Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

– إنك تطلب الكثير. لا يمكن أن يصير المرء عالم “صلاة” ما لم يجاهد هو شخصياً فيبدأ هذا العمل العقلي بنفسه. ومهما قال الآخرون له إلا مجرد مدخل يفتح له الشهية الروحية. وقد يكون من الواجب، تكملة لأفكاري عن “الصلاة”،أن أتحدث قليلاً أيضاً عن الأخطار والأخطاء التي قد تنشأ إبَّان السير فيها.

قلت: هذه حق. فقد تكلّمنا سابقاً عن الرهبان إنهم يتحاشون نزول العقل مباشرة إلى القلب ويستعملون وسائل متنوعة للحيلولة دون ذلك تجنباً لنشوء أخطار، فما هذه الأخطار وهذه الأخطاء؟

– يبدأ الخطأ من فكرة وجوب حصوله على النعمة الإلهية في فترة زمنية قصيرة. يمارس كثيرون عمل “الصلاة” المقدّس، ويريدون أن يدخلوا في “مشاهدة” النور في وقت قريب. وبما أنّ هذا لا يمكن أن يتم فوراً عند الجميع، يقلقون ويشعرون بالخيبة.

من اللازم أن يتخذ المجاهد قراره، أن يجاهد طوال سنين كثيرة. فإن الله لا يجبر إراداتنا، ذلك لأننا أشخاص وبالتالي أحرار كما يجب علينا نحن أيضاً ألاّ نعتدي على حرية الله لأنه شخص أي لندعْه يأتي إلينا متى شاء وارتضى.

وتوقّف الشيخ قليلاً ثم استأنف الكلام قائلاً:

– نرتكب خطأ آخر إذا أعطينا أهمية كبرى للطرق النفسية الفنَّية. فما هذه الطرق (من شهيق أو زفير أو نبض قلب الخ) سوى وسائل مساعدة لكي نتمكن من ضبط الذهن وتخليصه من عناصر غريبة. أريد أن أقول إنه ليست لهذه الطرق قوة سحرية. غير أنها مفيدة لكي نتحاشى بها تشتّت الذهن. ومتى انضبط العقل وعاد بسهولة إلى ذاته وجب التخلي عن كل الوسائل المساعدة.

– وهل هناك أخطاء أخرى؟

– بالتأكيد. هناك أخطاء حين نقوم بالقفز في مسيرة الصلاة لقد ذكرنا قليل أنّ هناك مراحل تطوّر مختلفة لخصّناها في خمس مراحل.أولاها أن نتلو “الصلاة” بالشفتين. ثانيتها أن نحفظ ذكر يسوع في العقل وبعدها ينزل وحده إلى القلب. لكنّ البعض يبدأون فوراً من المرحلة الثانية ولا يحصلون على أشياء كثيرة. وآخرون ينتقلون من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثالثة ويحاولون ذلك على الأكثر بالتنفس، وهذا خطر لأنه قد يؤدي -كما قلتُ سابقاً- على وجع في القلب لأسباب طبيعية فيكون سبباً لإيقاف “الصلاة”. ومن المؤكد أنّ هذا لا يكون مرضاً غير أنه على كل حال قد يؤدي إلى إيقاف هذا العمل المقدّس. وأضاف. قد تنشأ أيضاً بعض المشكلات حول الدموع.

– ماذا تعنون بهذا؟

– قلنا سابقاً إنَّ العينين تُبلَّلان بالدمع، ثم ينهمر هتوناً فيما يبقى الدعاء في العقل. لكنّ هذا لا يكون ضرورياً بصورة دائمة. فإنّ الصلاة يمكن ان تسير سيراً حسناً بدون الدموع. فلا لزوم للشعور بالخيبة في حال عدم وجود الدموع. وستذرف تلقائياً إن سمح الله بذلك. وحتى إذا غرقنا في فيض من الدموع فينبغي ألاّ نعيرها التفاتاً. ولا لزوم لشرح هذه الأحوال لآخرين، والخبرة النسكية تقول إننا حين نذكر هذه الأحوال للآخرين تتوقّف فوراً ثم تتأخر في العودة.

يكفي أن أنّبه إلى أننا إذا عرفنا مراحل الصلاة العقلية وجب علينا تحاشي التفكير في أية مرحلة نحن موجودون. وعلينا أن نكمل المسيرة بتواضع. وعدا هذا فإنّ الكبرياء في الصلاة حماقة وأظنني قد قلتُ هذا من قبل. أجل إنها لحماقة. والإنسان في مثل هذه الحال يشبه مستعطياً يطلب قطعة من الخز ثم تكبَّر لأنه حصل عليها. وما هذا إلاّ حماقة وسقوط.

– أرى الاتضاع يلعب هنا أيضاً دوراً هاماً.

– هنا وفي كل مكان. فإن القديس باسيليوس يقول إنّ التواضع خزانة جميع الفضائل. فهو يخفي الفضائل كلها داخله وأخيراً هو أيضاً. وفي الحياة الروحية إجمالاً ينبغي تحاشي الكبرياء باجتهاد، وبخاصة إذا اتخذتْ مظهر حب مجد فارغ.ولا ريب أنكم

تعلمون أنّ حب المجد الفارغ يمكن أن يظهر في كل فضيلة سواء في الكلام، أو الصمت ، أو الصوم، أو السهر لله وحتى في “الصلاة” أيضاً وفي الهدوء وطول الأناة ويقول الآباء نّ حب المجد الفارغ أشبه بالخائن الذي يفتح أبواب المدينة خفية ليدخلها العدو. حينذاك يقتحمها ويحتلُّها مهما كانت حسناتها ومهما بلغت قوة دفاعها من دقة التنظيم والشدة والمنعة. ويحدث هذا عينه في الحياة الروحية لأنّ حب المجد الفارغ يسلّمنا للشرير مهما كان لنا من الفضائل ومهما بلغت قدرتنا من الشدة. وينصح الآباء القديسون بأن لا يتولى المرء عملاً يؤدي به إلى حب المجد الفارغ.

-إني لم أفهم هذا جيداً. فهل تتكرمون عليّ بمزيد من الشرح؟

– لنعدْ على موضوع الصلاة… ينبغي على المؤمن أن لا يفرط في عمل الصلاة، لأنّ إفراطه يؤكد بأنّ الشيطان يجذبه. وحينذاك يكون كل ما يفعله فوق طاقته من فعل الشيطان وقدرته، فيما يجرّه الشيطان ثم يتركه ويدفعه في الوقت عينه من الخلف فيسقط إلى عمق بعيد الأغوار ويدمَّر بكل ما في هذه الكلمة من معنى.

– وكيف يمكن تجنّب هذا السقوط الرهيب؟

– الحزن والطاعة هما طريق الخلاص. يجب أن تُربط الصلاة بالحزن برباط وثيق لأنّ الشيطان إذا رأى شخصاً يسلك بحزن أخلى المكان وهرب، ذلك لأنه يخاف من الاتضاع الذي ينشأ عن الحزن.

يقول القديس غريغوريوس السينائي: “لهذا فإنّ الحزن هو أعظم سلاح يحمله المرء في الصلاة لكي لا يسقط في التكبّر بسبب فرح الصلاة ولكنه إذا اختار لنفسه الفرح المقرون بالحزن، حفظها بدون ضرر”. فمن الضروري ملازمة الحزن والشعور بحال الخطيئة للصلاة الخالصة في مسيرتها. وعلى المجاهد أن يركّز عقله في التفكير بالجحيم بدون يأس. ومن جهة أخرى فإنّ الشعور بالخطيئة وبعدم القيمة والرجاء بيسوع المحب البشر ميزة تتميّز بها الأرثوذكسية وهي ميزة أساسية أيضاً لكل الطروباريات ( أناشيد النصر التي ترنمها كنيستنا الأرثوذكسية).

ويجدر الإشارة إلى أنّ الحزن الشديد يتميّز به القليلون. فليس كل الناس قادرين على العيش بهذا الحزن العميق، ولكي يصمدوا فيه يحتاجون إلى قدرة عظيمة وتذوّق سابق للنعمة الإلهية لكي لا يتزعزعوا. إلاّ أننا ينبغي أن نعيش جميعاً هذا الحزن المغبوط، كل منا يقدر استطاعته. كما أنّ الطاعة للشيخ هي أيضاً لازمة، لكي تجري كل أعمالنا -لا يُستثنى منها أي عمل مهما كان بسيطاً- ببركة الشيخ وإرشاد الحكيم. وكذلك ما يتعلّق بمشاهدة النور غير المخلوق.

سألته وأنا مندهش مما قال: ما علاقة الطاعة للشيخ برؤية النور غير المخلوق؟

فقال: إذا مشى المرء وحده بدون التزوّد بالبركة اللازمة يدفعه الشيطان، كما ذكرنا آنفاً، فيما تعتلج في داخله رغبة، لا تهدأ، في رؤية النور غير المخلوق. فيؤمن أنّ هذا كمال يريد الوصول إليه بسرعة…

قلت: أوليس هذا حسناً؟

فقال: لا. ليس هذا حسناً. فإنّ القديس ذياذوخوس ينصح الناسك بأن لا يقضي حياته النسكية راجياً رؤية النور غير المخلوق “لكي لا يجد الشيطان النفس مستعدة للاختطاف من هناك”!

إنّ المرء ينطلق في عمل “الصلاة” مقروناً بحبه لله والطاعة لمشيئته الإلهية المقدّسة. وقد يظهر له الشيطان بصورة ملائكة صالحين يحترمونه لأنّ الشيطان يمكنه أن يتشكّل في صورة ملاك نور، كما يقول الكتاب المقدّس، فيظن المصلّي المسكين أنه وصل إلى عالي درجات الكمال طالما أنه يحيا مع الملائكة ولا يدري أنه في الواقع يتحادث مع الأبالسة!

ويتعرّض الناسك المجاهد لتجربة أخرى حين يوسوس له الأبالسة أثناء الصلاة بهواجس تدفعه إلى الظن بأنه سيرى النور غير المخلوق بعد قليل. إنّ هذه الحال الدقيقة الخطرة لتتطلّب منه الحذر الشديد والانتباه. وعليه أن يكفَّ عن الصلاة فوراً ليؤنّب نفسه تأنيباً عنيفاً قائلاً: أتريد أيها التاعس القذر أن ترى النور غير المخلوق..؟

هذا ما يجب أن يعلمه يا أبتِ لأنه ليس هناك أخطر من فكرة تجعله يظن أنه جدير برؤية النور غير المخلوق. ويمكنه في هذه الحال أن يقول أيضاً: “الويل لي، ماأشقاني! فقد جاء الأبالسة القتلة لكي يقضوا على نفسي ويزيلوها”. وحينذاك يختفي الشيطان العدو فوراً. وكثيراً ما يحدث أنّ الشيطان يأتي بنور إلى قلية الراهب لكي يشبع ما في نفسه من حب للمجد ويزيد من سيطرته عليه وأسره له. إلاَّ انّ هذا النور ليس النور غير المخلوق، وإنما هو نور شيطاني مخلوق من صنْع إبليس.

– وكيف يمكن تمييزه عن النور غير المخلوق؟

– هناك طرق كثيرة تساعد الناسك على التمييز بين النورين. سأذكر لك في ما يلي بعض الأحكام المميزة.

أولاً- إذا كان قد وصل بالطاعة إلى مشاهدة النور غير المخلوق، فإنّ طرق الطاعة الكاملة الخالصة هي التي تؤمن وتضمن المشاهدة الصحيحة. والناسك المجاهد ملزم بأن يعرض كل الموضوعات التي لها علاقة بالمشاهدة على شيخه البصير، المتحرِّر من الهوى، وأن يسأله عنها. فلو جالت في فكرة عدم سؤال مرشده الشيخ لكان مصدرها الشيطان، الساعي أبداً إلى تقييد الناسك المجاهد في دياجير الظلام وجعله غارقاً في الضلال ورازحاً في العبودية.

ثانياً- تحدّث الربّ عن الأنبياء الكذبة، فقال “من ثمارهم تعرفونهم”. وينطبق هذا القول على ما يحدث هنا. فإنّ التمييز بين النور غير المخلوق والنور المخلوق يظهر في ثمار كل منهما. فالنور غير المخلوق يبعث في النفس هدوءاً وصفاء واتضاعاً ومعرفة اختيارية بحال الشقاء. يوم استحق إبراهيم أن يكلّم أَسْمَى ذاته أرضاً ورماداً. “إني قد شرعتُ أكلّم ربيّ وأنا أرض ورماد” (تك18: 27 ) وقال أيوب “سمعتُك من قبل سمع الأذن، أما الآن فقد رأتك عيني فشكوتُ من شقائي وذبتُ وأشعر أني في الواقع أرض ورماد” (سفر أيوب في السبعينية 42: 6). والنبي إشعياء رأى مجد الله فهتف قائلاً: “ويل لي إني هلكتُ، إني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأنّ عينيّ قد رأتا الملك ربَّ الجنود” (إشعياء6: 5). أما مشاهدة النور الشيطاني فتنشأ عنها الكبرياء وحب المجد الفارغ وفكرة اكتساب الكمال.

يقول القديس غريغوريوس السينائي: “إعلمْ إذاً أنّ مفاعيل النعمة واضحة، ولا يقدر الشيطان أن يمنحها. فهو لا يهب وداعة ولا تسامحاً ولا اتضاعاً ولا بغضاً للعالم، ولا يحرق لذات وأهواء وهذه كلها مفاعيل النعمة. أما فعل الشيطان فهو هوس بحب المجد الفارغ وكبرياء، وجبن، وكل شر” ولا يعرف المرء أفعال الشيطان من التكبّر وحسب بل من الاضطراب أيضاً. إنّ فعل الروح القدس يقدّم للنفس والجسد سلاماً وتجرُّداً من الخوف والاضطراب .

والقديس إسحق يبدي رأيه في هذا الموضوع فيقول إنّ التشويش والفوضى مركبة الشيطان لأنه ينقل ما في طبعه إلى الآخرين. والروح القدس هو بطبعه روح سلام ولهذا يعطي السلام. في حين أنّ الشيطان هو بالطبع روح اضطراب والخوف.

ثالثاً- إنّ النفس لا تتقبّل النور الشيطاني فوراً بل تتردّد في قبوله في البدء. في حين أن رؤية النور غير المخلوق تنشئ في النفس منذ البدء تقريباً يقيناً وقبولاً.

يقول القديس غريغوريوس السينائي: يذكر الآباء أنّ كل ما يأتي إلى النفس سواء كان حسياً أو عقلياً، فيتردّد القلب إزاءه ولا يقبله، يكون غير صادر عن الله بل مرسل من قبل العدو”.

وقد يأتي النور غير المخلوق في لحظة لا تنتظرها ولكنك لا ترتاب في صحته.

رابعاً- ثمة فارق في اللون أيضاً. فقد شاهد التلاميذ في جبل ثابور أثناء تجلّي السيد المسيح أنّ وجهه أضاء كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور(متى 17: 2) أما لون النور الشيطاني فهو، على العكس، أحمر بحسب شهادة آباء كثيرين تحققوا من هذا الفارق.

خامساً- هناك الاختلاف في الشكل أيضاً. قال القديس سمعان اللاهوتي الجديد إنّ مشاهدي النور غير المخلوق “لا يرون شكلاً أو نوعاً أو رسماً بل نوراً لا شكل له”. ولو كان لو شكل لكان قريب الشبه بقرص الشمس. فإنّ الله يظهر كشمس أو كقرص شمس، كروياً ، بارزاً، مشعشعاً بالنور،كشعلة لا شكل لها ولا نوع. على عكس ما يحدث في مشاهدة النور الشيطاني المخلوق. وقد ذكر القديس غريغوريوس هذه الحال فقال إنّ أكينذينوس ذهب ذات يوم إلى الجبل (آثوس) وأقام فيه بضعة أيام وأخبره أنه فيما كان يحاول أن يصلي رأى نور “ولما انفتح النور بكثافة من الجانب الأسفل بدا له من الداخل وجه بشري” أي رأى داخل الثغرة وجه إنسان. وإذا لم يكن النور بدون شكل حذّره القديس بالاماس منه لأنه نور شيطاني فقال: “أما أنا أبديتُ له رأيي بأنّ هذا ضلال مشين وهزء ولهو شيطاني… لا بل إنه على الأكثر فخ خبيث…”.

وأضاف الناسك الواسع الخبرة قائلاً: إنّ الآباء يعلِّمون أنه ينبغي ألاَّ نقبل كلَّ ما يجري خلال الصلاة… “إحرصْ على الاحتفاظ بالحسن بعد الامتحان الكثير…” وعلينا أن نسأل شيخنا في كل هذه الأمور. فإنّ القدرة على التمييز بين الضلال والحق لا تتاح لنا إلاّ بعد جهاد طويل الأمد وعلى قدر النعمة الإلهية التي نحصل عليها. وإنك تكاد ألاّ تفرّق بين النبيذ والخل من حيث المظهر، لكنهما مختلفان في المذاق. هكذا يكتسب المجاهد مع مرور الزمن إمكانية الشعور بالفارق..

كان يتكلّم بلا توقُّف. وكان رأسه منحنياً نحو الأرض. أما أنا فقد كنتُ أصغي إليه مندهشاً. وتمنّيتُ ألاَّ أقطع هذه الأفكار الآبائية الأرثوذكسية. وقد انتشر صفاء وهدوء فيما كان يتحدّث وفي هذا دليل على أنّ تعليمه كان أرثوذكسياً بكامله.

– كل ما قلته لك يتجلى وضوح في محادثة عرفها القديس سمعان اللاهوتي الجديد حيث يظهر الله فيها كنور ينشئ عذوبة. ويسأل المريد شيخه البصير، عارف الله، عنها فيؤكد له أنّ ما رآه هو الله.

سأقرأ لك النص لترى كيف يعرضه هذا الأب الرائي القديس… وأخذ الكتاب وقرأ:

 “الله نور ومنظره نور، عندما يراه أحد -حين يكشف ذاته- يرى نوراً فيعجب مما رأى، لكنه لا يعرف فوراً من الظاهر ولا يجرؤ على سؤاله، إذ كيف يسأله من لا يقدر أيٌّ كان على رفع عينيه ليراه؟ وهو ينظر فقط بهلع وخوف شديدين كأنما يصوّب نظره نحو رجليه عارفاً أنّ الذي ظهر أمام وجهه هو شيء بكامله. فإن كان أحدٌ قد شرح له هذه الأمور من قبل بما أنه عارف لله، يذهب إليه ويقول له: “لقد رأيتُ فيجيبه: ماذا يا بني؟- نوراً- أيها الأب- نوراً حلواً، حلواً. إنّ ذهني لعاجز عن الإفصاح عن شيء.

وفيما يقول هذا يرقص قلبه في الحال وينتفض ويتوقّد شوقاً إلى المرئي ثم يستأنف الكلام بدموع حارة غزيرة قائلاً: لقد ظهر لي أيها الأب ذلك النور فارتفع في الحال بيت قلايتي وولّى العالم على ما أظن، هارباً من وجهه وبقيتُ أنا وحدي موجوداً مع النور وحده ولم أعلم أيها الأب هل الجسد موجوداً هناك، في ذلك الوقت، وأجهل إن كنتُ قد صرتُ أنا خارجه. ولم أدرِ أنّي أرتدي جسداً يحيط بي. ولقد نعمتُ وما زلتُ أنعمُ بالفرح الذي لا يعبَّر عنه وتدفعني محبة وشوق شديد إلى ذرف الدموع أنهاراً وهو ما تراه الآن أيضاً.

فرد عليه قائلاً: “إنه . يا ولدي”.

ومع الكلام يراه من جديد ويتطهّر شيئاً فشيئاً تطهُّراً تاماً. وفيما هز يتطهّر يتشجع ويسأله قائلاً: “هل أنت إلهي؟. فيجيبه قائلاً: نعم “أنا الله صار إنساناً من أجلك وقد جعلتك كما ترى. وسأجعلك إلهاً”.

وبعد أن يقضي زمناً حزيناً باكياً وراكعاً أمامه متذللاً يبدأ في معرفة الله قليلاً…”.

في تلك الساعة ظهر أمامي الراهب المبتدئ- وقد غرتُ منه لأنه وجد مرشداً حكيماً واسع الخبرة- وسأل شيخه قائلاً:

– طلبتم مني أن أسقي الجرة الصغيرة الأخرى؟

فكَّر الشيخ هنيهة ثم التفتَ إليه وقال: أجل اسقها ثم قال لي: هذه هي الطاعة التي حدثتك عنها منذ قليل. فمن يظهرها بسؤاله مرشده عن كل أمر، يتقدّم روحياً، فهو أولاً، لا يترك لمخيلته أن تقدّم له حلولاً. وقد أحسن هذا الراهب صنعاً، لأنه بهذه الطريقة يطهّر ذهنه من الهواجس الثقيلة منها والبسيطة، وينقطع “للصلاة” بمزيد من الانتباه. ثانياً: يتعلّم أن يسأل. وفي سؤاله أباه الروحي خلاص. فإنّ التواضع يكون حيث تكون الطاعة، لأنه قاعدة الطاعة.

وهذا يمنع الشيطان، روح التكبّر، ويصده عن الدخول إلى نفس الراهب، ليحدث فيها حالات شاذة ورهيبة. وفي مسيرة هذا العمل إجمالاً لا بد من الطاعة. لكن علينا ألاّ نمضي فيها بلا مرشد لأنّ الشيخ مرشدنا الروحي، هو الذي يعينّ حدود مسيرتنا، وينظّم برنامج حياتنا الروحية، وهو الذي سيأمرنا بوقف أحد الأعمال ويخبرنا هل نتقدّم تقدّماً حسناً مرضياً لله.

والله نفسه موجود في شخص الشيخ. فهو “رسم المسيح”. ومقامه بالنسبة إلى الرهبان الذين يتولى إرشادهم هو مقام الأسقف في رعيته، والإيغومانس في ديره.

– أإلى هذا الحد يعطي التنسُّك الشيخَ هذه الأهمية؟

– بالتأكيد، فلا يستطيع أحد التقدّم بدون الشيخ. وبدونه أيضاً لا يقدر أن يحيا حياة التقليد الصحيح. فالحياة الروحية تنتقل على غرار الحياة الجسدية من جيل إلى جيل. والشيخ هو حامل التقليد ومالكه، ينقله إلى ولده الروحي، وبلده بحسب المسيح. إنه ينقله إلى من يريد أن يكتسبه. وفي هذا بالذات يمكن معنى الطاعة، الخلاصي. إني أُمارس الطاعة لا لكي أزول من الوجود، وإنما أمارسها لكي أُميت ذاتي الشريرة، وأتحرّر من إرادتي الخاصة وأتقبَّل التقليد، ولكي يتصوَّر المسيح فيَّ. إني أطيع لكي أُولد. والطاعة هنا لازمة وضرورية بسبب وجود خطر الضلال. لهذا كتب الأنبا ذوروماوس “ليس أشقى وأسهل اقتحاماً واحتلالاً ممن ليس لهم من يقودهم في طريق الله”. وقد فسّر الأب نفسه الآية “حيث لا حكومة يسقطون كالأوراق” ( سفر الأمثال 2: 14) فقال إنّ الورقة تكون في البدء خضراء طريَّة، لكنها بعد وقت تجفّ وتيبس وتسقط وتُحتقر وتُداس. وهذا عينه يحدث لمن ليس له مرشد روحي فإنه سرعان ما ييبس ويقع في متناول الأعداء. إنّ الورقة تكون دائماً في البدء خضراء طرية، ثم تيبس شيئاً فشيئاً، وتسقط وتحتقر وتداس. هكذا يكون حال الإنسان الذي لا يحكمه أحد. فهو في أول الأمر يكون دائماً حاراً في الصوم والسهر والهدوء والطاعة، وفي بعض الخيرات الأخرى. ولكنّ حرارته تتضاءل وتخمد شيئاً فشيئاً. وبما أنه ليس له من من يحكمه، لكي يثبّته، ويذكي حرارته، لذلك ييبس بدون أن يحسّ ويسقط. وهكذا يمسي في الأعداء فيفعلون به ما يشاؤون”.

سأذكر لك مثلاً لتدرك ضرورة وجود الشيخ، تجنُّباً للضلال. فلقد عرفتُ راهباً شعر أثناء الصلاة بألم شديد في قلبه، فأفضى فوراً بأمره إلى شيخه. وقلق الشيخ، ودفعته خبرته، التي يتميّز بها، إلى سؤال الراهب عن موضوع الألم في القلب. فأجاب أنه يشعر بوجع في أسفل القلب من الخارج فأمره الشيخ قائلاً: كُفَّ فوراً عن تلاوة “الصلاة” لمدة أسبوع. لأنه كان ينبغي أن تشعر بالألم في الجانب الأعلى داخل القلب. ذلك لأنّ الأهواء تنشط في الجانب الأسفل من القلب. هذا يؤكد أنّ الشيطان الشرير يُعِدّ لك أمراً. هكذا نجا الراهب من ضلال الشيطان الشرير الذي كان تأثيره قد بدأ يظهر فيه والآباء القديسون يعلّموننا من اختبارهم قائلين “إن رأيت شاباً يصعد إلى السماء بإرادته هو، فاقبض على رجله واجذبه إلى أسفل. لأنّ ذلك لن يفيده”.

لقد غبّطتُ ذلك المريد، لتواضعه الجم، ولحصوله على مثل هذا المرشد القديس. وتذكرتُ قصيدة لثيوذوروس الإستوذيتي جاء فيها: إلى مريد… هلمّ إليّ تعال بقلب حار واحنِ كتفيك بطاعة حسنة متواضعاً بكل جوارحك، ومائتاً من حيث الإرادة وكاشفاً عن كل فكرة كامنة في القلب. إن كنتَ تصر على البقاء نهائياً في ميدان الجهاد، فلا تُخِفْكَ برّية ولا عمود ولا أيُّ نظام لحياة السالكين في طريق الله، وإنك لتعلم كل شيء كما هو مكتوب إلهياً لأنك تسلك طريق أول الشهداء”.

قلت:

– إنّ هؤلاء الرهبان المجاهدين في الحياة الروحية سعداء لأنهم طيور مغرّدة، مغبوطة، تنعم بندى الربيع… بالله! أما نحن فلا نستطيع أن نعيش هذه الحالات. وإننا لنبتلع غازات قذارتنا، ونأكل من تراب الأرض. ألا إننا لنأكل ذاتنا عينها.

– ولكنكم تقدرون أنتم أيضاً أن تنعموا بأشعة المجد الإلهي، من انبعاث النور الإلهي. وإن شئتم أن تصيروا لاهوتيين حقيقيين وجب عليكم أن تصلّوا. فإنّ الروح القدس يكون حينذاك حاضراً هناك ويفعل…

 “إن كنت لاهوتياً صلّ بحق”.

 “فإن تصلِّ تكن في الحقيقة لاهوتياً”.

سأذكر لك فكرة يمكن أن تساعدنا على الفهم. إنّ المرء بعد ارتكابه خطيئة (جسدية بنوع أخصّ) يقدرُ أن يؤلّف بحوثاً لاهوتية، وأن ينهمك في تحليل كتب للآباء القديسين. غير أنه يعجز ممارسة الصلاة، لأنّ سقوطه في الإثم يُفقده النعمة الإلهية. فالصلاة تتوقّف بدون أن يتوقّف التأليف.

من هذا يُستدلّ على أنّ اللاهوتي الحقيقي هو الذي يحيا “الصلاة” اختبارياً. وبناء على هذا يمكنكم أنتم أيضاً أن تتقبّلوا طَرْقات بهية، يطرقها الإشراق الإلهي الساطع الضياء.

– كيف يتم ذلك؟ إنكم ستساعدونني كثيراً في هذا الموضوع سيكون ما تقولونه درساً عملياً لازماً.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى