مشاكل الزواج والعائلة من عدة أوجه – التاريخي، القانوني واللاهوتي

المقدمة

 ستبحث موضوع الزواج والعائلة:

في بداية الستينات، كان طلاب الجامعات في الغرب يبحثون في اجتماعاتهم موضوع الزواج والعائلة الساري مفعوله آنذاك ببعض من السخرية. وكانوا يتصورون ويرددون أفكارا من الصعب تصديقها أو التأمل فيها من قبل الإنسان العادي، مثلا : السكن المشترك، المثاليون أو التقليديون، اللواط، حرية الطلاق… وكانت العلامات تتراكم كل يوم على تدهور وضع العائلة وكأنها مخلوق على أهبة الانقراض.

مع ذلك كانت مؤسسات كثيرة بوضع أضعف بكثير من وضع العائلة. فالوالد مثلا كان يذهب صباحا إلى عمله الذي ابتدأ فيه حياته العملية وكان يتأمل أن ينهي فيه حياته. بقيت الوالدة في البيت تهتم بالأمور المنزلية الكثيرة والمختلفة دون أي تذمر أو احتجاج. وإذا ما اجتهد الولد في المدرسة ونجح سيحصل بدون شك على مقعد في الجامعة ليتبعه مركز مرموق في المجتمع. بعد مدة، وبعدما يبدأ الشاب بالشعور بالأمان و يبدأ المستقبل يبدو مشجع، يأخذ بالتفكير في الزواج وتأسيس عائلة.

كان جو العائلة هادئا نوعا ما. لكن رويدا رويدا ابتدأت حياة المدن تتغير. وكانت العائلة مركز وهدف التركيب المجتمعي. لم يكن الوضع كامل، لكنه كان مقبولا.

بعد حرب فياتنام وعودة آلاف الجنود من الحرب، انتشرت المخدرات في شوارع المدن بعد أن كانت منتشرة في الشوارع والمناطق الفقيرة فقط. أما الكآبة التي تتبع الجنود المحاربين بعد نهاية خدمهم فقد أصبحت القاعدة بين أكثر الشباب. كان كل شاب تقريبا يحمل دواء ضد الكآبة، ويبشر بمبادئ جديدة عن الجنس. هؤلاء ثاروا ضد تقاليد العصر ومبادئه. بعض تلك الاحتجاجات كانت ضرورية لكن أكثرها كان مهدما. وبعد أن انتشرت فكرة” الجنس غب الطلب” نشر رجل كتابا بعنوان ” COMFORT ” لم يلبث أن أصبح المرجع الأساسي لتلك الحركات، شرح فيه كيفية القيام بالجنس الجماعي، تبادل الزوجات والتمتع باللذات الجسدية عامة، وأصبحت الخيانة الزوجية واللواطية مقبولتان كونهما تعبير عن الحرية الشخصية. وظهرت السيدا و الأمراض الجنسية الأخرى. ساعد الكتاب شركات تصنيع وسائل منع الحمل ،التي أخذت قبل ذلك تغلق أبوابها، نتيجة الحرية الشخصية التي يعيشها الشباب، إلى إعادة الحياة إلى مبيعاتها. بنفس الوقت نلاحظ بأن الزواج والعائلة استمرا في الانحدار نحو الهاوية.

ظهرت من وقت لآخر في وسط ذاك الهيجان بعض علامات التعقل. كتب الأسقف جان سبونغ في كتابه المشهور ” الحياة في الخطيئة : ” أن اللواط والطلاق والزنا والخيانة الزوجية هم أفعال مقبولة، لا بل أخلاقية لعصرنا ” .من جهة أخرى صوتت الكنيسة البراسبيتيرية ضد قانون ” الجنس خارج الزواج “. وإذا كان الزواج والعائلة قد وصلا إلى الوضع الذي وصلا إليه، ليس ذلك بسبب تخلّي الكنيسة عن مسؤوليتها في الدفاع عن التعليم الكتابي والأمانة الزوجية. السبب هو أن بعض المسيحيين المؤثرين قد اتخذوا قرارات ترفض تعاليم الكتاب باسم المبادئ الأخرى الأكثر سموا بالنسبة لهم، “استقلالية الشخص” ومبدأ ” إفعل ما تشاء ” وغيرهما.

