Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

شفاء المجنون في كورة الجدريين:

وَجَاءُوا إِلَى عَبْرِ الْبَحْرِ إِلَى كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ. وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ السَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ اسْتَقْبَلَهُ مِنَ الْقُبُورِ إِنْسَانٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ، كَانَ مَسْكَنُهُ فِي الْقُبُورِ وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَرْبِطَهُ وَلاَ بِسَلاَسِلَ. لأَنَّهُ قَدْ رُبِطَ كَثِيراً بِقُيُودٍ وَسَلاَسِلَ فَقَطَّعَ السَّلاَسِلَ وَكَسَّرَ الْقُيُودَ. فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يُذَلِّلَهُ. وَكَانَ دَائِماً لَيْلاً وَنَهَاراً فِي الْجِبَالِ وَفِي الْقُبُورِ يَصِيحُ وَيُجَرِّحُ نَفْسَهُ بِالْحِجَارَةِ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ مِنْ بَعِيدٍ رَكَضَ وَسَجَدَ لَهُ، وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وقَالَ: «مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللَّهِ الْعَلِيِّ! أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي!». لأَنَّهُ قَالَ لَهُ: «اخْرُجْ مِنَ الإِنْسَانِ يَا أَيُّهَا الرُّوحُ النَّجِسُ». وَسَأَلَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَأَجَابَ: «اسْمِي لَجِئُونُ لأَنَّنَا كَثِيرُونَ». وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً أَنْ لاَ يُرْسِلَهُمْ إِلَى خَارِجِ الْكُورَةِ. وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الْجِبَالِ قَطِيعٌ كَبِيرٌ مِنَ الْخَنَازِيرِ يَرْعَى. فَطَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ الشَّيَاطِينِ قَائِلِينَ: «أَرْسِلْنَا إِلَى الْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا». فَأَذِنَ لَهُمْ يَسُوعُ لِلْوَقْتِ. فَخَرَجَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ وَدَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ. فَانْدَفَعَ الْقَطِيعُ مِنْ عَلَى الْجُرْفِ إِلَى الْبَحْر، وَكَانَ نَحْوَ أَلْفَيْنِ، فَاخْتَنَقَ فِي الْبَحْرِ. وَأَمَّا رُعَاةُ الْخَنَازِيرِ فَهَرَبُوا وَأَخْبَرُوا فِي الْمَدِينَةِ وَفِي الضِّيَاعِ. فَخَرَجُوا لِيَرَوْا مَا جَرَى. وَجَاءُوا إِلَى يَسُوعَ فَنَظَرُوا الْمَجْنُونَ، الَّذِي كَانَ فِيهِ اللَّجِئُونُ، جَالِساً وَلاَبِساً وَعَاقِلاً. فَخَافُوا. فَحَدَّثَهُمُ الَّذِينَ رَأَوْا كَيْفَ جَرَى لِلْمَجْنُونِ وَعَنِ الْخَنَازِيرِ. فَابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ تُخُومِهِمْ. وَلَمَّا دَخَلَ السَّفِينَةَ، طَلَبَ إِلَيْهِ الَّذِي كَانَ مَجْنُوناً أَنْ يَكُونَ مَعَهُ. فَلَمْ يَدَعْهُ يَسُوعُ بَلْ قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَهْلِكَ وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ صَنَعَ الرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ». فَمَضَى وَابْتَدَأَ يُنَادِي فِي الْعَشْرِ الْمُدُنِ كَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ. فَتَعَجَّبَ الْجَمِيعُ. (مرقس5: 1-20، متى8: 28-34، لوقا8: 26-39).

رواية مرقس هذه، الأطول بين روايات الأناجيل الإزائية، تنتهي بالقول (الآية 20) أن المجنون المعافى أضحى كارزاً بالمسيح في منطقة المدن العشر. لكن إلى جانب هذه النظرة الرسولية، أراد الإنجيلي أن يظهر يسوع كمسيّا مقتدر يغلب الشيطان، يشلّ أعماله، ويحرّر الناس من عبوديته، مدشّناً هكذا زمناً جديداً للإنسانية بشَّر به العهد القديم وتحقق في الكنيسة.

