تاريخ الصلب – اليوم والشهر والسنة

أيقونة صلب المسيح

أيقونة صلب المسيح التجسد والصلب والقيامة أهم ثلاثة حوادث في حياة الرب يسوع له المجد على الأرض وفي التاريخ الخلاصي. لهذا من الطبيعي أن يسارع الناس إلى تحديد تأريخ هذه الحوادث الخلاصية. في هذه الدراسة المختصرة سنناقش تاريخ الصلب: يوم الصلب وساعته، تاريخه من الشهر والسنة. هذه المناقشة تتناول تاريخ العشاء الأخير ومعناه، لأن تاريخ الصلب مرتبط بتاريخ العشاء الأخير. لقد وضعنا هذه الدراسة في الجزء الثالث من شرح متى بسبب ضيق المجال في الجزء الرابع.

كان للعشاء الأخير للرب يسوع مع تلاميذه، قبل الصلب بساعات أهمية خاصة جداً. ففيه أسس الرب سرّ الشكر (أو الافخارستيا باليونانية) وهو السر الذي ستمارسه الكنيسة حتى يوم الملكوت. في هذا العشاء احتفل الرب يسوع بالفصح اليهودي احتفالاً خاصاً به من حيث التوقيت والشكل وألغاه ليؤسس في الوقت نفسه فصحه هو، الفصح المسيحي، الذي كان يسوع فيه هو الحمل الفصحي، حملاً إلهياً-بشرياً، حملاً قُدِّم مرة وإلى الأبد عن خطايا البشرية كلها، حملاً يملك قوة الأبدية، حملاً يُقدِّم هو هو نفسه إلى المؤمنين في كل قداس إلهي ليدفع إليهم طعاماً وشراباً روحيين، هما جسد المسيح الحق ودمه الحق، ليكونا للمتناولين منها حياة فيهم.

بما أن خصائص العشاء الأخير الفصحية هي أساسية لتأريخ الصلب، لهذا سأستعرض باختصار هذه الخصائص قبل الحديث عن تاريخ الصلب.

الخصائص الفصحية للعشاء الأخير:

توجد خصائص فصحية واضحة في العشاء الأخير[1]. من هذه الخصائص باختصار:

1- حدث العشاء الأخير في أورشليم (مر 14: 13 وموازياته؛ يو 18: 1). كانت أورشليم مزدحمة جداً بالحجّاج أثناء موسم الفصح. كان عدد سكان أورشليم 25-30 ألف نسمة تقريباً. بينما يُقدَّر عدد الحجاج أثناء الفصح 85-135 ألف نسمة. لهذا قُدِّر عدد الناس الكلي أثناء موسم الفصح أكثر من 100,000 نسمة. كان يسوع يمضي ليلته في الأسبوع الأخير في بيت عنيا (مر 11: 11 وموازياته، 11: 19، 11: 27، مر 14: 3؛ لو 21: 37 و22: 39 وموازياته)، بينما تناول العشاء الأخير في أورشليم. لماذا غيّر يسوع عادته مساء الخميس وتناول العشا الأخير في المدينة المزدحمة؟ على الأرجح كي يحافظ على قاعدة الفصح القائلة أنه يجب تناول الفصح في أورشليم.

2- حدث ليلاً (1كو 11: 23؛ يو 13: 30؛ مر 14: 17؛ مت 26: 20). عادةً كانت توجد وجبتان: الأولى بين الساعة 10 و11 صباحاً، والثانية بعد الظهر. لهذا فتوقيت العشاء الأخير لا يتفق مع العادة الدارجة إلا إذا كان عشاءً فصحياً لأن الفصح وحده يمكن أن يؤكل ليلاً.

3- حدث مع الاثني عشر (مر 14: 17؛ مت 26: 20): كان عدد المشاركين في العشاء الأخير أثني عشر حتى يتفق مع قاعدة الفصح في أنه على الأقل عشرة اشخاص يجب أن يشاركوا فيه.

4- اتكئوا إلى المائدة (مر 14: 18؛ مت 26: 22؛ لو 22: 14؛ يو 3: 21 و23). في أيام يسوع كان الآكلون يجلسون في الوجبات العادية. بينما يتكأ الآكلون في مناسبات معينة مثل تناول وجبة في العراء (إطعام الجموع)، أو في حفلة (مر 12: 39 وموازياته؛ مر 14: 3 وموازياته؛ لو 7: 36-37 و49؛ 11: 37؛ 14: 15؛ يو 12: 2)، أو في عيد (مر 2: 15 وموازياته خاصة لو 5: 29)، أو في عيد ملكي (مر 6: 26 موازياته)، أو في زفاف (مت 22: 10-11؛ لو 14: 8 و10)، أو في عيد الملكوت (مت 8: 11؛ لو 13: 29). من غير الممكن ليسوع وتلاميذه أن يتكئوا إلى المائدة في العشاء الأخير ما لم يكن عشاءً فصحياً حيث يتكأ المشاركون دلالة على التحرر من العبودية (احتفالاً).

5- كسر الخبز (مر 14: 22؛ مت 26: 26). يسوع كسر الخبز خلال العشاء. من المعروف أن الوجبة تبدأ بكسر الخبز. إنما من غير المألوف هنا أن مر 14: 22 يذكر وجبة فيها كُسر الخبز بعد تقديم صحن (مر 14: 20). عادةً الفصح هو الوجبة الوحيدة في السنة التي يُقدم فيها صحن يسبق كسر الخبز.

6- شرب الخمر: يسوع وتلاميذه شربوا خمراً (مر 14: 23، و25 وموازياته). هذه ليست عادة شائعة قط لأن شرب الخمر يحدث فقط في المناسبات (الاحتفال بالضيوف، ختان، خطبة، العنصرة، عيد المظال). شرب الخمر في العشاء الأخير هو إشارة إلى أنه كان عشاءً فصحياً حيث كان على كل واحد أن يشرب من الخمر، على الاقل من أربعة كؤوس.

7- توكيل يهوذا بالتبرع للفقراء: بحسب يو 13: 29 افترض التلاميذ أن يسوع قد فوَّض يهوذا-الذي ترك العشاء ليلاً (يو 13: 26)- بإعطاء شيء للفقراء، و”كان ليلاً” (يو 13: 30). من الصعب الافتراض أن يسوع قد اعتاد على التصدّق للفقراء ليلاً إلا إذا كان العشاء الأخير عشاءً فصحياً حيث كان من المعتاد القيام بهذا.

8- اختتام العشاء الأخير بالتسبيح (مر 14: 26، مت 26: 30). التسبيح يخص العشاء الفصحي وهو مختلف عن الشكر في نهاية كل وجبة.

