الشريعة والأنبياء

لمّا دخل بولس رومية، أُذن له “أن يقيم في منزل خاصّ به مع الجنديّ الذي كان يحرسه” (أعمال 28: 16). وبعد ثلاثة أيّام من حلوله في هذه المدينة، دعا إليه أعيان اليهود، واجتمع بهم، وأخبرهم عن سبب سجنه. فقالوا له إنّهم لم يسمعوا عنه سوءاً. وأخبروه بأنّهم يودّون أن يسمعوا رأيه عن “شيعة النصارى” التي “تقاوم في كلّ مكان” (الآيات 22- 27). “ثمّ جعلوا له يوماً جاؤوا فيه إلى منزله وهم أكثر عدداً. فأخذ يعرض لهم الأمور، فيشهد لملكوت الله ويحاول أن يقنعهم بشأن يسوع معتمداً على شريعة موسى وكتب الأنبياء” (الآية 23).

وإذا عدنا إلى رسالته التي خصّ بها المؤمنين أنفسهم في رومية، لا يخفى عنّا أنّ الرسول استند، في غير موضع، إلى الكتب القديمة ليوضح أموراً عدّة تؤكّد صحّة شهادته. ويحلو لنا أن نذكر بعضها، ومنه: في فاتحة رسالته تكلّم على: “البشارة التي سبق أن وعد الله بها على ألسنة أنبيائه في الكتب المقدّسة” (1: 2)؛ واستفاد من مثل إبراهيم ليظهر أهمّيّة الإيمان (4: 1- 25)؛ وبيّن، تالياً، أنّ “غاية الشريعة هي المسيح، لتبرير كلّ مؤمن. وقد كتب موسى في أحكام الشريعة: إنّ الإنسان الذي يتمّها يحيا بها” (10: 4 و5؛ قارن مع سفر الأحبار 18: 5)؛ وقال أيضاً: “فإنّ كلّ ما كتب أيضاً قبلاً إنّما كتب لتعليمنا حتّى نحصل على الرجاء، بفضل ما تأتينا به الكتب من الثبات والتشديد” (15: 4). والواقع أنّ هذا غيض من فيض، فإنّ جلّ هذه الرسالة يستند إلى الكتب القديمة التي هي ظلٌّ للآتي (عبرانيّين 1: 1). وما هذه المواقع التي اخترناها إلاّ مثل بسيط على ذلك. ومن أراد الاستزادة له أن يقرأ الرسالة عينها، والعهد الجديد بمجمله.

الاعتماد على شريعة موسى وكتب الأنبياء (أي العهد القديم) للشهادة ليسوع، كان مستند بولس ومستند الكنيسة الأولى. وفي تتبّعنا التراث الجديد نجد، مثلاً، أنّ الرسول اعتنى، ولا سيّما مع اليهود، أو المسيحيّين من أصل يهوديّ، بأن يكون العهد القديم قاعدة من قواعد بشارته بيسوع. فالعهد القديم كتاب الكنيسة، وهو بمجمله شهادة للربّ الآتي وعنه. الربّ هدفه. والكتابات الجديدة التي تؤكّد ذلك، لا يهدف تأكيدها الوقوف على ما هو قديم. بل إنّما تبيان أنّ العهد القديم قيمته الحقيقيّة أنّه يشير إلى المسيح الفادي (راجع تأكيد الربّ القاطع أنّ الكتب القديمة تكتب عنه، أو تشهد له، في يوحنّا 5 :39 و46). ولذلك لا قيمة، عندنا، لهذا العداء المفرط غير المبرّر الذي يعتمده بعضٌ ضدَّ كتب العهد القديم. ولا نجهل حججهم ودوافعهم. أن يرفض بعضٌ اليهودَ الصهاينة، ويدين أعمالهم وتعسّفهم في الأرض (وهذا منطقيّ)، لا يشرّع له أن يضطهّد تراثاً مقدّساً لم يعد يخصّ الذين صلبوا هدفه. القاعدة في قبول العهد القديم هي ربّنا الهدف. فإذا كانت في الكتب القديمة دلائل على مجيء ابن الله إلى العالم وإتمامه تدبير أبيه، وهذا أكيد، فمعناها، عندنا، يكون انطلاقاً من الوعد الذي تحمله. المؤمن لا يأخذ أحكاماً مسبقة ممّا لا يفهمه، أو يقرأه بصعوبة. فإذا كان من كلام أو تصرّف، في العهد القديم، يأباه “القارئ العصريّ”، لا يكون موضوعيّاً إن رمى به لأنّ أحداً قال له أن يفعل، أو أوحت إليه نفسه بذلك. هذا ليس موقفاً إيمانيّاً ولا علميّاً. المؤمن الحقيقيّ يتحرّك بموجب تعامل الربّ ورسله مع التراث القديم، وتالياً أبرار الكنيسة في كلّ جيل. الربّ قرأه وفسّره، والكنيسة كذلك. وهذا لا توازيه قيمة. والذين يقولون إنّ كتابنا هو العهد الجديد، حصراً، لا قيمة لما يقولونه إذا كان قصدهم أنّ العهد القديم لا لزوم له. فإلى جانب ما أكّدنا ثمّة ألفاظ وعبارات، في العهد الجديد، لا يحصى عددها من المستحيل فهمها إن لم نبحث عن معانيها في الكتب القديمة، منها مثلاً: مسيح، ابن داود، ابن الإنسان، العبد المتألّم، الفادي، الكرمة، الكنيسة، كنيسة الأبكار، ملكوت الله، قدّيسون، أبناء الله، كهنوت ملوكيّ، الذبيحة، وغيرها. هذه أمور لا يليق بأن نجادلها إن كنّا حقّاً نفهم معنى هذا الإعداد الطويل الذي أعدّنا الربّ به قبل مجيئه.

بعد هذا الثابت يجوز القول إنّ العهد الجديد تمّم القديم وفي آن تخطّاه. فالتتميم يفهم على ضوء الهدف الذي كشف نفسه حبّاً بنا. والتخطّي أنّنا وصلنا إلى “الكامل” (1كورنثوس 13: 10). فبعد مجيء المسيح وتتميمه تدبير أبيه صار هو، عندنا، كتاب الله، أو “مخطوطاته”، كما يؤكّد القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ في رسالته إلى أهل فيلادلفيا (2: 8). كلّ قراءة للمكتوب صارت محكومة به وبخلاصه. والإنسان العاقل لا يقول إنّ إله العهد القديم هو غير إله العهد الجديد. فهذه بدعة أدانتها الكنيسة قديماً. ليس في العالم إلهان. هناك إله واحد عبّر عن نفسه بتدرّج. وإذا كانت المحبّة ختم الكشف، فهذا استنتاج حقيقيّ يعوز ما قبله. الكتب تربية. والتربية، التي ربّى الله العالم بها منذ بدء الخليقة، لا يلغيها شيء. فلا أحد، في العالم كلّه، مهما بلغت قامته، يقدر على أن يدّعي أنّه فوق كشف الله الممدود في التاريخ. هل يرمي بالغ ما قاله له أبواه في صغره؟ أليس إرشادهما يبقى ذخيرة في القلب الراضي دائماً؟ إذا كان هذا حالنا مع أبوينا الأرضيّين فكم بالأحرى يجب أن يكون هذا حالنا مع الله أبينا الذي لا أحد عاقلاً يدّعي أنّ أحداً في الأرض له ثباته أو يوازيه قداسة.

كان بولس يعتمد على شريعة العهد القديم وكتب الأنبياء ليقنع سامعيه بشأن يسوع. هذا سند لنا إذا رمنا الشهادة للحقيقة الواحدة. فنحن تلاميذ الربّ والكنيسة الحيّة التي لم تتكلّم أو تتصرّف من ذاتها، ولكن بوحي الروح القدس الساكن فيها أبداً.

نشرة رعيتي
الأحد في 29 آب 2004
العدد 35

arArabic
انتقل إلى أعلى