Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

– سأذكر لك بعض هذه الأثمار ما دمتَ ترغب في الاستماع إليّ . إنّ “الصلاة” هي في البدء خبز يسند قلب المجاهد ثم تصير زيتاً يحلّي قلبه، وبعدها تُمسي خمرة.. “تجذبه”.. فيحدث الانجذاب والإتحاد بالله. وللمزيد من التحديد أقول إنّ العطية الأولى التي يعطيها المسيحُ للإنسان المصلّي هي معرفة يقينية بأنه في حال خطيئة، فيكفُّ عن الاعتقاد بأنه صالح ويعتبر نفسه “رجسا الخراب فيما هو واقف في مكان مقدّس”. وتضرب حفَّارة النعمة عمق النفس وتحفره فما أكثر الأقذار في داخلنا! إنّ نفسنا لنتنة!

يأتي البعض إلى قلايتي أحياناً وهم منتنون خبثتْ رائحتهم… الصادرة عن نجاسات داخلية..أجل، إنّ هذه تكون مجهولة من قبل، لكنّ المجاهد يكتشفها الآن“بالصلاة” وتكون نتيجة هذا الاكتشاف أنه يعتبر نفسه أقل جميع الناس وأنّ الجحيم هي مثواه الأبدي فيشرع في البكاء ندماً. أجل إنه يذرف الدمع هتوناً على ذاته المائتة. وهل يبكي المرء على ميت في بيت جاره ولا يبكي على ميت في بيته هو؟

هذا ما يحدث للمجاهد في “الصلاة”. فهو لا يرى خطيئة الآخرين وإنما يرى ما حل به نفسه من إماتة، فتمسي عيناه ينبوع دموع تصدر عن قلب عصره العذاب. وهو يبكي كما يبكي المحكوم عليه، ويصرخ في الوقت عينه بحرارة “ارحمني”، “أرحمني”، “أرحمني”… بهذه الدموع- كما يُنقّي الماء لأشياء الموسَّخة، وكما يصَفّي المطر السماء من الغيوم ويُنظّف الأرض من الأقذار. فليست هذه الدموع إلاَّ ماء المعمودية الثانية. فالصلاة إذاً تأتي بثمرة التطهير الكلية الحلاوة.

– أيَطْهرُ المرء تطهيراً تاماً إذا افتقدته النعمة الإلهية؟

– لا يطهر تماماً ، إنما يجري تطهره بصورة دائمة، لأنّ التطهير “لا ينتهي”. يذكر القديس يوحنا السلَّمي قولاً سمعه من راهب عديم الهوى جاء فيه: “هذا هو كمال الكاملين، كمال لا ينتهي”. فبقدر ما يبكي المرء يزداد طهراً. وكلما كثرتْ تنقيته اشتدّتْ رؤيته طبقات الخطيئة السفلى، فيشعر من جديد بالحاجة إلى البكاء. وهكذا دواليك..وقد أحسن القديس سمعان اللاهوتي شرح هذا بقوله: “إنّ هؤلاء يطهّرون النفس بأدعية متواصلة، وأصوات لا يُنطق بها، وبانهيار دموع. وحين يراها هؤلاء وهي تتطهَّر تتملّكهم نار الشوق، ونار الرغبة في أن يروها مطهَّرة تطهيراَ كاملاً. لكنهم ما داموا عاجزين عن العثور على النور مكتملاً يكون التطهّر عندهم غير منته. فإني مهما بلغتُ، أنا الشقي، من التطهّر والاستنارة ومهما زاد الروح الذي ينقّيني وضوحاً أمام عيني فما ذلك سوى بدء لي في التطهّر والرؤية. فمن يستطيع إذاً أن يعثر على مكان وسط أو نهاية في عمق غير محدود، وفي علوّ غير قابل للقياس؟”

وهذا يعني – كما تفهمون يا أبتِ – أنّ الإنسان يتكمّل ويتطهَّر باضطّراد. فيتنقّى أولاً الجانب الانفعالي في النفس (الجانب الغضبي- الشهوات- الرغبات)، ثم يتلوه الجانب العقلي في النفس.

ينعتق المؤمن من الأهواء الجسدية (الجانب الشهواني) ثم من أهواء البغض، والغضب، والحقد(الجانب الغضبي) لكنّ هذا يتمّ بالإكثار من الصلاة وبمجاهدة أشدّ. ومتى تمكّن المجاهد من الانعتاق من الغضب والحقد كان ذلك دليلاً بيّناً على أنّ الجانب الانفعالي في نفسه قد تطهَّر تقريباً. ثم تتبع هذا حرب تنحصر كلّها في الجانب العقليّ. فيحارب المجاهد الكبرياء وحبّ المجد الفارغ الخ..وكلَّ الهواجس الباطلة. وتلازم هذه الحرب المؤمن حتى نهاية حياته. إلاَّ أنّ هذه المسيرة كلّها، مسيرة التطهير، تتمّ بمساعدة النعمة الإلهية وفعلها، بقصد أن يصير المؤمن إناء يتَّسع للنعمة الغزيرة. وفي هذا يقول القديس سمعان اللاهوتي أيضاً:

“فلن يستطيع الإنسان التغلّب على الأهواء ما لم يكن هذا (النور) إلى جانبه للمساعدة. وهو لا يطرد الأهواء كلّها (من النفس) دفعه واحدة. فإنّ الإنسان النفساني لا يصير جديراً بتقبُّل الروح كله فجأة، ولا يصير عديم الهوى إلاّ متى فعل بقدر المستطاع كلَّ شيء: من عري، وعدم سعي، وانفصال عما يخصّه، وتجرُّد من الإرادة الذاتية، وإنكار للعالم، وتحمّل للتجارب، وصلاة وحزن، وفقر واتضاع. وذلك بقدر استطاعته… ”

– وكيف يدرك الإنسان أنّ نفسه آخذة في التطهُّر؟ أجاب الناسك الحكيم:

– هذا أمر سهل ويمكن إدراكه بسرعة. يستعمل إيسيخيوس الكاهن صورة لبيان ذلك. فهو يقول: “كما أنّ الأطعمة التي تحمل المرض إذا دخلت المعدة أزعجت وآلمت، لكنها تخرج منها بتناول الدواء فتستريح، ويشعر المرء بالارتياح، هكذا يكون الأمر في الحياة الروحية. فإنّ الإنسان حين يتلقَّى أفكاراً شريرة يشعر بالمرارة وبثقلها، وهذا أمر طبيعي. غير أنه بواسطة “الصلاة” يطردها نهائياً متقيئاً بسهولة. ويشعر بعدها بالتطهر إلى حد بعيد. ويحسُّ المصلي بالتطهّر، لأنّ الجراح الداخلية الناشئة عن الأهواء يتوقف نزفها فوراً.

نقرأ في إنجيل لوقا عن المرأة النازفة الدم “التي جاءت من خلف يسوع ومسَّت هدب ثوبه وللحال توقف نزف دمها” (لوقا 8 :44) فأنّ اقتراب المرء من يسوع المسيح يُشفَ فوراً (يتوقف نزف الدم ) أي يتوقف نزف دم الأهواء. أريد القول أيضاً إنّ الصور والرسوم والأشخاص الذين كانوا يعثروننا قبلاً يكفّون عن إعثارنا. وهذا يعني يا أبتِ أنه إذا أزعجنا بعض الأشخاص أو الأشياء كان ذلك دليلاً على أننا مجروحون، وقد جرحنا الشيطان بهجماته والعثرة قائمة في داخلنا. إلاَّ أنّ المرء بعد التطهرّ بمساعدة“الصلاة” يرى جميع الناس وكل الأشياء كائنات خلقها الله، لا بل أنه يعتبر الأشخاص بنوع أخصّ صوراً لله المحب.

