إيرونيمس – جيروم

القديس إيرونيمس -جيروم

القديس إيرونيمس -جيروموُلد القدّيس إيرونيمس (جيروم) حوالى سنة 347 في مدينة ستريدون الواقعة ما بين بلاد المجر ودلماسية. نشأ في أسرة مسيحيّة ذات يسر ومكانة، ثمّ انتقل إلى رومة طلبًا للعلم فدرس قواعد اللغة وأساليب البلاغة، وما هي إلاّ سنوات حتّى أصبح من أئمّة اللغة اللاتينيّة ومن أشدّ الناس اطّلاعًا على آدابها وتذوّقًا لها. كتب عنه مؤلّف سيرته قائلاً: “كان إيرونيمس طالبًا لامعًا في رومة، وطالب نسك في أكيلايا، ومتوحّدًا مبتدئًا في سورية، ودارسًا كنسيًّا في القسطنطينية لدى القدّيس غريغوريوس النزينزي، وأمين سرّ للبابا داماسيوس في رومة”. بعد هذه الرحلات والإقامات المتعدّدة انتقل إلى الشرق نهائيًّا في سنة 385 وأقام في بيت لحم. رقد بالربّ سنة 420 بعد أن ترك العديد من المؤلّفات الكنسيّة، وتحيي الكنيسة الأرثوذكسيّة ذكراه في الخامس عشر من شهر حزيران، بينما تعيّد له الكنيسة الغربيّة في الثلاثين من أيلول يوم وفاته.

اشتهر إيرونيمس بترجمته للكتاب المقدّس إلى اللغة اللاتينيّة (نصّ الفولغاتا)، وهو النصّ الرسميّ للكتاب المقدّس الذي استعملته الكنيسة الغربيّة إلى سنة 1979 حيث تمّت إعادة النظر فيه بإيعاز من المجمع الفاتيكانيّ الثاني. ففي الفترة التي قضاها إيرونيمس في أنطاكية أكبّ على دراسة اللغة اليونانيّة وتعمّق فيها، كما درس اللغة العبريّة ينهل منها ما سيساعده في ترجمته للكتاب المقدّس. وكان هناك عدّة ترجمات لاتينيّة منتشرة في الكنائس، غير أنّ إيرونيمس لم يكن راضيًا عنها لركاكتها، لذلك اندفع بكلّ مواهبه من أجل نصّ لاتينيّ أنيق للكتاب المقدّس. وهو نفسه يقول في هذا الشأن: “وكنتُ إذا أخذت في قراءة الأنبياء كان أسلوبهم الخالي من الأناقة يزعجني”.

لم يكتفِ إيرونيمس بترجمة الكتاب المقدّس، بل وضع تفاسير شملت جميع الانبياء ولا سيّما إشعيا وحزقيال، كما فسّر المزامير، وسفر الجامعة، وإنجيل القدّيس متّى، وأربع رسائل للقدّيس بولس. أضف إلى ذلك أنّه ترجم قاموس الأعلام الكتابيّة لفيلون الإسكندريّ، وقاموس أسماء الأماكن لإفسابيوس الإسكندريّ. كما ترجم مواعظ عديدة لأوريجانس وبخاصّة عن إنجيل لوقا ونشيد الأناشيد، وبحثًا في الروح القدس لذيذيمُس الأعمى، والنظُم الرهبانيّة للقدّيس باخوميوس الكبير. ووصلَنا من إيرونيموس أعمال ورسائل دفاعيّة وعقائديّة وتعليميّة وتفسيريّة عن الحياة الرهبانيّة والحياة الكهنوتيّة والبتوليّة وتكريم العذراء مريم والقدّيسين. كما وضع إيرونيمس كتابًا عنوانه “مشاهير الرجال” يمدح فيه مئة وثلاثين كاتبًا مسيحيًّا ابتداءً ببولس الرسول وانتهاء بعهده، ويمجّد العبقريّة المسيحيّة ردًّا على المقولة التي كانت شائعة والتي كانت تدّعي أنّ المسيحيّة لا ينضمّ إليها إلاّ الجهّال. وكان أكثر اعتماد إيرونيمس في عمله هذا على الكتاب المقدّس وعلى كتاب التاريخ الكنسيّ لإفسابيوس القيصريّ.

لم يكن إيرونيمس منظّرًا لاهوتيًّا ولا فيلسوفًا، بل كان رجل الواقع والكتاب المقدّس والعبادات والحياة العمليّة والممارسة المسيحيّة، وكان متشدّدًا في أمور التقشّف والزهد وفي القضايا الأخلاقيّة. ومع ذلك اعتبرته الكنيسة الغربيّة أحد علمائها الأربعة الكبار: امبروسيوس أسقف ميلانو (397+)، وأغسطينُس اسقف هيبون (340+)، وغريغوريوس الكبير بابا رومة (604+)، وإيرونيمس. وكان إيرونيمس يؤمن بضرورة الحصول على عنصرين هما الحرّيّة والنعمة من أجل نوال الخلاص، فيقول مثلاً: “إرادتنا تعتمد على عون الله”. أمّا التزامه المسيحيّ الكامل فبرز في عيشه حياة التقشّف والزهد، فقال عن التوحّد: “يا للقَفر الذي تتألّق فيه أزهار المسيح! يا للوحدة التي تنبت فيها الحجارة الشهيرة التي تشاد بها، على حدّ قول سفر الرؤيا، مدينة الملك الأعظم! يا للصومعة التي يتمتّع الإنسان فيها بألفة الله!”.

أحبّ إيرونيمس الكتاب المقدّس فكرّس حياته كلّها من أجل درسه وحفظه وتفسيره ونقله بأمانة إلى أجيال الكنيسة المتلاحقة. لذلك لم يفارق الكتاب المقدّس يديه في أيّ وقت من أوقات الليل والنهار، فيقول في رسالة إلى أحد تلاميذه قائلاً: “إقرأ ما استطعت، وادرس أكثر. وليفاجئك النعاس والكتاب في يدك، وإن سقطتَ فلتَسْتَلْقك صفحةٌ من صفحات الكتاب المقدّس”. ويجعل إيرونيمس من معرفة الكتاب المقدّس شرطًا لمعرفة الربّ يسوع، فيقول: “جهل الكتابات المقدّسة هو جهل للمسيح”.

القدّيس إيرونيمس شخصيّة مسيحيّة هامّة ألهمت رسّامين عديدين، لا سيّما ليوناردو دا فنشي الذي أبدع في نقل صورته ناسكًا صحراويًّا جفّ جسمه وطواه الصوم والسهر، فأبرزه نموذجًا للمتوحّدين والنسّاك الذين يجعلون مكان صلاتهم وسكناهم إلى الله في جوف صخرة أو في قاع كهف أو في عراء البادية. كان إيرونيمس رجل الكتاب المقدّس، هام به وشغل به الناس إلى منتهى الدهر، لذلك ذكره يدوم إلى الابد.

arArabic
انتقل إلى أعلى