يرد لفظ “الإنجيل” بصيغة المفرد اثنتي عشرة مرّة في القرآن، وقد نصّت آيتان منهما على أنّ “عيسى ابن مريم” أوتي إيّاه من لدن الله: “وقفّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدًى ونورٌ ومصدّقاً لما بين يديه من التوراة وهدًى وموعظة للمتّقين” (سورة المائدة 5،64 وانظر سورة الحديد 75،72). من هنا يعتقد المسلمون أنّ الله أوحى إلى السيّد المسيح بكتاب واحد هو “الإنجيل”، وما كانت رسالة المسيح سوى إعلان هذا الإنجيل، على غرار ما يزعمون أنّه حدث مع محمّد ابن عبدالله، رسول الإسلام، من حيث اعتقادهم أنّ الله أوحى إليه بكتاب واحد هو “القرآن”. لذلك، طفا على السطح اتّهام المسلمين للمسيحيّين بأنّهم حرّفوا الإنجيل إذ يعتمدون أربعة أناجيل قانونيّة بدلاً من “الإنجيل الحقيقيّ الذي أنزله الله على رسوله ونبيّه عيسى ابن مريم”.
منشأ هذا الاعتقاد الخاطئ عند المسلمين يعود إلى الاختلاف بينهم وبين المسيحيّين في شأن مفهوم “الوحي الإلهيّ”. فالإسلام يعتبر أنّ كتاب القرآن هو وحي الله الذي أُنزل على محمّد كما هو بحروفه وكلماته في ما بين الدفّتين. واقتصر دور محمّد “الأمّيّ” (1) على نقل الوحي كما سمعه من الملاك جبريل بأمانة كلّيّة، ولم يكن له أيّ مشاركة في وضع النصّ أو في مضمونه وأسلوبه الأدبيّ وألفاظه. أمّا النظرة المسيحيّة إلى الكتاب المقدّس فهي على خلاف ذلك، إذ تعتبر أنّ وحي الله الأكمل لم يتحقّق في كتاب بل في إنسان هو الربّ يسوع المسيح. المسيح هو “الكلمة” التي شاء الله أن يقولها للعالمين، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
يؤمن المسيحيّون بأنّ المسيح هو الذي أخبر عن الله، وهو الذي كشف على أكمل وجه في حياته وشخصه عمّا يريد الله قوله للبشر. لذلك تؤمن المسيحيّة بأنّ الكتاب المقدّس يشير دوماً إلى ما هو أبعد منه، وإنّه يبغي دوماً تنشئة إيماننا بالمسيح وبما يقوله الله للبشريّة بواسطته وفيه. أمّا الذين كتبوا العهد الجديد، ولا سيّما الأناجيل الأربعة، فكانوا شهوداً شاؤوا أن يبلّغوا معنى اختبارهم واختبار الجماعات التي عاشوا فيها ليسوع المسيح، ربّهم ومخلّصهم، الذي عاش وتألّم ودفن وقام في اليوم الثالث من بين الأموات وصعد إلى السموات، وما زال يعمل وسيظلّ يعمل في كنيسته إلى منتهى الدهر.
من هنا لا يكتفي المسيحيّون بالقول إنّ الله يوحي إلى البشر رسالته، بل يقولون أيضاً إنّ الله يوحي ذاته في تاريخ البشر، وأسفار الكتاب المقدّس تعلن هذا الوحي الذاتيّ وتفسّره. الله يوحي مَن هو وأيَّ إله هو، ويمكننا القول إنّ الكتاب المقدّس بمجمله هو تاريخ الله الذي يوحي ذاته مخلّصاً وفادياً. ويبلغ هذا الوحي ذروته في إعلان قوّة الله الخلاصيّة في يسوع المسيح. فيسوع هو الإله المتأنّس الذي فيه يكمن ملء وحي الله. وإن أراد المؤمنون معرفة شيء عن الله، وأفعاله الخلاصيّة، وكيف يريدنا أن نحيا في هذه الدنيا، نظروا إلى ما أوحاه في شخص يسوع الناصريّ. إنّنا نطالع حياة يسوع وتعاليمه وسلوكه لنتعلّم كيف ينبغي لنا أن نعيش ولنبلغ إلى ملء قامته.
انطلاقاً من ذلك كلّه لا يدّعي المسيحيّون أنّ يسوع حمل كتاباً هو الإنجيل. فيسوع لم ينقل وحياً على نحو ما نقل محمّد القرآن في رأي المسلمين. فالربّ يسوع المسيح هو نفسه الرسالة، ونتيجة لذلك لا نبتغي إنجيلاً خطّه يسوع بيده أو أملاه على أحد تلاميذه. من هنا يعتقد المسيحيّون أنّ الأناجيل هي ثمرة جهود تلاميذه الملهَمة لإعلان إيمانهم بالمسيح، ولبيان ما يعنيه هذا الإيمان للجماعة، أيّ للكنيسة المؤتمنة على الوديعة وعلى صحّة التعليم. فكلّ من الأناجيل الأربعة يؤدّي شهادة مميّزة، وفي حين يختلف بعضها عن بعض بوجهة النظر والتفاصيل، فجميعها متّفق جوهريّاً في شأن هويّة يسوع وماهيّة رسالته. وعليه فالإيمان المسيحيّ مبنيّ على التعاليم الواردة في الأناجيل الأربعة الصحيحة دون سواها، لأنّ الجماعة المسيحيّة الأولى اعتبرتها آتية من لدن الله.
لا بدّ أيضاً من القول إنّ الجماعة المسيحيّة الأولى بقيت من دون أناجيل مكتوبة حوالى أربعين سنة من بعد انطلاقتها بحلول الروح القدس عليها، فكانت أقوال يسوع وأعماله تُنقل مشافهة. والروح القدس نفسه ألهم الإنجيليّين الأربعة فدوّنوا شهاداتهم وأودعوها ما اختاروا من أقوال يسوع وتعاليمه الكثيرة. ومثل هذا المفهوم للعلاقة بين الكتب المقدّسة والوحي يختلف عن مفهوم الإسلام لها. فالمسلمون جماعة “كوّنها القرآن”، وهم يؤمنون بأنّ الله أرسل محمّداً وأوحى إليه القرآن، وأنّ الجماعة الإسلاميّة تكوّنت بموجب تعاليم القرآن. أمّا المسيحيّون فيقولون بأنّ الجماعة أنتجت وأنشأت، بهدي من الروح القدس، كتبها التي تتضمّن وحي الله في يسوع المسيح.
يقول المطران جورج (خضر) راعي الأبرشيّة -أبرشية الجبيل والبيترون- والخبير في الدراسات الإسلاميّة إنّ “المسيح قرآننا”، وهو إذ يتوجّه إلى المسلمين بهذه العبارة إنّما يقصد تنبيههم إلى عدم صحّة ما يقولونه عن إنجيل وحيد أتى به السيّد المسيح. فما يمثّله القرآن في الإسلام من حيث الاعتقاد الإسلاميّ بأنّ القرآن غير مخلوق، هو بالضبط ما يمثّله يسوع المسيح في المسيحيّة، من حيث إنّه كلمة الله غير المخلوق. الأناجيل الأربعة دليلنا إلى الطريق والحقّ والحياة، دليلنا إلى الكلمة الحيّ.
عن نشرة رعيتي 2005
(1) الدراسات النقدية الحديثة لكتب التاريخ والحديث الإسلامي، وحتى القرآن، تؤكد أن محمداً كان يقرأ ويكتب وأنه كتب بيده (صحيح البخاري، كناب المغازي، باب عمرة القضاء ذكره أنس)… الشبكة