في عصرنا هذا، عصر الانحطاط الروحي، وحدها أمثلة الرجال والنساء البطولية قادرة على إشعال الحماس لعيش عيشة إلهية بحسب الوصايا المقدسة. لذلك، من الأساسي المحافظة على صورتهم التي تظهر حياتهم المرضية لله وتنشر رسالتهم التي تضيء ببساطةِ المسيح وتأتي إلى أيامنا الحاضرة محفوظة في الوعي الكنسي الأرثوذكسي. لقد عكسوا قداسته وأرضوه انسجاماً مع وصيته: “كونوا قديسين كما أنا قدوس”. لقد جعلهم أصدقاءه وأنعم عليهم بقوة لا يلاشيها موتهم الأرضي. إن قديسي الله المعلَنين وغير المعلَنين هم أحياء فيه، ويلعبون دوراً في حياتنا نحن الذين ما زلنا على الأرض، عندما نتذكرهم ونتضرع إليهم.
دعونا نتباشر سريعاً نحو مقدَسي الله لنكون أصدقاءهم فنجد اتصالاً حياً بهم، خاصةً عندما نتذكرهم في صلواتنا ونلتمس صلواتهم، فينيروننا عندما يرون التماسنا ويوجهون حياتنا بعيداً عن هذا العالم الغارق في الشر. ليكن للعالم أبطاله العميان، الذين يضمحل مجدهم الذي لا يستطيع أن يمنح شيئاً يبقى للإنسانية. حتى في هذه الأزمنة الأخيرة، نحن لدينا أبطالنا الذين يتلألأون بمجد لا يزول ويقودون أرواحنا إلى الفردوس. (الراهب سيرافيم)
“وقال لي تكفيك نعمتي، قوتي في الضعف تكمل” (2كورنثوس 29:1).
ما يلي قد رواه الأسقف استفانوس (نيكيتين):
في الثلاثينيات سُجنت في أحد المعتَقَلات، وكنت حينها طبيباً. وفي المعتَقَل عُهِدت إلي مسؤولية العيادة. كان معظم السجناء في حالة خطيرة مما حطّم قلبي، وقد أعفيت العديد منهم من العمل لإعطائهم على الأقل بعض الراحة، أمّا مَن هم أكثر ضعفاً فقد كنت أرسلهم إلى المستشفى.
في أحد الأيام، عندما كنت أعاني من المرض، قالت لي الممرضة التي تعمل معي، وهي أيضاً سجينة في المعتَقَل: “دكتور، لقد علمتُ أن إنذاراً أعطي لك. أنت متهم بإفراطك في التساهل مع السجناء، وأنت مهدد بإطالة مدة اعتقالك 15 سنة”. كانت الممرضة واسعة الاطلاع وتعلم ما يجرى في المعتقل، لذا كان لدي سبب كافٍ لأجزع من كلماتها. لقد كنت محكوماً بثلاث سنوات كانت على وشك الانقضاء. كنتُ أحصي الأشهر والأسابيع التي تفصلني عن حريتي التي طال انتظارها، وفجأةً 15 سنة!
لم أستطع النوم طوال الليل، وعندما ذهبتُ إلى العمل في الصباح، هزّت الممرضة رأسها بحزن عندما رأت ما كان مرتسماً على وجهي. بعد انتهائنا من المعاينات، قالت بتردد: “أرغب يا دكتور بإعطائك بعض النصح، لكنني أخشى أنك سوف تضحك مني”. “أخبريني”، قلت.
في بانزا (Penza)، المدينة حيث ترعرعت، عاشت امرأة تدعى ماطرونوشكا، أعطاها الله موهبة خاصةً في الصلاة. إذا صلّت لأحدهم، تكون صلاتها مستجابة دائماً. يقصدها العديد من الناس لمساعدتهم وهي لا ترفض أحداً. لماذا لا تطلب منها مساعدتك؟”
فضحكتُ بحزن وأجبتُ: “خلال الوقت الذي تستغرقه رسالتي لتصل إليها، يكونون قد حكموا عليّ بـ15 سنة”. فقالت الممرضة ببعض الارتباك: “لكن ليس من الضروري أن تكتب لها. فقط نادِها من هنا”. “أنادي! من هنا؟” سألتها وأضفت: “إنها تعيش على بعد مئات الكيلومترات”. فأجابت: “علمتُ أنك ستضحك مني لقولي هذا، لكنها تستطيع سماعك من أي مكان. افعل هذا عندما تخرج لتتمشى في المساء، تأخّر عن الباقين قليلاً ونادِ بصوت عالٍ لثلاث مرات: ماطرونوشكا، ساعديني، أنا في مشكلة. وستسمعك وتستجيب”.
رغم ما كان يبدو ذلك غريباً، تقريباً مثل السحر، عندما خرجت لأتمشى في المساء فعلتُ كما قالت لي صديقتي. مر يوم فأسبوع فشهر… ولم يستدعِني أحد إلى المحكمة. فقد أُجريَت تغييرات في إدارة المعتَقَل إذ نُقل أحدهم، وأُسندَت المسؤولية إلى آخر. نصف سنة أخرى مرت، ثم جاء نهار إطلاق سراحي من المعتَقَل. عندما تسلمت ملفي في مكتب القائد، طلبتُ إرسالي باتجاه المدينة حيث تعيش مطرونة، لأنني وعدتُ قبل ندائي لها بأنني إذا ساعدتني سوف أذكرها في صلاتي اليومية، وفور إطلاق صلاحي سأتوجه مباشرة لأشكرها.
عند استلامي مستنداتي، سمعت أن آخرَين أُطلق سراحهما أيضاً، وهما مسافران إلى المدينة نفسها التي أقصد. انضممت إليهما ومضينا سوية. خلال سفرنا سألتهما إذا كانا بالصدفة يعرفان ماطرونوشكا.
“نحن نعرفها جيداً، الكل يعرفها في المدينة أو حولها على مسافة أميال. سوف نأخذك إليها إذا رغبت، لكننا نعيش في الريف، لا في المدينة، ونحن مشتاقان للعودة إلى بيتنا. لكن افعل ما نقوله بالضبط: عندما تصل إلى المدينة، اسأل أول شخص تصادفه عن مكان سكن مطرونة وهو سيرشدك”.
عند وصولي، فعلت تماماً كما قال لي زميليّ. سألت أول صبي صادفته فأجاب: “اتبعْ هذا الشارع رقم 9، ثم انعطفْ في الزقاق قرب مكتب البريد. إن مطرونة تعيش في ثالث منزل”.
كنت أرتعش من الحماس، صعدت إلى المنزل وكنت على وشك قرع الباب، لكنه لم يكن مقفلاً وقد انفتح بسهولة. وقفتُ على العتبة مشرفاً على الغرفة شبه الفارغة حيث تقوم في وسطها طاولة عليها صندوق كبير.
“هل أستطيع الدخول؟”، سألت بصوت مرتفع. فجاء صوت من الصندوق “ادخل ساريوزيلا” (ساريوزيلا هو اسم راوي القصة). دخلت متردداً، جافلاً من الاستقبال غير المتوقع، وتوجهت نحو الصوت، ولما نظرت داخل الصندوق وجدت امرأة صغيرة مضطجعة بلا حركة. كانت عمياء ولديها فقط يدين ورجلين غير مكتملة. كان وجهها لامعاً وبسيطاً وكريماً. بعد إلقاء التحية سألتها: “كيف تعرفين اسمي؟”. فجاء صوتها ضعيفاً لكنه واضح: “ولماذا لا أعرفه؟ لقد ناديتَني وقد صليتُ إلى الله من أجلك، هكذا عرفتُ اجلس وكن ضيفي”.
مكثت لدى ماطرونوشكا طويلاً. أخبرتني بأنها أُصيبت بمرض في صغرها مما أعاق نموها وأقعدها. في عمر السنتين فقدت بصرها بسبب الجدري. كانت أسرتها فقيرة وكانت أمها، في طريقها إلى العمل، تضجعها في صندوق وتأخذها إلى الكنيسة. كانت تضع الصندوق على أحد المقاعد وتتركها حتى المساء. في صندوقها، كانت الفتاة تصغي إلى كل الخدم الكنسية. كان الكاهن يعتني بها متعطفاً عليها. ثم أصبح أبناء الرعية أيضاً يرثون لها، فكانوا يجلبون القليل من الطعام أو شيئاً لتلبس. كان البعض يداعبها أو يساعدها للاستلقاء براحة أكثر. وقد كبرت على هذه الحال محاطة بجو من الروحانية العميقة والصلاة.
ثم تحدثنا عن غاية الحياة وعن الله. عندما أصغيتُ إليها صدمتني الحكمة في آرائها وبصيرتها الروحية. عند مغادرتي قالت: “عندما تنتصب أمام عرش السيد، اذكر أمةَ الله مطرونة”. حينها لم يكن يخطر ببالي أني سوف أصبح أسقفاً حتى أنني لم أكن بعد كاهناً. أما عنها فقالت بأنها ستموت في السجن.
عندما كنتُ جالساً بقربها، أدركتُ أنني لم أكن أمام امرأة مريضة، بل أمام شخص كبير في عيني الرب. كان أمراً معزياً ومفرحاً أن أبقى معها حتى أنني كرهت الرحيل، ووطدتُ نفسي على زيارتها مرة أخرى حالما أستطع. لكن هذا لم يحدث، إذ سرعان ما سيقت ماطرونوشكا إلى السجن في موسكو حيث قضت هناك.
أيتها القديسة مطرونة الشهيدة الجديدة، تشفعي بنا على الله.
نقلها عن الإنكليزية بتصرف الأب أثناسيوس بركات
تُعيد لها الكنيسة في 19 نيسان (2 أيار بحسب التقويم الشرقي القديم)