9- عدم العودة إلى بيت عنيا بعد العشاء: عاد يسوع إلى جبل الزيتون (مر 14: 26 وموازياته)، إلى بستان شرقي وادي قدرون (يو 18: 1)، ولم يعد إلى بيت عنيا مثلما فعل في الليالي السابقة. لماذا؟ لأنه يجب تمضية ليلة الفصح في أورشليم. وحتى يستطيع الناس الالتزام بهذه القاعدة تم توسيع حدود مدينة أورشليم لتشمل -أيام يسوع- بيت فاجي وبيت عنيا (بالإضافة إلى وادي قدرون والسفح الغربي لجبل الزيتون وبستان جثسيماني).

10- تفسير الخبز والخمر: فسّر يسوع معنى الخبز والخمر في العشاء الأخير رابطاً إياهما بآلامه. أي سبب وراء هذه الطريقة الغريبة لإعلان آلامه؟ إن تفسير عناصر الوجبة جزء راسخ من الطقس الفصحي. إذ يفسر ربّ العائلة عناصر الوجبة الفصحية (خاصة الحمل، الفطير، الأعشاب المرّة)[2]. أيضاً في تلمود أورشليم يوجد ذكر لتفسير مجازي للكؤوس الأربع. وبالإضافة إلى التفسير التاريخي للفطير يوجد تفسير أخروي (متعلِّق بالآخرة). ينعكس هذا التفسير الأخروي للفطير الموجود في 1كو 5: 7-8. هنا أعطى يسوع تفسيراً جديداً، تفسيره هو، لعناصر العشاء الأخير بطريقة جديدة تشير إلى ذبيحته وإلى كونه الحمل الفصحي.

هكذا كان العشاء الأخير عشاءً فصحياً، كان يسوع فيه هو الحمل الفصحي، إذ قدم جسده ودمه للمؤمنين به لينالوا الخلاص. والأناجيل الإزائية فهمت هذا العشاء كعشاء فحصي كما سنرى لاحقاً. في هذا العشاء الأخير أو الفصحي أقام يسوع فصحه الخاص به، فصحاً جديداً، لكي يلغِ الفصح اليهودي. هكذا بدأ الرب بإقامة الفصح اليهودي، ومن ثم دشّن بالوقت نفسه فصحه الخاص الجديد حيث كان فيه يسوع هو الحمل الفصحي الذي قدم لحمه ودمه للمؤمنين به حياةً وخلاصاً للمتناولين منهما. مشهد العشاء الأخير هذا يذكرنا بمعمودية الرب في نهر الأردن، حيث بدأت المعمودية بإطار يهودي فأكملها المسيح وأنهاها إلى الأبد ليؤسِّس بالوقت نفسه المعمودية المسيحية التي فيها تنفتح السموات دائماً، بشكل غير منظور، وتحل نعمة الروح القدس على المعتمد باسم الثالوث القدوس.

1- يوم الصلب

لا نجد صعوبة كبيرة في تحديد اليوم الذي صُلب فيه ربنا. يحدد مرقس 15: 42 اليوم الذي مات فيه يسوع أنه “ما قبل السبت”. وفي حين لم يذكر متى يوم السبت في الصلب إلا أنه يشير بوضوح إلى أن اليوم بعد موت يسوع (27: 62) هو السبت. وعندما ينتهي نأتي إلى أول يوم من الأسبوع (28: 1). وبعد دفن يسوع مباشرةً يقول لوقا 23: 54 إن السبت كان على وشك الانقضاء. أما يوحنا 19: 31 فيذكر الاستعدادات المأخوذة لئلا تبقى الأجساد على الصليب يوم السبت الآتي. لهذا يتفق الجميع بحسب الكتاب بأن يسوع قد صُلب ومات ودُفن يوم الجمعة، في فترة بعد الظهر منه. بالطبع الكنيسة الأرثوذكسية تؤمن أن يسوع قد صُلب يوم الجمعة، وتعكس هذا الإيمان وتحياه في الليتورجيا.

2- ساعة الصلب

الأناجيل الإزائية (مرقس، متى ولوقا) تتفق على أن يسوع كان على الصليب بين الساعة السادسة (الثانية عشرة ظهراً) إلى الساعة التاسعة (الثالثة بعد الظهر). وأن الرب أسلم الروح نحو الساعة التاسعة. وتتفق أيضاً على أن الظلام قد غطى الأرض كلها بين الساعة السادسة والتاسعة[3]. أما إنجيل يوحنا فلا يذكر كثيراً مؤشرات زمنية وإنما يؤكد أن يسوع كان مثلاً أمام بيلاطس الساعة السادسة (الثانية عشر ظهراً) عندما حُكم عليه بالصلب (يو 19: 13-14). هذا بالطبع لا يتناقض مع الأناجيل الإزائية.

تنشأ صعوبة هنا في مرقس عندما يذكر: “وكانت الساعة الثالثة فصلبوه” (مر 15: 25). هذه الإشارة الزمنية إلى الصلب المبكر لا تتفق مع الأناجيل الثلاثة الأُخرى. مرقس يذكر الساعة الثالثة (الصلب) فالسادسة (حلول الظلام) فالتاسعة (صراخ يسوع). متى ولوقا يأخذان الإشارتين الزمنيتين الأخيرتين ويهملان الأولى (الساعة الثالثة)، وبالتالي لا يعطيان انطباع مرقس بأن يسوع قد صُلِبَ باكراً (التاسعة صباحاً).

وجدت عدة محاولات للتوفيق بين الأناجيل الأربعة إنما جميعها غير مرضية. ركزت هذه المحاولات على التوفيق بين إشارة مرقس (الصلب الساعة الثالثة) وبين إشارة يوحنا (مثول يسوع أمام بيلاطس الساعة السادسة). إما أن تكون هاتان الإشارتان الزمنيتان لاهوتيتين، وإما أن تكون إحداهما لاهوتية والأُخرى زمنية، إنما لا يمكن أن تكون كلتا الإشارتان زمنيتين. الإشارة الزمنية الوحيدة المشتركة في الأناجيل الأربعة في قصة الصلب هي الساعة السادسة (12 ظهراً). هذا يُرجِّح بأنها مأخوذة من تقليد ما قبل الأناجيل وقد استُعملت بصورة مختلفة من قبل الإنجيليين (بدء الظلام في الإزائية والحكم على يسوع بالصلب في يوحنا). أما إشارة مرقس من أن يسوع قد صُلِب في الساعة الثالثة (9 صباحاً) فهي مستبعدة كإشارة زمنية. مرقس نفسه يُلمِّح بأن يسوع لم يُصلب باكراً جداً (كما توحي الساعة الثالثة) عندما يذكر تعجب بيلاطس بأن يسوع قد مات سريعاً (مر 15: 44).

سياق الروايات الإنجيلية متفق. إلا أن الآية 15: 25 من مرقس تشذّ على السياق. تذكر أن الصلب وقع في الساعة الثالثة، بينما يلتقي مرقس مع زملائه على انتشار الظلمة من الساعة السادسة حتى التاسعة. فهل قصد مرقس بها الاستعدادات في تقليد الكنيسة؟ ليتورجياً الكنيسة الأرثوذكسية تعتبر الساعة السادسة هي ساعة الصلب وتربطها باليوم السادس أو يوم الجمعة العظيم، مشيرة إلى المسيح قد خلق الإنسان (أو آدم) جديداً في اليوم السادس (يوم الجمعة العظيمة) وهو بعد على الصليب. نرتل في خدمة الساعة السادسة:

“يا من في اليوم السادس وفي الساعة السادسة سَمَّرت على الصليب الخطيئة التي تجرأ عليها آدم في الفردوس. مزّق صق هفواتنا، أيها المسيح إلهنا، وخلصنا”.

أيضاً تعتبر ليتورجيا الكنيسة الأرثوذكسية الساعة التاسعة هي ساعة موت يسوع بالجسد على الصليب وتنشد في خدمة الساعة التاسعة:

“يا من ذاق الموت بالجسد في الساعة التاسعة لأجلنا، أمِت أهواء أجسادنا أيها المسيح الإله وخلِّصنا”.

3- شهر الصلب

تحديد الشهر الذي صُلب فيه الرب يثير مشكلة لدى دراسة الكتاب المقدس. فالأناجيل الأربعة لم تحدد تاريخاً معيناً من الشهر عندما صُلب المسيح. إنما يمكننا أن نستنتج هذا التاريخ من الإشارات الإنجيلية إلى الفصح اليهودي. قبل الكلام عن تاريخ الشهر يجب الكلام عن عيد الفصح اليهودي أولاً.

تحديد الفصح اليهودي:

إن تأريخ الفصح اليهودي حسب النصوص الكتابية (خر 12: 1-2؛ لاو 23: 5-8؛ تثنية 23: 5؛ عدد 28: 16-25) مبني على رؤية بدر شهر نيسان[4]. عند الشفق الذي يُنهي 14 نيسان (أبيب العربي) ويبدأ معه 15 نيسان يُذبح الحمل الفصحي ويُرش دمه على عتبات المنازل. خلال هذا الشفق (الذي ينتمي إلى 15 نيسان) يُحمَّص الحمل ويؤكل بخبز فطير وأعشاب مرة. مع بداية 15 نيسان يبدأ ايضاً أسبوعٌ كاملٌ من عيد الفطير. قبل أيام يسوع بستمائة سنة تم دمج هذين العيدين معاً (الفصح والفطير) كفترة احتفالية واحدة. فكرة الدمج هذه مهمة لنا لفهم الإشارات الإنجيلية لعيدي الفصح والفطير كما سنرى.

كان ذبح الحملان يتم في البداية من قبل رب العائلة، ثم صار مهمة الكهنة في هيكل أورشليم. وبسبب وجود آلاف الحملان في فترة الفصح كان الذبح يبدأ في أول فترة بعد الظهر يوم 14 نيسان، وربما قبل بدء الشفق بست ساعات، ومن ثم تؤكل الوجبة الفصحية مع بداية 15 نيسان. رئيس العائلة يترأس العشاء.

حتى نفهم موقع الصلب من الفصح اليهودي يجب أن نُلِمَّ بطريقة ذكر فترة الفصح/الفطير، سواء في العهدين القديم والجديد أو في كتابات المؤرخيّن اليهوديين يوسيفوس وفيلون. ليست الإشارات إلى فترة الفصح دقيقة دائماً في تحديد اي يوم هو المقصود (14 أو 15 نيسان) لأن كلمة الفصح كانت تُستعمل للإشارة إلى العيد أو الذبح أو الوجبة الفصحية. فسفر اللاويين يقول: “في الشهر الأول في الرابع عشر من الشهر بين العشائين فصح للرب. وفي اليوم الخامس عشر من هذا الشهر عيد الفطير للرب” (لاو 23: 5-6). وسفر العدد 28: 16-17 واضح ودقيق أيضاً: “وفي الشهر الأول في الروم الرابع عشر من الشهر فصحٌ للرب؛ وفي اليوم الخامس عشر من هذا الشهر عيدٌ سبعة ايام يؤكل فطيرٌ”.

أيضاً يؤكد يوسيفوس (تاريخ اليهود 3: 10: 5 رقم 248-249) أنه في 14 نيسان “نقدم ذبيحة تدعى فصحاً… في اليوم الخامس عشر يلي الفصح عيد الفطير”. أيضاً يتكلم فيلون (الشرائع الخاصة 2: 27-28؛ رقم 145-149، 150، 155) عن الفصح كحادث في 14 الشهر وعن عيد الفطير بأنه يبدأ في الخامس عشر من الشهر.

من جهة أُخرى يبدو يوسيفوس غامضاً أحياناً إذ يقول: “عندما أتى عيد الفطير ذبحوا الفصح”[5]، و”عندما أتى يوم الفطير، في الرابع عشر من الشهر”[6]، بينما ذبح الفصح يتم قبل عيد الفطير، وعيد الفطير يبدأ في 15 لا 14 نيسان. نستنج من هنا أن الإشارات الزمنية إلى عيد الفصح أو إلى الوليمة الفصحية أو إلى عيد الفطير هي إشارات غير دقيقة زمنياً دائماً، ولا يمكن أن نبني عليها دائماً نظرية متماسكة من تسلسل الأحداث التاريخية بدون الأخذ بعين الاعتبار طريقة تدوين الكتبة لهذه الأحداث بطريقة غير دقيقة زمنياً، وأقرب إلى الأسلوب الشعبي المتداول، خاصةً إذا كان الكاتب غير مهتم بالناحية الزمنية قدر اهتمامه بالنواحي الأُخرى كما في الأناجيل مثلاً.

في هذا الإطار غير الدقيق زمنياً ربما تنتمي إشارة مرقس 14: 12 “وفي اليوم الأول من الفطير حين كانوا يذبحون الفصح”، لأن اليهود عملياً يذبحون الحمل في 14 نيسان (اليوم السابق للفصح)، أما في اليوم الأول من الفطير (عندما يأكلون الحمل) فهو 15 نيسان. أيضاً في متى 26: 17 “وفي أول ايام الفطير تقدم التلاميذ إلى يسوع قائلين له: اين تريد أن نعدّ لك لتأكل الفصح؟”. فالإشارة غير دقيقة زمنياً هنا لأن أول أيام الفطير يأتي بعد ذبح الفصح وأكله. من الواضح إذن أنه في القرن الأول الميلادي كان العيدان (الفصح والفطير) مندمجين لدرجة لم يُميَّز بينهما في الكلام العادي عنهما.

