هو عذر الناس -أغلب الناس- للامتناع عن تلبية دعوة الرّب الأبدية. صحيح، بادئ بدء، أن الرب هو “الحاضر في كل مكان والمالئ الكل”، كما تقول إحدى صلواتنا، غير أن عبارة “أينما تطلبوني تجدوني” لا وجود لها -اللهم اذا أهملْنا التشابه- في الكتاب المقدس ولا في الادب المسيحي. ذلك أن حضور الله الحقيقي، وبحسب خبرة كل التاريخ المقدس، يُظهره هو لشعبه المجتمِع بالطاعة (“لانه حيثما اجتمع اثنان او ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم”، راجع انجيل متى 18: 20)، ويحيا المؤمن، على هذا الأساس، سرَّ حضور الله في دعاء هادئ وموصول.
لا شك أن ثمة عبارات في الكتاب المقدس شبيهة بعبارتنا، مثل عبارة ارميا: “تطلبونني فتجدونني اذ تطلبونني بكل قلوبكم” (29: 13)، غير أن هذه الآية وغيرها: “اطلبوا تجدوا…” (متى) “تطلبونني ولا تجدونني…” (يوحنا) لا علاقة لها، ولا بأي شكل، بالمعنى الذي تفترضه العبارة موضوع هذه السطور. من دون أن ندخل طويلا في معنى كلام ارميا المذكور هنا، نبدي أن النبي، في كتابه، كان يناشد الشعب بإلحاح من دون أن يَلقى منهم اي تجاوب ليرجعوا عن خطاياهم ويعودوا الى الله الحي، علّهم اذا تابوا اليه يرحمهم ويَقيهم شرّ الجيوش المزمعة أن تقتحم اورشليم المدينة العظيمة وتدمرها وتسبي اهلها الى ارض غريبة. كلام ارميا الى الشعب الذي ابتعد عن الحق هو دعوة الى التوبة الى الله الحاضر هو ليتوب على الناس، اذا طلبوه بصدق قلب، ولا علاقة له تاليا بالفكرة الخاطئة السائدة التي مضمونها أن الله يأتي اليكَ أينما طلبتَهُ.تَهُ.
عندما ننتقد الاستعمال الشائع لعبارة “أينما تطلبوني تجدوني” فإننا، بلا شك، لا ننادي بعدم طلب الرب “الحاضر في كل مكان”، ولكننا ننتقد الكسل واللامبالاة وتزوير الحقيقة الإلهية الذي ينتج عن هذا الكلامِ البدعةِ او يُنتجه. الكل يعلم من دون أن نقسو او ندين احدا انه عندما جَرَّبَ إبليس يسوعَ في الجبل استعمل (الشيطان) آية من الكتاب المقدس (متى 4: 6)، اي انه استعمل كلمة الله استعمالا شريرا حتى يبقى على عدائه للرب. لا شك أن بعض الناس عن معرفة ام عن جهل صاغوا لأنفسهم لاهوتا يناسب تكاسلهم حتى يكون “للمستريحين” عذر. السؤال الذي يطرح ذاته هو اننا عندما نطلب الله، ايَّ إله نطلب، ولا يوجد رب سوى رب الجماعة؟ أن نأتي مع الإخوة الى الله الذي يطلبنا هو ونستسلم لحبه ونحمله في قلوبنا وعقولنا وعلى ألسنتنا الى الدنيا كلها، هذه هي قاعدة كل لقاء معه وغايتها. الذين اختبروا هذه الحقيقة الوحيدة يمكنهم أن يطلبوا الله في كل زمان ومكان لانه سكن قلوبهم بكلمته وقرابينه.بينه.
ولعل اكثر ما يُحزن هو أن لا يَقْبَلَ الزاعمون هذا الرأي أن يُصلِحوا مفاهيمهم، وأن يعلّوا الأعذار ويزيدوا التبريرات اذا ما فقدوا الحجة. يشيع في اوساطنا، على سبيل المثال، كلام يردده من العامة بعضُ الذين أقاموا بينهم وبين الله مسافة تحتاج إزالتها الى انقلاب كبير يجرونه على ضمائرهم ليصلحوها. يقولون مثلا: إن القداس طويل، او هو يقام في وقت مبكر… وتتكاثر الاقتراحات: قصِّروا لنا الخدمة الإلهية… قدِّسوا مرات عديدة في اليوم… فنرى اننا لسنا فقط ضعفاء روحيا ولكننا ايضا ضعفاء الحجة ومستوردوها. هذا الجفاء الكبير، الذي غالبا ما تُلقى اسبابه على كاهل الكنيسة، يجعلنا نلاحظ أن غالبية الناس تريد مسيحيةً على قياسها. ونسأل: لماذا يقبل الكثيرون أن يأتي الله اليهم، ولا يريدون أن يأتوا هم اليه، الى المكان الذي اختاره هو ليعطيهم ذاته؟ كيف نفهم اننا عائلة الآب الواحدة ان لم نلتقِ في مكان واحد ويوم واحد كلّنا معا؟ وهل هناك تعبير أبلغ من القداس الواحد ندل به على اننا جميعا ننتمي الى الله الواحد، واننا جميعا أبناؤه ونحب حضوره كما يشاء هو أن يعلنه؟
لا يوجد مسيحية حقّ بلا جهاد ويقظة مستمرَّيْن. الكثيرون بيننا يعتبرون أن يوم الاحد يوم راحة، وانه حقّ لهم بعد تعب الاسبوع الكامل وما يرافقه من استيقاظ باكر في كل يوم. ثمة سؤال أساس في موضوع الراحة هو: أين يرتاح الناس الذين انتسبوا الى يسوع، أفي بيوتهم… ام في سكناهم في قلب الرب؟ اذكرُ أن المسيحيين الأوائل هم اول من رفضوا العمل يوم الاحد حتى يتفرغوا لصلوات الجماعة. القديس يوحنا الذهبي الفم كان يواجه، في عظاته، الأسياد الذين يتركون خدّامهم او عبيدهم في المنزل يعملون، ويأتون هم الى الكنيسة، فيقول لهم بأن العبيد ايضا يجب أن لا يعملوا أيام الآحاد والاعياد ليتمكنوا من الاشتراك في ذبيحة السيد الخلاصية.
لا شكّ أننا نحتاج امام الاعذار العديدة والمتنوعة الى صحوة ضمير، لنعي أن لا الاهتمام بمشاريع تسلية للاولاد ولا السهر العالمي في السبوت وفي أمسيات الاعياد الخلاصية وهي أعذار اخرى يُتذرع بها كحاجة ضرورية وحضارية هو ما تحتاجه العائلة او النفوس لتفرح وتشعر انها موجودة وتستمر، وإنما أن نركن الى الله، الى كلمته، وأن نستطيب جسده ودمه لنحيا بعفة وحب. فلنع أن اولادنا لا يتربّون حقا الا اذا عرفوا الرب وأحبوه، وأن السهر الدائم واللهو خارج المنزل خصوصا في أمسيات السبوت لا يعطل مشاركتنا الفعالة في الخدم الإلهية فقط، وإنما يُفْقِدنا انفسَنا واولادَنا ايضا.
المسيح يطلبنا دائما وفي كل يوم ليفتدينا بحبه، هذه هي قاعدة علاقتنا مع الله التي رسمها العهد الجديد وطبيعتها المجددة.
نقلاً عن نشرة رعيتي
الأحد في 13 تموز 1997 / العدد 28