معظم الناس يحرّفون معنى الانفتاح بتفسيراتهم وسلوكهم، ولا يعيشونه فضيلةً بتقديرهم من يستحق التقدير واحترامهم كلّ اختلاف، وترى أن كل تمييع للالتزام وكلّ انفلاش رخيص يعتبره الكثيرون انفتاحاً.
والانفتاح، عموماً، هو حركة قائمة في النفس التي عرفت أن كلّ انسان مهما كان دينه أو لونه أو جنسه… هو “صورة الله”، سواء أقرّ بذلك أم لم يقرّ، وأنّ الله خلق الناس متنوّعين. وكل واحد منهم قيمة بحدّ نفسه، ويريدهم جميعاً أن يعيشوا بسلام واحترام عميقَين، وأن يقدّروا بعضهم البعض مهما كانوا مختلفين. فالاختلاف من ضرورات الحياة الجماعية ووحدتها وغناها.
وفي سياق الحياة الكنسيّة، الاختلاف ( أو التنوع) شرط من شروط تكوين الجماعة التي تستمدّ وجودها ووحدتها من عطايا الروح الواحد. فالكنيسة جماعة يكونها نداء الله الذي يطيعه المؤمنون بالمحبة في بُعدَيها العمودي والأفقي. وهذا معناه أن كل عضو من أعضائها دعاه الله الى أن يكتشفه ونفسَهُ فيما يثبّت وجهه على الحق ووجوه إخوة كثيرين. وذلك أنّ كلّ إنسان. في واقعه وتوثّباته، لا يكمل كيانه من دون الله والإخوة. فالمؤمن الحقيقي هو مَنْ يقبل عطايا الروح وخلاصه في كل تجلّياته، وخصوصاً في الإخوة. الانفتاح، اذا، يخصّ أساسا الجماعة الكنسيّة في علاقتها مع بعضها البعض، وهو شرط لنموّها، ويختلف، جوهرياً، عن الانفلاش او استباحة الحقيقة او المسايرة… ففي بركات الروح يعرف الناس جميعاً الحقّ الذي يجمع ويوحّد وينمّي. وأما المنفلشون ومستبيحو الحقّ والمسايرون فلا قرار لهم أو لون، ولا ينفعون شيئاً. غير هؤلاء هم المندمجون في الكنيسة اندماجاً كلّياً، وهم قادرون وحدهم على الانفتاح الصحيح. واذا تكلّمنا على الاندماج فنحن نعني بالضبط الحياة في كنيسة ليس مثلها شيء، ولا نقصد – بهذا القول – إهانة أحد أو إلغاءه.
ما هو معيب جداً، في بلادنا خصوصاً، انّك اذا قلت مثلا: “انا أرثوذكسي” يفهم الناس أنّك تقصد أن تقول إنّك لست كاثوليكياً او مارونياً… لا أدري لماذا يحقّ للإنسان أن يجاهر، مثلاً، بانتمائه الوطني ولا يُفهم أنه ينكر وجود أيّ بلد آخر، ولا يحق له أن يعترف بانتمائه الديني من دون أن يتّهم بالتعصب أو رفض الآخرين. وترى أنّ بعض المسيحيّين لا يعترفون بانتمائهم الى أي كنيسة، ويعرفون انتماءهم الديني بقولهم مثلاً: “أنا مسيحي”، لا ليؤكّدوا ارتباطهم بالمسيح مخلّص العالم، بل هرباً من الالتزام، وظنّاً منهم أنّهم أوسع من كلّ تجمّع بشريّ، ولو كنسياً (لا يقولون: “أنا أرثوذكسي”، أو “أنا كاثوليكي”…)، وأنّهم، تالياً، اذا التزموا أو اعترفوا بانتمائهم هذا يقرّون بانقسام الكنائس. والحال أنّ الانقسام موجود ولا أحد يقدر على أن يتجاوزه وحده أو يستبق الوحدة الكنسيّة، وأنّ كلّ هروب من الالتزام في الكنيسة (أية كنيسة) هو هروب من الله ومواجهة الإخوة… وذلك أنّ الكنيسة هي الإطار الذي تُعرف فيه المسيحية حقاً، والاندماج فيها يعلّم الناس أن يكتشفوا أشياء رائعة في بعضهم البعض، وأن يقبلوا كلّ اختلاف بينهم وأن يجدوا فيه غناهم وكمالهم…
أن يحبّ الإنسان كلّ الناس مهما كانوا مختلفين عنه، فهذا يفترض أن يحاول أن يعرفهم كما هم وأن يقبلهم كما هم. هذا لا يعني أن يقبل أخطاءهم، فالمحبة قادرة – إن مورست بطريقة صحيحة – على أن تكون مقبولة في وجوهها كلّها، وإصلاح أخطاء الغير، بتواضع كلّيّ، هو أحد هذه الوجوه المغنية الكلّ. وما من شكّ في أنّ بولس الرسول أراد أن يدل على عمق المحبّة وفعلها في الجماعات وقدرتها على أن تكون جامعة المواهب، لمّا أنشد: “المحبّة تصبر، المحبّة تخدم، ولا تحسد ولا تتباهى ولا تنتفخ من الكبرياء، ولا تفعل ما ليس بشريف ولا تسعى الى منفعتها، ولا تحنق ولا تبالي بالسوء، ولا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحقّ. وهي تعذر كلّ شيء وتصدّق كلّ شيء وترجو كلّ شيء وتتحمل كلّ شيء” (1 كورنثوس 31:4-7). المحبّة، إذاً، هي الضمان لكلّ لقاء بشريّ، وهي تفترض أن يكسر كلّ واحد المرآة التي تقول له إنه أحلى أو أفهم من كلّ البشر، ويقبل أن يكون الله والآخرون مرآته، وأن يعترف، بصدق، بأنّ ثمة حباً وخيراً وفكراً خلاقاً في مكان آخر، وفي كلّ مكان…
هذه الرؤية تنبع من إيماننا بأنّ الله هو إله الجميع ومخلّصهم. فالانفتاح بمعناه الأخير هو الإقرار بأنّ الله موجود حقاً في كلّ الناس، وخصوصاً في المخلصين له. وهذا، بالطبع، يعوزه الكلّ لئلا تنتهك الحقيقة ويتبعثر الوجود.
عن نشرة رعيتي
الأحد 12 آب 2001