التكلم في “الوصيّة الجديدة” (يوحنا 13: 34)، وأعني المحبة، يفترض طهارة كاملة ليست عند كاتب هذه السطور، ويتطلّب تاليا تخلّصا من كل فكر أرضي، وذلك لأن ” الله محبة”، كما قال يوحنا الحبيب، انه المحبة الأزلية التي انكشفت بكاملها لما عُلّق ابن الله الوحيد على الصليب، فبات من الممكن- بعد أن تجلّت – أن يُقترب من حقيقة الله التي ظهرت في محبّته المجنونة للإنسان، كما يعبّر القديس نقولا كاباسيلاس.
في اللغة اليونانية عندنا ثلاث كلمات نعرّبها بلفظة “محبة”، تدل الأولى (أغابي) على المعنى القلبي العميق والثانية (فيلِيّا) تدلّ أكثر على الصداقة، واما الكلمة الثالثة (إيروس) فيغلب عليها معنى العشق. ما يَلفت نظر الباحثين هو ان الكلمة الثالثة لم ترد قطّ في العهد الجديد، وأن لأبرز الكلمتين الأخريين والاكثر استعمالا فيه هي الكلمة الاولى. كتّاب الترجمة السبعينية للعهد القديم استخدموا الكلمة (أغابي) في صدد حديثهم عن علاقة الله وتعامله مع شعبه، فعمق عندهم معناها بقدر عمق عمل الله وشعوره نحو شعبه، حتى كمُل معنى الكلمة عند كتّاب العهد الجديد لما رأوا ان هذه المحبة قد تجسّدت وسارت في ما بينهم في يسوع الناصري.
امل مظهر لهذه المحبة هي انها محبة مجانية وللجمع “لانه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الابدية” (يوحنا 3: 16). لا تنظر الى استحقاقات الناس المحبين، كما يعبّر القديس ايريناوس، ولكنها تدعو الناس جميعا الى حياة جديدة وتعضدهم على قدر ما ينفتحون عليها ويتقبلونها تائبين، “توبوا لانه قد اقترب ملكوت السموات” الذي هو “ملكوت ابن محبّته” (راجع:متى 4: 17 وكولوسي 1: 3). وهي، تاليا، محبة خلاصية بمعنى انها قادرة أن تأتي بالذين ابتعدوا عن الله وتعيد لهم مكانتهم الاولى، ولذلك هي متطلّبة. قال يسوع لتلاميذه في حيثه الاخير:”إن كنتم تحبّونني فاحفظوا وصاياي” (يوحنا 14: 15). طاعة الوصيّة هي علامة محبة الانسان لله، لأنه ليس من محبّة نظرية او كلامية وحسب من دون عمل ظاهر. لقد مات المسيح عنا ورأينا حبّه ليس فقط بالكلام ولكن بالدم، وهذا يعني اننا في معاملاتنا الحرة مع الله ينتظر هو منا أن “نعمل رضاه” اي أن نوافق أفكاره ومقاصده وأن تكون هي وحدها هدفَ حياتنا.
يربط يوحنا الإنجيلي في كتاباته بين محبّة الله ومحبة الإخوية ويعتبر أن تُظهر صدق الاولى (1 يوحنا 2: 9 و10 و14 – 17، 4: 20 – 21)، فمحبتنا للآخرين هي محبّة مسؤولة، وبكلمة أخرى هي “شراكة الحياة” كما يقول اكليمنضس الاسكندري. الا أننا، بلا شك، نحتاج – حتى نستطيع أن “نحب بعضُنا بعضا” – الى أن نتقبّل محبة الله اولا، لأن محبته بالنسبة الينا هي القاعدة الذهبية لكل سلوك، ومن لا يرتضيها لا يقدر أن يحب حقا، لانه لا احد يستطيع أن “يضع أساسا آخر غير الموضوع”. لقد ميّز يسوع في معاملات الناس لبعضهم البعض بين تلاميذه والخطأة، عندما قال في العظة على الجبل “فإن أحببتم الذين يحبّونكم فأي فضل لكم، فإن الخطأة يفعلون هكذا” (متى 5: 45 – 48). لماذا هذا التمييز؟ لأن التلميذ الحقيقي لا يسلك كما الناس يسلكون (يحب الذي يحبه، يُقرض الذي يُقرضه)، وذلك لأن المحبة المسيحية ليست غايتها تحسين العلاقات بين الناس، ولكن أن يعلم العالم اننا تلاميذ يسوع (يوحنا 13: 35)، وأن كل ما فينا من خير، نخصّ الناسَ به، نحن نتقبّله من لدن ذاك الذي مات من اجلنا وخلّصنا من دون أن نستحق، ولذلك فإننا نحب الناس كل الناس حتى ولو كان بعضهم لا يبادلوننا المحبة، او – برأينا – لا يستحقون المحبة.
هذا يدلّنا الى القول إن الكنيسة هي تجسُّد المحبة في التاريخ، فاذا قالت العقيدة المستقيمة بأنها “واحدة جامعة مقدسة رسولية” فإنها – على فرادة كل من هذه التحديدات – تعني، بلا ريب، انها سر المحبة، ولذلك فهي صورة الحياة الجديدة يساهم في كشف كنهها وتجسيدها – بمعونة كلمة الله – كل عضو في الجماعة. فالكنيسة جسم حيّ ليس مثله شيء ولا بديل عنه، ولذلك لا عذر لمن يفتّش عن المحبة خارج الكنيسة وهو عضو من أعضائها، وحجته انه لم يجدها فيها، فإنه يدين نفسه لأن الله سوف يسأله في اليوم الأخير عندما يظهر كل شيء بوضوح كامل: لماذا أغلقت عينيك عن المحبة؟ او: لماذا لم تحب انت نفسُك؟
فرادة المعمّدين هي انهم لا يتعدّون ” الوصية الجديدة”، لأنه أعطي كلّ منهم قلبا واسعا “حتى انه يستطيع أن يحتوي الله”، كما يقول كاباسيلاس. أن نحب الله ونرتضي خلاصه وأن نحب الناس لأنهم محبوبو الله وأن نعمل بتواصل لكي يكون محبوبا في العالم هذه –باختصار- هي المسيحية كلها.
نقلاً عن نشرة رعيتي
الأحد 8 أيلول 1996 / العدد 36