تحصل العجيبة “عبر البحر” أي في المنطقة المقابلة للجليل عبر البحيرة. تذكر المخطوطات المختلفة العبارات التالية: “كورة الجرجسيين”، “كورة الجراسيين”، “كورة الجدريين”. تعود العبارة الأولى إلى تصحيح أوريجنس (Origene) الذي يتكلم عن مدينة مجهولة اليوم اسمها جرجسة، معتبراً أن جراسة مدينة في العربية. ونحن نعلم أن مدينة جراسة تقع على بعد 60 كلم من البحيرة في منطقة المدن الخمس. العبارة الأصح إذاً هي “الجدريين” لأن مدينة جدرة (فيها مدرسة للفلاسفة الرواقين) تقع قرب بحيرة جنيسارت، على بعد 10 كلم إلى الجنوب الشرقي منها؛ ومن جهة ثانية لم يحصل الحدث داخل المدينة بل حواليها، “في كورة الجدريين…”، أي في منطقة البحيرة. وما جاء عند لوقا 8: 26 “التي هي مقابل الجليل” يدعم وجهة النظر هذه.

توصف حالة المريض الذي التقى بيسوع لما خرج من السفينة (الآية 2) بأنها شقية بائسة. فيه “روح نجس” أي فيه “شيطان” (démonisé) ويسكن القبور. ولو أردنا أن نصفه بعبارة معاصرة لقلنا أنه لا ينسجم مع المجتمع لأنه لا يعيش بين البشر بل بعيداً عنهم في القبور والجبال (الآيتان 3 و5)، تسوده عادة أذية نفسه (“يجرح نفسه بالحجارة”)، يأخذ موقفاً إيجابياً لكنه لا يستطيع أن يضبط (الآية 4)، وهو يعاني من انقسام داخلي في شخصيته (“اسمي لجيون لأننا كثيرون”). هكذا نشاهد خليقة الله “الحسنة جداً” توصف بهذه الصورة الحزينة بعدما صارت فريسة للشيطان.

لكن الإنجيلي يُظهر يسوع محرراً للبشر من مثل هذه العبودية ومجدداً طبيعتهم المنفسدة. يعترف الروح الشرير المخفي في المريض بمثل هذا السلطان الإلهي لدى المسيّا، ولذلك يصرخ نحو يسوع بفم المريض “ما لي ولك يا يسوع ابن الله العلي”. في هذه الجملة يعترف الشيطان: 1- أنه لا يوجد أي شي مشترك بينه وبين يسوع، لأن يسوع يريد خلاص البشر بينما هو يريد هلاكهم؛ 2- أن المتكلم معه هو ابن الله العلي. إذاً فهو يضيف صفة سامية لا يعرفها الناس لشخصية يسوع المسيانية؛ 3- أن ظهور المسيّا في العالم يعني إبطال عمله الفاسد.

برهان آخر على اعتراف الشيطان بقدرة يسوع هو جوابه سؤال يسوع عن اسمه: “اسمي لجيون لأننا كثيرون” (الآية 9)، لأن الأقوى وحده يستطيع أن يستفهم عن اسم من هو دونه وأضعف منه حسب مفهوم ذلك الزمن. كانت الفرقة الرومانية المدعو لجيون (Légion) مكوّنة من 4 إلى 6 آلاف رجل و300 حصان. هذا لا يعني أن مثل هذا العدد كان موجوداً داخل المريض، لكنه يعني أنهم كثيرون، جيش بكامله، يمكنه أن يمزّق شخصية الإنسان شر تمزيق.

يطلب الشياطين من يسوع ألا يرسلهم إلى مكان العذاب بل أن يسمح لهم بأن يسكنوا في قطيع من الخنازير القريبة (الآيتان 11-12). يقبل يسوع طلبهم “غير مقتنع منهم بل بتدبير مقصود من قبله”، حسب القديس يوحنا الذهبي الفم. ما هو “التدبير” الذي اتخذه يسوع عندما سمح للشياطين أن تسكن في حوالي 2000 خنزير اندفعت من على الجرف إلى البحر (الآية 13)؟ يقول البعض أن ما جرى كان لمعاقبة الرعاة الذين يربّون الخنازير المحرّمة في الناموس الموسوي. هذا التفسير غير صحيح لأن الحدث جرى في أرض وثنية (المدن العشر Décapole) حيث لا معنى للتحريم. يريد يسوع على الأرجح، عن طريق تلبية مطلب الشياطين، أن يشدّد على تأثير حضورهم المهلك، لأنهم حيث وُجدوا، أفي الناس كان أم في الحيوانات، فهم يجلبون الهلاك. وكذلك يريد يسوع أن يشدّد على استحقاق الإنسان غير المنازع لكل تضحية جديرة بتأمين خلاصه.

أسرع الرعاة ليخبروا أهل المدينة والضياع (الآية 14) الذين جاؤوا إلى مكان العجيبة، فرأوا المجنون أولاً “لابساً وعاقلاً” (الآية 15)، فخافوا. طبعاً اعتبروا هلاك قطيع الخنازير أهمّ من حدث شفاء المجنون، وخافوا أن يجلب حضور يسوع في مقاطعتهم مصائب أخرى. لذلك رجوه أن يخرج من تخومهم. إن خوفهم هو الذي قادهم، ليس إلى الاعتراف بقدرة يسوع والسجود له كمسيّا، بل إلى رغبة التخلّص منه (الآيتان 16-17).

وعلى العكس فإن المجنون المعافى الذي لم يكن يحتمل أن يسكن بين الناس قبلاً هو الآن “يلبس ويعقل” ويطلب أن يكون مع يسوع (الآية 18). إن اللقاء بابن الله يحوّل الإنسان جذرياً ويجعله مصدر خلاص للآخرين. لا يقبل يسوع طلب المجنون بل يرسله ليكرز بما فعل له الرب (الآية 19). وتجعلنا الآية 20 نفهم أن الذي شُفي كرز بالمسيحية في منطقة المدن العشر. حماسه التبشيري هو نتيجة لقائه الحي مع يسوع ونتيجة خلاصه عن يده.

في رواية متى عن الموضوع نفسه (8: 28 – 9: 1)، يتكلم عن شفاء مجنونين وليس عن شفاء واحد. هل هي عجيبة أخرى؟ إن التشابه بين الأناجيل الثلاثة لا يسمح لنا بمثل هذا الافتراض خاصة وأن الإنجيليين مرقس ولوقا يضعان هذه العجيبة فوراً بعد تسكين العاصفة عند اجتياز يسوع مع تلاميذه. كيف نستطيع إذاً أن نفسّر مثل هذا الاختلاف؟

الأرجح أن الإنجيلي مرقس يذكر واحداً من المجنونين الذي كان أخطر ومعروفاً لدى سكان المنطقة. هكذا يقول أكثر آباء الكنيسة. ويمكننا القول من جهة أخرى أن تقليد متى يتكلم عن مجنونين بينما يتكلم تقليد مرقس ولوقا عن مجنون واحد. وهذا ما يحصل مع الأعميين عند متى (9: 27-35 و20: 29-34).

ما يهم الإنجيليين ليس عدد المرضى المعافين بل تركيزهم على سلطة يسوع كمسيّا في طرد الشيطان، وإنهاء عمله المفسد في العالم، وكنتيجة لذلك تحرير الناس من عبوديته. هذا ما يركّز عليه متى بصورة خاصة حيث لا تظهر كثيراً شخصية المجنونين (لا يتكلم معهما يسوع، لا يتكلم عم حدث لهما بعد الشفاء، لا يتكلم عن حالتهما بعد الشفاء كما عند مرقس ولوقا). بل يشدّد أكثر على محاورة ابن الله للشياطين ومعاقبته إياهم. يريد الإنجيلي أن يؤكد على أن عمل المسيح يُدشّن زمناً جديداً تُقهر فيه قوة الشيطان، ويتراجع فيه المريض ويتحرر الإنسان. هذا الزمن الجديد نحياه في الكنيسة التي يؤسسها ويجمعها المسيا.

شفاء الامرأة النازفة الدم وإقامة ابنة يايروس:

وَلَمَّا اجْتَازَ يَسُوعُ فِي السَّفِينَةِ أَيْضاً إِلَى الْعَبْرِ، اجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ. وَكَانَ عِنْدَ الْبَحْرِ. وَإِذَا وَاحِدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمَجْمَعِ اسْمُهُ يَايِرُسُ جَاءَ. وَلَمَّا رَآهُ خَرَّ عِنْدَ قَدَمَيْهِ. وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً قَائِلاً: «ابْنَتِي الصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ. لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا». فَمَضَى مَعَهُ وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَكَانُوا يَزْحَمُونَهُ.

وَامْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ تَأَلَّمَتْ كَثِيراً مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ وَأَنْفَقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا وَلَمْ تَنْتَفِعْ شَيْئاً بَلْ صَارَتْ إِلَى حَالٍ أَرْدَأَ. لَمَّا سَمِعَتْ بِيَسُوعَ جَاءَتْ فِي الْجَمْعِ مِنْ وَرَاءٍ وَمَسَّتْ ثَوْبَهُ. لأَنَّهَا قَالَتْ: «إِنْ مَسَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ». فَلِلْوَقْتِ جَفَّ يَنْبُوعُ دَمِهَا وَعَلِمَتْ فِي جِسْمِهَا أَنَّهَا قَدْ بَرِئَتْ مِنَ الدَّاءِ. فَلِلْوَقْتِ الْتَفَتَ يَسُوعُ بَيْنَ الْجَمْعِ شَاعِراً فِي نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ، وَقَالَ: «مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي؟». فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «أَنْتَ تَنْظُرُ الْجَمْعَ يَزْحَمُكَ وَتَقُولُ مَنْ لَمَسَنِي؟». وَكَانَ يَنْظُرُ حَوْلَهُ لِيَرَى الَّتِي فَعَلَتْ هَذَا. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَجَاءَتْ وَهِيَ خَائِفَةٌ وَمُرْتَعِدَةٌ عَالِمَةً بِمَا حَصَلَ لَهَا، فَخَرَّتْ وَقَالَتْ لَهُ الْحَقَّ كُلَّهُ. فَقَالَ لَهَا: «يَا ابْنَةُ إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. اذْهَبِي بِسَلاَمٍ وَكُونِي صَحِيحَةً مِنْ دَائِكِ».

وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جَاءُوا مِنْ دَارِ رَئِيسِ الْمَجْمَعِ قَائِلِينَ: «ابْنَتُكَ مَاتَتْ. لِمَاذَا تُتْعِبُ الْمُعَلِّمَ بَعْدُ؟». فَسَمِعَ يَسُوعُ لِوَقْتِهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي قِيلَتْ، فَقَالَ لِرَئِيسِ الْمَجْمَعِ: «لاَ تَخَفْ، آمِنْ فَقَطْ». وَلَمْ يَدَعْ أَحَداً يَتْبَعُهُ إلاَّ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ. فَجَاءَ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ الْمَجْمَعِ وَرَأَى ضَجِيجاً: يَبْكُونَ وَيُوَلْوِلُونَ كَثِيراً. فَدَخَلَ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تَضِجُّونَ وَتَبْكُونَ؟ لَمْ تَمُتِ الصَّبِيَّةُ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ». فَضَحِكُوا عَلَيْهِ. أَمَّا هُوَ فَأَخْرَجَ الْجَمِيعَ، وَأَخَذَ أَبَا الصَّبِيَّةِ وَأُمَّهَا وَالَّذِينَ مَعَهُ وَدَخَلَ حَيْثُ كَانَتِ الصَّبِيَّةُ مُضْطَجِعَةً. وَأَمْسَكَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ وَقَالَ لَهَا: «طَلِيثَا قُومِي»، (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا صَبِيَّةُ لَكِ أَقُولُ قُومِي). وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ الصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ. لأَنَّهَا كَانَتِ ابْنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. فَبُهِتُوا بَهَتاً عَظِيماً. فَأَوْصَاهُمْ كَثِيراً أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ بِذَلِكَ. وَقَالَ أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ. (مرقس5: 21-43، متى9: 18-26، لوقا8: 40-56).

تشهد الروايتان على سيادة يسوع على المرض والموت. لا يربط بينهما الزمن بل موضوع الإيمان المشترك في قدرة يسوع على الشفاء. كانت الامرأة النازفة الدم معتبرة نجسة بسبب نوع مرضها (أنظر سفر اللاويين 12: 1، 15: 9 و25…)، ولذلك لم يكن لها الحق في ملامسة الناس الآخرين. لكن إيمانها في قدرة يسوع على الشفاء كانت أقوى من الأوامر الناموسيّة، لذلك عندما اختلطت بالجموع لامست ثياب المعلّم وشفيت. بعد سؤال يسوع “من لمس ثيابي” (الآية 30)، ارتعدت الامرأة واضطرت أن تخرج من الجمع المجهول وتأتي للقاء يسوع الشخصي. لم يوبّخها الرب على عملها (كما كانت تنتظر)، لكنه أبرز إيمانها بمناداته إياها “يا ابنة” (رغم سنها المتقدم حتماً)، مرتباً إياها في مصف عائلة الله، هذه العائلة التي يؤسسها هو، المسيا، على الأرض.

يقدّم المفسر ثيوفيلكتوس تفسيراً رمزياً للرواية معتبراً الإنسانية نازفة الدم التي لم تستطع أن تشفى على يد الأطباء وحكماء هذا العالم لكنها وجدت شفاءها في صلتها مع المسيح.

يقع حدث الشفاء بينما كان يسوع مصحوباً بالجمع متوجهاً إلى بيت رئيس المجمع يايرس لكي يشفي ابنته المشرفة على الموت. وبينما هو يتحدّث مع الامرأة التي شفاها، جاء مُرسلون من قبل بيت رئيس المجمع معلمين إياه بموت الابنة ولذلك لم يعد من داعٍ لإزعاج المعلّم (نلاحظ حسب رواية متى أن الابنة كانت قد ماتت عندما جاء يايروس إلى يسوع متوسلاً إليه لكي يضع يده عليها ويشفيها). لم يعطِ يسوع أهمية خاصة للخبر “فسمع يسوع لوقته الكلمة التي قيلت”، بل قال ليايروس “لا تخف، آمن فقط”. من الطبيعي أن يكون موت الابنة قد زعزع آمال رئيس المجمع. لكن الإنجيل لم يخبرنا عنه لأن اهتمامه مركز على قدرة المسيا في الشفاء.

وبينما كانت الساعة ساعة إعلان يسوع عن قدرة الله ومجده، ترك الجمع واصطحب معه ثلاثة من تلاميذه، بطرس ويعقوب ويوحنا، وتوجّه إلى بيت رئيس المجمع حيث سمع “ضجيجاً: يبكون ويولولون كثيراً” (الآية 38)، أي أن البكاء على الميت كان قد بدأ. حسب عادة الدفن في فلسطين (أنظر Grundmann صفحة 117)، وحتى في دفن الإسرائيلي الفقير، كان لا بد من وجود نادبة تنشد النشائد الرثائية وآلتين للموسيقى لإخراج الأرواح الشريرة التي تحاول أن تختطف النفس الخارجة حديثاً من الجسد والتي لم تزل بعد قريبة منه.

في ملاحظة يسوع أن “الصبية لم تمت لكنها نائمة”، والتي يجيب عنه الحاضرون بالاستهزاء “فضحكوا عليه”، يرى يسوع الموت نوماً، لأنه سيّد الحياة والموت، فيمسك بيد الصبية ويعطي أمراً قاطعاً بقيامها. في هذه النقطة يذكر لنا الإنجيلي التعبير الآرامي الذي استخدمه يسوع لإقامة الميت “طليثا قومي” أي “يا صبية لك أقول قومي”.

الصبية البالغة 12 سنة تقوم للحال وتمشي. إن الأمر الذي يعطيه يسوع بأن يقدّموا لها طعاماً له معنى تثبيت الحدث وجعله فوق كل شك. ومن الطبيعي بعد هذا الحدث العجيب أن يندهش الجميع. بعد ذلك لا يتكلم الإنجيل عن شعور الجمع أو عن الذين كانوا من قبل يضحكون منه. يهمّ الإنجيلي أن يشدّد على سلطة يسوع على الموت. وتُختم الرواية بعبارة مرقس المعروفة حول “سرّية المسيا”: “فأوصاهم كثيراً أن لا يعلم أحد بذلك” (الآية 43).

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى