الأنبياء الأولون والأخيرون

الانبياء الأولون:

الأسفار المسمّاة تاريخية (يشوع، قضاة، صموئيل، ملوك)، يطلق عليها اليهود اسم “الأنبياء الأولين”، ويساوون بينها وبين الأنبياء الأخيرين (إشعيا، إرميا، حزقيال وسائر الأنبياء). وقد سمّيت هذه الأسفار هكذا لأن التقليد نسب تأليفها الى المدارس النبوية (من القرن الثامن الى السادس ق.م). إلا أن ما يبرّر هذه التسمية ايضا هو تدخل أنبياء عديدين في هذه الأسفار، مثل صموئيل وجاد وناثان وايليا وأليشاع وإشعيا وإرميا وغيرهم، وأنها (الأسفار) تقدّم تفسيرا نبويا للتاريخ. لقد تأمل المؤلفون في التقاليد التي تنقل الأحداث ورووها في وجوهها المختلفة، وفي هذا التأمل في الماضي يسعى هؤلاء الأنبياء، عن طريق الكلمة التي نطقوا بها والتي تكشف أمانة الشعب او خيانته، الى نورٍ للحاضر ورجاءٍ للمستقبل.

تجاذب بعض المؤرخين حول تبعية سفر يشوع، فمنهم من يؤكد انه أصلا من أسفار التوراة، وذلك لاسباب تتعلّق بمحتواه وشكله، فمصادره هي مصادر أسفار التوراة الخمسة عينها وهو يكمّلها طبيعيا بإيصاله الشعب الى ارض الميعاد، وميثاق سيناء يجدّد في شكيم. ناهيك بالخطب المطوّلة (إصحاحات 1 و 23)، التي هي حصيلة تأملات في تاريخ إسرائيل على ضوء الاختبارات الجديدة، والتي ارتكز محرّرها (القرنان السابع والسادس ق.م) على سفر تثنية الاشتراع، السفر الذي يشدّد على اختيار الشعب وأهمّية الارض ووحدة المعبد الذي هو هيكل أورشليم. ففي تثنية الاشتراع، مثلا، نرى في التشريع الحربي نفَسا إنسانيا فالمعاهدة مع الشعوب البعيدة تفضَّل على المعركة (20 :10-15)، والأسرى من النساء يعامَلن بلطف (21 :10-14). إلا أن العلاقة مع سكان الارض (الكنعانيين) فمختلفة، ذلك انهم مُشْرِكون اي يعبدون آلهة عديدة، فدافع محاربتهم الأساسي يتأتى من الأمانة لإله إسرائيل الواحد التي قد تفسدها معاشرة الوثنيين. إلا اننا اذا ذكرنا أن عملية تحرير الأرض وتوزيعها بين القبائل بقيت الى أيام داود الملك، ندرك أن الإبادة الشاملة لشعب الأرض، التي تكلّم عنها سفر يشوع، ليست هي واقعة تاريخية، وأن كثيرا ما كان هناك تعايشاً قائماً بين الكنعانيين وبين بني إسرائيل (15 :63 و 16: 10 و 17 :12-13). معنى السفر يُدرَك حقا اذا فُهم أن المقصود هو تحقيق الوعد، ذلك أن الشخصية التي تفوق يشوع بروزا هي ارض الميعاد. وهذا ما يعطي يشوع أهمية، فهو خليفة موسى، والعمل الذي بُدئ به مع موسى يُكمل مع يشوع. وهناك تقليد قويّ يروي أن موسى ابدل اسم هوشع بن نون (عدد 13: 16) بيشوع (اسم يسوع في العهد الجديد)، وهو بذا يشير الى مصيره الجديد.

يروي سفر القضاة إقامة الأسباط الإسرائيلية في فلسطين، وقصة الرجال البارزين الذين أقامهم الله قادة لشعبه وخلصوه من ضيقاته في الفترة التي سبقت أيام صموئيل. يعود اسم السفر الى هؤلاء الرجال. لقبهم “قضاة” (شُفِطيم في العبرية) لا يعني انهم كانوا قضاة بالمعنى القانوني للكلمة، ففي العبرية “شَفَط” تعني “حَكَمَ” اي صحّح وضعا مشبوها او أجرى العدل، اي نصر الحق المهدور بمعنى انه حقّق نوعا من التحرير. عدا أبيمالك الذي انتُخب ملكا في شكيم بذات سلطانه والذي لم يُحسَب، على ما يظهر، في عداد القضاة، نجد مجموع اثني عشر قاضياً الى أيام صموئيل ومن دونه.

سفرا صموئيل (اللذان كانا يؤلفان اولا سفرا واحدا) يرويان إنشاء الملكية. وما يرويانه لا يكتمل إلا مع كتاب الملوك بسفريه الأول والثاني. الكتاب وُضع على اسم صموئيل لأن التقاليد القديمة اعتبرت أن صموئيل كتب القسم الأكبر منه. تختصّ رويات الكتاب بشاول وداود، وتمتاز بدقة ونضارة تستحق الإعجاب. انها، بالتأكيد، شهادة معاصرة، ولكن يصعب تحديد التواريخ تحديداً دقيقاً. فإذا ما انطلقنا من تاريخ انشقاق الاسباط العشرة (حوالى سنة 935 ق.م)، نصل الى تحديد عهد داود حوالى الألف ق.م.، لأن كلاّ من عهدي داود وسليمان دام، حسبما هو مقبول، أربعين سنة.

ينطلق كتاب الملوك من الوثائق الموجودة في البلاط الملكي ليحدّثنا عن ملوك يهوذا واسرائيل على ضوء كلام الله وتعليمه. يملأ سليمان بعهده الزاهر ووجهه المثالي بين وجوه الملوك الاحد عشر إصحاحا الأولى من سفر الملوك. ويروي الكتاب الانفصال بين مملكتي إسرائيل الذي يحدثه انشقاق الأسباط العشرة، فتاريخ المملكتين معا حتى زوال مملكة الشمال عام 722 ق.م. ومن ثم تاريخ مملكة يهوذا حتى زوالها ايضا عام 587 ق.م..

استفاد واضعو الكتاب المقدس من فشل الملوك بعد داود وسقوط الملكية (القرن السادس ق.م.) حتى يتكلّموا عن الملك المنتظر، ذلك انه ساد الاعتقاد بأن وارث المواعد الإلهية سيرسله الرب ليقود الشعب في طريقه، وهو ليس اي ملك وإنما المتحدر من داود اي المسيح.

الأنبياء الأخيرون:

تجمع التوراة العبرية تحت اسم “الأنبياء الأخيرون” ثلاثة أنبياء كبار هم: إشعيا، إرميا وحزقيال، واثنا عشر نبيا يشكلون فيها كتابا واحدا ويُدعون بسبب آثارهم القليلة “الأنبياء الصغار”.

يتصدّر إشعيا الأنبياء الكبار ويعود ترتيبه اولا الى حجم سفره، وهو من بين الأنبياء الأولين الذين وعظوا في مملكة يهوذا. شاعر كبير وسياسي حذق، وعظ بين السنة 740 ق.م والسنة 700ق.م.، فكان له تأثير كبير مما جعل ان تلاميذ له، جاؤوا بعد قرنين، أضافوا أعمالهم الى اعماله. ما ميّزه الإختصاصيون ان سفر إشعيا (66 إصحاحا)، بما فيه من أدلة فكرية وأدبية واضحة، هو بحقيقته كتابٌ يضمّ كتبا عدة كُتبت في أزمنة وظروف مختلفة. فالإصحاحات 1-39 هي جزئيا من تأليف إشعيا بن آموس نفسه، والإصحاحات 40-55، التي تُنبئ بإصلاح قورش الملك الفارسي ليهوذا، هي من تأليف تلميذ مجهول الاسم عاش، على الأرجح، في أيام السبي. اما الإصحاحات 56-66 فهي من تأليف تلميذ آخر عاش بعد السبي. الا أن وحدة السفر بكامله مدهشة بقدر ما تفصل بين أجزائها قرون. لعل التأكيد على قداسة الله وعلى العنصر الماسياني (نسبة الى المسيح) في السفر هي التي دعت للربط بين الأجزاء.

ميخا فلاح تنبأ في مملكة يهوذا، آلمته سياسة الكبار، التي سبّبت الحرب، وظلم الأغنياء. نادى بسخط الله وأنبأ عن الملك الآتي ليرعى شعبه لا من اورشليم ولكن من بيت لحم.

عاموس راعٍ من الجنوب من تقوع بالقرب من بيت لحم، أرسله الله الى الشمال على عهد ياربعام الثاني حوالى السنة 750 ق.م. وكانت السامرة تنعم في العز، فحدّث أهلها عن العدالة الاجتماعية. ما يميّز عاموس عن الأنبياء الذين سبقوه هو انه اول من بُدئ بتدوين كلامه. وفي أيامه وعظ هوشع، وهو من مملكة الشمال. إكتشف حبّ الله وحنانه من خلال حبه لزوجته الذي أعاد لها، بعد سيرتها السيئة، قلب صباها. وأثبت هوشع خطيئة شعبه لانه ليس من يطّلع على محبة الله، والاخ لا يحنّ على أخيه.

بعد أن استشهد إشعيا قام في مملكة يهوذا جيل من الأنبياء: ناحوم، صفنيا، حبقوق وإرميا. في حين وعظ ناحوم حوالى 660 ق.م.، وتحدّث عن دمار نينوى (612 ق.م.) عاصمة آشور، واعتبر أن تدميرها دلالة على عدالة الله، صُعق صفنيا النبي لكون اورشليم، ملوكا وأنبياء وكهنة، بعيدة عن الرب، فالتفت الى المتواضعي القلب الذين يضعون ثقتهم بالله (2: 3).

وعظ حبقوق حوالى السنة 600 ق.م. حين بدأ اهل بابل زحفهم على فلسطين، وتساءل: لماذا يسمح الرب للأشرار بمعاقبة شعبه؟ الا أن جواب الرب له: “البار بالإيمان يحيا” (2: 4) يجعله داعية الى الثقة بالله الذي لا بدّ أن يتدخّل.

في السنة 605 ق.م. هزم الملك نبوخذنصر البابلي المصريين في كركميش، في شمالي سوريا. ووصل سنة 603 ق.م. الى اورشليم وأخضعها. أدرك إرميا (628-580 ق.م.) أن العدو يأتي من الشمال، من بابل، فتوقّع الكارثة ونبّه شعبه إليها، الا أن الشعب اضطهده. شدّد إرميا على سمو الله وعلى خيانة الشعب له ودعاه الى أن يتوب.

كان حزقيال من قافلة المجلوين الأولى الى بابل (597 ق.م.). تنبأ فيها وكان، في البدء يلوم الشعب على سلوكه، الا انه بعد حلول الكارثة ( اي السبي الى بابل سنة 587 ق.م.) انقلب وعظه الى رسالة رجاء وتحدّث عن الرجوع الى الارض المقدسة.

عوبديا هو أقصر أسفار الأنبياء، لا نعرف شيئا عن هوية كاتبه. وجه كلامه الى اهل أدوم، وهم قبيلة سامية استقرت في الجبال جنوبي البحر الميت، الذين فرحوا بدمار اورشليم (785 ق.م.) وندّد بموقفهم. شجّع الناجين بعد الجلاء وأنبأ بمجيء يوم الرب، اليوم الذي تعاقَب فيه الأمم.

أنبياء الرجوع من المنفى هم: حجّاي، زكريا (الاول)، ملاخي يوئيل وإشعيا (الثالث). في السنة 520 ق.م. طالب النبي حجّاي بإعادة بناء الهيكل، وأنبأ بمجيء المسيح.

الإصحاحات الاربعة عشر التي تكوّن كتاب زكريا هي مجموعة مواعظ لنبيَّين، الاول (الإصحاحات 1-8) والثاني (9-14). الاول يؤيد وعظ حجّاي، الا انه يفعل ذلك في اسلوب خاص هو اسلوب الرؤى، ويعلن ان بناء الهيكل هو عربون مستقبل مجيد لأورشليم ووعد ببركات الله. اما الثاني فنبي مجهول الاسم يرقى الى الحقبة اليونانية، بعث فكرة انتظار مسيح يقيم الله مُلكه عن يده.

ملاخي هو رسول الله تحدث عن واجبات الكهنة الذين أهملوا الوعظ بكلمة الله، وعن أهمية الأمانة الزوجية (خطيئة الذين يطلّقون نساءهم)، وعن الذبيحة الشاملة التي ترمز الى ذبيحة العهد الجديد.

لا يُعرف تماما متى وعظ يوئيل. همّته البيئة في حين كان التلوث يسود البلاد، وهو بالنسبة اليه علامة لمجيء “يوم الرب”. تحدث عن حلول الروح القدس في الازمنة الاخيرة.

يستعمل كاتب سفر يونان اسم نبي ورد ذكره في 2 ملوك 14 :25 وهو نبي من القرن الثامن معروف بروحه القومية المتطرّفة. الا ان زمن كتابة السفر يعود، بلا شك، الى ما بعد العودة من الجلاء وتحديدا الى العصر الفارسي. يروي السفر قصة نبي لا يوافق على ان يكون الله كما هو (رحيما، رؤوفا…)، فيرفض إرساله الى نينوى المدينة الوثنية ويحاول الهرب من وجه الرب، لكنه يعود ويطيع. هو كتاب يصوّر بشكل رائع توبة الوثنيين ورضى الرب عليهم.

عن نشرة رعيتي 1995

arArabic
انتقل إلى أعلى