حسب الأناجيل الإزائية كان العشاء الأخير وليمة فصحية كما رأينا وقد تم في ليلة الخميس. يوحنا أيضاً (19: 31) يذكر أنه حدث ليلة الخميس. بما أن العشاء الأخير هو عشاء فحصي في الإزائية وقد حدث ليلة الخميس فهذا يعني أن نهار الخميس كان 14 نيسان وعند غروبه الذي بدأ معه 15 نيسان بدأ الفصح وأول يوم من أيام الفطير. لكن الصورة مختلفة لدى يوحنا إذ حدث العشاء الأخير ليلة الخميس إنما بدأ الفصح اليهودي مع غروب يوم الجمعة وبالتالي كان نهار الجمعة 14 نيسان وبدأ الفصح مع غروبه. ففي يوحنا 18: 28، صباح يوم الجمعة عندما كان يسوع ماثلاً أمام بيلاطس، فإن السلطات اليهودية والشعب رفضوا أن يدخلوا دار الولاية لئلا يتنجسوا فلا يأكلون الفصح. هذا العيد بدأ بحسب يو 19: 14 يوم السبت (مع شفق الجمعة). هكذا كانت الوجبة الفصحية في الأناجيل الإزائية مساء الخميس (14 نيسان) ويسوع مات نهار الجمعة (وهو عيد الفصح واول أيام الفطير أي 15 نيسان)، بينما في يوحنا كانت الوجبة الفصحية (لا العشاء الأخير) مساء الجمعة (15 نيسان) ويسوع مات نهار الجمعة (قبل بدء الفصح وقبل بدء الفطير اي يوم 14 نيسان).

بسبب السمات الفصحية للعشاء الأخير، كما رأينا سابقاً، استنتجنا استنتاجاً أن عيد الفصح في الإزائية بدأ مع غروب الخميس وأن الإزائية تشير إلى أن يسوع قد مات يوم الفصح وفي أول أيام الفطير (بعد ظهر الجمعة الواقع في 15 نيسان بحسب الإزائية)، وذلك لأن العشاء الأخير (الذي حدث يوم الخميس) كان عشاءً فصحياً. لكن الأصح هو القول إن الإزائية لا تذكر أبداً الفصح أو الفطير في علاقتهما مع ساعات القبض على يسوع والمحاكمة والصلب والموت والدفن. وبكلمة أُخرى، لا تحدد الأناجيل الإزائية متى كان الفصح اليهودي بدقة. ففي وصف الفترة التي مات فيها يسوع الإشارات الفصحية الإزائية هي إشارات عن التهيئة للعشاء الأخير أو لأكل العشاء (باستثناء مر 14: 1-2 الذي سيُناقش لاحقاً). إن تعبير “العيد” (مر 15: 6؛ مت 27: 15؛ لو 23: 17) يشير إلى عيد الفصح إنما لا يحدد أي يوم من فترة الاحتفال ذات الثمانية الأيام (فترة الفصح/الفطير). وكما وجدنا سابقاً فإن عدم الدقة الزمنية هذا هو أمر شائع نسبياً.

نلخص في الجدول التالي تاريخ الفصح في الإزائية (استنتاجاً) وفي يوحنا:

اليوم الخميس (العشاء الأخير) الجمعة (الصلب) السبت
الإزائية 14 نيسان (الفصح اليهودي) 15 نيسان (الفطير) 16نيسان
إنجيل يوحنا 13 نيسان 14 نيسان (الفصح) 15 نيسان (الفطير)

هكذا في الإزائية كان العشاء الأخير عشاءً فصحياً (من حيث موقعه الزمني في 14 نيسان ومن حيث خصائصه الفصحية)، وصُلب الرب في اليوم التالي (اي في أول أيام الفطير أي في 15 نيسان). بينما في يوحنا يُصلب يسوع أثناء ذبح الحملان في الهيكل (مما ينسجم مع لاهوت يوحنا: يسوع هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم)[7] أي يوم 14 نيسان وقبل أكل الحمل الفصحي وقبل بدء الفصح اليهودي مع شفق الجمعة وبداية 15 نيسان.

محاولات التوفيق بين الإزائية ويوحنا:

إذاً كل الأناجيل تشير إلى أن صلب المسيح كان يوم الجمعة. وبسبب الإشارات إلى العشاء الأخير على أنه عشاء فصحي فإن الإزائية تفترض أن 15 نيسان قد بدأ مع شفق (الخميس/الجمعة) وبالتالي كان نهار الجمعة هو 15 نيسان. بينما يبدأ الفصح اليهودي في يوحنا مع شفق الجمعة (14 نيسان) وبداية يوم السب (15 نيسان).

بالطبع بُذِلت محاولات جمة للتوفيق بين الإزائية ويوحنا. افترض بعض هذه المحاولات أن أحد التأريخين هو الصحيح، وافترضت بعد المحاولات الأُخرى أن الأناجيل الأربعة يجب أن تكون تاريخية الطابع وبالتالي فالإزائية ويوحنا صحيحة معاً. من جملة هذه المحاولات الأخيرة التوفيقية:

1- الإزائية ويوحنا صحيحة: التوفيق بينهما مبني على إعادة ترتيب تسلسل الحوادث. مثلاً السلطات اليهودية أخَّرت الاحتفال بالوجبة الفصحية حتى التخلّص من يسوع. القديس يوحنا الذهبي الفم اقرب إلى هذا الافتراض. إذ يقول إن الرب يسوع أكل الفصح في العشاء الأخير ليلة الخميس بينما كسر اليهود هذه القاعدة وأكلوا الفصح في يوم آخر بسبب رغبتهم المسعورة بالقبض على يسوع وقتله. لهذا في تفسير الذهبي الفم لإنجيل متى (الموعظة 84: 2)[8] وقع الفصح اليهودي عشية الخميس وكان نهار الجمعة واقعاً في 15 نيسان. لكن الذهبي الفم من جهة أُخرى يفسح المجال لتأريخ آخر للفصح يبدأ مع شفق يوم الجمعة (الموعظة 83: 3 على إنجيل يوحنا).

2- الإزائية ويوحنا صحيحة معاً: لأنه كان يوجد احتفالان للفصح بينهما يومٌ واحداً. مثلاً: احتفل يهود الشتات على مدى يومين. يدعم البعض هذا الافتراض على أساس ما جاء في الناموس من أن الذين لم يستطيعوا الاحتفال يوم 14 نيسان يمكنهم الاحتفال يوم 14 نيسان من الشهر التالي (العدد 9: 10-11). يبني البعض هذه الفرضية أيضاً على أساس أن حساب الفصح يعتمد على رؤية البدر في 14 نيسان، وبالتالي يمكن لرؤية البدر أن تختلف في مناطق مختلفة. فالحسابات الزمنية اختلفت في الشتات حيث كان اليهود متفرقين على مدى أكثر من ألف ميل عن أورشليم، وربما كانت توجد سياسة فصح ذات يومين للتأكد من تغطية اليوم الصحيح. افترض أحدهم أن يهود الشتات قد استعملوا حسابات فلكية ثابتة بحسبها كان الخميس/الجمعة واقعاً في 15 نيسان، بينما اعتمد الفلسطينيون على رؤية البدر وبالتالي كان الجمعة هو 15 نيسان بالنسبة لهم. هكذا فإن يسوع وهو عالم أنه سيكون ميتاً في ثاني اليومين اختار اليوم الأول منهما (وإن لم يكن من يهود الشتات) فاحتفل بالوجبة الفصحية يوم 14 نيسان بينما أكلت بقية اليهود الفصح يوم 15 نيسان (الجمعة/السبت).

