الوصية التي تطلب منه أن يربح غير المؤمن، وذلك بالتفاهم الهادئ، والسلوك الحسن. فعلى المؤمن ألا يخبئ أعماله الحسنة عن الطرف الآخر حتى يستطيع أن يجذبه إلى شركة الإيمان المسيحي. فينبغي ألا ترتكب السرقة بتصدق طرف دون علم الآخر.

8

4- الرغبة في مديح الناس: إذا قارنا حديث الرب عن البر عامة “احترزوا من أن تصنعوا بركم قدام الناس لكي ينظروكم وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات” بحديثه الخاص عن الصدقة “فمتى صنعت صدقة فلا تصوت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون في المجامع وفي الأزقة لكي يمجدوا من الناس” تجد تطابقًا بينهما.

وبذلك ماذا يعني السيد من قوله “أما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعله يمينك” سوى عدم السلوك مثل المرائين الذين يعرفون شمالهم ما تفعله يمينهم. فشمالهم هو “رغبتهم في المديح” واليمين هو تنفيذ الوصايا وعلى هذا فامتزاج الاثنين معًا يعني تعريف الشمال ما تفعله اليمين.

9

ماذا يقصد الرب بقوله “لكي تكون صدقتك في الخفاءِ” سوى الضمير الصالح لأنه لا تستطيع العيون البشرية أن تراه ولا يمكن أن يعبر عنه بلغة بشرية. فكثير من تصرفات البشر تختلف عما تكنه ضمائرهم. لهذا فتقديم الصدقة داخليًا يكون منتميًا لليد اليمنى، وأما المظهر الخارجي فينتمي لليد اليسرى. بمعنى آخر لتكن صدقتك نابعة من الداخل… لأن كثيرين يتصدقون بنية خالصة رغم عدم وجود إمكانيات الصدقة. وعلى العكس كثيرون يتصدقون ظاهريًا دون أن توجد النية الداخلية فهم يرغبون في الظهور بمظهر الرحماء لينالوا كرامة عالمية أو هدفًا زمنيًا. هؤلاء يتصدقون بشمالهم دون يمينهم.

هناك فئة ثالثة تقف موقفًا وسطًا بين الاثنين فهم يتصدقون بنية صادقة، لكن يشوبها حب المديح أو الرغبة في تحقيق هدف زمني زائل. لهذا يمنعنا الرب من صنع الصدقة بالشمال، كما يمنعنا من خلط أعمال اليد اليمنى (النية الصادقة) باليد اليسرى (حب الظهور أو وجود هدف زمني)…

ونحن إذ نناقش نقاوة القلب، نقول بأنه لا يكون نقيًا، ما لم يكن له هدف واحد. وهذا لا يتم ما دام القلب يخدم سيدين، أي إن شاب نقاوة قلبه حبه للأمور الزمنية، فلا يجاهد لتنقيته بتوجيهه نحو الروحيات وحدها.

الصلاة ونقاوة القلب

10

ومتى صلَّيت فلا تكْن كالمرائين. فأنهم يحبُّون أن يصلُّوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس.

لا أجد هنا داعيًا لتكرار نفس القاعدة التي ينبغي علينا مراعاتها. فقد كرر رب المجد في “الصلاة” ما قاله في الصدقة محذرًا إيانا من الجهاد لابتغاء هذا الأجر الذي يسر به الجهلاء.

11

وأما أنت فمتى صلَّيت فادخل إلى مخدعك، وأغلق بابك، وصَلِّ إلى أبيك الذي في الخفاءِ.

أليست هذه المخادع هي قلوبنا التي جاءت في المزمور “ما تقولونه في قلوبكم إندموا عليه في مضاجعكم”(5) غير أن الدخول إلى المخدع سيكون تافهًا إذا تركنا الباب مفتوحًا، فستقتحمه الأدناس حيث تدخل إلى داخلنا وتهاجم إنساننا الداخلي. إن ما بالخارج هو أشياء منظورة زائلة، تدخل من الباب أي بواسطة الحواس إلى أفكارنا وبضجيج تخيلاتها تعوق الذين يصلون. لذلك وجب غلق الباب أي ضبط الحواس حيث تتجه الصلاة الروحية إلى الآب. فنقدم الصلاة من أعماق القلب إلى الآب الذي في الخفاء.

فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانيةً

يعطينا رب المجد درسًا لا عن أهمية الصلاة بل كيفيتها. وذلك كما فعل في موضوع الصدقة حيث لم يتكلم عن ضرورتها، بل بأي روح نقدمها. وإذ يعلمنا عن نقاوة القلب، فإن القلب يحتاج إلى الجهاد ذي الهدف الواحد أي الذي يهدف نحو الحياة الأبدية.

12

وحينما تصلُّون لا تكرّروا الكلام باطلاً كالأمم. فإنهم يظنُّون أنهُ بكثرة كلامهم يُستجاب لهم.

فكما أنه من خواص المرائين حب الظهور، كذلك من صفات الوثنيين تكرار الكلام ظانين أنه بذلك يستجاب لهم. وهذه الكثرة ليست نابعة عن تدريبهم لنقاوة القلب بل تدريبهم للسان. وبسعيهم الباطل هذا يحاولون تغيير إرادة الله، حاسبين أن الله مثل الإنسان يخدع بكثرة الكلام.

فلا تتشبَّهوا بهم. لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسأَلوهُ.

يحتاج الجاهل إلى كلمات كثيرة ليتعلم ويتثقف، ولكن ما حاجة الله إلى مثل هذه الكلمات في الصلاة وهو العالم بكل شيء؟!.. فكل الأمور الماضية والمستقبلة لا تختفي عن معرفته وكلمته، بل هي ماثلة أمامه.

