أقوال بعضِ القديسين في الدينونة – القسم الرابع

قال أخ: قلتُ لأنبا بفنوتيوس تلميذ الأب مقاريوس الكبير: «قل لي يا أبي كلمةً أحيا بها». فقال لي: «احفظ القناةَ التي تجري إلى مزرعتك». فقلتُ له: «ما معنى هذا»؟ قال: «القناة هي فمك، فإن لم تحفظه فلن تثمر نفسُك». فقلتُ: «كيف أحفظه»؟ قال: «إذا لم تسكن مع فلاحٍ فمِن أين لك أن تعرفَ ما تشتمل عليه الفِلاحة من حرثٍ وبذرٍ وحفظٍ وسقي وحصاد وغيره»؟ قلتُ أيضاً: «وما معنى هذا»؟ قال: «إذا لم تسكن مع شيخٍ مجرَّب كي يعلمك الرهبنةَ، فمِن أين تتعلمها؟ فلو انتقلتَ من مكانٍ إلى مكانٍ، أو انفردتَ وحدك، أو صرتَ أباً قبل أن تُستأهل لذلك من قِبل الله، فإنك تقيم كلَّ زمانِك وأنت لا تعرف كيف تحصد ثمر الفضيلةِ، بل تُضيِّع الزرعَ الذي هو تعليم طريق الله، فيجب عليك أن تسكنَ مع شيخٍ حتى تنال منه البركةَ الأخيرةَ، مثل أليشع الذي ثبَتَ مع إيليا حتى رُفع إلى السماء، فلما باركه تضاعفت عليه روحُه، ومثل تلميذيْ أنطونيوس اللذين سكنا مع الشيخ حتى طرحَ الجسدَ، وباركهما البركةَ الأخيرةَ فحل عليهما روحُ الله وصارا راعيين صالحين، ومثل يوحنا الذي سكن مع بمويه أبيه حتى فارق جسدَه، فسلَّمه للشيوخِ قائلا: هذا ملاك وليس بإنسانٍ، وكمثل يوحنا تلميذ أنبا بلا الذي أطاع أباه فأحضر الضبعةَ مربوطةً، ومثل تلميذٍ آخر لشيخٍ حيث كان يمشي مع متوحدٍ حتى وصلا إلى شاطئ نهرٍ فيه تماسيح، فعبر التلميذُ المطيع بينها وما استطاع المتوحدُ العبورَ، حتى أن الشيوخ في ذلك الوقتِ قالوا: إن التلميذَ المطيع بطاعتِه صار أعلا من المتوحد. ومثل تلميذٍ آخر كان طائعاً لمقاريوس، هذا كان قد أرسله أبوه إلى مصر، لما وقع في تجربةٍ صرخ بصوتٍ عظيم قائلاً: يا إله أبي خلِّصني، فمن ساعتِه وجد نفسَه يمشي في طريق الإسقيط. وقد كُتب: ابذر وقتَ الصباحِ ولا تبطل زرعَك إلى وقتِ المساء، ومعناه: الصلاح الذي بدأت به داوم عليه إلى وقت وفاتك.

وانظر إلى الذين تركوا آباءهم ماذا أصابهم، فعيسو لما ترك والده واختلط بالأمم المرذولة رذله الله، وجيحزي لما لم يُطع أليشع أصابه البرص، والتلاميذ الذين رجعوا إلى خلف وتركوا صحبة السيد أهلكوا ذواتَهم، ويوحنا تلميذ الأب مقاريوس لما لم يُطع أباه تجذَّم. فها أنا قد أخبرتُك بطريقِ الحياةِ والموت، فإن دخلتَ من البابِ الضيق الذي هو طاعتك لأبيك أوصلك ذلك إلى الحياةِ الأبدية، وإن مشيتَ في الطريقِ الواسعةِ التي هي أهوية قلبك أدت بك إلى الهلاكِ».

فقلتُ له: «يا أبتاه، لقد أتى بعضُ الإخوةِ إلى أبي، ولستُ قادراً على السكنى معهم». فقال لي: «لو كان فيك اتضاعٌ، لاستطعت السُكنى مع الوحوش، فكم بالحري مع الإخوةِ؟ واسمع قول داود النبي: ما أحسن وأجمل الإخوة إذا سكنوا معاً».

فقلتُ له: «إني أشاءُ أن أصيرَ شهيداً». فقال لي: «إن خالفتَ أباك فسوف تتعب ولن تصيرَ شهيداً، فقد حدث أنَّ شيخاً قال لتلميذِه في زمانِ الاضطهاد: يا بُني، إن كان لك اشتياقٌ أن تصيرَ شهيداً، فاذهب. أما الأخ فمع اشتياقِه إلى ذلك، إلا أنه لم يُطع هواه، ولم يمضِ، بل قال: لو صرتُ فوق رتبة الشهداء، فبَركَتُك لي كلَّ يومٍ هي أفضل يا أبي. فلما رأى الله إيمانَه في أبيه خاطبه بالصوتِ قائلاً: لأنك أطعتَ أباك، ها أنا أعطيك إكليلَ الشهداءِ، جاعلاً رتبتَك في مصافِ جماعةِ القديسين. أما الذين تركوا آباءَهم في الربِّ قائلين: إننا نتوحد ونصوم ونهرب من الناس، فانخدعوا بذلك للشيطان، ولم يصنعوا لا وحدةً ولا صوماً ولا هرباً من الناسِ، بل تنقلوا بين الأديرة والمدن والقرى، وزخرفوا ملابسهم، وفرح بهم الشيطانُ وهزأ بهم لأنهم قبلوا خداعه».

فقلتُ له: «لقد ربحتُ منك كثيراً يا أبي وأريدُ أن أسكنَ معك بقية حياتي». فقال لي: «أحيٌ أبوك بعد»؟ قلتُ: «نعم». فقال لي: «هذا عدم أدب، لأن من كان لا أب له فإني أقبله، أما أنت فلا، لئلا تصبح وقد أفسدتَ بنوَّتك، وأكون أنا قد بلبلتُ قانونَ الرهبنةِ، فآباؤنا كانوا يحفظون ضميرَ بعضِهم بعضاً، وبغير طاعةٍ لم ينجح أحدٌ».

فقلت: «يا أبي ماذا أصنعُ حتى أكمِّل الطاعةَ»؟ قال: «اسمع، سمعتُ عن رجلين، أُعطي لكلٍ منهما سبعة فدادين قمح ليحصدها في يومٍ واحدٍ، فلما نظر أحدُهما الفدادين قال: مَن مِن الناسِ يقدرُ أن يحصدَ هذه كلها في يومٍ واحدٍ؟ وإذ قال ذلك مضى ولم يحصد شيئاً. أما الآخر فقال: عليَّ أن أعملَ بكل قوتي ولا أوقف الحصادَ. فمَن مِن الاثنين أرضى سيدَه»؟ قلتُ: «الذي عمل بكلِّ قوته طبعاً». قال لي: «إذن امضِ أنت واعمل بكل قوتك، وأنا أؤمن أنك تُحسب مع الذين أكملوا الطاعةَ في الملكوتِ». ثم قال: «إن الخروفَ الثابت في الحظيرةِ محروسٌ، أما الذي يترك حظيرتَه ويذهب إلى قطيعٍ آخر فإنه يبقى وحشياً، ولن يسلم من ذئبٍ أو لصٍ، هكذا الراهب الذي يترك ديرَه، إذ يشبه أيضاً حماراً وكلُّ من يجده يركبه، حتى إذا عُقر لن يوجد له صاحبٌ ثابتٌ يعتني به فيهلك من الجوع والتعب والجراح. هكذا تكون حالُ الراهبِ إذا ترك ديرَه وأباه وإخوته، وسكن عند آخرين، فإنهم يرسلونه إلى هنا وإلى هناك حتى يسقط في الزنى ويهلك ولا يجد من يُنهضه. فمن ذا يترك العناية بأولادِه ويهتم بأولادِ غيرهِ»؟ ثم قال: «إن أبي قال لي: إن المفترقين يتعبدون كلُّ واحدٍ بحسب هواه وإرادته، وأما الذي يطيع أباه من أجلِ المسيحِ فهو أفضل، إذ قطع مشيئَته لله».

فقلتُ له: «يا أبي، إن النجاسات التي يبذرها الشيطان فيَّ، سواء أكملتُها أم لم أكملها، فإن العدو لا يتركني أخبر أبي بها بسبب الاستحياءِ». فقال لي: «لا تُطع عدوَّك بل أخبر أباك بجميعها حتى بأحلام الليل، ولا تُخفِ عنه شيئاً من أفكارِك إن كنتَ مطيعاً له في كلِّ شيءٍ من أجلِ الله مؤمناً أنه يُحاسَب عنك لطاعتِك له، وأما ما تخفيه عنه فسوف تُحاسَب أنت عنه كله». فقلتُ له: «هل لي أن أعرفَ شيخاً آخر يطيبُ به قلبي بنجاساتي»؟ قال: «إذا توفي أبوك وعُين أخٌ آخر ليصير بعده أباً للإخوة، فاتبعه لأن روحَ أبيك قد تضاعف عليه مثل أليشع بعد مفارقة إيليا، ويشوع بعد موسى. فقد قال الآباءُ: لا تُخبر بجراحِك غيرَ أبيك الروحاني. وإن كان أبوك متوفي، ولم يُعَين للإخوة أبٌ، فاطلب لك أباً شيخاً قديساً كاملاً في أعمالهِ قدام الله، وأظهر له جميعَ أمراضِك، فهو يصلي عليك فتُعافى، وهذا واحدٌ من ربوات، لأن الآباء قالوا: لا تُظهر خطاياك لكلِّ الناسِ، لئلا تُعثر كثيرين، وتؤذي الضعفاءَ وأخيراً تعثر بهم. وبالإجمال، فإن لم تضرهم ولم تتضرر بهم، فإنك لن تنتفعَ منهم، فتضطر إلى أن تتقدم لغيرِهم لتنتفع منهم وهكذا، ولكن كما كانت الأحكامُ الصغيرة تُرفع إلى الفهماءِ من شعب إسرائيل، فيحكمون فيها، والأحكام الكبيرة والمسائل الصعبة تُرفع إلى موسى فيحكم فيها، وما صَعُبَ عليه منها سأل الله في حكمهِ فيها، هكذا تصرَّف أنت، فالأمور الصغيرة أخبر بها الفهماء من الإخوة، والأمور الصعبة أخبر بها الأب، وما صَعُبَ عليه منها فهو يسترشد من الله فيها. واحذر أن تقول بقلةِ إيمانٍ كلمةً رديئةً في أبيك وإخوتك لكيلا يمنعك الله من دخول أرضِ الميعاد، وتُحرم من أكل ثمرتها كما جرى مع شعب إسرائيل ومع موسى أبيهم ويشوع وكالب إخوتهم، وأُنذِر أنه لا يدخلُ أرضَ الميعادِ منهم إلا هذان اللذان أطاعا أباهما، أما الذين رجعوا بقلوبهم إلى مصر، فقد ماتوا كلُّهم في البريةِ. فاثبت أنت مع أبيك، مثل يشوع مع موسى، لتصير مثلَه نبياً صانعاً العجائب، وأباً لأمةٍ كثيرةٍ، ووارثاً لأرضِ الميعاد، متمتعاً بثمراتها أنت وبنوك. وقد قال الله: أكرم أباك وأمَّك ليطول عمرك ويُحسن إليك. وقال: من يقل كلمةً رديئةً في أبيه أو أمّه يهلك. فإذا كان هذا عن الأب الجسدي، فكم بالحري الروحي. فالذي يترك أباه ويسعى فيه، فهو يشبه يوداس الذي ترك معلِّمَه وأسلمه، كما أن الذي يهزأ بأبيه، فإنه يرث لعنة حام الذي ضحك على أبيه لما انكشف، ويُحرم من بركة سام ويافث اللذين ستراه.

قلت: «يا أبي، إن الشيطانَ يُتعب الرهبان أكثرَ من أهلِ العالمِ». قال: «نعم، مثل ملكٍ يريد أن يطردَ من مملكتهِ قوماً ويُدخل بدلاً منهم إليها، فلابد إذن أن يعادي الذين أخرجهم، أولئك الذين أبدلهم بهم، وأجلسهم على كراسيهم، ومهما قدروا على إتيانهِ من الشرِ بهم فعلوه، فالرهبان الآن يجاهدون في سبيلِ دخول هذه المملكةِ والجلوسِ على كراسيهم، فالشياطين إزاء ذلك يقاتلونهم بالأكثر. فيجب عليك يا بُني أن تطيع وتتضع للآباء الروحانيين، لئلا تسقط مثل الشياطين، فإنهم بالعظمةِ والمعصيةِ لأبي الأرواح، سقطوا وهلكوا».

قلتُ له: «يا أبي، لقد سمعتُ عن قومٍ أنهم يصومون يومين يومين وأربعةً أربعة، وستةً ستة، وتملأني الغيرةُ فأَودُّ لو أصومُ مثلهم». فقال لي: «الذي يصنع هكذا بغير مشورةٍ، فإن الشياطين يرفعونه بالأكثر، وهكذا يحطونه إلى أسفل سريعاً، فالذي يقوم بما يفوق قدرتهِ يقتل جسدَه، وحينئذ ينكسر كالقوس إذا زاد توتُّرها أكثر من حدِّها». قلتُ: «وماذا أصنعُ إن شتمني أخٌ»؟ فقال: «إن المشتومَ إذا احتمل، غُفرت له الخطيةُ التي شُتم بها وصارت على الشاتم، مثل أن يُقال: يا سارق، يا كذاب، فقد جرى ذلك مجرى الاعتراف، فالمشتوم لما أُظهرت خطيئته وسكت واحتمل، فقد اعتُبر كأنه أقرَّ بها ودين عليها، أما الذي شتمه، فقد تحمل وزرها لكونه دان أخاه بذكرها، مع أنه قد أُمر بأن يُظهر خطايا نفسِه، ولكنه بالعكس أَظهر خطايا غيره، وقد قيل: إنه من الجهالةِ أن يهتمَ الإنسانُ بمرضِ غيرهِ، ويترك الاهتمامَ بمرضِ نفسهِ، أو يترك ميته ويمضي ليبكي على ميت غيره، كما أنه من أعظم الجهالات أن يغفلَ الإنسانُ عن خطيئته، ويذكر خطيئة أخيه».

arArabic
انتقل إلى أعلى