3- أيضاً من الفرضيات الأُخرى المبنية على تأريخين للفصح هو أن اهل الجليل اعتادوا على الاحتفال بالفصح يوماً قبل الاحتفال بالفصح في أورشليم، لهذا احتفل يسوع وتلاميذه (وهم من الجليل) بالفصح كما هو موصوف في الإزائية، بينما عكس يوحنا احتفال أهل أورشليم بالفصح في اليوم التالي.

4- أيضاً يفترض البعض أنه ربما اتبع الفريسيّون (يسوع أقرب إليهم) حساباً معيناً بينما اتبع الصدوقيّون (الكهنة) حساباً آخر تحكّم بالحياة العامة (وهو ما أشار إليه يوحنا). مثلاً عندما يقع أكل الفصح يوم سبت (كما في حساب يوحنا) فإن القيود الموضوعة على العمل مساء الجمعة تمنع الكهنة من ذبح العدد المطلوب من الحملان. لهذا كان عليهم أن يبدأوا بالذبح قبل يوم أي ظهر يوم الخميس.

5- الإزائية ويوحنا صحيحة معاً لأن الإزائية لم تكن تصف وجبة فصحية بل كانت تصف وجبة غير فصحية أكلها يسوع مع تلاميذه يوم 14 نيسان. افترض البعض أن يسوع أكل وجبة مباركة خاصة، وافترض البعض أيضاً أنه في الأمسية التي انتهت يوم 13 نيسان وبدأ معها يوم 14 نيسان فإنه بحسب الإزائيين ويوحنا أكل يسوع وجبة قبل فصحية، وجبة خصّصها لنفسه لكي يسبق الوجبة الفصحية الاعتيادية التي تؤكل في اليوم التالي والتي كان يعرف أنه لن يستطيع أكلها لأنه سيكون ميتاً. إن الإشارات الفصحية الموجودة في العشاء الأخير تناسب هذه الفرضية، فرضية الوجبة ما قبل الفصح: فالمأدبة كانت فصحية في كل شيء إلا في الحمل (لم يمكن الحصول عليه لأنه لم يكن قد ذبح بعد إلا ظهر اليوم التالي).

6- الإزائية ويوحنا صحيحة معاً لأنهما يحتفظان بذكرى التأريخ بحسب التقويم القمراني الذي اتبعه يسوع في أيامه الأخيرة. بحسب التقويم القمراني الشمسي فإن الأعياد تقع في الأيام نفسها من الأسبوع كل سنة. هكذا فإن 15 نيسان (تاريخ الوجبة الفصحية) سيقع دائماً مساء الثلاثاء ويستمر طوال نهار الأربعاء[9].

مقارنة تأريخ الصلب بين الإزائية ويوحنا:

بدلاً من المحاولات التوفيقية السابقة توجد قراءة أُخرى للأناجيل الأربعة تشرح سبب الخلاف الظاهري فيما بينها بخصوص تاريخ العشاء الأخير والفصح اليهودي. سأستعرض هذه المقارنة بأفكار متسلسلة لتسهيل الأمر.

الفكرة الأولى:

قبل كتابة الأناجيل ذكر بولس الرسول تقليداً[10] مُسَلَّماً (ربما يعود تاريخه إلى الثلاثينات عندما صار تلميذاً للمسيح) أنه في الليلة التي أعطى فيها يسوع خبزاً قال: “هذا هو جسدي المكسور لأجلكم”. وبعد العشاء قال: “هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي” (1 كور 11: 23-25). وبكلمة أُخرى، كان بولس الرسول يعرف تقليداً باكراً لعشاء أخير قبل موت يسوع، يحتوي على كلمات ليتورجية بشكل أقرب إلى قصة لوقا. في الرسالة نفسها يطلب بولس من قُرّائه أو مستمعيه أن ينقّوا الخميرة العتيقة بمقدار ما هم فطير جديد “لأن فحصنا أيضاً المسيح قد ذُبِحَ لأجلنا” (1 كور 5: 1).

ويقول إن المسيح قد قام من الأموات وصار “باكورة الراقدين” (15: 20). من الواضح إذاً أن موت يسوع وقيامته مرتبطان في ذهن بولس وتلاميذه مجتمعين في أورشليم فيمكن اعتبار أن أخر عشاء ليسوع وأن صلبه قد تما قبل أو عند عيد الفصح، وهي حقيقة يفهمها المسيحيون لاهوتياً بربط موت المسيح بتضحية الحمل الفصحي. على كل حال لم يكن بولس هو الشاهد الوحيد قبل الأناجيل على هذا. فإن 1بطر 1: 19 يتكلم عن “دم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح”، بشكل يوازي خروج 12: 5. ورغم أن رؤيا 5: 6-14 تستعمل كلمة يونانية موازية للحمل arnion لم تستعملها السبعينية للحمل الفصحي، فإن مطابقة كهذه ربما تكون المسؤولة عن صورة المسيح في الرؤيا (في إطار ليتورجي من البخور والصلوات والترتيل) والواقف كحمل مذبوح دمه قد اشترى الناس من كل قبيلة لله. إذاً لدينا هنا أيضاً تطابق لاهوتي قبل كتابة الأناجيل ليسوع على أنه الحمل الفصحي.

إذاً الفكرة الأولى هي أن المسيحيين قبل كتابة الأناجيل كانوا يؤمنون أن المسيح هو الحمل الفصحي الذي قُدِّمَ على الصليب مذبوحاً من أجل جميع الناس. وبالتالي فالعشاء الأخير ليسوع كان عشاءً فصحياً، على الأقل من الناحية اللاهوتية. في هذا العشاء يحل يسوع محل الحمل الفصحي.

الفكرة الثانية:

في مرقس 14 يقدَّم العشاء الأخير ليسوع مع تلاميذه كعشاء فصحي. هذا واضح من مرقس 14: 12-16 من الاستعداد للعشاء. وربما فسر لوقا 22: 15 بصورة صحيحة مرقس عندما يبدأ يسوع في لوقا بالعشاء بالقول إنه اشتهى أن يأكل هذا الفصح مع تلاميذه. من الواضح أنه في هذا العشاء الفصحي أن الكلمات الملفوظة على الخبز والخمر تعطي جسد يسوع المكان الرئيسي المركزي الذي هو عادة مخصّصٌ للحمل المضحّى به في الهيكل، للحمل الذي لم يُذكر قط في العشاء الأخير. أي لدينا هنا تفسيرٌ لاهوتي وهو تقديم العشاء الأخير على أنه عشاء فصحي بناء على الإعلان ما قبل الأناجيل بأن يسوع هو الحمل الفصحي. إنما السؤال هنا هل كان مرقس نفسه المسؤول عن هذه الظاهرة أو أن المسيحيين قد بدأوا سلفاً بتصوير “عشاء الرب” (1كور 11: 20) مأكولاً “في الليلة التي أُسلِمَ فيها” (11: 23) كوجبة فصحية؟ على الأرجح أن الجواب الثاني هو الأصح.

إذاً إن الفكرة الثانية هي أن مرقس (ومن بعده متى ولوقا) قد قدّم العشاء الأخير على أنه فصحي بناءً على التقليد ما قبل الأناجيل.

الفكرة الثالثة:

إن اليوم الذي بدأ في الغروب مع الوجبة الفصحية هو 15 نيسان وهو أول أيام الفطير أيضاً. وقد لاحظنا أنه ليس لدى مرقس أيّة إشارة لتأريخ يوم الفطير في أي ذكر لآلام المسيح بعد العشاء. فإذا استنتجنا من كون العشاء الأخير عشاءً فصحياً في مرقس بأن عيد الفصح قد بدأ مع غروب الخميس وبالتالي كان نهار الجمعة أول أيام الفطير (15 نيسان) فإن مرقس يذكر أنشطة وأعمالاً من الصعوبة جداً مصالحتها مع يوم عيد. أيضاً لم يعدّل مرقس من التناقض بين تأريخ يوم عيد كهذا والقبض والصلب المؤشَّر إليهما في 14: 2 في الإشارة إلى مؤامرة رؤساء الكهنة والكتبة في أن لا يمسكوا بيسوع ويقتلوه “في العيد”. إن كان مرقس قد خلق تاريخ الوجبة الفصحية، عندئذ يتوقعه المرء أنه قد فكّر بالنتائج وأنه خلق انسجاماً أكبر في قصته. من الواضح إذن أن مرقس قَبِلَ فهماً للعشاء الأخير كوجبة فصحية ولم يحاول تغيير القصة الأساسية للآلام على ضوء هذه المعرفة لأنه كان يفكر بالصفات الفصحية للعشاء من مفهوم لاهوتي ليتورجي لا من حيث التاريخ (موقع العشاء الزمني في سلسلة الأحداث). إذاً رغم أن المسيحيين قد بدأوا باكراً بالظن بأن العشاء الأخير هو عشاء فصحي، إلا أن هذه الصورة لا تعطينا معلومات تاريخية بأن يسوع مات يوم 15 نيسان. وفي الحقيقة يجب أن نهجر ما يُدعى بالتأريخ الإزائي للصلب على أنه يوم 15 نيسان وهو تاريخ لم تطبقه الإزائية قط على اي شيء اكثر من العشاء الأخير. الإشارة الوحيدة في مرقس تقع ضمن ما ذكرناه سابقاً من أن فترة العيد كانت تذكر كفترة احتفالية واحدة بصورة لا يمكن معها معرفة أي يوم من هذه الفترة الاحتفالية هو المقصود. إن طبيعة المواد التي تلي في 14: 1-11 تعني أنه بدون الإشارات الفصحية المهيئة للعشاء في 14: 12-14 فإننا لن نستطيع أن نخبر بدقة من مرقس عن اليوم الذي مات فيه يسوع (14 أو 15 نيسان). الشيء نفسه ينطبق على متى ولوقا المتمدين على مرقس.

إذاً الفكر الثالثة هي أن مرقس قدم العشاء الأخير كعشاء فصحي (بناء على رؤية مسيحية قبل الأناجيل) ودونه ضمن سلسلة الحوادث يومي الخميس والجمعة إنما لم يحاول أن يجانس بين موقع هذا العشاء الزمني وبين الفعاليات الأُخرى التي تشير إلى العيد. وبالتالي، لم يذكر مرقس قط أن عيد الفصح اليهودي قد بدأ مع غروب الخميس، إنما نحن الذين استنتجنا أن نهار الجمة كان واقعاً في 15 نيسان، لكن مرقس نفسه لا يشير إلى هذا بصورة مباشرة أبداً. بل على العكس، إن الأنشطة التي يذكرها مرقس والحادثة نهار الجمعة (المحاكمة، حمل الصليب، أناس قادمون من الحقل، الصلب، شراء الطيب، فتح القبر، دفن يسوع) لا تتفق مع يوم عيد، لو كان نهار الجمعة واقعاً في 15 نيسان. أيضاً إشارات مرقس إلى “العيد” هي إشارات غير دقيقة زمنياً أسوةً ببقية المؤرخين كما وجدنا ولا تفيدنا بمعرفة فيما إذا كانت تعني اليوم السابق لعيد الفطير (14 نيسان) أو اليوم الأول منه (15 نيسان).

الفكرة الرابعة:

في يوحنا 1: 29 (1: 36) الرؤية اللاهوتية ليسوع على أنه الحمل تجد تعبيراً مباشراً عندما يحييه المعمدان على أنه “حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم”. إنجيل يوحنا لا يذكر أبداً كيف يمحو يسوع الحمل خطية العالم، لكن 1 يو 1: 7 و2: 2 يقولان: “ودم يسوع ابنه يطهرنا من كل خطية” و”هو كفارة خطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً”. هذه الإشارة إلى أن حمل الله بموته يمحو خطايا العالم تجد تأكيداً لها في صورة الحمل الفصحي المتكررة في قصة الآلام في يوحنا. فالجنود لا يكسرون عظماً ليسوع (يو 19: 33) مكمِّلين وصفاً كتابياً للحمل الفصحي: “عظمٌ لا يكسر منه” (خر 12: 10، 46؛ العدد 9: 12). أيضاً يُستعمل الزوفى لرفع اسفنجة مملوءة خلاً إلى شفتي يسوع، كما أن الزوفى قد اُستعمل لرش دم الحمل الفصحي على عتبات بيوت الإسرائيليين (خر 12: 22). ربما أيضاً باستعمال “الساعة السادسة” للحظة “استعداد الفصح” عندما يحكم بيلاطس على يسوع بالموت فإن يوحنا 19: 14 يشير إلى يسوع كحمل فصحي؛ إذ في ذلك الحين بدأ الكهنة يذبح الحملان يوم 14 نيسان استعداداً للوجبة الفصحية يوم 15 نيسان. وبكلمة أُخرى، فإن يوحنا قد حبك، مثل مرقس، رؤية ما قبل إنجيلية ليسوع على أنه حمل فصحي في قصته. إنما عكس مرقس لم يفعل هذا بالإشارة إلى العشاء الأخير، لأنه في قصة يوحنا لا يوجد شيء صريح يشير إليه كوجبة فصحية، ولا توجد إشارة إلى جسد يسوع ودمه الإفخارستيين اللذين حلّا محل الحمل الناقص.

يوحنا يصوّر الخميس/الجمعة للعشاء الأخير ليسوع، والمحاكمة والموت على أنها حدثت في 14 نيسان (من غروف الخميس إلى غروب الجمعة)، عشية الفصح الواقع في 15 نيسان (البادئ مع شفق الجمعة). توجد إشارة واحدة فقط هي يو 19: 14 تتكلم بصورة خاصة عن “استعداد الفصح”، وتتعلق بيسوع ككونه الحمل الفصحي، وهذه إشارة ضمنية خفيفة. كل هذا لا يحبّذ فكرة أن يوحنا قد ألّف تسلسله التاريخي بحيث يوافق رؤيته اللاهوتية (بل كان تسلسله التاريخي مطابقاً للتاريخ الفعلي للحوادث).

إذاً الفكر الرابعة هي أن تأريخ يوحنا للفصح اليهودي هو أوضح من تأريخ الإزائية لأن إشارات يوحنا للفصح غير مرتبطة بالعشاء الأخير بل بصلب يسوع (الحمل الفصحي) نفسه من جهة ويذكر يوم الاستعداد للفصح قبل أن يأكلوه (يو 18: 28، 19: 14، 19: 31، 19: 553) من جهة أُخرى.

لهذا توجد أسباب قوية للحكم تاريخياً بأن تأريخ يوحنا للفصح هو الأصح وأن يسوع قد مات يوم 14 نيسان (بعد ظهر الجمعة)، يوم كانت الحملان الفصحية تُذبح في الهيكل. وفي العشية 15 نيسان (يدعو يوحنا 19: 14 استعداد الفصح) بدأت الوجبة الفصحية. ليتورجية الكنيسة الأرثوذكسية تتبنى تأريخ يوحنا.

4- تاريخ سنة صلب المسيح

مات يسوع خلال حكم بونتيوس بيلاطس الذي امتدّ من السنة 26م إلى 36م. الإنجيليون عدا مرقس يذكرون أن قيافا كان رئيس الكهنة إنما لا يساعدنا هذا على التحديد لأن قيافا كان رئيس كهنة قبل ولاية بيلاطس وبعدها من 18 إلى 36/37. كيف نضيّق هذه الفترة الزمنية لمعرفة سنة صلب المسيح؟ متى ولوقا يشيران إلى ولادة يسوع قبل موت هيرودس الكبير الذي تاريخ موته مختلف عليه إلا أن الغالبية يقبلون سنة 4 ق.م. لا نعرف بالضبط كم من الزمان قبل موت هرودس الكبير ولد يسوع، إلا أن الكثيرين يلجأون إلى متى 2: 16 حيث قتل هيرودس الأطفال من عمر سنتين فما دون ذلك، وبالتالي يقبلون بأن المسيح قد ولد سنة 6 ق.م.

خلال فترة بشارة يسوع يقول اليهود له: “ليس لك خمسون سنة بعد” (يو 8: 57). إذا أخذ المرء بعين الاعتبار صفة المبالغة في هذا القول مع وصف الولادة لدى متى ولوقا، نستنتج أن يسوع كان يبشر علنياً قبل العام 44. يقول لوقا: “ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة” (ربما 24 م). في لوقا 3: 1-2 أتت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر؛ إنما هذا التأريخ لا يخلو من صعوبات. لكن الكثيرون يقبلون هذا التأريخ على أنه آب/أيلول سنة 28/29 م. أحياناً حسابات لوقا التاريخية غير دقيقة (مثلاً الإحصاء ايام كيرينيوس)، فضلاً عن أننا لا نعرف كم من الوقت انقضى بين الكلمة التي استلمها المعمدان وبين بشارة يسوع: شهور أم سنوات؟ إن حقيقة كون لوقا بعد عشرين آية يتحول إلى يسوع قد أدت بالعديد من الدارسين إلى اتخاذ المجال الزمني الأصغر وأرّخوا بداية بشارة يسوع في آواخر 28 م؛ إنما هذا لا ينسجم تماماً مع فكرة لوقا: عمر يسوع كان نحو ثلاثين سنة.

في يو 2: 20 عندما طهّر يسوع الهيكل وتنبأ بخرابه يحتج المعارضون اليهود بأن الهيكل استغرق 46 سنة لبنائه. يوسيفوس[11] يعطي تاريخين مختلفين لبداية إعادة بناء الهيكل هما 23/22 ق.م. و20/19 ق.م، مما يعني (بعد إضافة 46 سنة) 24/25 م و27/28. ورغم أن يوحنا يضع تطهير الهيكل في بداية بشارة يسوع بينما يضعه الإزائيون في نهاية حياة يسوع على الأرض، إلا أن الغالبية تقبل بتأريخ الإزائيين مما يشير إلى سنة 28 كبداية لبشارة يسوع العلنية.

فإذا بدأ يسوع بشارته عندئذ (وتوجد “إذا” كبيرة هنا)، فكم دامت بشارته قبل صلبه؟ الإزائيون لا يقدمون ما يساعد على حسبان طول بشارته، إنما من مرقس نفترض أنها دامت فترة قصيرة.

يوحنا يذكر ثلاثة أعياد فصح قبل موت يسوع: يذكر فصحاً في 2: 13 وأخر في 6: 4 وثالثاً قبل موت يسوع في 11: 55. هل هذه الإشارات إلى الفصح هي إشارات تاريخية في يوحنا أم أنها ذكرت بسبب الحوافز الفصحية في لاهوت يوحنا؟ إن كانت تاريخية فهل هذه الفصوح الثلاثة هي الفصوح الوحيدة أثناء بشارة يسوع العلنية؟ إن كان الجواب نعم، فكم من الزمان كان يسوع نشيطاً قبل الفصح الأول المذكور؟ الجواب يقرر فيما إذا كان علينا أن نفكر بمدة سنتين أو ثلاث سنوات لبشارته. إذا أضفنا سنتين أو ثلاث إلى 28/29، بحسب الشهر الذي بدأ فيه يسوع بشارته في تلك السنوات، فإننا نخرج بفترة زمنية بين 30 و33 لموت يسوع. في كل مرحلة من مراحل الحسابات السابقة توجد درجة من الارتياب. Blinzler ذكر اختيار مائة من علماء الكتاب المقدس للسنة التي مات فيها يسوع. لم يختر أي واحد سنة 34 أو 35. بينما عالم إلى ثلاثة علماء اختاروا سنوات 26 أو 27 أو 28 أو 31 أو 32 أو 36. ثلاثة عشر عالماً اختاروا سنة 29، و53 عالماً اختاروا سنة 30، و24 عالماً اختاروا سنة 33.

