إبرهيم الطبرانيّ راهب فلسطينيّ توفيّ حوالى العام 820 للميلاد. هو يعرّف عن نفسه قائلاً: “أنا عبد الله من آل آدم من أهل قحطان، من طبريّة الشام، ومأواي الأكواخ (بلدة بالقرب من مدينة بانياس إلى الشمال من بحيرة طبريّة)، معدن العلم والأخبار”. اشتهر عنه أنّه جادل الأمير عبد الرحمن ابن عبد الملك ابن صالح الهاشميّ “صاحب” (والي) دمشق وفلسطين، في أيّام الخليفة العبّاسيّ هارون الرشيد. وقد جرت هذه المجادلة في حضور شخصيّات يهوديّة ومسيحيّة وإسلاميّة. ويظهر واضحًا من أقوال الطبرانيّ أنّه كان على المذهب أرثوذكسيًّا على المذهب الخلقيدونيّ.
تتناول المجادلة مسائل عديدة وأجوبة على أسئلة متنوّعة، منها: مسألة الدين الحقّ، ألوهة المسيح وبشريّته، هل المسيح مخلوق أم غير مخلوق؟، في صحّة الإنجيل، التجسّد والثالوث الأقدس، الصليب، تفوّق المسيح على أيّ نبيّ أو رسول آخر، الوعد بالمجيء الثاني والقيامة العامّة. وتنتهي المجادلة بعودة غلمان “الأمير الذين كانوا نصارى وأسلموا” إلى الإيمان المسيحيّ معترفين “بالمسيح أنّه ابن الله الحيّ الأزليّ”. فأمر الأمير بضرب أعناقهم “لارتدادهم” بحسب رأيه، وأمر بزجّ الراهب في السجن.
لا يخاف إبرهيم الطبرانيّ حين سأله الأمير: “فأيّ الأديان أخيَر وأفضل، وأيّة الأمم على الله أكرم؟” من الإجابة بأنّ دين الحقّ والدين الفاضل عند الله هو “دين المسيح وأمّة النصارى”. ذلك أنّ الله جعل المسيحيّة الدين “الذي اختاره لعزّته، وأفرح به ملائكته، ورضيَه لعباده، وخصّ به أولياءه وأهل طاعته، وبشّرت به أنبياؤه، (…) وقاد إليه الشعوب والأمم بلا سيف ولا قهر ولا مواراة باطل، وطهّر فرائضه من الدنس، وزيّنه بالمحاسن كلّها، وجعله عَلَمًا وأمانًا وهدًى ونورًا للعباد في كلّ البلاد”. ويتابع واصفًا المسيحيّين بأنّهم أهل “الأمّة الفاضلة الذين يدمنون الصيام، ويقيمون الصلاة، ويكثرون الصدقات، ويتلون آيات الحقّ بالليل والنهار، الباذلون أنفسهم وأموالهم، مع احتمال الضيم الشديد وسفك دمائهم في أنواع العذاب المختلف، حفظًا لسيّدهم وحبًّا له”.
أمّا عن الدافع إلى تأنّس ابن الله واتّخاذه جسدًا من البتول والدة الإله، فيقول إبرهيم الطبرانيّ: “فلما رأى الله (جلّ اسمه) قلوب الناس قد فسدت، وضميرهم يزداد شرًّا وتماديًا في خلاف الحقّ، فطال زوغانهم عمّا دعاهم إليه من الإيمان به، ظهر الإله الأزليّ بلباس من البشر. فساق العباد بحكمته وفضله ورحمته، وأنقذهم من الضلالة والكفر التي كانوا عليها من عبادة إبليس، وهداهم إلى الحقّ”. ويصحّح الطبرانيّ ما يعتقده المسلمون من أنّ النصارى لا يعظّمون المسيح إلاّ لأنّه أحيا الموتى، فيقول: “لسنا نتّخذ المسيح إلهًا لأنّه أحيا الموتى فقط. لكن لأنّه أظهر الآيات بأمر منه نافذ، لا يحتاج فيه إلى طلب ولا إلى تضرّع، كمثل الأنبياء. وكان يُظهر تلك الآيات إذا أحبّ وأراد: إمّا ميّت فيحييه، وأعمى فيفتح عينيه، أو مريض فيشفيه، وألوفًا من الناس جياعًا أشبع من الخبز اليسير. كلّ ذلك بقدرة فيه حاضرة”. ثمّ يؤكّد الراهب الإيمان بالثالوث الأقدس قائلاً إنّ “الله الذي لا حدّ له، ولد الابن الذي لا ابتداء له، وأظهر الروح بلا فصل ولا حدّ، أزليّ من أزليّ، خالق من غير مخلوق، متجسّم من غير ذي جسم”. وفي مكان آخر من نصّ المجادلة يعلن الطبرانيّ أنّ المسيح “أمّا بجوهر أبيه فهو الخالق، وأمّا بجوهر أمّه فهو مولود من مخلوقة”.
ولا يهادن إبرهيم الطبرانيّ محاوره الأمير الذي استفزّه قائلاً له إنّ محمّدًا أعزّ وأكرم على الله من المسيح ومن آدم وذرّيّته كلّها. فيجيبه الطبرانيّ بعد أن أخذ الأمان والعهد من الأمير قائلاً: “واعلمْ أنّ المسيح في السماء العليا، ومحمّدًا وجميع الأنبياء تحت الثرى، وأنّ السماء كرسيّ الله وعرشه، وأنّ المسيح جالس على كرسيّ العزّة عن يمين الآب فوق الملائكة والعباد. فكيف يكون مَن تحت الثرى أكرم على الله ممّن هو في السماء على كرسيّ العزّ؟”. وردًّا على سؤال في شأن محمّد، يشهد الراهب بصراحة كلّيّة قائلاً: “لا أقرّ أنّ نبيّك نبيّ. ما هو إلاّ ملك ارتضاه الله، وتمّ به وعد إبراهيم في إسماعيل. لأنّه من يوحنّا ابن زكريّا ارتفعت النبوّة والوحي”.
ثمّ يتناول المتجادلان المسألة الأهمّ في الخلاف الإسلاميّ المسيحيّ، الصليب وإكرامه عند المسيحيّين. فيحدّد الطبرانيّ التعليم المسيحيّ في ما يخصّ هذا الموضوع قائلاً: “لا، لعمري، ما نعبد الصليب. لا ينبغي لأحد أن يلوم النصارى على حبّهم للصليب، لأنّه قد ظهر لهم منه أمور لا تُعدّ ولا تحصى. وذلك أنّه راية النصر والخلاص من الضلالة”.
يؤكّد إبرهيم الطبرانيّ على الإيمان التوحيـديّ للمسيحيّين، مبعدًا تهمة الشِّرك عنهـم، فيقول: “ما نحن مشركـون، ولكنّا مشتركون بنعمة الله، بهذا البشريّ المصطفى مـن جوهرنا، الذي به عرفنا الله ثلاثة أقانيم، والخير والشرّ، والقيامة والبعث”. ويضيف في مسألة القيامة قائلاً: “نحن من أمر القيامة والبعث على الحقّ واليقين، لأنّ المسيح جاء وقال: يا معشر الناس، إنّ القيامة بنا تقوم، وإنّ الله يبعث من القبور. فمات وقبر، وقام وانبعث حيًّا، وطلع إلى السماء ويأتي ثانيةً”. ويعتبر الطبرانيّ إنّ هذا اليقين غير موجود في اليهوديّة ولا في الإسلام، لأنّ النبيّ موسى والنبيّ محمّد ماتا ولم ينبعثا.
إبرهيم الطبرانيّ الراهب شاهد حقيقيّ ليسوع المسيح المخلّص والفادي. والشهود أمثاله كثيرون في عالمنا العربيّ، منذ نشوء الإسلام إلى اليوم، وإلاّ لكانت المسيحيّة انقرضت من مشرقنا العزيز. بفضل هؤلاء ما زال المسيح ينبض حيًّا في ديارنا وكنائسنا ومنازلنا.
عن نشرة رعيتي
الأحد 11 كانون الأول 2005
العدد 50