13

هل هناك حاجة للصلاة باللسان؟

إن كان رب المجد يعلمنا أن نصلي بكلمات قليلة، فعلمنا الصلاة الربانية، فما هي الحاجة إليها طالما هو يعلم بكل الأمور قبل كونها، ويعلم ما نحتاج إليه قبل أن نسأله؟

وللإجابة على هذا السؤال نذكر أنه ينبغي علينا أن نثابر على طلبتنا من الله، لا بالكلام وإنما بانشغالنا بها وبتوجيه أفكارنا بالمحبة الخالصة والاشتياق الصادق. أما السبب في تعليم الرب لنا لهذه الأفكار بواسطة كلمات تنطق بها في الصلاة، فذلك لاستعادة الأفكار أثناء الصلاة.

14

هل هناك حاجة للصلاة؟

ما الحاجة للصلاة كلية، سواء أكانت بالفكر أو باللسان، ما دام الله يعلم ما نحتاج إليه قبل أن نسأله، اللهم إلا إذا كان في مجرد وقوفنا للصلاة ما يهدئ من قلوبنا وينقيها ويجعلها أكثر إستعدادًا لقبول عطايا الله الروحية التي تتدفق علينا. فالله مستعد أن يعطي على الدوام نوره العقلي الروحي، لكننا نحن غير مستعدين دومًا لقبول هذا النور، وذلك بسبب محبتنا للأمور الزمنية، وبسبب ظلمتنا النابعة عن اشتهائنا للزمنيات.

من ثم وجب علينا أن نسعى للصلاة، حتى ترتفع قلوبنا إلى الرب المستعد على الدوام أن يعطينا، إن أردنا أخذ ما يعطيه إيانا. فرفع القلب نحو الله، يعمل على تنقية العين الداخلية، وذلك قدر تخيلها عن هذه الأمور الزمنية. وبهذا يستطيع القلب احتمال النور الحقيقي، الشعاع الإلهي دون أي أقوال أو تعبير. وبهذا لا يكون فقط مستعدًا لاحتمال هذا النور، بل والبقاء فيه بفرح غير منطوق به، دون أي ضيق، وبهذا نكمل بحق وصدق الحياة المطوبة.

+ + +

الصلاة الربانية

15

لنتأمل الآن فيما علمنا الرب ما نصلي به له. فالذي علمنا الصلاة هو الذي يستجيب لها. إنه يقول: “فصلُّوا أنتم هكذا. أبانا الذي في السماوات… الخ”.

أبانا

فينبغي أن تتفق صلاتنا مع إرادة من نصلي إليه “الصالحة”، وذلك بتمجيده في افتتاحية الصلاة. لهذا أمرنا ألا نبدأ إلا بالقول “أبانا الذي في السماوات”.

حقًا تنتشر بين صفحات الكتاب المقدس كلمات كثيرة خاصة بتمجيد الله، لكننا لم نجد قط وصية لشعب اليهود أن يقولوا “أبانا”، أي لا يصلون إليه بكونهم أبناء بل كعبيدٍ، أي بكونهم ما زالوا يحيون حسب الجسد.

أقول إنهم لم يتخذوا الله أبًا لهم، وكان يمكنهم ذلك لو لم يعصوا الشريعة التي أُمروا بحفظها، لذلك جاءت النصوص التالية:

“ربَّيت بنين ونشَّأْتُهم. أما هم فعصوا عليَّ” (إش 2:1).

“أنا قلت إنكم آلهة وبنو العليّ كلكم” (مز 6:82).

“فإن كنت أنا أبًا فأين كرامتي الخ.” (مل 6:1)

هذه النصوص تظهر عدم قبولهم كأبناء لله، كما أنها نبوة لما سيكون عليه المسيحيون الذين يتخذون الله أبًا لهم، وذلك كقول الإنجيلي: “فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله” (يو 12:1). وقول الرسول بولس: “ما دام الوارث قاصرًا لا يفرق شيئًا عن العبد” (غل 1:4)، مشيرًا إلى روح التبني الذي أخذناه، والذي به نصرخ يا أبا الآب” (رو 15:8).

16

بالحقيقة دعينا لنشارك السيد المسيح في الميراث، ولنأخذ روح التبني، لا بحسب استحقاقنا، بل بنعمة الله. لذلك تتخذ هذه النعمة موضعها في إفتتاحية صلاتنا بقولنا “أبانا”. وتنبعث المحبة من دعوتنا له “أبانا” لأنه أي شيء أحب إلى الأبناء أكثر من أبيهم؟! كما يجد البشر في الصلاة بهذه الكلمة جرأة لأخذ ما قد أوشكوا أن يسألوه لأنهم نالوا عطية عظيمة كهذه، وهي أن يدعوا الله “أبًا لهم”. فإن كان الله قد وهبهم أن يكونوا أبناء له، فأي العطايا يحرمهم منها؟!..

وأخيرًا أي جزع ينتاب الفكر عندما ينادي الله “أبانا” دون أن يبرهن على جدارته كابن لأب عظيم كهذا؟! فلو سمح لرجل عامي أن يدعو أحد العظماء المتقدمين في السن أبًا له، أفلا يضطرب. ولا يجسر على دعوة ذلك العظيم أبًا له بسبب اتضاع أصله وفقره وأميته، فكم بالأكثر يكون حالنا عندما ندعو الله أبًا لنا؟!.. لنرتعب إن كان يشوب حياتنا عار عظيم وانحطاط شديد… الأمر الذي لا يمكن أن يوجد في أبينا، ناظرين إلى أن الرجل العظيم يخشى من انتساب الفقير له بسبب فقره. حقًا إن العظيم يزدري بما في الفقير من فقر، الأمر الذي يتعرض له العظيم نفسه، أما الله فلن يلتصق به العار والانحطاط قط. فشكرًا لمراحم الله التي تتطلب منا أن ندعوه “أبانا” تلك العلاقة التي ننالها دون أن ندفع ثمنًا ما من جانبنا بل أخذناها بإرادته الصالحة.

