Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

في مناظرة علنية مع شهود يهوه (1) طرحتُ عليهم ما يقرب مما أطرحه الآن فسألوني قائلين: ألا تعتمد أنت على الكتاب المقدس؟. أجبتُ: طبعاُ بكل تأكيد، لكنني لا أعتمد على الكتاب المقدس وحده بل على التسليم (التقليد) والبشارة الأولى التي بشر بها الرسل و تسلمتها الكنيسة منهم وعاشت هذه البشارة. لهذا فكنيستي تحمل الحقيقة، لأنها هي بالذات الكنيسة التي أسسها الرب يسوع وأعطاها الطريق والحق والحياة، وبقيت منذ ألفي سنة وحتى أيامنا هذه محافظةً تماماً على ما تسلمته من الرسل. إذاً كنيستي ليست مؤسسة على المبدأ الذي تأسست عليه الكنائس المذكورة. هذا المبدأ لم يوجد إلا في القرن السادس عشر. هنا أتحدى أية فئة من هؤلاء الذين يدعون معرفة الكتاب المقدس وينتفخون بهذه المعرفة، أن ترينا في أي مكان من الكتاب المقدس قد كُتبَ أنّ المسيح اعتمد في تأسيس الكنيسة على الكتاب المقدس.

المسيح عندما أسس الكنيسة الحقيقية، الكنيسة الأولى التي ننتمي إليها نحن، ولا فضل لنا في هذا، لم يكن هناك ما يسمى بالعهد الجديد من الكتاب المقدس . إذاً كيف بنى يسوع كنيسته؟

يقول في إنجيل متى “دُفع إليّ كلّ سلطان في السماءِ وعلى الأرض فاذهبوا وتلمذوا كل الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس . وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر” (متى 28: 19-20) . وفي إنجيل مرقس “اذهبوا إلى الأرض كلها وأعلنوا البشارة للخليقة كله، فذهب أولئك يبشرون في كل مكان والرب يعينهم” (مرقس 16: 15-16).

إذاً على ماذا اعتمد في تأسيس الكنيسة ؟ اعتمد على البشارة الشفهية التي كانت بالروح القدس لأن الرب بعد القيامة أوصى رُسلَه فيما هو مجتمع معهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعوه منه لأنهم سينالون قوةً متى حلَّ الروح القدس عليهم وسيكونون له شهوداً في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض (أعمال 1 :4-8).

إذن لم يكتب التلاميذ الكتاب المقدس (أسفار العهد الجديد) وحده في الروح القدس بل كانت بشارتهم أيضاً بالروح القدس . يقول بولس الرسول “وكلامي و كرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة” (1 كورنثوس 2: 4) أما الكنيسة فقد تأسست على البشارة الشفهية وليس على البشارة المكتوبة وما نسميه الإنجيل والعهد الجديد، إذ لم يكون موجوداً حينها. مثلاً لنسمع ماذا يقول القديس بولس في (1 كورنثوس 15: 1) “و أعرفكم أيها الأخوة بالبشارة -الترجمة البروتستانتية قد ترجمت : “و أعرفكم بالإنجيل”، وهذا يصبح مغالطة إذا فُهِمَ بالإنجيل أي الإنجيل المكتوب- التي بشرتكم بها وقبلتموها وتقومون فيها وبها أيضاً تخلصون“. أي أنهم بالبشارة الشفهية التي بشرهم بها سابقاً صاروا كنيسة وبها يتم خلاصهم. أما عن طريقة إعطاء هذه البشارة ففي العدد “3” يقول: “فإنني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضا أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب وأنه دفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب“. الشيء ذاته في موضوع التسليم، نجده في (1 كورنثوس11: 23) “لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضاً أن الرب يسوع في الليلة التي أُسلِمَ فيها أخذ خبزاً وشكر وكسر وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم اصنعوا هذا لذكري، كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشوا قائلاً هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي” إذاً نلاحظ يا أحبائي أن هناك أمراً أساسياً بالغ الأهمية يجهله الناس عادةً وهو التسليم (التقليد) (2). الرسل تسلموا من الرب يسوع ثم سلموا بدورهم، وكيف سلموا؟. سلموا شفهياً . لدرجة أن القديس بولس نفسه يقول : “نوصيكم أيها الأخوة باسم ربنا يسوع المسيح أن تتجنبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب وليس حسب التسليم (3) الذي تسلمه منا” (2تسالونيكي 3: 6)، أي تجنبوا واقطعوا العلاقة مع الشخص الذي لا يسلك بلا ترتيب وليس حسب التسليم الذي تسلمه منّا.

نسأل: ما هو هذا التسليم؟. في (فيليبي 4: 9) يقول الرسول بولس: “وما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه و رأيتموه فيَّ فهذا افعلوا وإله السلام يكون معكم” تماماً لأن القديس بولس كان ممتلئاً من الروح القدس، فليس كلامه فقط بل كل تصرفاته كانت بالروح القدس وبالتالي فكلها تسليم. هكذا تأسست الكنيسة بناءً على الحياة والتعليم والتصرفات التي كان يقوم بها بولس وغيره من الرسل. كان يعلمهم مثلاً كيف يسلكون كمسيحيين وكيف تتم المعمودية وسر الشكر وما هي القيامة ومن هو المخلص والخلاص وكيف يحيون في الكنيسة ومع بعضهم البعض، أي كان يسلمهم الإيمان والحياة والمواهب الإلهية . كل هذا تسلموه ويسلموه فتبنى الكنيسة على أساسه.

بعد سنوات طويلة على بدء البشارة، وبعد أن توسع عمل الرسل التبشيري والرعائي بدأت تظهر الحاجة إلى كتابة البشارة – ولنأخذ كمثل على ذلك الرسول بولس – فعندما كان في كنيسة معينة بدأت تصله أخبار من كنيسة أخرى أن هناك أسئلة ومشاكل تتعرض لها تلك الأخيرة وهو لا يستطيع ترك المكان الذي هو فيه، لذلك لجأ إلى كتابة الرسائل لأسباب رعائية. أول رسالة كتبها إلى أهل تسالونيكي وقد اتبعها بعد حين برسالة أخرى ومن ثم إلى كنائس غيرها.

لكنه في هذه الرسائل عينها كان يذكرهم دائماً أنه يجب عليهم المحافظة على كل ما تسلموه منه سابقاً، لهذا يقول مثلاً لأهل كورنثوس: “فأمدحكم أيها الأخوة على أنكم تذكرونني في كل شيء وتحفظون التسليمات كما سلمتها إليكم” (1كورنثوس11: 2). لكن لاحظوا يا أخوة بأن الترجمة البروتستانتية للكتاب المقدس بدل أن تذكر كلمة “تسليمات”، فإنها تستبدلها بكلمة “تعاليم”. كلمة “تسليمات” هي جمع كلمة Paradosis باللغة اليونانية، وتعني “تسليم” أي تسلُّم وتسليم جميع ما سلَّمهم إياه الرسول من طرق حياة ومواهب إلهية (1تيموثاوس4: 14)، وليس فقط التعاليم. هذا تم مع كل راعٍ لكل كنيسة تأسست، وعامةً مع كل مسيحي آمن من هذه الكنائس . الجميع يتسلَّمون ويُسلِّمون. هكذا كانت و لا زالت حياة أعضاء الكنيسة الحقيقية مستمرة عبر هذا التسليم الذي يقومون ويخلصون به كما بيَّنتُ لكم من خلال تعليم القديس بولس خاصةً. ومع هذا فهذا الرسول كان يهمه بشكل خاص الأشخاص الذين كانوا يتسلَّمون المسؤولية العلية، أي الذين كان يرسمهم أساقفة مكانه، مثل تيموثاوس الذي رسمه على أفسس، تيطس الذي رُسِمَ على كريت، إلخ…، بالطبع لم يكن يُسلِّم مسؤولية إلا إذا كان متأكداً أنّ الشخص الذي يستلَّم هو كفوءٌ لتعليم الآخرين والمحافظة على التسليم (4). لذلك يقول لتيموثاوس: “تمسك بصورة الكلام الصحيح -لاحظوا أنه قال “الكلام” أي ما سلمه لهم سابقاً شفهياً- الذي سمعته مني في الإيمان والمحبة التي في المسيح يسوع” (2 تيموثاوس1: 13). كذلك يتابع في الرسالة نفسها “أحفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا” (2 تيموثاوس 1: 13-14). المحافظة على الوديعة، التي هي التسليم، تكون بالروح القدس إذن. على هذا المنوال عاشت الكنيسة الأولى تتسلّم وتسلِّم، بمعونة الروح القدس، التسليم الشفهي ومن ثم المكتوب أي الرسائل والأناجيل وغيرها، والتي كُتِبَت أيضاً لأسبابٍ رعائية وتبشيرية، ولم تكن تميّز بين التسليمين المتكاملين واللذين كانا دائماً بالنسبة إليها تسليما واحداً غير متجزئ.

في الواقع يا أخوة أستطيع أن أقول لكم أن هذا الأمر بالذات هو ما فعلته الكنيسة الأرثوذكسية بل بالأحرى أن نقول: الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية التي انطلقت أولاً في أرجاء الأمبراطورية الرومانية، لهذا الكنيسة الأولى كانت تسمى الرومانية عامةً أو الرومية (5) وكانت تحتوي في حضنها البطريركيات القديمة الخمس: روما القديمة، وروما الجديدة (أي القسطنطينية )، الإسكندرية، أنطاكية، أورشليم. للأسف الشديد الأولى من بين هذه الكنائس الخمس المتساوية (أي روما) ولظروف تاريخية معينة، لا مجال لذكرها الآن، لم تحافظ على التسليم بل زادت عليه وتطرَّفَت وشوَّهَت، مما استدعى فيما بعد محاولات إصلاح عديدة في الغرب أدت في النهاية إلى تأسيس كنائس منشقة عنها في القرن السادس عشر. وكانت نتيجة ذلك أنّ البروتستانت (أي المحتجَّين) عندما كانوا يناقشون في البداية كنيسة روم وكانت تجابههم بأمور من تسليمها هي، أن رفضوا الاعتراف لا فقط بما استحدثته هي بل بكل تسليم الكنيسة منذ البداية، وأعلنوا مبدأً شهيراً جداً باللغة اللاتينية وهو “Sola scriptura” أي “الكتاب المقدس وحده”، وهكذا كان مبدأ رفض التسليم انطلاقاً من فعل وردة فعل. ومنذ ذلك الوقت اعتمدت البروتستانتية نهج رفض التسليم (التقليد) مما أدى إلى كلّ هذا الضياع والتّفتُّت الذي أشرنا إليه سابقاً، والذي نتج عن رفض التسليم الذي لا غنى عنه في فهم الكتاب المقدس وتفسيره وعيش الحياة الإلهية، والذي هو الأساس الحقيقي الأول الذي أُخِذ عن الرسل.

الكنيسة الأرثوذكسية، والفضل لله وحده، ليست فئة من هذه الفئات بل هي الكنسية التي أسسها المسيح ولا تزال تحافظ على التسليم الواحد الشفهي والمكتوب -كلاهما من الرسل- وهي تحياه وتعبر عنه بالروح القدس عبر العصور بكل وسائل التعبير المختلفة من كتابة وموسيقى و أيقونات إلخ… محافظةً على جوهره بجهاد الآباء القديسين الذين كانوا ممتلئين من الروح القدس الساكن فيهم. لذا تحققت كلمة الرب يسوع الذي قال: “على هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها” (متى 16: 18). لماذا لم تستطع أبواب الجحيم أن تقوى على الكنيسة؟ لأن المسيح بالضبط، وعد بأن يكون معها. أرسل رُسُلَه للبشارة قائلاً لهم: “وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر” (متى 28: 20)، هو وعدهم بأن الروح القدس سيكون فيهم وسيمكث معهم إلى الأبد ويُرشدهم إلى جميع الحق (6) . لأجل هذا يقول بولس عن الرب يسوع: “له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع إلى جميع أجيال دهر الدهور” (أفسس 3: 21). فعلاً له المجد إذ أنه على الرغم من كل ما جابهته من اضطهادات وهرطقات ومؤامرات وضيقات تفوق كل تصور، لمدة ألفي سنة، لا تزال الكنيسة محافظة على استقامة رأيه وحاملة للإيمان الأول بنقائه ولحياتها الأولى بوفرتها. من البراهين على ذلك العدد الذي لا يحصى من القديسين الذين أنجبتهم الكنيسة ولا تزال، كعلامة واضحة على الحضور القوي المستمر للروح الإلهي فيها.


(1) نشرت منشورات النور الأرثوذكسية طبعة الأولى من هذه المناظرة سنة 1986، والطبعة الثانية سنة 1992م 

(2) للأسف نستعمل في اللغة العربية كلمة “تقليد” بدلاً من “تسليم” وهي ترجمة غير دقيقة لكلمة Paradosis اليونانية التي تحمل المعنى الأساسي المقصود وهو تسليم

(3) في النسخة البروتستانتية للكتاب المقدس تُستعمل عمداً كلمة “التعليم” بدلاً من ” التسليم والتقليد”، وذلك للتعتيم على مبدأ التسليم المرفوض من البروتستانت

(4)وما سمعته مني بشهود كثيرين أودعه أناساً أمناء يكونون أكفاء أن يعلموا آخرين أيضاً” (2 تيموثاوس 2: 2)

(5) نسبة إلى روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية ومؤسسه، بحسب اللغتين اللاتينية واليونانية

(6) انظر(يوحنا 15 : 16-17) و(يوحنا 16: 13-14)

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى