السبيل إلى الله

يعتني الرسول بطرس (أو أحد تلاميذه)، في رسالته الثانية، بأن يعبّد لنا السبيل إلى الله، بقوله: “ابذلوا غاية جهدكم لتُضيفوا الفضيلة إلى إيمانكم، والمعرفة إلى الفضيلة، والعفاف إلى المعرفة، والثبات إلى العفاف، والتقوى إلى الثبات، والإخاء إلى التقوى، والمحبّة إلى الإخاء” (1: 5- 7). ومعنى قوله بغيتنا في ما يلي.

من يقرأ هذه الرسالة بمجملها، يعرف أنّها تنتمي إلى فنّ الوصيّة. فالرسول، الذي ينتظر أن يحقّق الربّ ما أعلمه به في شأن انتقاله من هذه الحياة الدنيا (1: 14)، يقلقه بعض المشوّهات التي تبدو هنا وهناك، ويريد أن يثبت المؤمنون في الحقّ وقداسة السيرة حتّى يدخلوا “ملكوت ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح” (1: 11)، الذي لا يدخله إلاّ الثابتون والذين يستعجلون مجيئه (3: 13).

لن نقف عند ألوان الضلال التي تحذّرنا منها الرسالة. فما يأخذنا، الآن، هو هذه الفضائل المذكورة وترابطها الغنيّ الذي يشعرك بأنّ الإنسان لا يكمل إلاّ إذا اعتنقها كلّها (أنظر مجموعات أخرى للفضائل في: غلاطية 5: 22 و23؛ كولوسي 3: 12- 14؛ 1تيموثاوس 6: 11 و12.

يبدأ الرسول قوله بحثّ قرّائه، وحثّنا أيضاً، على بذل كلّ جهد. ويحلو لنا أن نعتبر هذا الحثّ مدخلاً لكلّ ما يتبعه. فكلّ فضيلة يفترض تحقيقها جهداً. صحّ أنّ الله هو الذي ينعم علينا بفضائله. ولكن، صحّ أيضاً أنّه ينتظر أن نقبلها بإرادة حرّة، أي بجهد ظاهر.

أوّل جهد يطلبه الرسول من قرّائه أن “يضيفوا الفضيلة إلى إيمانهم”. وهذا يعني أنّ الإيمان الحقيقيّ هو الذي يهيّئ الإنسان لتقبّل كلّ فضيلة. فليس الإيمان أن نعتقد بوجود الله فحسب، ولكنّه أيضاً أن نعي أنّ كلّ ما أراده الله منّا يؤكّد عملُنا به إيمانَنا، وينمّيه. والإيمان مسيرة. ومن سار مع الله يتعلّم كلّ يوم أشياء جديدة تقدّسه. يتوب عن جهله ومخالفاته، ويجدّد نفسه بالطاعة. والفضيلة زينة المؤمنين المجاهدين في الأرض. إذ ليس من جهاد حقيقيّ إن لم نبتعد عن كلّ رذيلة، ونطلب الأمور “التي من العلى”. ومن ابتغى الفضيلة وَدَّ المعرفة. لماذا المعرفة بعد الإيمان والفضيلة؟ ليس بمعنى أنّها أعلى منهما. فغاية المعرفة أن نبتغي، مؤمنين، الفضيلة بجدّيّة ظاهرة. هذا أوّل معانيها وأغلاها. ولكنّ المعرفة، ولا سيّما معرفة الكلمة الإلهيّة، قيمتها الكبرى أنّها تكشف لنا وجه الله الحقيقيّ، وأنّها، تالياً، تساعدنا على التمييز بين ما هو صحّ أو خطأ. فثمّة تعاليم كثيرة تشوّه الإيمان (2بطرس 3: 15 و16). ومن كان مؤمناً فاضلاً دعوته أن يجتهد في سبيل المعرفة ليحمي نفسه من شرّ التعاليم المفسدة حتّى لا يهلك. وهذا، عارفاً، يعطيه أيضاً أن يدافع عن المؤمنين الذين يتهوّرون بإصغائهم إلى المحرِّفين “الذين لا علم لهم ولا ثبات”.

بعد المعرفة العفاف. والعفاف سند لما قبله، لأنّه يؤكّد ابتغاء الفضيلة بفهم. فمن عفّ، أي امتنع عمّا لا يحلّ، دلّ على إيمانه بسيادة الله. والعفاف، وسيلةً، هدفه أن نغتني بمعرفة الله التي تنفعنا وتنفع الذين نحيا وإيّاهم في شركة طيّبة. فالله يريدنا عفيفين حتّى ننقذ أنفسنا، ونقدر على الشهادة الصحيحة. وهذا يمنعنا من كلّ استرخاء. فمن استرخى، أو استسهل الشرّ، قبحت شهادته مهما كان بليغاً. ويضاف إلى العفاف الثبات، أي الصبر. وذلك بأنّ المؤمن لا يكون مجاهداً باسلاً إلاّ إذا صبر وثبت في الحقّ. والصبر يحمل، في معناه، كلّ جرأة وشجاعة تعوز المؤمنين في مسيرة جهادهم. وهو اقتناء للنفس (لوقا 21: 19)، وباب للإثمار (لوقا 8: 15). ومن صبر تشبّه بالمسيح (2تسالونيكي 3: 5؛ رؤيا 1: 9)، وملك معه (2تيموثاوس 2: 12؛ وأيضاً متّى 10: 22، 24: 13؛ عبرانيّين 10: 36).

تأتي التقوى مضافة إلى الثبات. والتقوى، في الأدب المسيحيّ، يرتبط معناها بالإيمان والطاعة وعمل الرحمة. ولذلك رأى بعضٌ أنّها تعادل ما يسمّيه بولس “الحياة في المسيح” (رومية 8: 2). ولقد اعتنى الرسول أن يذكرها، في هذه الرسالة، أربع مرّات (1 :3و6و7، 3: 11 ). وهذا يبيّن أهمّيّة هذه الفضيلة الحامية والمعطية القوّة في أزمنة المحنة (2تيموثاوس 3: 12). في الواقع، لا نرى في المواضع التي ذكر فيها الرسول هذه الفضيلة، في هذه الرسالة، تخوّفاً من التمظهر (أنظر: 2تيموثاوس 3: 1- 5). ولكنّ هذا لا يمنع من التذكير بخطر التمظهر، لما فيه من إنكار لقوّة التقوى. فظاهر التقوى صالح، ولكنّه يغدو بلا قيمة إن كان “من دون أصول” (المغبوط أغوسطينوس). فمن اجتهد في كلّ فضيلة، لا قيمة لكلّ جهاده إذا ادّعى التقوى، أو راءى. التقوى الصحيحة تفترض إيماناً حقيقيّاً بالربّ المنعم والداعم كلّ إرادة بارّة.

الفضيلة التي تضاف إلى التقوى، هي الإخاء، أو المودّة الأخويّة. ولا نزيد شيئاً على ما هو معروف، إن قلنا إنّ المودّة الأخويّة هي وجه آخر لمحبّتنا لله. فمن يحبّ الله يعترف بأنّ الناس جميعاً إخوته، ويحبّهم من دون تمييز، ويلتصق، بالأخصّ، بأعضاء كنيسته، ويؤمن بأنّهم “معاً يكملون جسد المسيح في وحدة الروح. ويقدّمون بعضهم لبعض المساعدة التي يحتاجون إليها، والتي تأتي من المواهب”، كما يقول القدّيس باسيليوس الكبير.

يختم الرسول هذه القائمة بالمحبّة. والمحبّة، في جوهرها، هي “أصل الفضائل كلّها ومصدرها وأمّها”، كما يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم. ولا نفهم حقّاً هذا الختم، إن لم نذكر أنّ الرسول ابتدأ الفضائل بالإيمان. وهذا يعني أنّ حدود الفضائل كلّها الإيمانُ والمحبّةُ اللذان هما “بدء الحياة ومنتهاها”، كما يؤكّد القدّيس اغناطيوس الأنطاكي (أنظر رسالته إلى كنيسة أفسس 1: 14)، أي هما هدف الحياة المسيحيّة كلّها.

هذا كلّه سبيلنا إلى الله “الذي دعانا بمجده وقوّته” (1: 3). فالفضائلُ اللهُ يحقّقُها فينا إن كنّا راغبين به، أي إن فضّلناه على الدنيا وما فيها، ووثقنا بأنّه منحنا مواعيده الثمينة والعظيمة “لنصير بها شركاء الطبيعة الإلهيّة” (1: 4).

نقلاً عن نشرة رعيتي
الأحد في 26 ايلول 2004 العدد 39

arArabic
انتقل إلى أعلى