هنا نجد تعليمًا للأغنياء أيضًا، وذوي النسب الرفيع – الأمر الذي يهتم به العالم – وهو أنه ينبغي عليهم متى صاروا مسيحيين ألا يفتخروا على الفقراء وبسيطي النسب، لأن جميعهم يدعون الله “أبانا” اللقب الذي لا يمكنهم أن يتفوهوا به بصدق وتقوى ما لم يعلموا أنهم إخوة.

17

الذي في السماوات

ليت المسيحيين الذين دعوا إلى الميراث الأبدي يفهمون تلك الكلمات “الذي في السماوات” على أنها “الذي في القديسين والأبرار”، لأن الله لا يحده مكان معين. فالسماوات هي الجزء المرتفع على الأجسام المادية في العالم ومع ذلك فهي مادية، لذلك فهي محدودة بحيز إلى حد ما. فإن إعتقدنا أن الله كائن بالجزء العلوي من العالم، فستكون الطيور أفضل منا لأنها تحيا بالقرب من الله. غير أنه لم يكتب “قريب هو الرب من طوال القامة أو سكان الجبال” بل “قريب هو الربّ من المنكسري القلوب”(6) إشارة إلى التواضع. فإن كان الأشرار قد دعوا “أرضًا”، هكذا يدعى الأبرار “سماءً”. وقد قيل عنهم “لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو” (1 كو 17:3). فإن كان الله يسكن في هيكله وقد دعا القديسين هيكلاً له، لذلك فإن القول “الذي في السماوات” يعني “الذي في القديسين” إذ تليق المناظرة بين الأبرار والأشرار روحيًا بالسماء والأرض ماديًا.

18

وتظهر هذه المناظرة بين السماويات والماديات في وقوفنا أثناء الصلاة متجهين نحو الشرق، حيث تشرق الشمس، ليس لأن الله ساكن هناك فقط نابذًا الأماكن الأخرى في العالم بل لأن اتجاه أجسادنا الأرضية نحو أعظم الأجسام سموًا (الشمس) يهيئ العقل للاتجاه نحو الله الأسمى من طبيعته.

 إن هذه الطريقة مناسبة جدًا في جميع مراحل العبادة كما هي مفيدة في درجتها العالية، إذ تؤهل عقول الكبار والصغار لإدراك الله. فالذين لا زالوا يدركون الجمال المنظور دون أن يكون في مقدرتهم إدراك جمال الأمور السماوية، هؤلاء يلزمهم التمييز بين السماء والأرض، حتى يصبح تفكيرهم سليمًا. فلو اعتقدوا أن الله الذي يفكرون فيه بصورة مادية في السماء أكثر منه في الأرض، ففي المستقبل متى تعلموا أن الروح ينبغي عليها أن تتعدى حدود الأجسام السماوية، حينئذ سيبحثون عن الله في الروح وليس في جسم منظور (السماء). بعد ذلك يستطيعون التمييز بين أرواح الخطاة وأرواح الأبرار. لأنه سبق لهم أن ميزوا بين السماء والأرض. وبذلك يستطيعون أن يطلبوا الله بإيمان قويم أو عقل راجح بكونه في أرواح الأبرار عنه في أرواح الأشرار.

على ذلك يفهم القول “الذي في السماوات” على أنه “قلوب الأبرار أي في هيكله”. فيرغب المصلي أن يسكن الله فيه أيضًا. فيجاهد لأجل سكنى الله في قلبه بصنعه البر، الأمر الذي يجذب الله ليسكن في روحه.

19

بعد أن وضح ذاك الذي نصل إليه، ومكان سكناه نبحث الآن في الطلبات التي نسألها وهي:

أولاً – ليتقدَّس اسمك

إننا نطلب هذه الطلبة لا لكون اسمه غير مقدس، بل لكي نراه مقدسًا، أي نطلب ألا نرى شيئًا أكثر قداسة منه، خائفين من معارضته. فقد قيل “الله معروف في يهوذا اسمه عظيم في إسرائيل” (مز 1:76). فلا يفهم هذا كما لو كان اسمه عظيمًا في مكان أكثر من آخر، بل يكون عظيمًا حيثما دعوناه عظيمًا. وهكذا يقال إن اسمه قدوس حيثما دعي بوقار وخشي من معارضته. وهذا ما نسعى لتحقيقه بالتبشير بالإنجيل ليدعى اسم الله الواحد بواسطة تدبير ابنه.

20

ثانيًا – ليأْتِ ملكوتك

إنه يعلمنا بأن يوم الدينونة آت في الوقت الذي فيه يبشر بالإنجيل بين الأمم(7)، هذا الذي فيه يتقدس اسم الله. على أن القول “ليأت ملكوتك” لا يعني عدم امتلاكه الآن.

قد يحسب البعض أن القول “ليأت” يقصد به أنه يأتي على الأرض كما لو لم يملك على الأرض منذ تأسيس العالم إلى الآن، غير أن المعنى الصحيح له هو أنه ليعلن ملكوتك للبشر، مثال ذلك النور الذي يبدو للأعمى والذي يغمض عينيه كما لو كان غير موجود. هكذا يبدو هذا الملكوت غير واضح لمن يجهلونه رغم عدم انفصال ملكوت السماوات قط من على الأرض؛ أما المجيء الثاني للابن الوحيد من السماء، فإنه لن يسمح لأحد أن يجهل ملكوت الله، فعند مجيئه لا يدرك البشر ملكوت الله بالطريقة التي يدركها الفاهمون الآن، لأنهم سينظرونه يدين الأحياء والأموات، فيحدث تمييزًا وانفصالاً بين الأبرار والأشرار ويسكن الله في الأبرار. عندئذ لا يحتاجون بعد إلى من يعلمهم، بل كما هو مكتوب. إن الجميع يكونون “متعلمين من الله” فكما أن أعظم الملائكة السمائيين القديسين المباركين هم حكماء ومطوبون الآن لأن الله وحده نورهم، هكذا في الأبدية تكمل حياة القديسين المطوبة من جميع نواحيها، إذ وعد الرب قائلاً “لأنهم في القيامة… يكونون كملائكة الله في السماءِ”(8).

21

ثالثًا – لتكن مشيئَتك كما في السماءِ كذلك على الأرض

أ – فكما تعمل إرادتك في الملائكة سكان السماء، حتى إنهم ملتصقون بك تمامًا ومتمتعون بك كلية، ولا تشوب حكمتهم خطأ، ولا يمس سعادتهم شقاء، هكذا لتكن إرادتك أيضًا في قديسيك قاطني الأرض. فرغم كون مسكنهم هو السماء، ورغم أنهم سيتغيرون إلى صورة سماوية إلا أنهم مأخوذون من الأرض. وقد أشارت الملائكة إلى هذا بقولها في تسبحتها “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرَّة”(9). فعندما تسير إرادتنا وفق إرادة الله، حينئذ تكمل إرادته فينا كما هي كاملة في الملائكة السمائيين، عندئذ لا توجد مقاومة في طريق سعادتنا. وهذا هو السلام.

ب – يمكن أيضًا فهم هذه الطلبة على أننا نطلب أن تطاع وصايا الله كما في السماء كذلك على الأرض أي كما تطيع الملائكة وصايا الله هكذا فليطعها البشر أيضًا. فمشيئة الله تتم بتنفيذ وصاياه، ويؤكد رب المجد نفسه ذلك بقوله “طعامي أن أعمل مشيئَة الذي أرسلني”(10). كما كرر “لأني قد نزلت… ليس لأعمل مشيئَتي بل مشيئَة الذي أرسلني”(11). ويقول “ها أمّي وإخوتي. لأن مَنْ يصنع مشيئَة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمّي”(12). فمشيئة الله تتم فيمن ينفذها ليس لأن بتنفيذها يجعلونه يشاء ذلك، بل لأنهم يعملون ما يشاء هو أن يسلكوا به.

22

ج- هناك تفسير ثالث لهذه الطلبة، وهو أن تكون مشيئته في الخطاة كما في القديسين والأبرار. وهذا التفسير يمكن فهمه بإحدى الطريقتين التاليتين:

(1) أن نصلي من أجل أعدائنا الذين لا يشاءون نشر المسيحية والكنيسة الجامعة فكأننا نطلب قائلين “كما يصنع الأبرار مشيئتك هكذا ليت الأشرار (غير المؤمنين) يصنعونها برجوعهم إليك.

(2) إننا نطلب منه أن ينال كل شخص استحقاقه، وهذا ما سيتم في يوم الدينونة حيث يكافئ الأبرار بالجزاء والخطاة بالعقاب وذلك عند فصله الخراف عن الجداء(13).

23

د – لا يعتبر تفسير السماء والأرض على أنها الروح والجسد تفسيرًا خاطئًا، بل يطابق إيماننا ورجاءنا تمامًا. فإذ يقول الرسول “إذًا أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية”، لذلك نجد أن الروح (الذهن) يصنع مشيئة الله. ففي القيامة من الأموات يبتلع الموت في نصرة، ويأخذ هذا المائت عدم الموت، لهذا الذي وعد به الأبرار حسب نبوة الرسول بولس (1 كو 42:15، 45). فكما تتم مشيئته بالتمام في السماء (في القيامة من الأموات)، هكذا لتتم على الأرض أيضًا، وكما تتبع الروح الله وتصنع مشيئته دون أية مقاومة، ليته كذلك الجسد لا يقاوم الروح بصفاته وعاداته الجسدية.

ففي الحياة الأبدية لا تكون المشيئة حاضرة أمامنا فحسب. بل ونجد في تنفيذها سلامًا كاملاً. بينما في الحياة الحاضرة يقول الرسول “لأن الإرادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحُسنَى فلست أجد”(14) لأننا لا زلنا لا ننفذ مشيئة الله بالتمام كما في السماء، أي لا ننفذها بالتمام في الجسد كما في الروح.

إن مشيئة الله تتم في شفائنا، لأننا نحتمله باستحقاق… لكننا نصلي لكي تنفذ مشيئته على الأرض كما في السماء أي كما نسر بناموس الله في قلوبنا بحسب الإنسان الباطن(15)، هكذا نطلب تغيير أجسادنا حتى لا يوجد فيها ما يقاوم هذه المسرة بناموس الله، وذلك بسرورنا أو حزننا لأمور العالم.

24

ه – يمكن أيضًا فهم هذه الطلبة على أنه لتكن مشيئته كما في ربنا يسوع المسيح نفسه هكذا، فلتكن في الكنيسة أيضًا. فكأننا نقول لتكن مشيئتك كما في الرجل الذي ينفذ مشيئة الرب هكذا فلتكن في المرأة التي خطبت له أيضًا، لأنه يليق بنا أن نفهم السماء والأرض، كما لو كان رجلاً وزوجته إذ الأرض تثمر بواسطة السماء.

25

رابعًا – خبزنا اليومي أَعطِنا اليوم

1- قد يقصد بالخبز اليومي الاحتياجات الضرورية لهذه الحياة، فقد أشارت هذه الطلبة إلى قول السيد “لا تهتموا للغد”، بقولها “أعطنا اليوم”.

2- وقد يقصد به التناول من جسد ربنا يسوع المسيح الذي نأخذه يوميًا.

3- وقد يقصد به الغذاء الروحي إذ قال الرب “اعملوا لا للطعام البائد”(16) وأيضًا “أنا هو الخبز الذي نزل من السماءِ”(17). ولكن السؤال موضع الاعتبار هو أي وجهات النظر الثلاث أصوب؟ لأن البعض يندهشون كيف نصلي من أجل الاحتياجات المادية اللازمة لهذه الحياة كالطعام والملبس مثلاً، بينما يقول الرب “لا تهتمُّوا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون”(18) فهو يطلب منا أن نقدم الصلاة الربانية بشغف عظيم حتى طلب منا غلق المخادع أثناء الصلاة بها، “اطلبوا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم”. فكيف يمكن لشخص ما أن يطلب الأمور الزمنية دون أن يهتم بما يطلبه في الصلاة؟!.

حقًا إنه لم يقل لنا أن نطلب ملكوت الله أولاً وعندئذ نطلب الأشياء الأخرى، بل قال “وهذه كلها تزاد لكم” أي تعطى لنا ولو لم نطلبها. ولكنني لست أعلم كيف يطلب منا عدم طلبنا للأمور الأخرى في الصلاة بينما في الصلاة الربانية نتوسل بشغف لكي ننالها؟!!.

26

أما عن فهم الخبز اليومي على أنه سر الإفخارستيا – أي جسد ربنا يسوع – فإننا نجد البعض يعترضون على ذلك بسبب عدم إشتراكهم يوميًا في العشاء الرباني. فلكي يدافعوا عن عدم اشتراكهم اليومي فيه، وقد ساعدهم المسئولون في الكنيسة على ذلك بعدم ردعهم، لذلك لا يفهمونه على أنه خبز يومي. لأنهم لو نظروا إليه كخبز يومي لاعتبروا أنفسهم مرتكبين خطأ عظيمًا بعد اشتراكهم فيه… غير أنه ليس الآن مجال لمناقشة هذه الجماعة.

هناك اعتبار يجب أن يراعيه أولئك الذين يدركون ضرورة عدم إضافة أو حذف أي كلمة من الصلاة الربانية، وهو أنه إذا كان يفهم التناول على أنه هو الخبز اليومي، فكيف نصلي بالصلاة الربانية مرة واحدة فقط في اليوم، أو حتى إن كنا نصلي بها مرتين أو ثلاث مرات قبل اشتراكنا في جسد الرب ودمه فإننا لا نستطيع أن نصلي بها بعد تناولنا، وإلا كأننا نطلب منه أن يعطينا ما قد نلناه، أو هل هناك ما يجبرنا على إقامة سر الإفخارستيا في آخر ساعات النهار حتى نتمكن من الصلاة بها طول اليوم؟!

27

أما الآن فقد بقى لنا أن نفهم الخبز اليومي على أنه خبزًا روحيًا، أي تنفيذ الوصايا الإلهية. فكما يقول الرب “اعملوا لا للطعام البائد”، علاوة على هذا فإنه يدعى طعامًا يوميًا في هذا الزمان ما دامت هذه الحياة تقاس بالأيام. والحقيقة أنه طالما تجتاز الروح فترات تسمو فيها وأخرى تنحط فيها، أي تارة تشتهي الأمور الروحية وأخرى الأشياء الجسدية، فتكون الروح كما لو كانت تنتعش بالطعام تارة وتجوع تارة أخرى. فالخبز اليومي ضروري لإشباع الجائع وإقامة الساقط. فكما يشبع جسدنا في هذه الحياة بالطعام، لأنه يشعر بالفقدان. هكذا إذ تكابد الروح من الشهوات الزمنية يحدث لها ما يمكن أن يسمى فقدانًا أمام الله، لذلك تنتعش بطعام الوصايا. أضف إلى هذا أنه قيل “أعطنا اليوم” أي طالما يدعى اليوم أي ما دمنا في هذه الحياة، لأننا في الحياة الأبدية سننتعش بغزارة من الطعام دون أن يدعى خبزًا يوميًا، لأن الناجم عن تعاقب الأيام سوف ينتهي. “فاليوم” يقصد به الحياة الحاضرة، ذلك كما قيل “اليوم إن سمعتم صوته” مفسرًا الرسول ذلك في رسالته إلى العبرانيين ما دام الوقت يدعى اليوم.

أما إذا أراد شخص أن يفهم الخبز اليومي على أنه الطعام الضروري للجسد أو سر الإفخارستيا، ففي هذه الحالة ينبغي عليه الأخذ بالمعاني الثلاثة معًا أي نسأل من أجل الخبز الضروري للحياة وجسد الرب ودمه وكلمة الله الغير منظورة.

28

واترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمن لنا عليه debtors

بلا شك يقصد بالديون التي نطلب العفو عنها هي خطايانا. تلك التي قال الرب عنها “لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير”… فهو لا يتكلم هنا عن العفو عن دين نقدي بل عن غفران لجميع الأخطاء التي ارتكبها الآخرون ضدنا. لأنه سبق أن أمر بالتنازل عن ديوننا النقدية بوصية سابقة “وإن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فأترك له الرداء أيضًا”. ونحن لسنا مجبرين على التنازل عن كل ما أقرضناه للآخرين بل لمن لا يرغب في الوفاء به إلى الدرجة التي يصل فيها إلى مقاضاته. فقد نبهنا الرسول “وعبد الرب لا يجب أن يخاصم”(19). لذلك فلتعفو لمن لا يرغب في الوفاء سواء أظهر رغبته هذه خفية أو صراحة. لأن الرغبة في عدم الوفاء تكون لإحدى سببين: إما لعدم القدرة على الوفاء أو لطمعه ومحبته لأموال الغير، وكلتا الحالتين تعتبران فقرًا. فالحالة الأولى فقر مادي، والأخرى فقر في الخصال. فمن يتجاوز عن دين لشخص كهذا يكون قد عفا عن شخص فقير، وبذلك ينفذ عملاً مسيحيًا.

غير أن المهم هنا هو أن يكون الإنسان مستعدًا للتسامح في الدين الذي أقرضه. فإن سعى بهدوء ورقة بكل الطرق لاسترداد الدين دون أن يهدف فقط الحصول على دينه قدر رغبته في رد المدين إلى صوابه، لأنه إذا كان المدين قادرًا على السداد ولا يسدد يكون هذا مضرًا له، فبمحاولة الدائن استرداد الدين لا يكون قد ارتكب خطية بل يقدم خدمة جليلة جدًا بمحاولته منع الآخر من تدمير إيمانه بمحبته لأموال الغير، الأمر الذي ليس له مثيل في خطورته.

من هذا يفهم أن الطلبة الخامسة لا تخص الديون النقدية بل كل ما يرتكبه الآخرون ضدنا بما فيه عدم وفائهم عن القروض التي إقترضوها منا. لأن من يرفض الوفاء بما اقترضه منا، وهو قادر على السداد يخطئ إلينا. فإن لم نغفر هذه الخطية، فلن نستطيع القول “أترك لنا ما علينا كما نترك نحن”.

29

بالحقيقة إن صلينا بهذه الطلبة دون أن نعفو عمن يطلب العفو منا، نكون قد ارتكبنا خطأ، لأننا نرغب في الغفران من أبينا كثير الرحمة دون أن نغفر للآخرين هذا، ومن ناحية أخرى فإن الوصية الخاصة بالصلاة من أجل الأعداء لا تأمرنا بالصلاة من أجل الذين يطلبون الصفح منا بل الأعداء، لأن من يطلب الصفح منا لا يعتبر عدوًا لنا. فلا يليق بشخص أن يعتبر من يطلب الصفح عنه عدوًا له فليصلى لأجله دون أن يغفر له.

لذلك إن أردنا الغفران عن الخطايا التي نرتكبها ضد أبينا، فلنغفر نحن جميع الخطايا التي ترتكب ضدنا. وقد سبق لنا مناقشة موضوع الانتقام بما فيه الكفاية(20).

30

سادسًا – ولا تدخلنا في تجربةٍ

وقد وردت في بعض المخطوطات “ولا تقودنا”، وهي تعادل “لا تدخلنا” لأن الكلمة اليونانية تحمل المعنيين. ويصلي البعض قائلين “لا تسمح لنا بالانقياد في تجربة”. فالله لا يقود الإنسان في تجربة، بل يسمح لمن حرم من معونته أن ينقاد إليها، وذلك بحسب حكمة الله الخفية، وبحسب استحقاقات من سمح له بالانقياد في تجربة.

والانقياد في تجربة يختلف عن تجريب (امتحان) الإنسان. لأنه بدون تجربة لا يزكى إنسان. وهو يجرب لتزكية نفسه كما هو مكتوب “الذي لم يمتحن ماذا يعلم”(21) أو يجرب لتزكية الآخرين كقول الرسول “تجربتكم(22) التي في جسدي لم تزدروا بها”(23) لأنه من هذه الظروف علم الرسول أنهم ثابتين لأنهم لم يتركوا المحبة بسبب المضايقات التي انتابت الرسول بحسب الجسد. أما عن الله فهو يعرفنا قبل أن نجرب لأنه عالم بكل الأشياء قبل كونها.

31

لذلك عندما قيل “الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم” ذكر “لكي يعلم” بمعنى أن يعرفك حقيقة نفسك. وذلك كأن نتكلم عن يوم أنه بهيج لأنه يجعلنا نحن مبتهجين، أو أنه صقيع بليد لأننا نشعر بذلك. وهكذا يرد كثيرًا في الأحاديث العامة أو عن تعليم الآخرين أو ما يرد في الكتاب المقدس.

فإن كان الهراطقة أعداء العهد القديم يحسبون أن في القول “الرب إلهكم يمتحنكم” ما يوسم الله سبحانه بالجهل، فلينظروا ما جاء في الإنجيل عن الرب “وإنما قال هذا ليمتحنهُ (أي فيلبس) لأنهُ هو علم ما هو مزمع أن يفعل”(24). فإذ يعلم الرب بقلب من يمتحنه، فلماذا يمتحنه؟ الحقيقة هو أنه يمتحنه لكي يعرف الممتحن حقيقة نفسه فيلوم نفسه على تفكيره بعدم وجود ما يكفي لإشباع الجمهور.

32

فالصلاة هنا ليست لكي لا نجرب، بل لكي لا ندخل (ننقاد) في تجربة. فإذ يلزم لكل إنسان أن يمتحن بالنار، عليه ألا يصلي لكي لا تمسه النار بل لكي لا يهلك، لأن آنية الخزف تختبر بالأتون والإنسان يمتحن بالضيقات trail of tribulation (حكمة يشوع 6:27). فيوسف أمتحن بغواية الزنا لكنه لم يدخل في تجربة (تك 7:39-12). وسوسنة جربت أيضًا دون أن تدخل في تجربة (دا 22:19). وكثيرون من كلا الجنسين جربوا دون أن يدخلوا في تجربة. أما أيوب فأعظمهم لأنه ثبت ثباتًا عجيبًا في الرب إلهه…

33

… ويضجر بعض الهراطقة بسبب طلب الشيطان من الله أن يجرب البار، وأنا لا أشرح لهم هذا الأمر، بل أطلب منهم أن يشرحوا لي قول الرب لتلاميذه “هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة”(25). وقوله لبطرس “ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك”(26). فإذ يشرحون لي هذين النصين يكونون قد شرحوا لنفسهم كيفية طلب الشيطان من الله أن يجرب البار…

34

فالتجارب التي تحدث بواسطة الشيطان تتم لا بقوته، بل بسماح من الله، إذ يسمح بها إما لتأديبنا (عقابنا) أو لمحبته لنا يمتحننا ويدربنا. فهناك أنواع مختلفة من التجارب. فالتجربة التي سقط فيها يهوذا ببيعه سيده تختلف عن تجربة بطرس الذي أنكره بسبب الخوف.

وإنني أعتقد أن هناك تجارب عامة يخضع لها البشر بسبب ضعفهم البشري، مهما كانت سيرتهم حسنة. مثال ذلك ان يغضب إنسان على آخر أثناء إرشاده طريق الحق، فيخرج بذلك عن الهدوء الذي تتطلبه المسيحية، لذلك يقول بولس الرسول “لم تصبكم تجربة إلا بشرية” بينما يقول في نفس الوقت “ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا” (1 كو 13:10). مظهرًا بوضوح أننا لا نصلي لكي لا نجرب بل لكي لا ننقاد إلى تجربة، لأنه إذا سقطنا في تجربة لا نحتملها نكون قد انقدنا إلى تجربة، فإذا ثارت علينا تجارب خطيرة، بحيث يكون انقيادنا إليها مهلكًا لنا – سواء أكان ذلك لظروف في صالحنا أو ضدنا – فإن من لا ينقاد إليها مأسورًا ببهجة الانتصار يكون قد استغنى عن متاعب العدو.

35

سابعًا – لكن نَجِّنا من الشّرِّير

إننا لا نصلي فقط لكي لا ندخل في الشرير، الذي تحررنا منه بالطلبة السابقة، بل نصلي أيضًا لكي ننجو من الشرير الذي سقطنا فيه قبلاً، وبذلك لا نخاف من أي تجربة. ومع ذلك فما دمنا في هذه الحياة، فنحن نحمل سمات موتنا الذي سقطنا في أسره بسبب غواية الحية، لذلك لا نرجو أن نكون الآن على هذه الحال، أي بلا تجربة أو شر أما رجاؤنا فهو أن نكون هكذا في المستقبل، وهذا هو الرجاء غير المنظور، فكما يقول الرسول “لكنَّ الرجاءَ المنظور ليس رجاءً”(27).

36

تبويب الطلبات السبع

ينبغي علينا أن نميز بين الطلبات السبع على أساس أن منها ما يخص الحياة الزمنية ومنها ما يخص الحياة الأبدية.

فالحياة الزمنية تزول وتنتهي، أما الحياة الأبدية فنترجاها، وبالتالي فالأشياء الأبدية أسمى من الزمنية، وإن كان لا يمكن العبور إليها ما نمر بالأشياء الزمنية.

1- الطلبات الثلاثة الأولى: يبدأ تحقيقها في هذه الحياة.

فتقديس إسم الله ابتدأ بطريقة واضحة بمجيء الرب المتضع ومجيء ملكوته فائق الجلال، لا يعلن بعد نهاية العالم بل في نهايته. وتنفيذ مشيئة الله على الأرض كما في السماء (سواء قصد بهما الأشرار والأبرار، أو الروح والجسد، أو السيد المسيح والكنيسة أو هذه كلها معًا) فإنها تكمل بكمال تطويبنا في نهاية العالم.

2- الطلبات الأربع الأخرى: تبدو لي أنها خاصة بهذه الحياة الحاضرة.

فالطلبة الأولى “خبزنا اليومي أعطنا اليوم” سواء قصد به القوت اليومي أو الخبز الروحي (كلمة الله) أو الإفخارستيا غذاؤنا، فإنه يخص هذه الحياة الحاضرة التي تدعى “اليوم”. ليس لأن الخبز الروحي غير أبدي، بل لأن الذي يدعى خبزًا يوميًا في الكتاب المقدس يقدم للروح باستخدام الألفاظ أو بأي طريقة زمنية، وبالتأكيد هذه الألفاظ أو بأي طريقة زمنية، وبالتأكيد هذه الألفاظ (اللغات) وغيرها لن توجد في الحياة الأبدية عندما نصير متعلمين من الله(28). حيث لا نعود نعلم نور الحق غير المنطوق به بواسطة حركات جسدية (أي باستخدام اللسان أو أي طريقة أخرى للتعليم)، بل كل إنسان يشرب منه بنقاوة عقله. ربما لهذا السبب دعي (خبزًا) وليس (شرابًا)، لأن الخبز يحتاج إلى التكسير والمضغ ليتحول إلى قوت، فالروح عندما تأكل من الكتاب المقدس تحتاج إلى فتحه ومناقشة ما فيه، أما الشرب. فمتى أعد فإنه يسري في الجسد دون مجهود يبذل. فالحق حاليًا يدعى (خبزًا يوميًا) أما في الحياة الأخرى فيشرب، حيث لا توجد حاجة للمناقشة والجدل، كما لو كان تكسيرًا أو مضغًا.

والطلبة الثانية “واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا” فهي تخص هذه الحياة فقط. لأنه لا حاجة للمغفرة في الحياة الأبدية حيث لا توجد هناك خطايا.

والطلبة الثالثة “لا تدخلنا في تجربة” تخص هذه الحياة الزمنية، حيث تحفها التجارب، أما الحياة الأخرى فلا يوجد فيها تجارب إذ يتحقق “تسترهم بستر وجهك”(29).

أما الطلبة الرابعة “لكن نجنا من الشرير” فهي تخص هذه الحياة أيضًا حيث نرغب في الخلاص من الشرير والخلاص من الشر نفسه، الذي سقطنا فيهما بسبب الحكم علينا بالموت بحسب عدل الله.

38

ترتيب الطلبات السبع

يبدو لي أن هذه الطلبات السبع تقابل في ترتيبها التطويبات السبعة المذكورة في بداية الموعظة.

1- فإن كان خوف الله هو الذي يجعل المساكين بالروح يطوبون فينالون ملكوت السماوات، إذن فلنطلب من الله أن يتقدس اسمه بين البشر أيضًا بخوفه “خوف الربّ نقيُّ ثابت إلى الأبد”(30).

2- وإن كان بالتقوى يطوّب الودعاء فيرثون الأرض إذن فبوداعتنا وعدم مقاومتنا يأتي ملكوته علينا، أو يأتي بمجيئه بجلال من السماء فنبتهج ونسمع القول “تعالوا يا مباركي أبي رِثُوا الملكوت المعَدَّ لكم منذ تأسيس العالم”(31). لأن النبي يقول “بالرب تفتخر نفسي. يسمع الودعاءُ فيفرحون”(32).

3- إن كان بالمعرفة يطوّب الحزانى فيتعزون، إذن فلنصلِ لكي تكون مشيئته كما في السماء كذلك على الأرض، لأنه متى تم التوافق بين الروح والجسد (كما لو كانا سماءً وأرضًا) فسوف لا نحزن. لأنه لا يمكن أن يوجد حزن إلا حيثما وجد نزاع بين الجسد والروح، فنقول “أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني”(33). ونشهد عن حزننا هذا بصورة مرعبة “ويحي أنا الإنسان الشقي. مَنْ ينقذني من جسد هذا الموت”(34).

4- إن كان الاحتمال هو الذي يطوّب الجياع والعطاش إلى البر فيشبعون، إذن فلنصلِ إلى الله لكي يعطينا الخبز اليومي اليوم، هذا الخبز الذي به نقتات ونتقوى ونصل إلى حالة الشبع الكامل.

5- إن كان بطلب المشورة يطوّب الرحماء فيرحمون، فليتنا نغفر للمذنبين إلينا (أي نرحم) حتى يغفر لنا ذنوبنا.

6- إن كان بالفهم يطوّب أنقياء القلب فيعاينون الله، إذن فلنصلِ إلى الله لئلا ندخل في تجربة، حتى لا نكون ذوي قلبين فلا نطلب الخير الحقيقي وحده في أعمالنا بل نطلب الأمور الزمنية أيضًا. فلا يكون للتجارب النابعة عن عدم حصولنا للأشياء التي يظنها البشر أنها مفرحة ومبهجة، سلطان علينا.

7- إن كانت الحكمة هي التي تجعل صانعي السلام يطوبون فيدعون أبناء الله، فليتنا نصلي لنتحرر من الشرير حتى نكون أبناء الله فنفرح بروح التبني “يا أبا الآب”(35)

39

لنأخذ في اعتبارنا اهتمام السيد المسيح بالطلبة الخاصة بمغفرة خطايا الآخرين فوق كل الطلبات الأخرى، فهو يريد منا أن نكون رحماء، حتى نهرب من الشقاء، بغفران خطايانا. فبهذه الطلبة وحدها ندخل في ميثاق مع الله، فنقول له: “اغفر لنا كما نغفر نحن” فإن كذبنا تصير صلاتنا عقيمة. لأن الرب قال “فإن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أبوكم السماوي. وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضًا زلاتكم”.


(1) مز2:34.

(2) مت14:5-16.

(3) غلا10:1.

(4) أع4:3.

(5) مز4:4.

(6) مز18:34.

(7) مت14:24

(8) مت30:22.

(9) لو14:2.

(10) يو34:4.

(11) يو38:6.

(12) مت49:12،50.

(13) مت33:25-46.

(14) رو18:7.

(15) رو22:7.

(16) يو27:6.

(17) يو41:6.

(18) مت25:6.

(19) 2تي24:2.

(20) الجزء الأول فصل 19، 20.

(21) حكمة يشوع 11:34.

(22) حسب ترجمة النص الإنجليزي وكذلك النسخة القديمة M.SS.

(23) غلا14:4.

(24) يو6:6.

(25) لو31:22.

(26) لو32:22.

(27) رو24:8.

(28) يو45:6.

(29) مز20:31.

(30) مز9:19.

(31) مت34:25.

(32) مز2:34.

(33) رو23:7.

(34) رو24:7.

(35) رو15:8.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى