Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

“..وبكنيسة واحدة، مقدسة، جامعة، رسولية.”

* الروح القدس يحقق الكنيسة جسد المسيح:

في الكنيسة مهمتان: مهمة للمسيح ومهمة للروح القدس. فالمسيح بتجسده، بأبعاد التجسد الكاملة أي الفداء والقيامة، وضع الأساس. [ فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاساً آخَرَ غَيْرَ اَلَّذِي وُضِعَ اَلَّذِي هُوَ يَسُوعُ اَلْمَسِيحُ ] [ 1 كورونثوس 3: 11 ].

والأساس يصل إلينا نحن عن طريق الكلمة أيضاً، الكلمة المعبّر عنها بشتى المظاهر أي الإنجيل مقروءاً، مدروساً، ممثلاً ومسكوباً في طقوس، في خدمة وفي عبادة. هذا هو الأساس.

هذا الأساس ينقله الروح القدس ويبني عليه. الروح القدس هو الذي يُنشئ في العالم هيكل الله أي الكنيسة. هيكل الله، حضور الله في العالم، مؤسس وقائم على هذه الكلمة الواردة إلينا في الإنجيل والتي ظهرت، أولاً، بشخص يسوع. وهذا الهيكل له نمو بالروح القدس الذي يشكل في هذا العالم جسد المسيح. أي أن هذه الكنيسة هي جسد المسيح أي هي محضر المسيح ومكان تجلّيه. من هنا أنه يوجد عملان لا ينفصلان: عمل المسيح البُنياني، الأساسي، ثم عمل الروح القدس الذي لا يأتي بمسيح جديد، بل يشكل المسيح فينا، ونتحته هي التي تنشئ هذا المسيح فينا. لهذا كانت الأسرار وهي مبنية على كلمة المسيح ولكنها محققة بالروح القدس.

مثال على ذلك: المسيح عندما قال ” . خذوا كلوا هذا هو جسدي . واشربوا منه كلكم هذا هو دمي . لمغفرة الخطايا”، أسس سرّ الشكر. كلامه هذا هو كلام التأسيس الذي أوجد هذا السر. أما اليوم، بعد صعود المسيح، فالروح القدس هو الذي يبني على هذا الأساس. أي هو الذي يحوّل الخبز إلى جسد المسيح والخمر إلى دمه. إذاً، فالمسيح يظهر ويشكل إنطلاقاً من خبز وخمر، بنفحة الروح القدس وبنزول هذا الروح على القرابين وعلى الجماعة. كما أن كلام الله للإنسان في الفردوس: ” تكثران وتملآن الأرض” أسس الزواج فجعله ممكناً، إلا أن إتصال الرجل بالمرأة هو الذي يحقق كلمة الله. الروح القدس هو، إذاً، المحقق لحضور المسيح.

* الكنيسة شركة المؤمنين في مواهب الروح:

هذا الروح هو الذي يوحّد أعضاء الكنيسة وقد صاروا أعضاء فيها بالمعمودية. ولكن يجب أن تتعمق عضويتهم وأن يقوى إنتسابهم للمسيح بالقداسة. ما كانت المعمودية سوى مدخل إلى الكنيسة، ولوج إليه. ولكن لايصل الإنسان إلى ملء قامة المسيح، أي لا يحقق الإنسان في نفسه كل أبعاده المسيحية، كل قامته إلا بالنمو اليومي الدائم بالروح القدس. ومعايشة المسيحيين بعضهم بعضاً وتساندهم بالمحبة هما اللذان يجعلان هذه الكنيسة شركة الروح القدس. يقول الرسول بولس: “نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشركة الروح القدس لتكن معكم”. من هنا أننا نصبح جسداً للمسيح أي نصبح واحداً له ومتجلى وإمتداداً ليس فقط بالمعمودية ولكن على قدر هذا النمو الذي هو، أصلاً، حصيلة سر الميرون. هتذا يعنى أن نموّنا يأتي بالميرون وأننا به ندخل في الميثاق مع الله. فكما أن الإنسان في العهد العتيق كان يولد وفي اليوم الثامن يُختن أي يدخل في ميثاق الله، هكذا، في العهد الجديد، يولد الإنسان للمسيح بالمعمودية ولكن بالميرون يدخل في ميثاق الله أي العهد. معاهدة الله بهذا السرّ وختم الله علينا، ختم موهبة الروح القدس.

روح القداسة هو الأقنوم الثالث. وهذه القداسة تتمّ عن طريق توزيع المواهب المختلفة. الكلمة المستعملة في اللغة اليونانية والتي ترجمت في العربية بكلمة موهبة Charisma وهي مشتقة من لفظة Charis  أي النعمة. والنعمة تعني، طبعاً، العطاء المجاني، أي أن الواحد يعطي الآخر لقاء لاشيء. Charisma تعني، حرفياً، حصيلة النعمة فينا وهي التي ترجمناها بـ ” موهبة”. وكلمة موهبة، في العربية، تدل على الفاعلية والمفعولية. تدل على الواهب ” الله الواهب” – ولهذا يُقال أن فلاناً عنده موهبة للدلالة بذلك على أن الله هو الواهب -، وعلى الشيء الموهوب. والمقصود ب Charisma هنا هو هذا العطاء الذي وُهِبَه الإنسان من الروح القدس، بل إن هذا العطاء هو الروح القدس نفسه. ومعنى هذا أن عطاء الروح القدس لنا ليس شيئاً خارج الله، مستقلاً عنه ولكنه قوة تفيض من الله نفسه. لذلك، كل من أخذ موهبة فقد أخذ الله: ” أخذنا الروح السماوي”، ولكن الله له مفاعيل مختلفة.

* الإكليريكي والعلماني وعضوية شعب الله :

يصف بولس الرسول، في رسالته الأولى إلى أهل كورونثوس، مواهب الروح القدس.
{“فَأَنْوَاعُ مَوَاهِبَ مَوْجودَةٌ وَلَكِنَّ الرُّوحَ وَاحِدٌ. وَأَنْوَاعُ خِدَمٍ مَوْجُودَةٌ وَلَكِنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ. وَأَنْوَاعُ أَعْمَالٍ مَوْجُودَةٌ وَلَكِنَّ اللهَ وَاحِدٌ الَّذِي يَعْمَلُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ. وَلَكِنَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ يُعطَى إِظْهَارُ الرُّوحِ لِلْمَنْفَعَةِ. فَإِنَّهُ لِوَاحِدٍ يُعْطَى بِالرُّوحِ كَلاَمُ حِكْمَةٍ. وَلآخَرَ كَلاَمُ عِلْمٍ بِحَسَبِ الرُّوحِ الْوَاحِدِ. وَلآِخَرَ إِيمَانٌ بِالرُّوحِ الْوَاحدِ. وَلآخَرَ مَوَاهِبُ شِفَاءٍ بِالرُّوحِ الْوَاحِدِ. وَلآخَرَ عَمَلُ قوَّاتٍ وَلآخَرَ نُبوَّةٌ وَلآخَرَ تَمْيِيزُ الأَرْوَاحِ وَلآخَرَ أَنوَاعُ أَلْسِنَةٍ وَلآخَرَ تَرْجَمَةُ أَلْسِنَةٍ. وَلَكِنَّ هذِهِ كُلَّهَا يَعمَلُهَا الرُّوحُ الْوَاحِدُ بِعَيْنِهِ قَاسِماً لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمُفْرَدِهِ كَمَا يَشَاءُ”. [ 1كورونثوس 12: 4 – 11].}
وثمة في مواضع أخرى ذكر لموهبة الشفاء، مثلاً، وموهبة التدبير وموهبة ترجمة اللغات وموهبة النبوّة وما إلى ذلك.

هناك، إذاً، مواهب متعددة ومنها الموهبة العامة التي هي أن يكون الإنسان عضواً في شعب الله، ويسمّى في العامية علمانياً. وربما أتت هذه اللفظة من السريانية ” عُولِم”، وهي فقط من علم أي الاهتمام بأمر هذه الدنيا. العلماني، في العامية، تعني من ليست له علاقة بالعلوم اللاهوتية الروحية ولكنه يتعاطى العلم الاعتيادي. وإذا أتت من ” عُولِم” فهي تعنى من يتعاطى شؤون هذه الدنيا. هذا التفسير لكلمة علماني خاطئ، طبعاً، وهو صادر عن التفكير اللاهوتي الغربي. علماني تعني Laicos وهذه كلمة يونانية مشتقة من Laos التي تعني شعب. و Laicos اليونانية تعنى العضو، ومن الأفضل تعريبها بكلمة ” عامّي” أي بالنسبة لعامّة الشعب. وهكذا فإن العامي، أي الذي من الشعب، هو عضو في الشعب الإلهي، والحقيقة أن كل إنسان، حتى الإكليريكي، عضو في الشعب الإلهي. الإكليريكي عامي أيضاً، والقول الذي شاع في هذه البلاد، وهو أيضاً هناك إكليريكياً وعلمانياً، قول لا أساس له. فكل من نال الميرون صار من شعب الله، والاكليريكي عندما صار إكليريكياً لم يبطل أن يكون من شعب الله أي علمانياً.

ضمن هذه الشركة المواهب متنوعة، الله ينوّعها. هو الذي يجعل كلاً منّا عضواً في شعب الله، وهو الذي يعطى الحياة الأبدية للمؤمنين، أي أن حياة الله فيهم يعطيها هو بدفق دائم. وإذا تآزرت هذه المواهب تتشكل الكنيسة. أي يخرج المؤمنون من كونهم جماعة زمنية تعيش في هذا التاريخ، جماعة سوسيولوجية، يخرجون من وضعهم الاجتماعي إلى وضع أبدي. أي أنهم يأخذون حجمهم الإلهي عن طريق الروح القدس. أي كما أن ثمة قوة فيهم حتى يشهدوا في العالم، هكذا أيضاً، وبعكس ذلك، فيهم قوة حتى يتصفوا من تقلبات هذا العالم، من خطايا هذا العالم ليصبحوا شعباً لله. وعلى قدر ما يصيرون شعباً لله يعودون ليشغلوا في هذا العالم باستقلال عنه، أي تكون هناك، بينهم وبين العالم، فسحة من الحياة الأبدية. فالحياة الأبدية التي فيهم تجعلهم يحكمون في شيءون هذا العالم ويوجهونه.

ولكن ثمة وجهاً إلى الله أولاً. الروح القدس هو الذي يوجهنا إلى الله. يوجهنا تعني، في العربية، يلفت وجوهنا إلى الله، يديرها حتى تتطلع إليه. وعلى قدر ما تنظر هذه الوجوه باتجاه واحد، على هذا القدر، نكون كنيسة. نصبح كنيسة على قدر ما يلتفت وجه كل واحد منا ليتطلع إلى الله. ولكن، عندما نتطلع إلى الله ونحن نمارس الخدمة، تبقى لكل من موهبته الخاصة. عندنا جميعاً موهبة العلمانية، أي موهبة الميرون، وهي أن نكون مختومين لله، محفوظين للمسيح، مخصصين له. فإذاً، إذا كنا نحن مختومين ليسوع المسيح معنى هذا أننا ننفتح له فقط، فبهذا الاتجاه الواحد إلى الله، ونحن في هذا العالم، نشكل الكنيسة. الكنيسة إذاً، هى، دائماً، متجهة إلى الله التي إليها، وهي، بسبب الخدمة من أجل تحويل هذا العالم، متجهة على العالم.

* مواهب الروح ومعية الكنيسة :

من هنا أننا نحتمل بعضنا بعضاً، كما يقول الرسول بولس في رسالته إلى أهل رومية، ليس لمحاكمة أفكار، ونحمل بعضنا لاثقال بعض ولا ندين أحداً بل نقبل الموهبة التي في الآخر. نقبل، مثلاً، أن فلاناً واعظ كبير وأن فلانا مدبّر صالح. ولذلك، لا يفتش الواعظ الكبير عن أن يصبح مدبراً أي إدارياً، وإذا فعل ذلك فإنما هو يضيع وقته لأن الروح القدس لم يعطه هذه الموهبة. وايضاً، لا يفتش الإدارى الكبير عن أن يصبح واعظ. الإنسان لا يستطيع أن يأخذ شيئاً لم يعطه إيّاه الله، أساساً. تبقى هناك، طبعا، جهود بشرية. كل الأمور التي بمتناول الإنسان يجب السعى إليها. الوعظ، مثلاً، يُتعلّم كتقنية، كفن، ولكن قد يستمر الواحد عشرين سنة في تعلّم الفن وقد يُتقن خطاباً سياسياً وأدبياً دون أن يتوصّل إلى إتقان عظة دينية إذا لم تكن عنده النفحة لذلك.  أنا لا أقول أن لا يدرس الإنسان الفنون المختلفة التي تسند المواهب لتنفَّذ؛ ولكن، في الأساس، يجب أن يعرف كل إنسان موهبته وأن يضعها في خدمة الكنيسة، من هذه المواهب: الكهنوت أو الأسقفية.

الأسقفية، أساساً، تجمع مواهب في الكنيسة مختلفة كالتعليم والإدارة، وما إلى ذلك. والأسقفية ليست سلطة وإمتيازاً ولكنها موهبة. والإنسان لا يعمل، في الأساس، شيئاً حتى ينال الموهبة. فهو لا يستطيع أن يصنع نفسه كاهناً. فإمّا أن يكون، من بطن أمه، كاهناً أولا يكون. وهو يستطيع أن يكتشف ذلك فيما بعد إذا كان موهوباً له، والمطران يقول له ذلك والكنيسة جمعاء تستطيع أن تقول له ذلك. يبقى أن أصحاب المواهب يتبنّون بعضهم بعضاً، يقبلون بعضهم بعضاً ويقبلون تنوعّهم. هذه عملية من أصعب ما في الدنيا: أن أقبل أن يكون فلان إدارياً بينما أنا لست إدارياً، وأن يكون فلان معلماً بينما أنا لست معلماً. والخطأ يكون عندما يهيّج كل منا نفسه ليجمع المواهب كلها. نحن نقبل التنوع لأننا نقبل الله مصدراً للكلّ.

لا شك أننا، في الكنيسة، حتى نكون معيّة يجب أن ننمي المواهب في كل إنسان. فالذكي مثلاً يجب أن لا نطمسه حسداً ولكن نظهره لأن المسيح يستفيد من ذكائه، ولأن القضية التي نحملها تنجح بالاشتراك. بالمحبة، إذاً، والتشجيع نجعل الآخرين يتقدمون. إذا كانت تهمنا، فعلاً، مصلحة المسيح، فيهمنا بالتالى أن يبقى فلان تقياً لا أن نقص له جوانحه وننمّ عليه. ومن أجل هذا نستر بعضنا عيوب بعض. من واجبنا، طبعاً، أن نوقظ المواهب في الناس، ذلك أن الإنسان لا يعرف نفسه موهوباً. المحبة الأخوية هي القوة التي توقظ المواهب. فنحن، إذاً، نحيط الناس بعناية وعطف حتى تستفيق فيهم مواهب الروح القدس لتنمو بالتنوّع. من هنا اننا لا نستطيع، إعتباطاً، أن نقرّر ما هو الأكثر فائدة للكنيسة في هذا البظرف أوذاك. أي أننا لا نستطيع نحن أن نقرّر، مثلاً، أن الكنيسة، اليوم، بحاجة إلى إداريين فنأتي بأحسن الإداريين ونجعلهم رؤساء، وإكليروسً وغير ذلك. هذا تفكير خاطئ. لا نستطيع نحن ان نقرّر أن الكنيسة بحاجة إلى لاهوتيين أكثر مما هي بحاجة إلى ناس عملييّن. الكنيسة بحاجة إلى مواهب متنوعة ومتعددة كما رسمها الله على لسان الرسول بولس. نحن ليس لنا أن نقرّر ما هو المهم وما هو غير المهم. ما يكشفه الله أنه مهم هو المهم. وبالتالي فإن هذه المواهب تتآزر ونوقظها نحن في الناس.

* شركة المواهب وشركة المائدة :

إذا عرفنا ذلك فنحن نعرف أن هذه الشركة بين أصحاب المواهب تتوطد على قدر إلتفافنا حول المائدة، مائدة القرابين حيث يتغذى أصحاب المواهب لينتقلوا إلى العالم. عندما نأكل جسد المسيح ونشرب دمه نكون، بالتالي، في حالة التقوى بمواهب الروح كل حسبما وُهب.

في المادة الخامسة من النظام الأساسي الجديد للكرسي الأنطاكي أن الإكليروس والعلمانيون يشتركون معا في حياة الكنيسة حسبما أُعطي كل منهم من مواهب الروح. الاشتراك الأمثل والضروري جداً والذي لا حياة لنا بدونه هو الاشتراك بجسد ابن الله في كل قداس إلهي حيث تكون ال “ييرارخيا” Hérarchie. وال “ييرارخية” كلمة يونانية ليست لها ترجمة في أيّة لغة، وهي تعني الجماعة المتشاركة. إنها مشتقة من كلمة تعني القدسي. وهي تعني هنا المبدأ القدسي. وباتصال الكلمتين صارت تعني المشاركة حسب رتب مختلفة. ال ” بيرارخية” عندما صورها ديونيسيوس الأريوباغى – راهب من القرن السادس، وهو على الآرجح، سوري – صوّر المائدة المقدسة وحولها الأسقف والكهنة والشعب المؤمن وتسع طغمات منها المعمودية والميرون، وهذه الطغمات صورها واقفة حول المذبح. وفي السماء أيضاً تسع طغمات ملائكية حول العرش الإلهي. الرتب هنا على الأرض تناسب التي في السماء. هذا يعني، بكلمة ثانية، أن عمل الله ينبث من القرابين، من المذبح، وهكذا إلى هذه الحلقات الملحقة حول جسد ابن الله. هذا ما يسمّى بال ” بيرارخيا”.  فيما بعد أسيء استعمال الكلمة وصارت تُطلق على الاكليروس وحده فحددوا الرتب الكنسية، بالمطران، الكاهن والشماس، وهذا التحديد ليس في الكنيسة ما يشير إليه. الرتب الكنسية رتب ضمن الحياة الكنسية. والعلمانية، أيضاً، رتبة من رتب الميرون. والذي نال الميرون صار في ال” بيراخيا” العامة في الكنيسة. فجسد ابن الله، إذاً، هو المصدر، ولكنه يأتي أيضاً بحلول الروح القدس أي يشكله الروح القدس. وبالتالي، فإن تناولنا لجسد ابن الله هو تناولنا للروح القدس، لقوة الروح القدس. بالنتيجة، إن جسد ابن الله يجمعنا بمعنى أن كلاً منا يزداد في موهبته، وهكذا يرتفع مستوى الكنيسة.

ليست غاية المناولة، إذاً، أن يُسر الواحد به أو يشتاق إليها فقط، غاية المناولة أن تتشكل الكنيسة. أن تصير موحدة لأننا بتناولنا الجسد والدم ننضم إلى ابن الله الجالس في السماوات. ينمو جسده وينمو كل منا بموهبته الخاصة وتنتقل الكنيسة من جسم مبعثر غارق في الدنيويات والشهوات إلى جسم مُرَوْحَن أكثر فأكثر أي معبأ بقوة الروح.

* القداسة هي الهدف:

المسيحي، إذاً، هو من يسلك درب القداسة في شركة الأخوة. ليس من أحد يفهم إلا على قدر ما يتقدس. ليس الفهم بالدماغ، إنه بالروح القدس إذا حلّ عليك. دماغك لا يقدّم في هذا ولا يؤخر، هو يفسّر لك بعض الأمور ويوضحها، والتوضيح والتفسير هما فقط لتنظيم الأشياء وترتيبها ولا يخلقان فاعلية إلهية. كما أنه إذا شرحت أمامكم لوحة فنية فمجرد الشرح لا يخلق عندكم شعوراً بالجمال ما لم يكن فيكم حس الجمال. ليست القضية بالشرح، والحياة المسيحية ليست بالمحاضرات ولكنها أن ينزل الله عليك أولا ينزل. القضية قضية نعمة إلهية تأتي على الإنسان وعلى قدر قداسته يفهم. ولكون الإنسان لا يستطيع أن يتقدّس لوحده وجب عليه أن يحب لكى يتقدس – فالذي لا يحب ليس عنده شيء – وعليه أن يعيش مع الجماعة في خدمة عملية. وعلى قدر ما يتساند والجماعة هذه، كلهم بعضهم مع بعض، يصبحون إنساناً واحداً أي يصبحون المسيح. إذا أحبت هذه الجماعة الموجودة هنا بعضها بعضاً حقيقة وفي الأعماق، وإذا تطهّر كل واحد فيها من شهواته، تصبح هي المسيح، وبالتالي، قادرة على الفهم لأن المسيح يفهم.

العملية الأرثوذكسية هكذا تكون: “لنحب بعضنا بعضاً لكي، بعزم متفق، نعترف مقرين بآب وابن وروح قدس…”. المحبة شرط المعرفة ومفتاح المعرفة. ولذلك أن أتعاطى شهواتي المختلفة، والبغض والحقد والحسد والإغراء وما إلى ذلك وأن أذهب بعد ذلك لأقوم بإجتماع دينى فهذا غير ممكن، ذلك أن الناس الذين هم على شيء من البصيرة يدركون أن كلامي مكرر، مجتر وأنه مجرد نقل عن الكتب ولم يصدر من داخلي ويمر في عظامي كلها لأنني ما زلت محافظاً على شهواتي وبالتالي لا يمكنني أن أتكلّم ولا أن أخدم. ولذلك السؤال: لماذا المسيحيون متقاعسون ومتكاسلون؟. جوابه: لأنهم لا يحبون الله ولأن خطاياهم تمنعهم من النشاط. لا يوجد تفسير ثانٍ. وليس في الأرثوذكسية غير هذا التفسير الوجودي.

إذاً فهذه الشركة وهذه المعية تقويان بالمحبة اليومية العملية.

*معية القديسين:

إن المشاركة بين المؤمنين، بالروح القدس الواحد فيهم، لا يقطعها الموت.” المحبة أقوى من الموت” (نشيد الأنشاد). وما سمّي شركة القديسين، ونترجمه هنا معيّة القديسين – والمعيّة كلمة عربية جميلة جداً لا ترادفها كلمة في أيّة لغة، وهي تعني هنا القديسين الذين على الأرض والقديسين الذين في السماء، بحيث أن الرسول بولس يسمى المسيحيين، هنا على الأرض، قديسين، وحيث أن القديس هو الذ خُصّص لمسيح وكُرّس له، والقديس ليس هو البطل، فالمسيحية ليس فيها ما يسمّى بطولة- هذه المعيّة تعني أن ثمّة عُرى لا تنفصم بين الذين هم على الأرض والذين إنتقلوا إلى الله. إن البروستانتية، حين ألغت ذكر القديسين الممجدين، حرمت نفسها من كنز لا يثمن. حرمت نفسها من أن تبقى واحدة مع المواكب، مع هذه الأجيال البارة التي سبقتنا. لأنه إذا كان المسيح واحداً، إذا كان المسيح غالباً الموت فغلبته تفعل الآن وإلا فليست شيئاً. إذا قلنا أننا كلنا أموات ونفنى في القبور وأن المسيح سوف يعيدنا إليه فقط في اليوم الأخير فهذا القول يعني أن ثمة فجوة بين قيامة المخلص واليوم الأخير وأن هذه الفجوة لا يسدها أحد.

خطأ البروستانتية الأساسي أنها لا تعرف الشركة. هي تعرف أن الإنسان مع ربه فقط. ولكن حقيقة الإنسان أنه مع الإنسان الآخر والله بينهما جامع. ليس صحيحاً أني أنا مع الله لوحدى. أنا معكم وكلنا، بعضنا بع بعض، مع الله. هذه هي الإنسانية، هذا هو جسد المسيح. المسيح هو في الذين يحبونه، هؤلاء أعضاء لا ينفصل بعضها عن البعض الآخر. والله الآب هو أبو هذه العائلة والمسيح يشكلها والروح القدس مبثوث فيه. هذه حقيقة الإنجيل. فإذا كان المسيح قد قام حقاً فهو، من الآن، مُهيمن على هذه الجماعة؛ أي أن قيامته، إنقاذه الإنسان من الخطيئة والفساد، هذه القيامة فاعلة وإلا فمعنى هذا أن اليوم الأخير مفصول عن القيامة وكأن المسيح ذكرى نلهج به. أي أن ثمة هوة هائلة بين المجيء الأول والمجيء الثاني إذا لم يكن هناك قديسون، إذا لم يوجد أناس موصولون بعضهم مع بعض. الكنيسة، بالتالي، في جانب من جوانبها، هي هذه الموصولية بين المجيء الأول والمجيء الثاني، وهتذه الموصولية تمثلها الكأس المقدسة عندما نضع فيها أجزاء الأحياء والأموات، بعد مناولة المؤمنين، فتمتزج الأعضاء الحية، أي الأحياء العائشون هنا، والأعضاء الذين انتقلوا إلى الله، الذين ذُكروا، والقديسون ممثلين بتسع طغمات عن يسار الحمل، ووالدة الإله التي هي عن يمين الجوهرة في الصينية. يتحد هؤلاء بالدم الإلهي. هذا يعنى أن دم المسيح الذي سُكب انبث في الدنيا ويجمع الأحياء والأموات، يجمع الذين مُجدوا في قداسة معلنة والذين انتقلوا ولم يُمجّدوا في قداسة معلنة ولكنهم يساهمون في حياة الله والذين، هم على الأرض، يسعون سعياً. هؤلاء كلهم مربطون بعضهم مع بعض بدم الحمل الإلهي وهم معيّة.

ولذا فالإنسان ليس هو، فقط، ابن اليوم. الإنسان مسنود. أنا موصول، منذ ألفي سنة، بأناس سبقونى، بهذه المواكب التي تتعاقب بالشهادة والدم والأسقفية والذبيحة المستمرة.

* شفاعة القديسين :

من أجل هذا فالدعاء للقديسين – وهو ما يسمّمونه الشفاعة وهو، هنا، بمعنى الصلاة – هو نتيجة منطقية لكونهم: [ وَلَيْسَ هُوَ إِلَهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلَهُ أَحْيَاءٍ لأَنَّ الْجَمِيعَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ ] [ لوقا 20: 38 ]. ويقول صاحب نشيد الأنشاد: [ أَنَا نَائِمَةٌ وَقَلْبِي مُسْتَيْقِظٌ ] [ نشيد الأنشاد 5: 2 ]. إذاًن فهؤلاء النائمون في القبور ليسوا أمواتاً، قلوبهم يقظة. وإذا أردتم تمييزاً فلسفياً بين النفس والجسد، فنفوس هؤلاء، منذ الآن، قائمة من الموت. نفوسهم قائمة بفعل المسيح وأجسادهم منحلة وهذه المقبرة ختمناها بالماء المقدس فأشرنا بهذه الطريقة الرمزية إلى أنها استهلال للقيامة، إنها بدء، إنتظار. هذا الانتظار هو تطلّع على ما سوف يكون.

ولكن عندنا، هنا، أمران: عندنا – وهذا رأي أرثوذكسي وليس عقيدة – أن بعض الأجساد لا تفنى ولكن تبقى طرية، مثال على ذلك: المطران صدقة الموضوع في دير مارإلياس – شوبا، وقد توفي منذ ما يقرب من مئة وخمسين سنة ولم يزل اللحم على جسده وكذلك شعره. عن حالة كهذه يقول سمعان اللاهوتي الحديث انها حالة وسط وأن ثمة إنتظار لملكوت السماوات بحيث أن الجسد لا ينحل ويبقى في حالة وسطى للدلالة على أن هذه الأجساد سوف تبعث. وبصرف النظر عن هذا الرأي المعمول به ليس في كل الكنيسة بل في بعضها -مثل الكنيسة الروسية التي تاخذ به كلياً- بصرف النظر عن هذا الرأي  ثمة أمر آخر مهم هو بقايا رفات القديسين وبقايا الشهداء محفوظة في الكنيسة وتوضعه في الأنديمنسي وفي المائدة المقدسة، أيضاً، عندما تُبنى، للدلالة على أن هذه الأجساد سوف تقوم وأن الروح القدس يحضنها.

المهم هنا اننا نؤكد هذه المعية بكل هذه الرموز والأعمال، تؤكد هذه المعية الواحدة بيننا وبين الذين ذهبوا، نؤكد ان الروح القدس الواحد يجمع بينهم وبيننا.

ولهذا فالموقف الأرثوذكسي في إستشفاع العذراء والقديسين، أي طلب دعائهم لنا، الموقف الأرثوذكسي في ذلك ليس أنهم جسر يوصلنا إلى الله – ذلك أن الله أقرب إلينا مما هم إلينا، وهذا التصوير أن الله بعيد وأنهم هم يقربوننا إليه تصوير خاطئ – إنما هو أنهم هم معنا في صلاة واحدة. والقضية هي فقط قضية ناس مرتبين حول عرش الله. ويمكننا القول أن الذين سبقونا إلى المجد الإلهي انتهى جهادهم، أكملوا الجهاد الحسن. من هذه الناحية هم ثبتوا في سكون الله. نحسبهم كذلك بحيث أننا نعتبر أنفسنا خطأة وأننا ما زلنا في الجهاد فيما هم أكملوا الجهاد. ولا يختلف موقف الإستشفاع هذا عن أي طلب شفاعة. فمثلاً، عندما يقدّم أحدنا تقدمة للكنيسة في عيد قديس ما يطلب إلى الكاهن أن يذكر له اسمه. فطلب الشفاعة باسم هذا القتديس وذاك يكون من باب أن طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها. البار يصلي، طبعاً في الكنيسة، ولست أتكلم عن الصلاة الطقسية التي يرأسها الكاهن من حيث الوظيفة، ولكني اتكلم عن الدعاء الخاص الذي نطلب فيه شفاعة الأبرار. من هذه الناحية نحن نطلب شفاعة الأولين هؤلاء الذين ينتمون إلى الصف الأول من هذه الصفوف التي، في النهاية، تتحلق كلها حول السيد المسيح.

* يسوع المسيح الشفيع الوحيد :

من هنا أنه يصبح سطحياً هذا السؤال: لماذا نصلّى طلباً لشفاعة مريم العذراء عند الله في حتين أن الشفيع الوحيد عند الله هو يسوع المسيح؟ المسيح هو الشفيع الوحيد بين الله والناس ليس بمعنى أنه يقصينا ولكن بمعنى أنه يقصى شفاعة العهد القديم. أي أن موسى لا يمكن أن يكون شفيعاً بين الناس والله، فالناس في اليهودية بقوا مفصولين عن الله إلى حين أتى المسيح فاتحدهم به. إذاً، فالوسيط الوحيد الذي يجمع بين الله والناس هو يسوع المسيح، كما يقول الرسول بولس. أي هو الذي عُلّق على الخشبة. هذا ما نعنيه بالإنسان يسوع المسيح. فلأنه رُفع على الخشبة ومات ثم قام ألصق الله بالناس. هذا يعني أنه لا يوجد إلتصاق بين الله والناس عن طريق اليهودية ولكن عن طريق العهد الجديد. وهكذا فعبارة “الشفيع الوحيد” هي ليست لإقصاء مريم أوبقية القديسين، كلمة الوحيد هي لإقصاء الذين سبقوا أي لإقصاء شرعية اليهود. وبالتالي فالمسيح يبقى الشفيع الوحيد بين الله والناس ونحن فيه.

إذاً، فهذا الشفيع الوحيد بين الله والناس هو المسيح النامي، العملاق، الذي ينمو من الآن وإلى آخر الدهر. والذي يتناول جسد المسيح ودمه يلتصق به ويصبح جزءاً من المسيح ويصبح في المسيح. إذاً، فالذي أصبح في المسيح قائماً من بين الأموات، الذي يتغذى من القيامة ويصبح إنساناً قيامياً، هذا الإنسان يصلي في المسيح، من جوف المسيح يصلي ويبقى في هذه الوحدانية المتشفعة، يبقى في هذا الكائن الوحيد المتشفع من أجل الناس.

* ملحق: المناولة المتواصلة – للأرشمندريت أفسابيوس مثوبولوس:

أقوال السيد المسيح عن المناولة المتواصلة:

قال السيد المسيح مبيناً الفائدة الكبرى التي نجنيها من تناولنا الأسرار المقدسة بصورة متواصلة: “من يأكل جسدي ويشرب دمي له الحياة الأبدية”. ووقال أيضاً: “من يأكل جسدي ويشرب دمي يحيا فيّ وأنا فيه”. فهذه الكلمات تدلنا على أن السيد المسيح يوصينا بأن نتناول الأسرار المقدسة بصورة دائمة لأنه قال: “من يأكلل.. ويشرب…” ولم يقل من “أكل… وشرب…”. وهذه الألفاظ تظهر جليةً إذا راجعنا الأصل اليوناني لأنها تدل في اللغة اليونانية على عمل متواصل.

وهكذا فسر الرسل أيضاً أقوال المسيح هذه، فلا شك في صحة تفسيرنا لأن الرسل سمعوها من فم السيد له المجد عندما أعلن له سر المناولة العظيم في ساعة تأسيسه.

المناولة المتواصلة في الكنيسة منذ تأسيسها:

إن التفسير الذي أعطاه الرسل لأقوال السيد المسيح خرج إلى حيّز التطبيق منذ وجود الرسل، وإننا إذا فتحنا أعمال الرسل (2: 42) نقرأ ما كتبه لوقا الإنجيلي: “وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات”.

فالمسيحيون الأولون الذين آمنوا بالسيد المسيح واعتمدوا باسمه القدوس، كانوا يداومون بحرارة واندفاع على تطبيق تعاليم الرسل. كانوا يعملون الخير ويساعدون من كان منهم محتاجاً، آخذين الخبز السماوي بواسطة سر الشكر أي من جسد الرب ودمه، وكلهم يحب قريبه كما أمر السيد المسيح ويصلي.

وهكذا، في القداس الإلهي، كان المؤمنون بتقدمون لتناول جسد الرب ودمه، ليس الحاضرون فقط، بل الغائبون لمرضى أو سبب قاهر إذ كان الشمامسة يذهبون إليهم ليناولوهم الأسرار الطاهرة. ويشهد لهذا القديس يوستينوس الفيلسوف.

القوانين الكنسية التي تفرض المناولة المتواصلة:

ورثت الكنيسة منذ أول عصورها التقليد القاضي بالمناولة المتوصلة من الرسل والمسيحيين الأولين. ولم تحافظ على في العصور الأولى فحسب بل أوصت به وفرضته على كل مسيحي في قوانينها المقدسة. فالقانون الثامن والقانون التاسع الرسوليان اللذان أكدهما المجمع المسكوني السادس يذكران المناولة المتواصلة مشددين على ضرورتها. يقول القانون التاسع الرسولي: “كل من حضر إلى الكنيسة لسماع الكتاب المقدس ولم يمكث حتى الصلاة والمناولة، يجب أن يُفرز لأنه يخرق نظام الكنيسة”. ويعلق عليه زوناراس الشارح المعروف قائلاً: “إن هذا القانون يطلب من كل الذي حضروا القداس الإلهي أن يشتركوا فيه حتى النهاية بالصلاة والمناولة، لأنه في ذاك الزمان كان مطلوباً من عامة الناس وليس فقط من الإكليروس أن يتناولوا الأسرار الطاهرة دون إنقطاع”. ويعلق بلسامون هكذا: “إن هذا القانون صارم وقطعي، فهو يفرز كل من جاء إلى الكنيسة ولم يبقَ حتى نهاية القداس ولم يتناول”. هذا وأن القانون الثاني لمجمع أنطاكية المكاني الذي ثبّته المجمع السادس المسكوني يذكر: “كل من دخل الكنيسة… وامتنع عن المناولة يتصرف بصورة غير حسنة وغير نظامية ويجب أن يفرز من الكنيسة إلى أن يعترف بخطأه ويظهر آثار الندم ويطلب المسامحة”. ويُعلق زوناراس على هذا القانون هكذا: “إن جميع الذين يدخلون الكنيسة ويمتنعون عن المناولة لا لسبب معقول ولكن للتشويش، يجب أن يفرزوا من الكنيسة أي أن يبعدوا عن جماعة المؤمنين. ولا يقصد الآباء بقولهم “يمتنع عن المناولة” من يبغضها بغضاً ولكن من يتجنبها ربما بدافع التقوى أو عن تواضع مثلاً لأن الذي يبغض الأسرار الطاهره لا يفرز فقط بل يحكم عليه باللعن-أنثيما”.

وقد أوصت الكنيسة بالمناولة المتواصلة في القانون السادس والستين للمجمع المسكوني السادس، حيث يفرض على المسيحيين أن يتناولوا جسد الرب ودمه طيلة أيام الأسبوع الذي يتبع أحد الفصح المجيد. ودونكم هذا القانون: “منذ يوم قيامة السيد المسيح المقدسة حتى الأحد الجديد، وخلال كل هذا الأسبوع دون استثناء، على المؤمنين أن يأموا الكنائس المقدسة معلنين فرحهم بالسيد المسيح ومنشدين المزامير والتراتيل الروحية، ومعطين إنتباههم لقراءة الكتاب المقدس وقابلين “بلذة” الأسرار الطاهرة”.

أقوال الآباء القديسين حول المناولة المتواصلة:

إن آباء الكنيسة المشهورين بالفضيلة والحكمة يوصون هم أيضاً بالمناولة المتكررة. فالقديس باسيليوس الكبير يقول مثلاً: “إنه لحسن جداً ومفيد أن يتناول الإنسان كل يوم جسد المسيح ودمه المقدسين، فالسيد قد قال لنا بوضوح: <<من يأكل جسدي ويشرب دمي له الحياة الأبدية>>. فمن يشك بعد ذلك أن من يشترك بصروة دائمة في الحياة لهو يحيا بصورة متنوعة؟ ونحن (أي المسيحيين القاطنين في منطقة القديس باسيليوس) نتناول الأسرار الطاهرة أربع مرات في الأسبوع، الأحد والأربعاء والجمعة والسبت، وأيام الأعياد”. (باترولوجيا – ميني الجزء 32- الرسالة 93).

أما بخصوص الرهبان والعوام في الإسكندرية ومصر، فإن القديس باسيليوس يشهد في نفس الرسالة (93) بأن “الرهبان المقيمين في الصحراء حيث لا يوجد كهنة يحفظون القرابين الطاهرة عندهم ويتناولونها بأنفسهم”.

والقديس يوحنا الذهبي الفم في القسم الثالث من رسالته إلى أهل أفسس، يندد بالذين يحضرون القداس الإلهي ولا يشتركون في المناولة.

وقد أجاب القديس إيرونيموس-جيروم عندما سئل عما إذا كان من الضروري أن يتناول المسيحيون كل يوم، بأنه يجب علينا أن نأخذ الأسرار المقدسة دون انقطاع (الباترولوجيا اللاتينية، جزء 63، صفحة 672). كما أن المغبوط أوغسطينوس يقول مخاطباً المسيحيين بأنه وجب عليهم أن يتناولوا كل يوم (الجزء 38، الصفحة 1099).

وهكذا فإن كل مسيحي يستطيع أن يستخلص من كلمات معلّمي الكنيسة القديسين التي أوردناها كل الأهمية التي كان يعقلها هؤلاء الآباء والمسيحيون الأولون قاطبة على المناولة المقدسة المتواصلة.

خدمة القدسات السابق تقديسها تهدف إلى المناولة المتواصلة:

إن قداس (البروجيازمينا) أي القدسات السابق تقديسها الذي تقيمه الكنيسة أثناء الصيام الكبير قد أوصى به المجمع المسكوني السادس في قانونه الثاني والخمسين وذلك لهدف واحد وهو أن يستطيع المؤمنون أن يتناولوا دون إنقطاع. لأنه في الصيام لا يقام القداس الإلهي كاملاً مع الذبيحة إلا يومي السبت والأحد، فأمر الآباء القديسون أن يحفظ الكاهن جزءاً من الخبز والخمر المستحيلين في قداس سبت أو أحد وأن يضعه على المائدة أثناء خدمة (البروجيزمينا) كي يستطيع المؤمنون أن يتقدموا للمناولة. وهذا ما يعني أن الآباء القديسين كانوا يعتقدون أن المناولة يومين في الأسبوع أي السبت والأحد لا تكفي وأنه من المفيد والضروري أن يتناول المؤمنون في يومي الأربعاء والجمعة أيضاً.

الهدف الأساسي من القداس الإلهي هو المناولة:

ماهي بالفعل الغاية من خدمة القداس الإلهي؟ إن الغاية هي أن يتمم سر الشكر ويتناول المؤمنون جسد الرب ودمه. وأن هذا الهدف الأساسي تؤكده الصلوات التي تتلى أثناء القداس. يقول الكاهن وهو يصلي: “فليعطنا الرب نحن الذين نصلي معاً أن نتقدم في الإيمان والحياة وفي المعرفة الروحية. أعطهم يارب أن يسجدوا لك بطهارة وخوف ومحبة وأن يشتركوا دون خزي في أسرارك المقدسة وأن يكونوا مستحقين لملكوتك الساوي”. ويقول أيضاً: “واحسبنا مستحقين أن يوزع لنا بقدرتك جسدك الطاهر ودمك الكريم وبواسطتنا إلى كل الشعب (أي إلى “كل الشعب” الحاضر في الذبيحة)”.

وبعد أن يتناول الكهنة الذين يخدمون القداس، يتقدم الشماس أو الكاهن حاملاً الكأس المقدس ويدعو المؤمنين هم أيضاً ليتناولوا جسد الرب ودمه قائلاً: “بخوف الله وإيمان ومحبة تقدموا”. وأن هذه الدعوة (تقدموا) الموجهة إلى جميع المؤمنين الحاضرين لهي إثبات واضح غير قابل للمناقشة على أن الهدف الأساسي من القداس الإلهي هو مناولة المؤمنين. ولأجل هذا فقد كان المسيحيون الأولون يتناولون جسد الرب ودمه في كل قداس، ولأجل هذا السبب أيضاً يختتم الشماس أو الكاهن القداس بصلاة الشكر هاتفاً: “إذ قد تناولنا أسرار المسيح الإلهية المقدسة الطاهرة غير المائتة السماوية المحيية الرهيبة، فلنقف مستقيمين ونشكر الرب باستحقاق…”.

فنحن نرى هكذا أن الغاية الأساسية من القداس الإلهي هي أن تناول المؤمنون.

الخلاصة:

وهكذا فإنه يظهر مما تقدم، أي من أقوال السيد المسيح، وعادات الكنيسة في عصورها الأولى، والقوانين المقدسة وأقوال آباء الكنيسة وخدمة القدسات السابق تقديسها، وخدمة القداس الإلهي العادية، قلت يظهر بوضوح من كل هذا أن المناولة المتواصلة ليست فقط أمراً مسموحاً به بل هي أيضاً مفروضة على جميع المسيحيين. وأنه لمن الجهل التام وخطأ كبير أن نعتقد بأن المناولة على هذه الطريقة ممنوعة من الكنيسة.

وكنتيجة لهذا أنه يرتكب خطيئة عظيمة كل من يمنع مسيحيين مستعدين الإستعداد المناسب من أن يتناولوا بصورة مستمرة بإيمان وندامة وتقوى. إنه يرتكب خطيئة كبيرة لأنه يقاوم ما أمر به السيد المسيح بنفسه وبواسطة تلاميذه وكنيسته التي تعبر عن رأيها في قوانينها المقدسة وأقوال آبائها القديسين ونصوص خدمها الطاهرة.

ملحق: مقتطفات من القانون الأساسي للكرسي الأنطاكي

فليراجع في مكانه من الكتاب…. الشبكة

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى