هو أحد أنبياء الرجوع من المنفى. يعني اسمه رسولاً او ملاكاً، وقد استعاره النبي نفسه، كما هو مقبول، من كتابه ذاته 3 :1، ولعلّ هذا ما توحي به خدمة عيده في 3 كانون الثاني، إذ تجعلنا نخاطبه قائلين: “قد اتخذت لقب ملاك”.
حدّد العلماء تاريخ هذه النبوءة ما بين العامين 480 و460 ق.م.، وذلك أن مضمونها يوحي بأن الشعب الذي عاد من منفاه قد أعاد بناء الهيكل، وهو يمارس، منذ زمن بعيد، العبادة فيه (1 :10 ،3 :1و10؛ عزرا 6: 15).
وواقع الحال ان النبيين حجّاي وزكريا كانا قد أنعشا الشعب بوعده بالخير إن بُني الهيكل، غير أن ظروفاً قاسية أخّرت تحقيق الوعد، فوهنت عزيمة الناس وبرد إيمانهم فسقطوا في خطيئة عدم المبالاة حيال كلمة الله، وظنّوا أن الأنبياء جميعهم مخادعون، وعادوا الى خطاياهم الأولى (ازدروا الطقوس، أهمل كهنتهم الوعظ، مارسوا الرشوة، طلّقوا زوجاتهم وتزوّجوا بوثنيات…) التي جعلت الله يعاقبهم عليها بالسبي (لا يبدو أن ملاخي عرف الإصلاح الكبير الذي قام به عزرا في العام 440 ق.م.، لا سيّما منع زواج اليهودي من نساء أجنبيّات…، مما يؤكد تاريخ النبوءة الذي ذكرناه آنفاً).
في هذا الجوّ الملوّث بالخيانة، أطلق ملاخي صوته بقوّة، فوضع الكهنة والعلمانيين طرّا أمام مسؤولياتهم تجاه الرب والقريب. تتألف نبوءته من ست خطب (1: 2-5، 1 :6- 2: 9 ،2 :10-16 ،2: 17-3: 5، 3: 6-12، 3: 13-21)، وتظهر بمظهر حوار بين الله وشعبه، هي صدى للمجادلات التي أجراها النبي مع شعب مخادع يحبّ النقاش والمراوغة: قال الربّ: “إني أحبّكم”، وهم يقولون: “بما أحببتنا؟”… وتتكرّر هذه اللازمة ثماني مرّات في الكتاب.
أعلن ملاخي، في بدء نبوءته، أن الله يحبّ شعبه المشكّك الذي أعماه القحط وضيق المناهضين عن رؤية هذه المحبّة. فقدّم لهم علامة لحبّه، إذ دعاهم، وهو يردّ على أول أسئلتهم، إلى أن ينظروا الى أعدائهم أمّة أدوم (أولاد عيسو أخي يعقوب) الذين كانوا قبلاً يشنّون غزواتهم على أرض فلسطين من معاقلهم الصخرية التي بنوها في الجنوب الشرقي من البحر الميت (البتراء حاليا). هذه الأمّة التي “غضب الربّ عليها للأبد” سلّمت الى أيدي البابليين (غزا أدوم يهوذا في ما كان البابليون ينهبون أورشليم بعد حصارها في العام 587)، ولن تقوم لهم بعد قائمة، حتى ترى عيون الشعب ويقول: إن “الربّ عظيم إلى ما وراء أرض إسرائيل” (1 :5). هذا الجواب المفرح جعل النبي يعود الى الشعب ليذكّرهم – بعد أن استمال آذانهم بما يرضيهم – ببعض ما أثموا هم به. فابتدأ يسألهم عن كرامة الله ومهابته التي احتقروها (1: 6)، وذلك أنهم يقرّبون له ذبائح رديئة (عمياء، عرجاء، سقيمة ومسروقة) لا تليق بقداسته (1: 7-14؛ راجع: لاويين 22؛ تثنية 15، 17). ثم يقابل ملاخي بين تقدمات يهود إسرائيل المزدرين وبين يهود الشتات الذين يقرّبون لاسم الله بخوراً “وتقدمة طاهرة” (1: 11؛ لعلّه يتكلّم، في هذا الموضع، عن تقدمات الوثنيين)، ليبين عدم رضى الرب الذي يبتغي دائما عبادة متجددة (رأى الآباء، في هذه الآية، إعلانا لعبادة العهد الجديد التي ستعم المسكونة كلها).
في الإصحاح الثاني ينقل النبي وصية قاسية الى كهنة إسرائيل الذين انحرفوا وأضلّوا الناس، يقول: “إن لم تسمعوا ولم تجعلوا في قلوبكم أن تؤدوا مجداً لاسمي، يقول الرب، أُرسل عليكم اللعنة وألعن بركاتكم” (1-4)، ويقصد بالبركات الخيرات المادية التي كانت من نصيب اللاويين الذين عهد اليهم بتعليم الحق ليكونوا قدوة ويردوا “كثيرين عن الاثم”، وذلك لأن “شفتي الكاهن تحفظان المعرفة، ومن فمه يطلبون التعليم” (6 و7). ويكشف أن انحراف الكهنة سيخزيهم ويجعلهم “أدنياء عند جميع الشعب” (8و9). ثم يتابع ملاخي نضاله فيحذر اليهود (كهنة، لاويين، رؤساء وعامة) الذين أهملوا قدسية الزواج (10-15)، من مصاهرة الوثنيين الأمر الذي تحذر منه الشريعة خوفا من السقوط في عبادة “إله غريب” (11؛ تثنية 7: 1-5). مما يدل على ان هذه المصاهرة – التي كان لها الأثر الكبير في انحطاط الأمة وانهيارها على عهد الملوك – قد تفاقمت بعد العودة من السبي. ثم يوبخهم على طلاق زوجاتهم وعلى ابدالهن بشابات أجنبيات، فيبيّن أن الله معني بمثل هذه الأمور، وهو يعاقب عليها، لأنه يطلب “صيانة الروح وعدم الغدر” ليس فقط بعلاقتهم به وإنما بالقريب ايضا (14-16).
أوضح من تكلّم في العهد القديم عن مجيء ملاك “يعد الطريق” أمام الله هو ملاخي (3: 1). فالله آت، وهو يذكر المخادعين بالرجوع اليه، وذلك أنه آت لينقي شعبه ويمحصه ويدين الخطأة الذين لا يكفون عن الاحتيال على جباية ضريبة الهيكل، لهؤلاء يقول الله: “هاتوا جميع العشور الى بيت الخزانة ليكون في بيتي طعام (يأكله اللاويون والكهنة)” (3: 1-10). ثم يعدهم بازدهار البلاد إذا فهموا أن خيراتهم هي من الله (3: 11-12) وهو يفيض بها على الذين يتقونه ويفتكرون باسمه (16-18).
في الختام، يقدم ملاخي حلا يستوحيه من نهاية الأزمنة (19-20)، فالله آت ليسوي أموره إلى الأبد، وسيحرق المتكبرين “حتى لا يبقى لهم أصل ولا غصن”، وأما الذين يتقونه ويكرمونه فسيتنعمون، في ذلك اليوم، بأشعة نوره، وسيعطيهم “الشفاء”. ثم يذكر النبي سامعيه بشريعة الله التي أعطيت في حوريب (سيناء) “فرائض وأحكاما” (22). هذه النظرة الى الوراء هي أفضل حل لترقب ما سيفعله الله في المستقبل إذا ما “أرسل إيليا النبي قبل أن يأتي يوم الرب” (23) ليعلن قدوم المسيح ممهدا له الطريق (24)؛ راجع: متى 11 :14؛ 71،10-13؛ مرقس 9: 11-13).
تُعيد له الكنيسة في 3 كانون الثاني.
قنداق باللحن الرابع
لما اغتنيتَ بموهبةِ النبوءةَ أيها النبي، سبقتَ فتنبَّأتَ علانيةً عن خلاص العالم، وعن حضور المسيح، الذي بإشراقهِ استنار العالم قاطبةً.