لعب علم الفلك دوراً مهماً في تضييق السنوات المحتملة التي صُلب فيها يسوع. إن كان يسوع قد مات يوم 14 نيسان ففي أية سنة خلال ولاية بيلاطس وقع 14 نيسان يوم خميس/جمعة؟ الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة. فرؤية البدر مهمة لتقرير شهر نيسان. وإنما رؤية البدر تتأثر بأحوال الطقس أيضاً. وبما أن التقويم اليهودي هو تقويم قمري فيجب أن يُضاف إليه شهور منقضية لكي يتطابق مع التقويم الشمس. يحذرنا العالم الكبير جيريمايا Jeremias بأننا لا نملك سجلات تاريخية عن إضافة الشهور المقتضبة في 27-30 م. ولترجمة التأريخ إلى شهورنا الحالية يجب أن نستعمل التقويم الجولياني (الأرثوذكسي) لا التقويم الغريغوري (الكاثوليكي). لهذا من غير المستغرب أن يواجه علماء الفلك صعوبات. إنما بحسب دراسة جيريمايا لدينا ما يلي: وقع 14 نيسان

في سنة 27 م يوم أربعاء/خميس والأقل احتمالاً يوم خميس/جمعة

في سنة 30 م يوم خميس/جمعة، والأقل احتمالاً يوم أربعاء/خميس

في سنة 33 م يوم خميس/جمعة

إذا استثنينا سنة 27 م كاحتمال ضعيف فلكياً وباكراً جداً لموت يسوع بناء على إشارات الأناجيل، كان لدينا إذن احتمالان لوقوع 14 نيسان يوم خميس/جمعة هما بحسب التقويم الجولياني سنة 30م وسنة 33م. بشكل عام يوجد ميل لرفض سنة 33م إذ بها سيكون يسوع بعمر أكبر وتكون بشارته أطول، لأنه بها سيكون بعمر 40 سنة عند موته وستكون مدة بشارته نحو 4 سنوات.

إذا مات يسوع سنة 30 م سيكون له من العمر آنئذ 36 سنة، وتكون مدة بشارته تقل قليلاً عن سنتين. لا يوجد تاريخ من التواريخ السابقة يلبي كل تفصيل في الأناجيل. إذاً نستطيع أن نقول بدرجة عالية من اليقين نسبياً إن الرب يسوع قد صُلِب الساعة الثانية عشر ظهراً وأسلم الروح الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم الجمعة الواقف في 14 أبيب من العام 30[12]. فالمجد لطول أناتك يارب!

 

مراجع دراسة تاريخ الصلب

Raymond E. Brown: The Death of the Messiah. Doubleday, 1994.

Joachim Jeremias: The Eucharistic Words of Jesus. The MacMillan Company, New York, 1655.

 

د. عدنان طرابلسي

 

هذه الدراسة وردت في:
الملحق الرابع، ص261-279، الجزء الثالث من شرح إنجيل متى البشير، للقديس يوحنا الذهبي الفم. ترجمة: د. عدنان طرابلسي

 

 


[1] Joachim Jeremias: The Eucharistic Words of Jesus. The MacMillan Company—New York, 1955. P, 14.

[2] تبدأ وجبة الفصح بالقدوش وهي بركة الكأس وبالصحن الأول. بعد هذا يُقدم الحمل الفصحي وتُمزج الكأس الثانية. وقبل الوجبة الخاصة أخذ يسوع هنا النذور الفصحية التي ذروتها تفسير عناصر الوجبة بالحوادث التي تمت في الخروج من مصر: فالفطير يرمز إلى بؤس الماضي، والأعشاب المرّة ترمز إلى العبودية، ومسحوق الفاكهة له لون الطين وقوامه ويرمز إلى عمل العبودية، والحمل الفصحي يرمز إلى رحمة الله التي فشخت (أي عبرت: من عنا كلمة فصح) بإسرائيل من العبودية إلى الحرية.

[3] راجع مر 15: 33-36، و42-44؛ مت 27: 45-50؛ ولو 23: 44-46.

[4] بداية غروب الشمس وأفولها. اليوم الجديد حسب التقويم اليهودي يبدأ بالشفق.

[5] تاريخ 9: 13: 3 رقم 271.

[6] حرب اليهود 5: 3: 1 رقم 99.

[7] يو 1: 29.

[8] راجع الجزء الرابع من هذه السلسلة

[9] الدارسون الغربيون يسرفون في التحليل والافتراض. الأناجيل الأربعة متفقة في جعل العشاء يوم الخميس والصلب يوم الجمعة والقيامة يوم الأحد. ويسوع قال حرفياً: “شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم” (22: 15-16). والغربيون منهمكون في دراسة العهد القديم والتراث اليهودي مع محاولات الربط بينها وبين العهد الجديد. هذا منزلق خطير. العبارات جميعاً تشير إلى أن يسوع أكل الفصح أي الخروف. الحل الذي لا يعقِّد الأمور هو القول أن يسوع قدم تاريخ الفصح بما أنه قادم على الآلام عداً. عبارة لوقا: “شهوة اشتهيت” تعني اشتهاءً شديداً. وهو الفصح الوداعي. والمهم في ذلك اليوم ليس الفصح اليهودي بل العشاء الوداعي. والمهم في ذلك ليس الفصح اليهودي بل العشاء السري المسيحي الذي طوى إلى الأبد الفصح اليهودي. فلماذا يهتم الغربيون بإخضاع يسوع لحرفية الفصح اليهودي وهو رب الفصح؟ كل العهد القديم خيال للعهد الجديد. نشده إلى العهد الجديد. (أ.ج.)

[10] بولس يقول: إنه تقلّد من الرب يسوع خدمة العشاء السرّي (1 كور 11: 23) لا من الناس. وهو قد اهتدى في دمشق وبشّر فيها ثم انتقل إلى حوران، ثم عاد إلى دمشق. فلا علاقة له بتقليد أورشليم إلا إذا افترضنا أنه لم يقم سر الافخارستيا في دمشق وحوران (أ.ج.)

[11] تاريخ اليهود 15: 11: 1 رقم 380 وخرب اليهود 1: 21: 1 رقم 401.

[12] مع احترامي للتدقيق فإن الإنجيليين أهملوا أموراً كثيرة بسبب حرصهم القاطع على حصرنا بأمور الخلاص بيسوع المسيح. ما اهتموا بإرواء عطش فضولنا. ولكن العلم هو العلم إن لم يتطرّف (أ.ج.).

arArabic
انتقل إلى أعلى