وضع يوستينس العديد من المؤلّفات لم يصلنا منها سوى ثلاثة، هي دفاعان عن المسيحيّة وحوار مع تريفُن اليهوديّ. في وُلد يوستينُس (ومعنى اسمه في العربيّة “عادل”) من أبوين وثنيّين في فلافيا نيابولس من أعمال فلسطين، أي في نابلس الحاليّة حوالى عام 100 ميلادي وترعرع فيها. درس الفلسفة بمدارسها كافّة على عدّة معلّمين.
دعاه أحد الشيوخ في أفسس إلى الدخول في المسيحيّة، وذلك بعد أن أراه أنّ جميع محاولات الفلاسفة للبرهان على وجود النفس وخلودها هي محاولات مصيرها الفشل. وطلب منه هذا الشيخ أن يصلّي ليعرف الله والمسيح. واعتنق يوستينس، بعدها، المسيحيّة. وهو نفسه يقول تعليقاً على هذا: “لقد درست بالتتابع جميع التعاليم وانتهيت إلى اعتناق التعليم الحقيقيّ الذي هو تعليم المسيحيّين”.
ويخبرنا يوستينوس، في كتابه الدفاع الثاني عن المسيحية، كيف صار مسيحياً: في احد الايام كان يوستينوس يتمشى عند شاطئ البحر، فرأى شيخاً كلمه في ما كان يبحث عنه واقنعه ان الفلسفة لا تروي ظمأه ثم لفت نظره الى الانبياء مؤكداً انهم وحدهم اصحاب الحق. ثم غاب الشيخ واختفى. فثابر يوستينوس على قراءة النبوءات والانجيل فوجد ضالته فيها. فاضاف قائلا: “كنت اطرب واتغنى في تعاليم افلاطون وكنت اسمع القدح في المسيحيين. ولكن عندما رأيت انهم لا يهابون الموت ولا غيره مما يثير الرعب استنتجت انه لا يمكن ان يكونوا اشراراً او ممن يحبون الملذات…لذلك سعيت بكل ما اوتيت من قوة لأصبح مسيحياً”. اعتنق يوستينوس المسيحية في أفسس، وكرس حياته للدفاع عنها، فلبس عباءة الفلاسفة اليونانيين وشرع يتجول ويعلّم. فذهب الى روما واسس فيها مدرسة. واستشهد فيها سنة 165 مع ستة من رفاقه.
كرّس يوستينس حياته كلّها للدفاع عن المسيحيّة والإيمان المسيحيّ ونشره إذ هو “الفلسفة الوحيدة الأكيدة والنافعة”. ولمّا كان يعتقد “أنّ جميع الذين يقدرون على قول الحقيقة ولا يقولونها سوف يدينهم الله”، راح يتنقّل من مكان إلى مكان يعلّم ما تلقّنه. قضى يوستينس سنواته الأخيرة في روما حيث أسس مدرسة وكتب معظم مؤلّفاته. قُطع رأسه هو وستّة مسيحيّين آخرين معظمهم من تلاميذه في العام 165. وكان قد سبق فتنبّأ باستشهاده حين قال: “أنا أيضاً أنتظر أن ألاحَق وأعلَّق على خشبة التعذيب”. تعيّد له الكنيسة المقدّسة في الأوّل من حزيران.ل من حزيران.
وضع يوستينس العديد من المؤلّفات لم يصلنا منها سوى ثلاثة، هي دفاعان عن المسيحيّة وحوار مع تريفُن اليهوديّ. في الدفاع الأوّل يدحض الكاتب الاتّهامات المسوقة ضدّ المسيحيّين من إلحاد وزنى وكفر وعداء للدولة، ثمّ يعرّف بالمسيحيّة وعقيدتها وسلوك أتباعها وعباداتها. ويبدو الدفاع الثاني كأنّه تتمّة للدفاع الأوّل، وكان الباعث على كتابته إعدام الحاكم الرومانيّ لثلاثة من المسيحيّين من غير ذنب سوى حملهم الاسم المسيحيّ. ويطالب يوستينس السلطات الرومانيّة بأن تكون حريصة على العدل والرحمة وحبّ الحقيقة.
أمّا الحوار مع تريفن، وهو “أشهر العبرانيّين في زمانه”، فيروي فيه القدّيس الفيلسوف قصّة اهتدائه إلى المسيحيّة، وينتقل بعدها إلى الكلام على الشرائع الطقسيّة اليهوديّة ويبيّن أنّ لها قيمة مؤقّتة فيما تُجسّد المسيحيّة الشريعة الجديدة. ثمّ يعلّل عبادة السيّد المسيح كإله ويوضح أنّها لا تنافي وحدانيّة الله. وفي القسم الأخير من هذا الحوار يبيّن يوستينس أنّ الوثنيّين الذين يؤمنون بالمسيح ويعملون بشريعته هم إسرائيل الجديد وشعب الله المختار.
من أهمّ أفكار يوستينس اللاهوتيّة ما قاله في موضوع “الكلمة البزرة”. فيقول إنّ هذا الكلمة ظهر بكماله في المسيح، بيدَ أنّ كلّ إنسان يملك في عقله بزرة من هذه الكلمة. وهذا يعني أنّ الله، في العهد القديم، لم يكن عمله محصوراً في شعب العبرانيّين، بل امتدّ حضوره إلى كلّ مستعدّ لتقبّل الحقيقة واعتناقها، ولو كان ملحداً أو وثنيّاً. يقول القدّيس يوستينس: “إنّ المسيح هو أوّل مولود لله، كلمتُه الذي يشترك فيه الناس جميعاً. هذا ما تعلّمناه وما أعلنّاه. فالذين عاشوا بمقتضى الكلمة هم مسيحيّون ولو كانوا ملحدين من مثل سقراط وهرقليطس عند اليونانيّين”. وبناءً على هذه النظريّة يتّضح أنّ الانتماء الكامل والكلّيّ إلى الكلمة يتحقّق في المسيحيّة، وأنّه ليس من خلاف بين الفلسفة والمسيحيّة. من هنا، يكون الانتماء إلى المسيح وكنيسته هو غاية كلّ التاريخ البشريّ، العبريّ والوثنيّ. ما كان يُعتبر قبل حضور المسيح تذوّقاً للكلمة، صار بعد التجسّد واقعاً وحياة حقيقيّة في الكلمة الحقّ.
من ناحية اخرى، يؤكّد يوستينس أنّ الفلاسفة أخذوا عن موسى والأنبياء كلّ ما عندهم من حقيقة. فعلى سبيل المثال يقول عن أفلاطون الفيلسوف العظيم: “من معلّمينا، أعني من تعليم الأنبياء، استقى أفلاطون نظريّته إذ قال إنّ الله أنشأ المادّة التي بلا شكل ليصنع منها العالم”. كما قال في مكان آخر: “لقد كان في الأيّام السالفة رجال أقدم من جميع هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فلاسفة. لقد كانوا طوباويّين يحبّهم الله. وتكلّموا بالروح القدس وتنبّأوا عن المستقبل أشياء تتمّ الآن، نسمّيهم أنبياء”.
يتخّذ حديث يوستينس عن المعموديّة والإفخارستيّا بعد العماد ويوم الأحد قيمة كبيرة، كونها من أولى الشهادات عن هذين السرّين. وهو يؤمن بحضور المسيح الفعليّ في الإفخارستيّا (القدّاس الإلهيّ)، فيقول: “إنّ الطعام الذي نسمّيه إفخارستيّا لا نأخذه كما نأخذ خبزاً عاديّاً وشراباً عاديّاً… إنّ الطعام الذي يصبح إفخارستيّا، بلفظ الصلوات التي أخذناها منه (أي كلام السيّد المسيح في العشاء الأخير “اصنعوا هذا لذكري، هذا هو جسدي، هذا هو دمي”)، هو جسد ودم يسوع هذا المتجسّد”.
ويصف الشهيد يوستينوس الطريقة التي كان يُمارس فيها سر المعمودية وسر الافخارستيا في ذلك العصر، ففي سر المعمودية يقول: “…ثم نأخذهم الى مكان فيه ماء ونجددهم بالطريقة نفسها التي تجددنا بها اذ انهم ينالون الغسل بالماء باسم الآب سيد الكون وباسم مخلصنا يسوع المسيح وباسم الروح القدس… ويسمى هذا الغسل انارة لان من يتعلم هذه الامور يصبح مستنيراً بالروح….”. اما بالنسبة الى سر الافخارستيا فيقول: “بعد الانتهاء من الصلوات وقراءة الكتاب المقدس نحيي بعضنا بعضاً بالقبلة. ثم يقدم خبر وكأس خمر الى رئيس الإخوة فيقبلها. ويأخذها فيشكر ويمجد آب كل شيء باسم ابنه والروح القدس. ثم يشكر باسهاب… عند انتهاء الصلوات والشكر يوافق جميع الحاضرين بالقول آمين. وهذه الكلمة تعني باللغة الآرامية فليكن كذلك. بعد ذلك يقدم الخبز والخمر لمن يكون حاضراً… اننا لا نتناول هذا الغذاء كخبز عادي وشراب عادي بل كجسد ودم يسوع الذي صار جسداً لاجل خلاصنا…”.
كان يوستينس ذا شخصيّة فذّة، بسيطاً، مستقيماً، حارّاً لا يهاب الجهر بحقيقة ما يؤمن به. وقد دفع حياته ثمناً لهذا الإيمان، ولنا في كلام يوستينس مع جلاّديه عبرة بليغة: “لا أبالي بشيء إلاّ بقول الحقيقة، أقولها ولا أهاب أحداً، ولو كنتم ستقطّعونني في الحال إرباً إرباً (…). إنّ أفضل صلاة يسعني رفعها من أجلكم، أيّها الأصدقاء، هي أن تخلصوا أنتم إلى الإيمان مثلنا بأنّ يسوع المسيح هو مسيح الله”.
تُعيد له الكنيسة في 1 حزيران.