النبي يونان في التراث العربي

هو يونان ابن أمتّاي صاحب النبوءة الواردة في سفر مستقلّ في العهد القديم. وهو معروف أيضًا، في التراث العربيّ باسم “يونُس”، وبلقبه “ذي النون”، وقد خصّص القرآن سورةً باسمه، هي السورة العاشرة، كما يرد ذكره في آيات عديدة متفرّقة. وتتشابه الروايتان الكتابيّة والقرآنيّة، ولا سيّما حين تذكران الحوت وابتلاعه يونان، ثمّ توبة أهل نينوى. وليونان أهمّيّة كبرى في العهد الجديد، إذ إنّ الربّ يسوع اعتبر قصّة مكوث يونان ثلاثة أيّام وثلاث ليال في بطن الحوت بمثابة نبوءة عن بقائه هو “في قلب الأرض” ثلاثة أيّام وثلاث ليال (متّى 12: 39- 41)، بعد صلبه وفي انتظار قيامته. تعيّد له الكنيسة الأرثوذكسيّة في الحادي والعشرين من شهر أيلول.

تتميّز الرواية القرآنيّة عن يونان النبيّ بالإيجاز، فلا تستفيض في ذكر التفاصيل كلّها كما في الرواية الكتابيّة. ففي سورة الصافّات نقرأ: “وإنّ يونُس لمن المرسَلين. إذ أبَقَ إلى الفُلك المشحون. فساهم فكان من المدحَضين. فالتقمه الحوت وهو مُليمٌ. فلولا أنّه كان من المسبِّحين، للبثَ في بطنه إلى يوم يُبعثون. فنبذناه بالعراء وهو سقيم. وأنبتنا عليه شجرةً من يقطين. وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون. فآمنوا فمتّعناهم إلى حين” (37: 139-148). مجمل التفاسير تتّفق على القول بأنّ الله أرسل يونُس إلى أهل نينوى، لكنّه فضّل الهروب (أبَقَ هرب) إلى الفُلك المملوء ركّابًا وأمتعة. فعندما عرف أهل الفُلك بصنيعه رموه في اليمّ، فابتلعه الحوت وهو مقترفٌ ما يلام عليه (مُليمٌ). ولولا أنّه كان من الذاكرين اللهَ كثيرًا بالتسبيح مدّة عمره لمكث في بطن الحوت مقبورًا فيه إلى يوم القيامة. فاستجاب الله دعاء يونُس وألقاه في مكان خالٍ من الشجر والنبات على الساحل، وأنبت فوقه شجرة تظلّله، يقطينةً (خِروَعة في الرواية الكتابيّة). ثمّ أرسله إلى أهل نينوى الذين قبلوا الدعوة إلى التوبة فكافأهم الله بأن غفر لهم خطاياهم السابقة، وصرف عنهم غضبه.

وتستفيض الروايات التفسيريّة في تفصيل ما تغاضى عنه القرآن. فابن كثير الدمشقيّ (توفّي 1372)، في كتابه “قصص الأنبياء”، يقول إنّ الله عزّ وجلّ بعث حوتًا عظيمًا فالتقمه وأمره تعالى ألاّ يأكل له لحمًا ولا يهشّم له عظمًا، فأخذه الحوت وطاف به البحار كلّها. وفي رواية أخرى أنّ ذلك الحوت ابتلعه حوتٌ آخر أكبر منه. ويتابع الراوي قائلاً إنّ يونُس حين استقرّ في جوف الحوت حسب أنّه مات، فحرّك جوارحه فتحرّكت، فإذا هو حيّ. فخرّ لله ساجدًا وقال: “يا ربّ.. اتّخذتُ لك مسجدًا في موضع لم يعبدك أحدٌ في مثله”، معتبرًا جوف الحوت مسجدًا لله. ويروي أحد الأحاديث أنّ يوُنس في محنته قد سمع حسًّا، فأوحى الله إليه “إنّ هذا تسبيح دوابّ البحر”، فسبّح هو بدوره. فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: يا ربّنا، إنّا نسمع صوتًا ضعيفًا بأرض غريبة! قال الله: ذاك عبدي يونُس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. قالوا: العبد الصالح، الذي كان يصعد إليك منه في كلّ يوم وليلة عملٌ صالح؟ قال: نعم. فشفعوا له عند ذلك. فأمر الله الحوت، فقذفه في الساحل.

وفي سورة الأنبياء نقرأ: “وذا النون إذ ذهب مغاضبًا فظنّ أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنتُ من الظالمين. فاستجبنا له ونجّيناه من الغمّ، وكذلك ننْجي المؤمنين” (21: 87-88). يتّفق المفسّرون على القول بأنّ “الظلمات” المذكورة في الآية هي ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت. واللافت في هاتين الآيتين هو استجابة الله لنداء المؤمنين له في أوقات الشدّة. فعلى غرار يونُس الذي أنجاه الله من غمّه وكربه، كذلك ينجي الله المؤمنين من غمّهم إذا استغاثوا به. لكن، وفي سياق قصّة يونُس، نجد أحد المفسّرين يورد في شأن استجابة الله الدعاء في أوقات الشدّة حديثًا شريفًا ترد فيه الحكمة الآتية: “تعرّفْ إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة”.

أمّا عن توبة أهل نينوى من أرض الموصل في العراق فنقرأ في سورة يونُس: “فلولا كانت قريةٌ آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قومَ يونُس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتّعناهم إلى حين” (10: 98). أجمع أهل التفسير على القول بأنّ أهل نينوى لم يصدّقوا يونُس حين أتاهم بالدعوة إلى الصلاح وصمّوا آذانهم عن الإصغاء إليه، فوعدهم بحلول العذاب بهم. غير أنّ الله قذف في قلوبهم التوبة والإنابة (العودة إلى سواء السبيل)، فندموا ولبسوا المُسوح متضرّعين إليه. فتاب الله عليهم، وكشف عنهم العذاب برحمته ورأفته. وأضاف أكثر المفسّرين أنّ هذا إيمان أهل نينوى سوف ينفعهم في الدار الآخرة، فينقذهم من العذاب الأخرويّ كما أنقذهم من العذاب الدنيويّ.

ثمّة بيت للشاعر العربيّ ما قبل الإسلام أميّة بن أبي الصلت، الذي يعتقد بعض العلماء أنّه نصرانيّ فيما قال البعض الآخر إنّه كان على دين الحنيفيّة التوحيديّ، يقول فيه:

وأنتَ بفضل منك نجّيتَ يونُسًا         وقد بات في أضعاف حوت لياليَا

هذا يعني أنّ اسم يونُس، القريب إلى اللفظ اليونانيّ، كان مألوفًا في الجزيرة العربيّة. وإنْ كان المسيحيّون العرب يستعملون الاسم بلفظه المعهود الوارد في ترجماتهم للكتاب المقدّس “يونان”، لا ينفي أنّهم كانوا يستعملون في حقبة تاريخيّة سابقة، وفي العصر الحاضر، الاسم بلفظه العربيّ “يونُس”. في كلّ الأحوال، خلّد التراث المسيحيّ الحيّ يونان-يونُس إذ يذكره في ترانيم عيد الفصح المجيد، حين يتوجّه إلى الربّ يسوع بالقول: “وفي اليوم الثالث برزتَ ناهضًا من القبر كما برز يونان من الحوت”. فأنقذنا، يا ربّ، من أن يبتلعنا حوت هذه الحياة الدنيا، فنكون شركاء قيامتك المحيية.

عن نشرة رعيتي
الأحد 16 أيلول 2007
العدد 37

arArabic
انتقل إلى أعلى