فمن كان متسربلاً نعمة المسيح يرى الآخرين أيضاً متشحين ولو كانوا عراة جسدياً. أما من لم يحظَ بالنعمة الإلهية فإنه ينظر إلى اللابسين جسدياً فيحسبهم عراة.

وددتُ أيها الحبيب عند هذه النقطة أن أقرأ لك من أقوال القديس سمعان اللاهوتي الجديد.

قلتُ: إنه في الحقيقة لاهوتيّ وقد قرأتُ بعض كتبه فتحمست!

– أنصحك بقراءة كتبه كلّها. لأنك بذلك تستطيع أن تقتني تذوّقاً للثيولوجيا الصوفية، الطريق السلبية للاختبار النسكي. يقول هذا الأب معاين الله في إحدى قصائده: “..إنّ سمعان القديس الورع الأستوذيتي ما كان يستحي أن يرى أعضاء كلّ إنسان ولا أن يشاهدهم عُراة ولا أن يُرى هو أيضاً عارياً . فقد كان له المسيح كله.هو كلّه كان مسيحاً. أعضاؤه كلها، وأعضاء كل شخص آخر، كل واحد بمفرده، والكل معاً كان ينظر إليهم على الدوام فيحسبهم مسيحاً. وكان يبقى بلا حركة، غير متضرّر، وعديم الهوى. فكأنه كان بكامله مسيحاً. وهو يرى جميع المعمدين متشحين بالمسيح بكامله. فإنّ وُجدتَ عارياً وجسد يلامس جسداً وصرتَ مهووساً بالأنثى كحمار أو حصان فلمَ تجرؤ على التطاول على القديس واتهامه زوراً، والتجديف على المسيح المتَّحد فينا المعطي عبيده القديسين موهبة التحرّر من الهوى؟”.

وأضاف الشيخ قائلاً:

– إنّ الإنسان المتحرر من الهوى، الذي تطهَّر بواسطة “الصلاة” لا يعثره شيء مما يرى. والشيطان ينهزم في الوقت عينه، وهذا من ثمار الصلاة أيضاً. ينكشف العدو وشباكه بسرعة فُيطرد من النفس بسهولة. ويشعر المجاهد في “الصلاة”بتأهب الشيطان لمحاربته من جديد، فيتخذ الإجراءات المضادة اللازمة في الوقت المناسب. وهو يرى سهام الشرير تُصوَّب إلى النفس لكنها تنطفئ قبل أن تمسّها.

يقول القديس ذياذوخوس “إذا ما وصلت السهام إلى موضع ما في الجزء الخارجي للقلب تبدَّد هناك لأنّ نعمة الله تكمن داخل القلب. الأبالسة، النارية، تنطفئ فوراً عند مراكز الإحساس الخارجية في الجسم. لأنّ ندى الروح القدس يهزّ القلب برياح سلامية ويطفئ سهام الشيطان حامل النار، التي ظلت باقية في الهواء…

ويتمّ – كما قلنا سابقاً- توحيد الإنسان بكامله: العقل والرغبة والإرادة، وتتناسق كلها معاً في الله”.

هتفتُ: التطّهر من الهوى. إنه عطية عظمى!

قال: أجل، هذا حقّ إنّ التحرر من الهوى هو عطية النعمة. والتحرر من الهوى يفترض وجود التطهُّر والمحبة. وهو يزيد المحبة صقلاً.

وقديس الله سمعان يساعدنا في فهم هذه النقطة. فإنه يستعمل صورة جميلة فيقول إننا في ليلة صافية لا سحب فيها نشاهد صفحة القمر في السماء متلألئة بالنور الخالص الكلي النقاوة. وكثيراً ما نشاهد حولها هالة من نور. ولنرَ كيف ينسّق القديس بين هذه الصورة وصورة الإنسان المطهَّر تاماً، والمتحرّر من الهوى. فهو يقول إنّ أجساد القديسين هي السماء أما قلبهم حامل اللاهوت فإنه أشبه بصفحة القمر. والحب المقدّس هو النور الفعَّال الكلي القدرة الذي يملأ القلب يومياً بقدر ما أصابه من تطهّر، وتأتي بعد ذلك لحظة يمتلئ فيها القلب بنور الحب الساطع فيصبح بدراً. إلاَّ أنّ هذا النور لا يتناقص مثلما يحدث للقمر لأنه يتغذى بالاجتهاد والجهاد والعمل الصالح..

“…يظل القلب مفعماً كلّه بالنور فيما يغذَّى باجتهاد القديسين وإحسانهم…” وموهبة التحرر من الهوى (الأباثيا) دائرة ممتلئة كلها بالنور تحيط بالقلب وتصونه سالماً من هجمات الشرير الشرسة. “إنها تستر(القديسين) على الدوام وتحرسهم وتحفظهم سالمين من كل فكرة شريرة وتصونهم بلا مضرة وأحراراً وتستعيدهم من كل الأعداء. ليس هذا وحسب بل إنها تعمل أيضاً لجعلهم بعيدين عن متناول المضادين..”

ومع أنّ موهبة التحرّر من الهوى ضرورية تماماً إلاَّ أنها ليست عطية “الصلاة” الأخيرة كما أنها ليست إمتلاك كل شيء. فإنّ ما يحدث بعد ذلك هو البدء في الصعود نحو الله. ويصف الآباء القديسون هذا الصعود الروحي نحو التأله بأنه تطهُّر واستنارة، وتكمُّل. سأذكر لك نموذجين من الكتاب المقدّس بغية الإيضاح. أولهما حالة صعود موسى النبي إلى جبل سيناء لكي يتسلم الشريعة، والثاني مسيرة الشعب الإسرائيلي نحو أرض الميعاد.

يشرح القديس غريغوريوس أسقف نيصص الحالة الأولى. أما الثانية فيشرحها القديس مكسيموس المعترف.

– إنّ الآباء يحمّسونني على الدوام. فإنهم يفسّرون كلام الله تفسيراً صحيحاً. ولهذا أود سماع شروح الآباء.

– لقد طهَّر العبرانيون أولاً ثيابهم ونقَّوا ذواتهم امتثالاً لأمر الله. “نقّهم وليغسلوا الثياب، وليكونوا متأهبين في اليوم الثالث”.

وفي اليوم الثالث سمع الشعب كله الأصوات “وصوت البوق” ورأى البروق والسحب الضبابية على جبل سيناء. “كان جبل سيناء يدخّن كله”. وتقدّم الشعب إلى أسفل الجبل. أما موسى النبي فقد دخل وحده في السحاب المنير. ثم وصل بعد ذلك إلى القمة حيث تسلّم ألواح الناموس.

ويشرح القديس غريغوريوس أسقف نيصص هذا، فيقول إنّ الطريق إلى المعرفة الإلهية هي طهارة الجسد والنفس. والمزمع الصعود يجب أن يكون، بقدر المستطاع، نقياً بلا دنس نفساً وجسداً. ويجب أن يغسل ثيابه حسب الوصية الإلهية، لا ثيابه المادية، لأنها ليست عائقاً لمن يريدون التأله، إنما يجب غسل مئزر المشاغل بحسب هذه الحياة، يعني كل أعمال الحياة التي تحيط بنا كالثوب. يجب أن يبعد أيضاً عن الجبل الحيوانات البهم التي لا عقل لها، أي يتخطى “المعرفة المكتسبة بطريق الحسّ”، أن يتخطَّى كل معرفة تقدمها أدوات الحواس. وعليه أن يتطهّر من كل حركة “حسّية” وغير عاقلة، وأن يغسل الذهن، أي أن ينفصل الذهن عن رفيقه أي “الإحساس” الملازم له وليجرؤ- بعد أن يتأهب ويستعد ويتطهَّر على هذا المنوال- على الاقتراب من الجبل الموشّح بالضبَّاب.

يضاف إلى هذا أنّ الشعب يصعب عليه صعود الجبل. وبما أنّ الشعب يصعب عليه الاقتراب من الجبل وكان على موسى النبي وحده أن يمضي فيه قدماً، أي كان مدعواً إلى الصعود، يتبينّ من هذا، يا أبتِ، أنّ التطهر كما يبدو هنا هو ضروري مقدّماً ثم يتبعه الصعود من أجل المشاهدة. فإنّ أعظم الخيرات، بناء على ما تقدّم، تأتي بعد التطهُّر. وإنّ هذا التطهُّر شرط ضروري للحصول عليها.

وتحدّث الناسك معاين الله عن النموذج الثاني فقال: لقد كتب القديس مكسيموس المعترف أنّ هناك ثلاث مراحل للصعود السّري نحو الله:

+ الفلسفة العلمية وهي سلبية: ( التطهّر من الأهواء) وإيجابية: (اكتساب الفضائل).

+ والمشاهدة الطبيعية هي التي يشاهد إبانها العقل المحض، الطاهر، الخليقة كلها والمعاني الباطنية للأشياء، فيتعرّف على المعنى الروحي للكتب المقدّسة، ويرى الله في الطبيعة ويصلي إليه. ثم تأتي بعدها المرحلة الثالثة والأخيرة هي:

+الثيولوجيا السرّية التي توحّد المؤمن المجاهد بالله. وهذه المراحل الثلاث تتجلى بوضوح في مسيرة الشعب الإسرائيلي.

لقد هرب الإسرائيليون أولاً من عبودية مصر بعد أن عبروا البحر الأحمر الذي غرق فيه الجيش المصري. ثم وصلوا إلى البرية حيث تلقوا بطرق مختلفة عطايا محبة الله للإنسان (المن الماء وسحابة النور والشريعة والنصر على الأعداء). وبعد جهاد دام سنين كثيرة دخلوا أرض الميعاد.

يحدث مثل هذا أيضاً للمجاهد “بالصلاة”. فإنه يخرج أولاً من عبودية الأهواء (المشاهدة الطبيعية) حيث يتقبّل عطايا محبة الله. وبعد مجاهدة بطولية يصير مستحقاً أرض الميعاد (اليولوجيا السرّية): الإتحاد التام بالله والتنعم بالأزلية الذي يحدث بمشاهدة النور غير المخلوق.

ومما لا ريب فيه أنّ هذه المراحل بحسب رأي الآباء ليست منفصلة عن بعضها انفصالاً تاماً. فإننا بعد وصولنا إلى الرؤية الطبيعية وإلى الثيولوجيا السرّية، لا نترك الرياضة والانسحاق أي الفلسفة العلمية. لأنّ الإنسان وهو يواصل المضيّ صعوداً إلى الأعلى، يتابع جهاده أيضاً لكي لا يخسر الرحمة التي نالها.

وينصح الآباء القديسون قائلين: متى صرتَ جديراً بالمشاهدة الإلهية السامية، وجب عليك أن تزيد من اجتهادك في ممارسة المحبة والإمساك. يقول القديس مكسيموس المعترف: يكون بهاء نفسك عديم الزوال ما دمت تصون الجانب الانفعالي (في النفس) خالياً من الإضراب”.

ومن الضرورة أن يمضي المرء في مسيرته الروحية على الدوام بخوف. فيجب أن يتملكه أولاً خوف من العذاب والعقاب. (وهذا هو الخوف التمهيدي). ثم يعقبه الخوف من فقدان النعمة والسقوط منها (وهذا هو الخوف الكامل). يقول الرسول بولس: “إعملوا لخلاص ذواتكم بخوف ورعدة”.

– حدّثْني الآن أيها الشيخ عن العطايا التي يتلقّاها المجاهد “بالصلاة” بعد تطهّره وقبل أن يتمتّع بالإتحاد التام بالله. وأكمل لي وصف ما “للصلاة” من ثمار أخرى.

– يشعر الراهب المجاهد بالتعزية الإلهية في حضور المسيح الذي يشيع هدوءاً عذباً وسلاماً غير متزعزع، واتضاعاً، ومحبة نحو الجميع لا تكلّ. ولا ريب أنّ هذه التعزية الناجمة عن الحضور الإلهي لا يمكن مقارنتها بأي شيء بشري.

لقد عرفتُ ناسكاً مرض مرضاً شديداً فدخل إحدى المستشفيات للمعالجة. وقد أحاطه أطباء بارعون بعنايتهم لتقديرهم الشخصي له. وشفي وشكر أطباءه وعاد إلى قلايته. لكن سرعان ما عاوده المرض. ولم يعرف إخوته الرهبان بما له لأنه كان يعيش منعزلاً في خلوة. فكان يتوجع كثيراً، لكنه كان يشعر بتعزية عميقة لا مثيل لها يفيضها الله عليه ولا يمكن مقارنتها بما بذل الأطباء له من براعة طبّهم وكريم إحسانهم ولا مقارنتها بما تناول من أدوية شافية فعَّالة. وقد أحسَّ براحة لم يسبق له أن أحسّ مثلها من قبل. لهذا يحرص بعض النساك باجتهاد على تحاشي التعزية البشرية ( وهذا طبعاً سلوك غريب عن عقلية العالم) وقصدهم من وراء ذلك أن يحسوا بالعذوبة المسكرة والبهجة المقيمة التي تتصف بها التعزية الإلهية…

قلتُ: إنّ هذا لجنيٌ عجيب، ثمر الصلاة العقلية…أكمل يا أبتِ ..أكمل.

– يكتسب الإنسان الغبطة في التجارب التي يحدثها أناس يعيش معهم. فهو يحلّق في أجواء الحياة الروحية الهادئة المتلألئة بالنور، حيث لا تطاله سهام البشر وهو لا يتضايق منها بل إنه لا يشعر بها البتة. وكما أنك لا تستطيع إسقاط طائرة بضربها بالحصى، وهي بدورها لا تشعر بها، كذلك يحدث لهذا الإنسان. فهو لا يتضايق من الافتراء عليه، ولا من الاضطهاد، ولا من الاحتقار، ولا من التهم. فما يحزنه هو سقوط أخيه. ولو نشأ عنده ضيق فإنه يعرف كيف يتخلّص منه.

ومثل هذا ما جاء في كتاب “الغيرونديكون” أنّ أحد الشيوخ ذهب إلى الأنبا أخيللاس فوجده يبصق دماً. فسأله: ما هذا يا أبتَ؟..فأجاب الشيخ قائلاً: ما حدث هو كلام قاله أحد الإخوة أحزنني وقد جاهدتُ من أجل الامتناع عن إعلان ما قال وسألتُ الله أن يحرّرني من ذلك الكلام. فتحوُل الكلام صائراً كالدم في فمي وقد بصقته فوجدتُ السكينة ونسيتُ حزني”.

– في الحق إنّ هذه محبة كاملة نحو الأخ، محبة تصفح عن كل شيء، وهو لا يريد حتى تذكّر الكلام. بهذا السلوك نكون قد بلغنا الكمال!

– هذا مؤكد. وهو يتحقّق بصلاة يسوع. فهذه المحبة هي نتيجة الحياة الإختبارية لاتحاد الجنس البشري. وهي ثمرة “للصلاة”، حسنة المذاق. فالإنسان الذي بلغ هذه الحال من التقدّم الروحي لا تتوحد ذاته هو نفسه وحسب بل إنه ليشعر بوحدة الجنس البشري أيضاً.

واستأنف الناسك قائلاً: إنكم تعلمون أنّ وحدة الطبيعة البشرية قد تصدّعت وتفككت فور عصيان آدم. والله من بعد خلقه آدم جبل حواء من جنبه. وقد أفرحه خلق حواء وشعر بأنها له (من جسده) لهذا قال “هذه الآن عظم من عظامي وجسد من جسدي..” (تكوين2: 23). لكنّ آدم بعد سقوطه أجاب على سؤال الله قائلاً “المرأة التي جعلتها معي هي التي أعطتني من الشجرة فأكلتُ” (تكوين3 : 12). فحواء كانت قبل السقوط عظماً من عظامه. أما بعد السقوط فقد صارت “إمرأة أعطاه الله إياها”!

يتجلَّى هنا بوضوح تفكّك الطبيعة البشرية من بعد الخطيئة وقد وضح هذا في ما بعد عند أبناء آدم في كل التاريخ، تاريخ إسرائيل وتاريخ البشرية كلها. وهذا أمر طبيعي لأنّ الإنسان فقد الله فخسر ذاته أيضاً وانفصل عن الناس. وقد تملّكتْ حياته عزلةُ عن الآخرين وعبودية. أما إعادة توحيد الطبيعة فقد حدثتْ “في المسيح”. فهو نفسه قد بسط كفّيه ووحّد ما كان من قبل متفرّقاً فصار بإمكانه كل إنسان أن يتَّحد به فيحيا وحدة الطبيعة البشرية أيضاً.

الناسك إذاً يكتسب “بالصلاة” حباً عظيماً ليسوع المسيح. وبهذا الحب يتّحد به. ومن الطبيعي بعدها أن يحب ما يحبه الله وأن يريد ما يريده تعالى. والله “يريد أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحقّ يُقبلون”. وهذا عينه ما يريده مجاهد الصلاة. لذلك يزعجه وجود الشر في العالم ويحزننا كثيراً هلاك الإخوة كجهلهم. وبما أنّ للخطيئة أبعاداً أكليسيولوجية وعالمية تؤثّر في كلّ العالم، كان طبيعياً أن يحيا المصلّي مأساة البشرية كلها، وأن يتألم كثيرا بسببها ويحيا اكتئاب الربّ يسوع في الجشمانية. وينتهي به الحال إلى الكفّ عن الصلاة من أجل نفسه هو لكي يصلّي باستمرار من اجل الآخرين، لكي يأتوا إلى معرفة الله.

إنّ تطهُّره من الأهواء، وحصوله على نعمة الله المحيية، والصلاة من أجل الآخرين بدافع من شعوره بوحدة الجنس البشري كلّه في المسيح يسوع لهو أعظم رسالة دينية. هذه كانت نظرة الآباء القديسين إلى عمل الرسالة الدينية، باعتبارها عَمَلاً لتجديد الكيان البشري وتوحيد الطبيعية. وكل إنسان يطهّر يُمسي عاملاً صالحاً لأجل المجموع الاجتماعي طالما أننا كلّنا نؤلف جسد المسيح المبارك. (فإنّ فرح أحد الأعضاء فرح معه كل الأعضاء) كما قال الرسول بولس وهذا ما نراه بوضوح في شخص العذراء الفائقة القداسة. فإنها قد امتلأت بالنعمة فأعطت الطبيعة البشرية كلها نعمة وزيّنتها بها. وبما أنها مفعمة نعمة ومطهَّرة تصلي من أجل العالم كله. وبهذا نستطيع القول إنّ السيدة الكلية القداسة تقوم بأداء رسالة دينية كبرى وتفيد الجنس البشري فائدة ناجعة.

وصمت الشيخ برهة ثم استأنف كلامه: لكنه يشعر بوحدة الطبيعة كلّها أيضاً.

– ماذا يعني هذا؟

– إنّ الطبيعة كلها تعترف به. فقد كان آدم قبل سقوطه ملكاً للخليقة كلها وكانت جميع الحيوانات تعترف به ملكاً عليها، ولكن بعد سقوطه تقطّع هذا الرباط أيضاً وبطُل الاعتراف به. وقد حلَّل نيقولا كاباسيلاس هذه الحال بوضوح بقوله: إنّ الإنسان مخلوق على صورة الله. وما هو حسب الصورة الإلهية عند آدم كان المرآة الصافية التي يضفي منها نور الله أشعته على الطبيعة. وكانت الطبيعة كلها مُنارة ما بقيت المرآة غير محطَّمة. ولكن ما كادت هذه المرآة تتحطّم (وتتفتّت) حتى أُسدل على الخليقة كلها فوراً ظلام كثيف. حينذاك ثارت الطبيعة على الإنسان وكفّت عن الاعتراف به وهي تريد ألاَّ تعطيه ثماراً. ولم يعد قادراً على اكتساب قوته إلا بالقلق والعناء. وصارت الحيوانات تخشاه وأخذتْ تعتدي عليه كثيراً.

لكنّ الإنسان حين يتقبل نعمة المسيح“في الروح القدس” تتوحّد قوى نفسه كلها، ويصير“حسب صورة الله ومتألهاً” أي أنه يصير نوراً ويُشعُّ أيضاً النعمة الإلهية على الطبيعة غير العاقلة. وفي هذه الحال تعترف به الحيوانات سيّداً لها وتخضع له وتحترمه. وهناك أحوال ليست قليلة عاش فيها الناسك- المنعزل وفي رفقته دببة وحيوانات أخرى متوحشة، يقدّم لها الطعام وهي تخدمه.

وهكذا إذا ما اكتسب النعمة الإلهية“بالصلاة”يصير من جديد ملكاً على الطبيعة حتى أنه يرتقي إلى مرتبة أعلى من المرتبة التي كانت لآدم. لأنّ آدم، كما يقول الآباء كان له ما هو حسب الصورة الإلهية وكان من الواجب عليه أن يصير حسب مثال الله “وذلك بالطاعة. فما كان متألهاً إنما كانت عنده إمكانية التأله”

أما ممارس الرياضة (الروحية) فإنه يكتسب بمساعدة النعمة الإلهية، وبقدر الإمكان، ما هو“حسب مثال الله” أي(التأله) ولكن بدون أن يدخل في الجوهر الإلهي. وهو يحوز على أفعال الله غير المخلوقة. أذكر لك على سبيل المثال حادثاً يتجلى فيه اعتراف الحيوانات مجدداً بسيادة الإنسان وخضوعها له.

فيما كان شيخي الدائم الذكر يصلي“صلاة يسوع” كانت العصافير البرّية تقف على شباك قلايته وتنقر الزجاج بمناقيرها. حتى ليظن المرء أنّ ذلك من فعل الشيطان لكي يثنيه عن الصلاة. ولكنّ الحقيقة هي أنّ العصافير البرّية كانت تجذبها صلاة الشيخ”.

– يا لك من شيخ حكيم. فلقد أرشدني إلى الكمال، إلى غاية الحياة الروحية. وبهذا يصبح المرء ملكاً…

ابتسم الناسك الشيخ ابتسامة خفيفة ثم استأنف الحديث:

– ثمة أمور أخرى أسمى وأرقى. فإنّ المجاهد بعد الجهاد الكثير الذي حدّثتك عنه منذ قليل قد ينتقل إلى حال الإنجذاب، الإنخطاف الإلهي، ويدخل أورشليم الجديدة، أرض الميعاد الجديدة.

في صلاة مساء عيد التجلّي نرنم الطروبارية التالية: “حين شَاهد متقدمو الرسل على الجبل ما لا يُطاق من انبعاث نورك وما يتعذّر الدنو منه في لاهوتك تغيَّروا إلى حال الانجذاب الإلهي”.

والانجذاب والمشاهدة مترابطان. وبقولنا الانجذاب لا نعني عدم الحركة وإنما نقصد به حضوراً إلهياً وحركة روحية. فليس هذا سكوناً وحال موت إنما حياة في الله.

يقول الآباء إنه إذا احتل النور الإلهي الإنسان خلال “الصلاة”، كفّ عن تلاوتها بشفتيه. فإنّ الفم واللسان يصمتان، ويكون القلب أيضاً صامتاً. حينذاك يحظى المجاهد بمشاهدة نور ثابور. يشاهد فعل الله، الفعل غير المخلوق، وهو كما يقول غريغوريوس بالاماس“مجد طبيعي لله وشعاع طبيعي للاهوت لا بدء له وجمال لله جوهري، وحسن يفوق الكمال”. إنه الأزلية. وهذا نور جبل ثابور الذي رآه التلاميذ، وهو ملكوت الله. إنه الأزلية. وهذا النور في رأي القديس غريغوريوس بالاماس هو “جمال الدهر الآتي ”وأقنوم الخيرات المستقبلية “وغاية الكمال في رؤية الله” و“طعام السماويين”. وأولئك الذين يصيرون مستحقين مشاهدة النور غير المخلوق هم أنبياء العهد الجديد. فكما أنّ أنبياء العهد القديم كانوا يتخطّون الزمن ويشاهدون تجسد المسيح في مجيئه الأول، هكذا يتخطى الزمن أيضاً مشاهدو هذا النور ويرون مجد المسيح في ملكوت السماوات.

وصمت الشيخ قليلاً واستنشق الهواء بعمق ثم استأنف حديثه قائلاً: حينذاك يحتل النور الإلهي كيان الإنسان كله، وينير حضور المسيح قلايته. أما هو فينعم بهذا السُّكر الصحوي، ويرى الله غير المنظور. يقول سمعان اللاهوتي الجديد“إنّ الله نور. ورؤيته هي رؤية نور”. وفي رأي بالاماس المحامي عن اللاهجين بالإلهيات “إنّ الراهب في تلك الساعة يراقب نوراً إلهياً ويا له من مشهد مقدّس مبهج!…”

ويصف مكاريوس خريسوكيفالوس هذه المشاهدة بقوله: “ما أجمل أن يكون المرءُ مجتمعاً مع المسيح؟ وهل ثمة أعظم من الإشتياق إلى مجده الإلهي؟ فإنه ليس هناك ما هو أحلى من نوره الذي يستمد منه النور كل مصاف الملائكة والبشر، فلا يوجد ما هو أحب من تلك الحياة التي نحيا فيها ونتحرك ونوجد، ولا أعذب من الجمال الحي الباقي، ولا أطرب من البهجة التي لا يُنطق بها، ولا يوجد أعظم من التوق إلى الفرح المقيم الذي لا يزول وإلى الجمال البالغ غاية الجمال، وإلى الغبطة التي لا تحد”.

هذا يعني أنّ الفرح والبهجة يكونان حينئذٍ بلا حدود. ولا يجد المرء كلاماً لوصف هذه الأحوال.

سأذكر لك كيف يصف القديس سمعان اللاهوتي الجديد هذه الحال على وجه التقريب. وأخذ الشيخ أحد الكتب ثم فتحه وقرأ ما يلي:

“إني أجلس على السرير خارج العالم. وفيما أنا في وسط قلايتي أرى الكائن خارج العالم قد حضر فأتكلم معه. وأجرؤ على القول إني أحبه وهو أيضاً يحبني وإني كل وأتغذى جيداً بالمشاهدة وحدها. وأتجاوز السماوات باتحادي به. وقد عرفتُ أنّ هذا حق، ووجوده مؤكّد. وأين يكون الجسد آنئذ؟ لست أعلم. عرفتُ أنّ من لا يُرى يصير لي مرئياً. عرفتُ أنّ المنفصل عن كل خليقة يأخذني في داخله ويُخفيني في أحضانه. فأكون حينذاك خارج كل العالم وقد وأنا أيضاً المائت، الحقير من العالم أشاهد في داخلي مبدع العالم وقد عرفتُ أني لن أموت إذ نلتُ في باطني حياة. والحياة تفيض في داخلي”.

قرأ الشيخ هذه الفقرة بشوق عميق وقد نّمتْ نبرات صوته عن شديد حماسته. ولمعت عيناه. وارتسم على وجهه فرح بعيد عن الوصف، فهزّني صوته المتهدّج والبهجة الروحية التي بدتْ عليه واغرورقت عيناي بالدمع.

وأضاف الشيخ:

-إنّ الحضور الإلهي ينير حينذاك وجه المجاهد، ويدخل مثل موسى النبي في ضباب اللامعرفة، “الضباب المتلألئ بالنور الفائق” فيحصل هكذا على المعرفة التي [لا] تنسى، وعلى العلم الإلهي الذي يعجز البيان عن التعبير عنه.

وعاد الشيخ إلى التوقّف هنيهة. وكنت أراقبه وأنا في حال انجذاب تقريباً وقد ضاق تنفُّسي وكأني أصبتُ بالربو.

– هذه الحلاوة، حلاوة النور، يشعر بها الجسد أيضاً وهو يتغيّر في هذه اللحظات.

– ماذا تعنون بهذا؟

– إنّ الجسد هو أيضاً يتقبّل، بصورة ما، النعمة التي تؤدي فعلها في العقل وينتظم معها فيتلقى شعوراً بالسرّ الذي لا يعبّر عنه، والقائم في النفس، وحينذاك “يخفّ الجسم وتدبّ فيه الحرارة بطريقة غريبة” أي أنه يشعر بحرارة غريبة نتيجة لمشاهدته النور االإلهي ومثله في هذا مثل الشمعة فهي حين تشتعل تمتد الحرارة إلى جسمها فتنار.

– لكن…اسمحوا لي هنا بسؤال قد يكون تجديفاً. لكني سأوجهه إليكم..هل هذا التغيّر الذي يحدث للجسم هو حقيقة واقعية أم مجرّد خيال أو حرارة وهمية؟

– لا، يا أبتِ، إنه حقيقة واقعية. فإنّ الجسد يشترك في كل أحوال النفس. وليس الجسد شراً. ولكنّ الذهنية الجسدية تكون شراً عندها يستعبد الجسد للشيطان. وعدا هذا فإنّ مشاهدة النور هي مشاهدة بالعينين بعد أن أجرت النعمة الإلهية فيهما تغييراً وقوَّتهما فصارتا جديرتين برؤية النور غير المخلوق، وفي الكتاب المقدّس أمثلة عديدة تدل على أنّ نعمة الله تمتد من النفس إلى الجسد أيضاً فيشعر بفعل النعمة الإلهية المحيية.

– أتستطيعون أن تذكروا لي بعضها؟

– هناك العديد من الأبيات في مزامير داود تؤيد ذلك. فمثلاً “إنّ قلبي وجسدي قد ابتهجا بالإله الحي( مز83). “وعليه اتّكل قلبي فأُعِنْتُ وأحيي جسدي” (مز27). وفي المزمور118 “ما أعذب أقوالك في حلقي، أحلى من الشهد في فمي”. وهناك حالة النبي موسى. فإنه حين نزل من سيناء حاملاً الناموس كان وجهه مضيئاً. “وكان لما نزل موسى من جبل سيناء ولَوْحا الشهادة في يده لم يعلم أنّ جلد وجهه صار يلمع فيما كان الله يتكلم معه. لكنّ هارون وجميع بني إسرائيل رأوا أنّ وجهه كان يلمع ويرسل أشعة نور، فخافوا أن يقتربوا إليه” (سفر الخروج34: 29- 3.).

وفي حالة استفانوس رئيس الشمامسة بدتْ هذه الظاهرة. فإنهم حين قادرة إلى المجمع “رأوا وجهه كأنه وجه ملاك” (أعمال 6: 5). والقديس غريغوريوس بالاماس يرى أنّ الربّ يسوع حين كان يصلي في بستان الجشمانية يعلِّم أنّ الحرارة التي أحس بها الجسد قد نشأت فقط عن الصلاة الطويلة إلى الله”.

– أطلب عفوكم يا أبتِ فإني قد أتعبتكم بسؤالي المجدّف، الدنيوي. فنحن لا نستطيع أن نفهم لأننا نعيش في “العالم”…لكن اسمحوا لي بسؤال آخر. هل يوجد اليوم رهبان يصلّون فيتغيَّرون ويشاهدون النور غير المخلوق؟

ابتسم الشيخ وقال:

– لو توقّف الروح القدس عن العمل في الكنيسة لما بقي لمشاهدي النور غير المخلوق وجود. إنّ الجبل المقدّس (آثوس) يخفي كنوزاً عظيمة. فليس الذين يحاربونه، بأي طريقة كانت، سوى أخصام وأعداء لله. كان بعض الناس في زمن القديس أثناسيوس الكبير ينكرون لاهوت السيد المسيح. وفي عهد القديس غريغوريوس بالاماس كان بعض الناس أيضاً يشكّون في ألوهية الأفعال غير المخلوقة. ونقع اليوم في الخطيئة عينها تقريباً. فنشكّ في حقيقة وجود أشخاص متألهين يشاهدون النور الإلهي. يوجد اليوم رهبان مقدَّسون هم آلهة بحسب النعمة. ويعود الفضل في بقاء الأرض إلى هؤلاء النساك المتألهين. فإنهم ينيرون الأرض الحالية التي أناخت عليها الظلمة بسبب الخطيئة.

– لي سؤال آخر قد بكون صادراً عن عدم تمييز. هل شاهدتَ النور الإلهي أنت أيها الشيخ بالذات؟

ليسمحْ لي قارئ هذا البحث الصغير ألا أصف هذا الموقف المؤثر وما قيل فيه. وقد أردتُ إخفاءه وراء ستار من الصمت. ولعله يعذرني…

توقّف الشيخ طويلاً عن الكلام فساد السكون. إلاَّ أني عدتُ بعد قليل إلى إزعاج الناسك في صمته. فقد كان ذلك ضرورياً لأنّ الوقت ضيق وأنا محتاج إلى المزيد من العلم وقد أردتُ استغلال هذا الأب الشيخ الرائي والإفادة منه بقدر المستطاع، فقلت:

– أسألكم يا أبتِ من جديد أن تغفروا لي، لقد قلتم إنه لا يزال حتى الآن في الجبل المقدّس (آثوس) رهبان يشاهدون النور غير المخلوق. وأعتقد أنّ الراهب نفسه لا بد أن يشاهده مرات عديدة. فهل يكون لمعان هذا النور هو عينه كل مرة يُشاهد فيها؟

– يمكننا القول بوجود نور روحيّ، ونور يراه المرء بعينيه الطبيعيتين بعد أن يحدث فيهما تغيير ويُعَدَّا لرؤيته.

 والنور الروحي هو الوصايا، ويتلقاه من يحفظها. “يا ربّ إنّ شريعتك سراج لرجليّ ونور لسبلي”..إنّ وصايا المسيح هي “كلام حياة أبدية” وليست مجرد أوامر خليقة خارجية. والفضائل التي تكتسب في محاولة المرء تطبيق وصايا المسيح هي أنوار. والإيمان نور شأنه شأن الرجاء والمحبة. والله هو النور الحقيقي و“نور العالم”. واسم الله هو المحبة أيضاً. “إنّ الله محبة”. لهذا نقول إنّ المحبة نور أسطع من سائر الفضائل. والتوبة أيضاً هي نور يضيء في نفس الإنسان ويقوده إلى جرن المعمودية الثانية حيث يُطهّر الشلاَّل الروحي الأعين.

إنّ هذا النور يتمتع به جميع المسيحيين الذين يجاهدون “الجهاد الحسن” وبخاصة من ابتغى التطهُّر من الأهواء. وذلك طبعاً يكون بقدر ما يبذل كل واحد منهم من جهد في هذا السبيل.

ويقول القديس غريغوريوس اللاهوتي “حيث يكون التطهّر فهناك الاستنارة الساطعة والثانية لا تُعطى بدون الأولى”. وبهذا المعنى ينبغي تفسير قول القديس سمعان اللاهوتي الجديد: ما لم ير الإنسان النور(الإلهي) في الحياة الحاضرة فلن يراه في الحياة الأخرى. وقد يحدث أحياناً أن يؤهَّل البعض – بسبب ما يتحلّون به من من نقاوة بالغة وما يظهرون من شديد المجاهدة بالإضافة إلى سبب آخر هو رضى الله بنوع أخصّ – لرؤية النور(الإلهي) بأعينهم الطبيعية، كما رآه تلاميذ السيد المسيح الثلاثة على جبل ثابور. وهنا يوجد فارق. فإنهم عند رؤيتهم النور للمرة الأولى يشاهدونه “نوراً عظيماً يشيع الفرح في كل شيء داخلهم. غير أنهم في الواقع لا يرون سوى نور خافت. إنما يعتبرونه كما قلت “نوراً عظيماً” إذا ما قيس بالظلمات التي كانوا فيها سابقاً. لكنّ المجاهد يرى النور في المرة الثانية أكثر حيوية لأنه يكون قد توافق وتلاءم مع المشاهدة. وهو بقدر ما يزداد اقتراباً من الجوهر الإلهي تشتد رؤية لما هو غير مرئي من الطبيعة الإلهية وهو ما يسميه الآباء “الضباب”ذا النور الأسمى”.

– لم افهم الكثير مما قلتم.

– سأساعد على الفهم بذكر حال النبي موسى مشاهد الله كما يعرضها القديس غريغوريوس أسقف نيصص.

“إنّ موسى النبي عندها دعاه الله على جبل حوريب ليقود الشعب إلى أرض الميعاد، رأى في البدء النور في شكل العليّقة الملتهبة. أما في المرة الثانية، فقد دعاه الله ليدخل في الضباب ويقابله هناك. فالنور أوّلاً ثم الضباب.

ويعلّق القديس غريغوريوس على هذا قائلاً إنّ الإنسان يرى في البدء النور(الإلهي) لأنه كان يعيش قبلاً في الظلمات. لكنه كلما زاد اقتراباً من الجوهر الإلهي مع مرور الزمن زادت رؤية للغمام (بطريقة غير مرئية) وهو ما تتعذَّر رؤية في الجوهر الإلهي. سأقرأ لك نص الأب القديس غريغوريوس بكامله:

“ماذا يعني دخول موسى الغمام ليرى – وهو في هذه الحال – الله فيه؟ وما يرد ذكره الآن يبدو أنه نقيض للظهور الإلهي الأول. فإنّ اللاهوت قد ظهر هناك في نور. أما الآن ففي غمام. نعتقد بأنّ هذا ينسجم والأمور الواقعة تحت نظرنا في تدرّجها الصاعد. ويعلمنا كلام الله بهذه الأمور أنّ معرفة التقوى تصير نوراً في الحال الأولى عند من يكونون فيها. لأنّ ما يُفهم أنه مخالف للتقوى فهو ظلام. والابتعاد عن الظلام يتم بالتمتّع بالنور والبقاء فيه. وإذا تقدّم العقل وصار، بواسطة انتباه أعظم وأكمل ومتزايد على الدوام، قادراً على الاستيعاب العميق للإدراك بحق، زادت رؤية لما هو غير قابل للمشاهدة في الجوهر، وذلك كلما زاد اقتراباً منه بالمشاهدة لأنه يترك كلّ هو ظاهر، لا كلّ ما يدركه الإحساس وحسب، بل ما يظن العقل أنه يراه أيضاً. وهو يتّجه دوماً إلى التعمّق في الباطن إلى ما هو أبعد، حتى يصل بخبرة الذهن الكبيرة إلى ما لا يمكن رؤية ولا إدراكه وهناك يرى الله. وفي هذا يكون الخبر الحق المطلوب رؤية ما هو هذا، في عدم الرؤية لأنّ المطلوب يفوق كل خبر، وكأنه ضباب محاط بعدم الإدراك من كل جانب”.

وأضاف قائلاً:

– هذا ما يحدث عادة. الإنسان يتقدّم من مشاهدة نور ضئيل خافت إلى مشاهدة نور(كبير) أسطع، إلى أن يصل الضباب ذي النور الذي يفوق النور، كما يصفه القديس غريغوريوس. ولكي نفهم هذه الجملة ذكرتُ فهما أرثوذكسياً يلزمنا معرفة التعليم الآبائي عن رؤية الضباب ذي النور الفائق الأسمى من النور”. إنّ الله في نظر الآباء القديسين يظهر دائماً كنور ولا يظهر البتة كضباب. غير أنه حين يكون عقل الناسك المجاهد الرائي في حال مشاهدة يرغب في الدخول إلى الجوهر الإلهي أيضاً فيقابل ما يتعذر التغلغل فيه أي الغمام الإلهي ذا النور الأسمى من النور. فالغمام بناء على ما تقدّم ليس ظهور الله كغمام. ولكن هناك عجز الإنسان عن رؤية جوهر الله “لأنّ الله نور لا يدنى منه”. أي أنّ الغمام الإلهي هو نور وكنه نور لا يراه الإنسان ولا يدنو منه. إنّ الله نور. لقد قال “أنا نور العالم” ولم يقل أنا ضباب العالم. وكما يقول القديس ديونيسيوس الأريوباغي “إنّ الضباب الإلهي هو النور الذي لا يدنى منه ويقال إنّ الله يسكن فيه. وهو يظل غير منظور بسبب سطوعه الفائق. ولا يدنى منه أيضاً بسبب انبعاث نوره المفرط الفائق الجوهر. وكل من يصير مستأهلاً لأنّ يعرف الله ويراه يصل فيه إلى حال لا يرى فيها ولا يعرف…”!

بهذا المعنى إذاً نقول إنّ الضباب هو ما بعد النور لكنّ الآباء كثيراً ما يتحدثون عن الدخول إلى الضباب الإلهي وإلى رؤية إلهية للضباب ذي النور الأسمى. نذكر على سبيل المثال ما قاله القديس غريغوريوس أسقف نيصص عن أخيه القديس باسيليوس الكبير قائلاً: “إننا كثيراً ما عرفنا أنه كان يصل إلى داخل الضباب، حيث كان الله”. لكنّ الآباء لا يقصدون بهذا، الدخول إلى الجوهر الإلهي، وإنما يريدون به أن ينبهوا إلى تفوّق النور غير المخلوق إزاء “نور المعرفة الطبيعيَّة”. فإنّ التعليم الأرثوذكسي يقول إنّ البشر يشاركون في التمتع بأفعال الله غير المخلوقة وليس بجوهره الإلهي. قال الرسول بولس“..ملك الملوك وربُّ الأرباب، الذي وحده له عدم الموت ساكناً في نور لا يدنى منه. الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه…” (تيمو6: 15).

نخلص إلى القول يا أبتِ إنّ الضباب ذا النور الأسمى هو في نظر الآباء نور الجوهر الإلهي الذي لا يُدنى منه. وعندها يتحدثون أيضاً عن قيمة رؤية النور الأسمى للضباب لا يريدون التعبيرعن قيمة الضباب إزاء مشاهدة النور غير المخلوق بل قيمته إزاء نور المعرفة الطبيعية وهي المعرفة العقلية.

– لي سؤال يا أبتِ، هل يتابع الإنسان صلاته متى شاهد النور؟

– لا. يمكننا أن نسمي الصلاة حينذاك صلاة متحوّلة على مشاهدة. فإن الإنسان يشاهد المسيح، وحضوره الإلهي يبهجه. وعندها تستمر الصلاة ولكن بدون كلام. يقول القديس إسحق: إذا كانت الصلاة هي البذار، فإنّ الانجذاب حصادها. وكما يذهل الحصادون إذا رأوا البذرة الصغيرة قد أتت بجني كثير، يذهل النساك من أصحاب الرؤية الإلهية حين يرون حصاد “الصلاة”. فإنه وليد الصلاة. والعقل على حد قول القديس إسحق أيضاً، لا يصلّي آنذاك أي صلاة وإنما يصل إلى حال انجذاب في الأمور غير المدركة. وهذه هي جهل أسمى من المعرفة وهي أيضاً “السكون السرّي”.المحجوب وخرس الروح. يُسمى الآباء القديسون هذه الحال صلاة لأنها العطية الكبرى التي تُعطى إبَّان الصلاة وتُمنح للقديسين. لكنّ الإنسان يجهل اسمها الحقيقي لأنه يكفّ حينذاك عن الصلاة ويرتفع فوق الأقوال والمعاني. لهذا يسمي كثير من الآباء هذه الحال أسباتاً إلهياً أو أسبات العقل. بمعنى أنه كما كان العبرانيون قد أمروا أن يستريحوا يوم السبت، هكذا هي هذه الحال الروحية. فهي سبتُ نفس إذ تهدأ وتستريح من كل الأعمال.

يقول القديس مكسيموس: “إنّ سبت السبوت هو هدوء روحي للنفس العاقلة، يسترد العقل من كلّ شيء، حتى من الأقوال الأكثر إلهية أيضاً ويوجهه بكامله نحو الله وحده في حال انجذاب عشقي، ويجعله ثابتاً في الله وغير متزعزع، وذلك بواسطة العلم الإلهي السرّي..!” والمرء في هذه اللحظة لا يفعل شيئاً غير البكاء إنه يذرف الدمع هتوناً لا بسبب شعوره بالخطيئة التي كانت تدفعه على البكاء ندماً في البدء وإنما بسبب مشاهدته فعل الله، غير المخلوق. إنه يذرف الآن الدموع، دموعاً مبهجة، تفعم النفس فرحا، دموعاً إلهية، مسرّة. إنها دموع من غير ألم ودموع مرضية للنفس، تندّي القلب وتعزيه. أجل إنها دموع تملأ العينين وتخدش الوجه وتكوّن أنهاراً وقنوات ويكون المرء حينذاك في حال انخطاف. وهو لا يعلم هل هذا الإنخطاف في الجسد أم خارج الجسد وتفعم النفس والجسد بفرح يعجز اللسان عن وصفه.

ويشرح القديس غريغوريوس بالاماس فقرة من كلام القديس غريغوريوس الأريوباغي فيقول إنّ عاشق العيش مع الله حين يفكّ النفس من كل رباط، ويعقد العقل بالصلاة المتواصلة، يرتفع صاعداً إلى السماوات صعوداً لا ينطق به، ويرقى بالسكينة والصمت عن الكلام فوق الأشياء المخلوقة كلها. “…. يربط العقل بالصلاة إلى الله، صلاة غير منقطعة، ومتى وصل بكل ذاته، بواسطة “الصلاة”، إلى صعود جديد – لا يُنطق به – إلى السماوات، يجد ما يمكن أن يسمّى بالضباب أي ضباب السكون السرّي الخفيّ، فيرتقي فوق كل المخلوقات مركزاً عليه انتباه العقل على وجه التدقيق، بلذة لا يُنطق بها، وفي فاء كليّ، غاية في البساطة والحلاوة، وسكون وصمت عن الكلام”.

حينذاك تصبح الأمور الأرضية كلها كالرماد والزبر، وكأنها نفايات. فلا يعود المرءيشعر باضطراب الهوى، بل ينسى حياته ذاتها، ذلك لأنّ محبة الله أحلى من الحياة ومعرفة الله أعذب من أيّ معرفة أخرى.

فيا له من مهد جميل مقدّس.

يا لها من سرمدية إلهية!

يا له من صفاء عذب!

ويا لها من محبة إلهية!

– أيها الشيخ: أرجو منك أن تكفّ عن الكلام… فلقد أصابني دوار شديد، وإني لأشعر بالإجهاد. وما عدت أستطيع تتبُّع صعودك..إني لا أحتمل….

اقترب مني الشيخ، وأمسك بيدي، وقال لي بصوت ملؤه الحنان غني أفهمك…ولكنك أنت طلبت أن أمضي متقدّماً في الكلام…وهاأنذا قد تكلّمتُ.!.إني أفهم صرختك، طالما أننا نحن أيضاً بعد مشاهدة النور نكون في غاية الإعياء، منهارين تماماً…حين تأتي النعمة تبدو كأنها تحمل سوطاً تجلد به جسدناً الفاني. وإنها لثقل لا يتحمّله جسدنا الضعيف. لهذا يركع ثم يعود تدريجاً إلى حاله الطبيعية.

أعترف بأني كثيراً ما كنتُ أشعر بعد خدمة القداس الإلهي بالانهيار وبالحاجة الماسة إلى الراحة، وحينذاك فقط يبدأ الجسم في استرداد قواه تدريجاً وهو أشبه بعشب تدوسه بقدمك فينحني، ثم لا يلبث أن يعود فيرتفع شيئاً فشيئاً إلى حاله السابقة ولو كنا رأينا النعمة الإلهية بكاملها لمتنا! إلاَّ أنّ محبة الله تدبّر الأمور كلها!.

سكتنا وتوقفنا عن الكلام.. وكان الصمت يلف أرجاء المنطقة، فلا يقطعه سوى صوت أحد المريدين بين وقت وآخر وهو يردد بشفتيه صلاة يسوع، في حديقة هذا الكوخ فيما كان يكنس الأرض. وكنت أتنفَّس بعمق. وكان قلبي ريع النبض حتى ليكاد أن ينفجر…واستولت عليَّ حّمى، فقد اقتربتُ من قدس أقداس الثيولوجيا السّرية..من الأقداس التي لا يقترب منها غير المكرَّسين (المطّلعين على السر).

وهناك من بعيد، في البحر، كان قرص الشمس قد غاص في الماء فبدا البحر من الكوخ موشَّى بالذهب. ورأيتُ من شباك القلاية الكبير قطيعاً من الدلفين يلهو قافزاً فوق سطح الماء المذهّب وغائصاً فيه (وظهور الدلفين في البحر بالقرب من جبل آثوس أمر عادي). قلت في نفسي إنّ هؤلاء الرهبان عشاق السماء أشبه بالدلفين، فإنهم يعيشون غائصين في ماء النعمة، ولا يخرجون منها لاَّ قليلاً، لكي يشعرونا بوجودها وحسب، ثم يعودون إلى الغوص من جديد إلى “مشاهدة” الله.

كان القديس سمعان المستنير بالله يعيش داخل نور ثابور غير المخلوق، لذلك يغبط عشاق الله قائلاً “طوبى للذين اتشحوا الآن بنوره، لأنهم قد تسربلوا ثوب العرس، الذين لن يُقَّيدوا بأيديهم أو بأرجلهم ولن يطرحوا في النار الأبدية…

“ طوبى للذين أضاءوا من الآن النور في قلبهم وحافظوا عليه بلا انطفاء، فإنهم عند الخروج من الحياة سيستقبلون العريس فرحين، ويدخلون معه على العرس حاملين المصابيح…

“طوبى للذين دنوا من النور الإلهي وولجوا إلى داخله فصاروا بكاملهم نوراً وتلاحموا به لأنهم خلعوا الثوب البالي كلّياَ ولن يذرفوا فيما بعد دموعاً مُرَّة … “طوبى لذلك الراهب الذي يمثل أمام الله في “الصلاة”، فيرى الله ويراه الله ويشعر بأنه قد أمسى خارج العالم، وأنه كائن في الله وحده، ولا يستطيع أن يعلم هل حدث هذا بالجسد أم خارج الجسد، لأنه سيسمع كلمات لا يُنطق بها وليس في قدرة إنسان أن يتحدّث عنها، وسيرى ما لم تره عين، ولا سمعتْ به أذن، ولا خطر على قلب إنساني لحمي…

“طوبى لمن شاهد نور العالم متَّخذاً شكلاً في ذاته.لأنه سيعتبر أُماً للمسيح بما أنه يكون حائزاً على المسيح كجنين. وقد أعلن الرب نفسه هذا وهو لا يكذب”.

لقد كنتُ حقاً إلى جانب جبل ملتهب، إلى جانب راهب كان يعيش واقع الحياة السماوية بداء من هذه الحياة الأرضية. وفي الخارج ساد سكون في الطبيعة، أما نفسي فقد غمرها الهدوء. إنّ الله… الفردوس… خارج الزمن أيضاً. وهو قريب منّا جداً. إنه داخلنا، يقطع الزمن والتاريخ.

قال…. لنتوقّفْ عن الحديث… هلمَ بنا نقضِ بعض الوقت خارجاً…

قلت: لا… لا… إني أريد أن أتعلَّم أموراً أخرى. فقد قلتم إنّ“ الصلاة” علم، جامعة بكاملها. وإني لأرغب رغبة ملحة أن تجعلوني في هذا المساء عالماً!!.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى