نتذكّر كلمات داوود النبي في سفر المزامير عندما يقول: “تَعِبْتُ فِي تَنَهُّدِي. أُعَوِّمُ كُلِّ لَيْلَةٍ بِدُمُوعِي سَرِيرِي” (المزامير 6:6).
ما السبب الذي جعل داوود النبي يتعب من التنهُّد؟ وعن أيّة دموع حارّة كان يسكبها طوال الليل يتكلّم؟ قد تبدو صورة داوود هذه للبعض ملآنة كآبةً، ولكن بالحقيقة كان قلب داوود عندما ردّد هذه الصلاة ملآناً بالرجاء والفرح الداخلي. ولم تشدّه إلى كل هذه الجهادات الروحية والسهر طوال الليل والتأمّل والتفكُّر والتوبة، إلاّ عذوبة الحياة مع الله التي كانت هموم النهار تبعده عنها.
هذه هي صورةُ كلِّ مؤمن يحاول أن يجوز إلى داخله، ليختبر هناك هذا الجهاد العميق في صدقه، واضعاً كل اهتماماته، ومجنّداً كل طاقاته في النهار، في سبيل تنقية القلب من رواسب الحياة واقتناء الخبرات الروحية مع الله.
ليس الغَوص إلى الداخل واللقاء هناك مع الله أمراً سهلاً جدّاً، ولكنَّ المحاولة من أجل ذلك، إن لَم تَكن صادقة، تكون مؤذية. إنّ الجهادات الروحية، حين تُمارَس في عمقها، تؤدّي المطلوب منها وتعطي التعزيات. وهذا ما نسمّيه بالحياة الروحية. ولكن عندما تُمارَس هذه المحاولات بسطحيّة، فذلك يُسيء إلى الحياة الروحية. وهناك مؤشّرات وصفات معيّنة تمتحن حقيقةَ وصدقَ جهاداتنا الروحية.
الجهاد الروحي هو عمل يتّجه نحو العلاقة الشخصية مع الله، وليس نحو العلاقات الناموسيّة. فكل الأتعاب الروحية توضَع في خدمة المعرفة الشخصية بالله، وليس لطاعة الشرائع أو تقديم الواجبات. هذا لا يعني عدم حفظ الشرائع. لأن حفظ الشريعة ليس تقديم أعمال بل الوصول إلى غايتها.
إنّ السهر طوال الليل ليس وصيّة ولا فريضة، ولكنّه رياضةٌ روحية تفتح أعيُن المُصلّي على الحضرة الإلهية. هذا ما يَعنيه الجهاد الروحي. لا يعني الجهاد الروحي مجرّد أتعاب، بل محاولة عميقة منتبهة لتكوين خبرة وتاريخ شخصيين مع الرب. الجهاد الروحي هو أتعاب لبناء التاريخ الخاص بين الإنسان والله، وتتعدّى طبيعتُه العلاقةَ القائمةَ على الحاجة أو الخوف أو الوصيّة. هذه الحدود، أي الحاجة أو الخوف، هي حدود هشّة لا تثبت أمام الشدائد، ولذلك يتصدَّع الجهاد، عندما يكون بشكل سطحي، أمام الشدائد اليوميّة أو الواجبات أو الأشغال أو الاهتمامات.
فهناك نوعان أو طريقان للجهاد الروحي، طريق حقيقية وهي طريق الخبرة الشخصية، وطريق زائفة وهي طريق حفظ النواميس أو الوصايا أو المظاهر الدينيّة. فطريق الخبرة الشخصية هي طريق قوية وحقيقية وعميقة تُشَرِّح الإنسان من الداخل. أمّا النواميس فهي غطاء سهل تأمينه ولكنه يبني حياة هشّة، فلا تصير فيه الحياة الروحية قوة يعتمد عليها الإنسان في حياته…
الجهاد الروحي في إطار النومسة أو المعرفة لا يقدِّم شيئاً سوى النَّاموس. بينما الجهاد الروحي، المعتمد على التواضع ومعرفة الذّات، فهو يقدِّم قوّة للثبات في الشدائد. لذلك الجهاد الروحي السطحي يرى في الضيقات أموراً غير محمولة، ويلوم الله فيها ويبرّر ذاته، ويعتبر أنَّ الله لا يؤازر ولا يُنصت ولا يستمع للصلوات. لكن الجهاد الروحي العميق الحقيقي يرى في الشدائد امتحاناً، لا بَل افتقاداً إلهيّاً. في جهاد روحي سطحي، نَعبرُ الضيقات كظروف خارجية ونلوم الله فيها. ولكن في الجهاد الحقيقي، نَعبرُ الشدائد ونحن نعلم أنّ الله يجرِّب أحباءه وأنّهُ ينَقّيهم في البوتقة كما الذهب. هكذا في جهاد حقيقي بيننا وبين الله، كل ظرف خارجي يصير أداة لمعرفة الذّات، ويصير امتحاناً لمحبتنا لله. لكن ممارسة الأتعاب بسطحيّة ورخاوة، تجعل حتى ما نحفظه من الوصايا أمراً فرّيسياً يولِّد الكبرياء وملامة الآخرين، حتى التجديف على الله. ممارسة الفضائل، في معناها الحقيقي في الجهاد الروحي، تعني تكوين الطاقة والقدرة الروحية على الثبات مع الله في شدائد الحياة. ولكن في الجهاد المزيَّف، ممارسة الفضائل تعني فقط تبرير الذّات بأنّنا في الالتزام الديني المطلوب. الجهاد الروحي يبدِّل الكيان. بينما السطحية في الجهاد فتركِّز على تبديل بعض التصرّفات فقط. “يا بنيّ أعطني قلبك فأعطيك مشتهى قلبك”. هذه هي لغة الجهاد الروحي، لغة القلب. بينما في الجهاد الزَّائف تكون المبادلات قانونيّة وحفظ الشريعة يصبح ثمناً للتبرير. الجهاد الروحي في عمقه، حين يمسّ القلب، يجعلنا نطلب الواحد الذي الحاجة إليه، ونتّكل على الله لكي نرمي عن كاهلنا أموراً عديدة في الحياة لا حاجة لنا إليها. بينما يقيم الجهاد الروحي السطحي مع الله بازاراً روحياً، إذ يطلب ثمناً لكل تصرُّف وكل فضيلة وكل ممارسة، ولا ينتبه إلى نقاوة القلب. فإذا كان الإنسان السطحي يشتري بأعماله تبريراً أمام الله، فإنّ الجهاد الروحي العميق، لِمَن يمارسه، يجعله يفكِّر بعلاقته بالله وعلاقة الآخرين بهِ، وعلاقة الله بالآخرين. ويصير الجهاد وجوديّاً وواقعيّاً وليس استغفاراً أو استرحاماً أو خوفاً ممّا نسمّيه الوجود الإلهي في حياة الإنسان.
الجهاد الروحي، بلغة القلب، هو الذي يجرحنا بسبب من العشق الإلهي الذي فينا. الجهاد الروحي، بلغة القلب، يشاء ألاّ يكون أيُّ شيءٍ آخر فينا إلاّ العشق الإلهي. بينما الجهاد الروحي السطحي فهو الممارسات التي نقوم بها لنقاسم أشياء في القلب بين الله وبين الذات. هكذا يبقى في القلب ألوان عديدة من العشق ونظنّ أنّنا نقدّم بعض الأوقات أو بعض الجهادات ذبائح لله الذي ينتظرها. لذلك في الجهاد الروحي يصيرُ غصبَ الذّات محبوباً، كما قال داوود: “تعبت في تنهّدي”؛ يسهر كل الليل ويبلُّ فراشَه بدموعه، ولكن قلبه كان ملآناً تعزياتٍ، لأنّ هذا الجهاد من أساسه هو جهاد بالحرية الشخصية، إنّه طلب للدخول في خبرات أعمق مع الله.
أغصب ذاتي يعني أن أحاول دائماً أكثر بقليل ممّا أستطيعه، فإذا كنت أستطيع الوقوف ساعة فإنّ الدقائق القليلة التي أضيفها هي الجهاد الروحي. الجهاد الروحي لا يعني أنْ أقتل الجسد البشري، ولكن أيضاً ألاّ أجعله في الرّاحة. الجهاد الروحي يعني أنْ نقدِّم قليلاً فوق الطبيعي. الجهاد الروحي في الصوم هو أن أشعر قليلاً بالجوع. الجهاد الروحي في السجدات هو أن أشعر قليلاً بالتعب. وهكذا يتدرَّب الإنسان وتزداد طاقاته وتزداد قامته.
وكيف نبدأ في جهادنا الروحي؟ كيف نقرِّر أن نقدِّم هذا القليل فوق الموجود وفوق الطبيعي الآن؟ إنَّها الآية الجميلة من كتاب المزامير “وجهك يا رب ألتَمِس” (8:27)، هذه صلاة تعني تماماً أنّ الله يدرّبنا فهو يظهر ويختفي، يظهر حين نتعب ونجاهد، ويختفي عندما نكون في الكسل. عندما يختفي وجه الله من الحياة وفي الصلاة، فهذا يعني أنّ الله هيَّأ لنا فرصة لجهاد أكبر ممّا اعتدنا عليه.
“أعطِ دماً وخُذْ روحاً”، هذا هو ثمن الحياة الروحية، هذه هي طريقة الجهاد الروحي في عمقه. وكل أتعاب الفضيلة والجهادات الأخرى، إنْ لَم تلتمس وجه الله وإذا لَم تتعلَّق بالحضرة الإلهية، فإنّها أتعاب ذات ثمار بسيطة جدّاً، إنْ لَم تَكن مزيّفة، وإنْ لَم تُصبح مضرّة أيضاً.
“تَعِبْتُ فِي تَنَهُّدِي. أُعَوِّمُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ سَرِيرِي بِدُمُوعِي” طلباً لوجه الله وللرضى الإلهي وللحضرة الإلهية. آمين.
الميتروبوليت بولس يازجي
نقلاً عن رسالة أبرشية حلب