إنه لمن السهولة أن نغض النظر عن هذه الأفكار ونعتبرها عابرة. ولكن إذا ما فكرنا بأن معدل الطلاق هو ” خمسون في المائة، وأن أقل من خمسة وعشرين في المائة من العائلات يعيش في عائلة بمعناها التقليدي (زوج وزوجة وأولادا طبيعيين أو متبنين)، نتأكد من أن ” مؤسسة” الزواج تواجه مأزقا كبيرا. مأزق علينا نحن الأورثوذكس أن نواجهه ونتعامل معه، من أجل مستقبل روحانيتنا وشهادتنا التي دعينا إليها والتي تطلب منا أن نحملها إلى مجتمع مضطرب ومشوش. لماذا يرفض الأورثوذكس مبدأ ” إفعل ما يرضيك وما تشاء ؟” كيف نستطيع أن نشرح لأولادنا ولجيراننا سبب تشديد الكنيسة على الجنس في الزواج فقط والزواج لمرة واحدة، في خدمة تباركها الكنيسة ؟ فإذا كانت التكنولوجيا تؤهلنا أن نحصل على أولاد بدون جنس وعلى جنس بدون أولاد، فما هو منطق تحديد الجنس في الزواج فقط ؟

الجواب لهذه الأسئلة نجده كما في السؤالات الأخلاقية المختلفة، في الليتورجيا والخدم الأخرى الكنسية. نجد في الرسالة إلى (أفسس 5: 20- 33 ( الجواب الأنصع ” اشكروا الله الآب في كل حين … ليخضع بعضكم لبعض بتقوى المسيح … الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح هو رأس الكنيسة التي هي جسده وهو مخلصها … أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح الكنيسة … ) يوضح لنا الرسول بولس في هذه الرسالة أن الزواج هو “علاقة عهد ” أبدي فيها تتحقق وحدة ” الجسد بطريقة سرية بجسد المسيح الذي هو الكنيسة “.

لقد أسيء تفسير هذه المقاطع من قبل فئات مختلفة منهم على سوء نية وآخر على حسن نية. أكثر المفسرين اعتبروا قول الرسول بأنه نظام ” بطريركي ” أو جنسي أو خضوع المرأة المطلق للرجل. لكن تفسير هذه المقاطع ينبغي أن ينظر إليه من منظار” ضوء الصليب “. إن سر علاقة المسيح بكنيسته هي علاقة تواضع وإعطاء للذات، ” يطهرها من كل دنس وتغضُّن “. وقد تحقق ذلك بالأم الذي غذاها واعتنى بها كونها خاصته وجسده. فبموت وقيامة الذي يبقى أزليا ” مصلوبا ” متى 28 : 5 ” حقق الله وعد العهد القديم، في إسرائيل الجديد تحقق وعد الله و أصبحت العائلة التقليدية مستطاعة حسب تعليم العهد الجديد، والتي يدعوها الذهبي الفم ” الكنيسة الصغيرة “. ففي هذا العالم الكنسي المصغر يصبح الرجل والإمرأة” جسدا واحدا ” مسلّمين حياتهما بالتزام أزلي لبعضهما البعض وبنفس الوقت قبلا ـ طوعا ـ أن يشتركا بعمل الخلق. قال القدماء : يحقق الزواج هدفين : أولا تأسيس رابطة المحبة بين زوجين و ثانيا جلب حياة جديدة إلى العالم.

يضيف الرسول بولس في (1 كورنثوس 7: 16) بأن هناك هدف آخر. أي بالإضافة إلى المحبة والخلق، يعمل الزوجان معا لخلاصهما ولخلاص أولادهما. هذا هو الهدف الأهم والأسمى للزواج .

لماذا لا ننغمس في ما يعرف بسخرية “الجنس الحر” ؟ لماذا نختار الطريق الصعب لنحصل على الزواج المكرم و الذي هو بلا دنس ؟ أين القيمة في حرمان الذات من ملذة الجنس” الطبيعية” عندما نشاء ومع من نشاء ؟ وإذا كان الجنس سرا مقدسا بالنسبة للكتاب المقدس، فلماذا نعمل بجهد لنحافظ على النقاوة في عالم معروف بشذوذيته ؟

الجواب على هذه الأسئلة سوف لن نجده في دروس الأخلاقيات ” لا تفعله لأن …”لكننا سنجده في وعد العهد، والخبرة الزوجية حيث الامتلاء الأكمل والفرح الأعظم المؤسسان على الإخلاص والإيمان. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم : ” حياتنا على الأرض قصيرة وزائلة. لكن إذا ما عملنا بمشيئة الله، وبادلنا هذه الحياة بالحياة المقبلة، سيكون (الزوج والزوجة) مع المسيح دائما ومع بعضهما بعضا.

هذا الأمل هو الذي يحفظ الكنيسة في رحلتها الصعبة نحو الملكوت، يحفظ الزواج أيض، وفي الوقت المناسب ينتج عنه ما يجب أن يكونه : أيقونة محبة إلهية وصلب حيث المحبة تتجدد باستمرار. آميــــــــــــن.

تطور الزواج في العصر البيزنطي

اعتمدت في هذه الدراسة على مراجع السنتغمة للمؤرخ القانوني بلاستاريوس في القرن الرابع عشر أي قبل سقوط الإمبراطورية البيزنطية. سأبحث علاقة الزواج بالليتورجيا والأسرار الأخرى الكنسية المقدسة. أما السنتغمة فهي الإنسكلوبيديا للقوانين العلمانية المعتمدة في الكنيسة آنذاك. وتفحص الأنسكلوبيديا الزواج بالدرجة الأولى. وقد أثرت كثيرا على التفكير اللاهوتي والقانوني الأورثوذكسي، وبقيت حتى القرن الثاني عشر مرجعا وثيقا ووحيدا لكل قوانين الزواج.

جمع الكاتب القوانين الكنسية، وكانت الإمبراطورية ومؤسساتها العلمانية تساعد الكنيسة في تنفيذ القوانن بكل الوسائل المتاحة لها.

وتشمل الإنسكلوبيديا أربعة وعشرين فصلا : الفصول 1-13 تبحث الزواج وقوانينه. يقول بلاستاريوس : ” إن الزواج الكنسي قد تأسس أولا على إعطاء ” البركة ” ” فالتتويج ” ثم “العقد “.

فالبركة تعني الخطبة، والخطبة لا يمكن من الناحية القانونية أن تتم إلا بعد سن الثانية عشر للذكر ونهاية الرابعة عشر للأنثى. نفس الشيء ينسحب على الزواج. أما فسخ الخطبة فيتم كما يتم فسخ الزواج وعليه يجب أن يرتكز على أسس محددة وقانونية.

بناء لتشريع الإمبراطور ألكسس كامننوس (1018 ـ 1118) تتم الخطبة بالبركة أي بصلاة خاصة ومحددة. أما هدف الصلاة هو استحضار نعمة الروح القدس لتحقيق الخطبة وجعلها غير قابلة للإنفصال. بهذه الصلاة اعتبرت الخطبة ـ كزواج. لأن الزواج يتم ويتحقق بتكميل الخطبة. فلم تشمل الخطبة كل الواجبات الزوجية أي لم توحّد الزوجين بواحد.

أما كلمة ” توج” فيعني بها الصلاة الأساسية للزواج. و صلاة الخطبة وصلاة التتويج هما الخطوتان لتتميم الوحدة.

هناك نظريات مختلفة تتعلق بالقسم الثالث أي ” العقد “و بعلاقته بالزواج، النظرية الأكثر قبولا هي القائلة بانه ـ1ـ لما كانت الخطبة والزواج قد تحققا بإضفاء البركة، يمكن القول أن ” العقد ” ينسحب على زواج الهراطقة الذين ما كان يسمح لهم بالزواج في الكنيسة ـ2ـ بما أن الزواج والخطبة يقوم بهما كاهن مرسوم، فإن العقد يتممه شخص من قبل الدولة. أما تتميمه فيكون هكذا :

قبل إقامة الخدمة، يحضر الزوجان وذويهما فيوقعوا على ما كان يعرف ” بالعقد الصليبي”. لأن التوقيع قد تم بقلم بشكل صليب. وتعني الإتفاقية بأن الطرفين قد قبلا أن يتحدا وقد عبرا عن موافقتهما بلمس والديهما رأس القلم الذي وقع به الطرفان. عندئذ يستطيع الطرفان أن يقدما الهدايا وينقلا الأراضي إلى اسم الزوج الآخر. بعد أن يوافق مندوب الدولة على ما جرى أمامه، يذهب الجميع إلى الكنيسة لإتمام الخدمة الكنسية.

الزواج والليتورجيا وإضفاء البركة

” بلسمون “المرجع القانوني الأهم والمعروف يقول : ” يتم الزواج بالبركة والمناولة “.

ومخطوطات القرن الرابع عشر تؤكد الشيء نفسه .من ما سبق فذكر يمكننا أن نفهم العلاقة بين المناولة والزواج بعد مقارنتهما بموضوع ” الحرم الكنسي ” تذكر أنسكلوبيديا ” السنتغمة”. نوعين من الحرم من المناولة : الأول يحصل نتيجة ” خطيئة المتناول “. والحرم ههنا وقتي ويصلح بالتوبة .أما النوع الثاني فدائم وينتج عنه إنفصال كلي للمحروم من عضوية الكنيسة.

تعتبر الكنيسة زواج الشخصين مقدس. أما اشتراكهما في المناولة فيعبّر عن تحقيق زواجهما واستحقاقهما لما حصلا عليه(أي الزواج في الكنيسة). كما تعني المناولة بأن الكنيسة قد وافقت على الزواج وباركته واكتملت الوحدة بعمل المسيح الفدائي.

اعتبر بلاستاروس أن الليتورجيا هي تحقيق الدور الرمزي للمتحدين واستحقاقهما للزواج. مع العلم بأن الاشتراك في الليتورجيا لم يكن شرطا أساسيا للزواج. أما الصلاة التي تدعو الروح القدس ليحل على الزوجين ويوحدهم، هي المادة الأساسية ” للبركة ” أي خدمة الخطبة ومن ثم “التتويج “. وقد وصف المؤرخون “البركة “كونها منح النعمة الروحية والمقدسة. أما الكاهن فقد عمل كوسيط بين الإنسانية والإلهية، وهو الإناء الذي منحه الروح القدس نعمة التقديس. تلك النعمة التي تخرج من الإناء لتحل على المتزوجين وتقدسهما. هكذا تتحقق الوحدة بين الزوجين.

يقول بلسامون : ” إن البركة التي يعطيها الكاهن للمتزوجين هي نفس وامتداد لتلك النعمة التي وهبها السيد لعروسي قانا الجليل “.

كلمات ” بارك ” ” وتوج ” ” وعقد ” هي وصف لثلاث خطوات الزواج، كل واحدة منها تحمل في طياتها قسما من الزواج، وكلها مجتمعة تحقق الزواج الكامل. فكلمة ” بارك ” تعني بأن خطبة رسمية قد تمت، وهذه الخطبة تفرض مسؤولية سلبية على الزواج، أعني مسؤولية الأمانة المطلقة والإلتزام لكلا الزوجين الذين سيصبحا زوجا وزوجة في المستقبل. ” التتويج ” هو الخدمة التي تكمل الوحدة التي وضعت أساساتها في الخطبة وتظهر الناحية الإيجابية للزوجين. أما ” العقد ” فهو إعلان عن إتفاقية مكتوبة ذي معنى علماني يمكن أن تشمل نقل ارزاق وأموال وأمور أخرى بعد موافقة الوالدين على الزواج. الخطوتان الأول تما في الكنيسة ومن الكنيسة. أما الخطوة الثالثة فتتعلق بالقانون المدني وليس للكنيسة أي تدخل فيها.

اعتبر بلاستاروس أن الليتورجيا هي كمال خدمة الزواج وتظهر أهمية الحدث.

المتروبوليت بولس صليبا
2006 September 26
عن موقع مطرانية أستراليا ونيوزلاند

arArabic
انتقل إلى أعلى