☦︎
☦︎

إن الموت الذي ذاقه السيد حقاً لنحيا نحن، يتمثل في سر الشكر الإلهي الـذي بـه نـصير شـركاء ومساهمين في حياته، لأنه بأسرار الكنيسة يتمثل قبر المسيح ويعلن موته. الذين يـصيرون مـساهمين في الأسرار يولدون من جديد، ويعاد تكوينهم بصورة فائقة الطبيعة، ويرتبطون ويتحدون بـالمخلص. وعندما يعلن الرسول بولس من على صخرة آريوس باغوس أمام اليونانيين ويقول: “به نحيا ونتحـرك ونوجد” (أعمال 17: 28) يشير إلى الفعل العجيب الحاصـل بواسـطة الأسـرار. وفـي الواقـع إن المعمودية تعطي للإنسان الحياة والوجود بالمسيح. تأخذ الإنسان الفاسد بالخطيئـة، الإنـسان الميـت روحياً، وتدخله إلى الحياة الجديدة بالمسيح. والمسحة التي تلي المعمودية فوراً تعطي المعتمد مواهـب وأفعالاً ضرورية للحياة بالمسيح. وسر الشكر الإلهي يحفظ الحياة الروحية والـصحة ويركزهمـا لأن خبز الحياة يعطينا الإمكانيات لنحفظ هذه الكنوز ولنبقى دائماً في الحياة السامية. بسر الـشكر الإلهـي نحيا، وبالمسحة نتحرك ونعمل، أما وجودنا الروحي فنأخذه بادئ ذي بدء بالمعمودية.

في االله نحيا وننتقل روحياً من هذا العالم المادي إلى العالم السماوي غير المنظور. أننا لا نغير مكانـاً بل نغير طريقة الحياة ومنهاجها. نحن لم نتحرك ولم نصعد إلى االله بل االله تنازل وقدم لنا. لـم نطلبـه نحن بل هو الذي جاء يطلبنا. الخروف لم يطلب الراعي بل الراعي طلبه. الـدرهم لـم يطلـب رب البيت بل رب البيت فتش عنه. الخالق هو الذي انحنى إلى الأرض ووجـد الـصورة التـي شـوهت بالخطيئة. جاء الراعي إلى الأمكنة التي ضل فيها الخروف واعتق الإنسان من الضلالة. لم ينقله مـن الأرض بل جعل الإنسان سماوياً. غرس حياة السماء في نفوسنا. لم يأخذنا إلى السماء بـل بطريقـة عجيبة أحنى السماء ونقلها إلى الأرض. تحقق ما كتبه داود النبي “أحنى السماء ونزل” (مزمـور 17: 10) إن شمس العدل استعمل الأسرار المقدسة كأبواب ليدخل إلى هذا العالم المظلم فيميت بإشـعاعه الإلهي حياة الخطيئة من ناحية ويقيم من ناحية أخرى الحياة الروحية الفائقة العالم. إن المـسيح، نـور العالم، يغلب الخطيئة كما أعلن وقال: “لقد غلبت العالم” (يوحنا 16: 33) ويدخل إلى جـسدنا الفـاني المائت الحياة الخالدة.

عندما تنسكب أشعة الشمس لتنير إحدى الغرف يخبو نور المصباح الضئيل ولا يثير انتبـاه أحـد. إن ضياء نور الشمس يسيطر ويسود على كل الأنوار البشرية، والنور السماوي عندما يدخل إلى نفوسـنا بواسطة الأسرار يسيطر على النفس ويسودها ويغلب كل جمال عالمي فيها، ويقضي علـى الخطيئـة ويطفئ كل رغبة خاطئة وضياء ظاهري. والحياة الروحية التي تتراجع أمامها كـل رغبـة خاطئـة وضيعة، وينطفئ كل شوق أمام شوقها اللاهب، هي التي يعنيها الرسول بولس عندما يقول: “اسـلكوا سبيل الروح ولا تقضوا شهوة الجسد” (غلاطية 5: 16).

رسم السيد هذا الطريق لنسلكه، وفتح هذا الباب الجديد للحياة الجديدة عندما جاء إلى العالم، ولم يقفلـه بعد صعوده إلى أبيه بل تركه مفتوحاً لندخله. به يتصل فينا أو بالأحرى يكون معنـا وسـيظل إلـى منتهى الدهر ليتم كل ما وعدنا به. إن كلمات يعقوب تنطبق على الباب الذي فتحـه المـسيح للحيـاة الجديدة: “ليس هذا إلا بيت االله وهذا باب السماء” (تكوين 28: 17). لا تنزل الملائكة من هذا البـاب، فالملائكة إنما يحضرون أثناء إقامة السر بل السيد بذاته. لذلك عندما طلب البـريء مـن الخطـأ أن يعتمد من يوحنا السابق لعظم تنازله فتح السماء حالاً دالاً على أن الإنـسان يـستطيع بالمعموديـة أن يرى ويحتل السماء وقد شدد بكل وضوح قائلاً من لا يعتمد لا يستطيع أن يدخل ليرث الحياة الأبديـة. وبهذه الكلمات جعل المعمودية مدخلاً وباباً ضرورياً على الإنسان أن يجتازه. هذا ما رمز إليه النبـي داود وهذه هي الأبواب التي أشتاقها واشتاق أن يراها مفتوحة “افتح لي أبواب العدل”.

كثيرون هم الأنبياء والملوك الذين اشتاقوا أن يروا مهندس هذه الأبواب الروحية آتياً إلـى العـالم، أن يروا مؤسس الأسرار وواضعها، لذلك يكتب داود ويقول أنه إذا أُهل لأن يدخل الحياة الأبدية من هـذه الأبواب: “إذا أُدخلت منها فأني أعترف للرب”، سيعترف للرب الذي يمجده. كان داود يـؤمن أنـه إذا أُدخل من هذه الأبواب سيتمكن أن يعرف معرفة أفضل صلاح االله وتنازله من أجل الجنس البشري.

أي برهان أعظم من هذا البرهان على صلاح االله ورأفته من أن يرى المـرء إنـساناً خاطئـاً يعتـق بالمعمودية من كل دنس الخطيئة، ويصبح بالمسحة (بالميرون) ملكاً مهيئاً للملكوت السماوي، ويصبح شيئاً عجيباً مساهماً في سر الشكر الإلهي ومشتركاً بجسد المسيح ودمه؟! أننا نحـن البـشر، بالنعمـة الإلهية، نصير آلهة وأبناء االله. وقد تشرفت طبيعتنا فصار االله إنساناً وارتفع جسد الإنسان، هذا الغبار، ارتفع إلى العلاء حتى صار مشاركاً في العرش للطبيعة الإلهية. كل هذا من نتاج محبـة االله التـي لا تحد ورحمته العظيمة.
أهناك ما هو أعظم من التنازل الإلهي؟ إنه فضيلة المسيح التي غطت السماوات. أعتقـد أن التنـازل فاق كل خليقة وكل عمل إلهي وغلب كل شيء فيما يتعلق بالمدى والجمال الروحي. أعمال االله كلهـا كثيرة صالحة وعظيمة. عظيم هو فنّه، وحكمته لا حد لها. إنه يستطيع أن يخلـق مخلوقـات أخـرى أعظم وأجمل ولكن أسمى تعبير عن عظمته هو هذا الصلاح، صلاحه. إن عمل االله الدائم هو إعطـاء خيراته ومن أجل هذا يفعل كل شيء.

جعل االله الغاية من وجودنا التشبه به لنصير شركاء في خيراته الأبدية. لا يوجد تعبير عـن صـلاحه الإلهي أعظم من هذا التعبير. ويظهر غنى هذا الصلاح في عمل الرب الخلاصـي. وأننـا مـدعوون لنندهش لصلاح االله العظيم ونعجب. لم يعط االله الطبيعة البشرية قسماً معيناً من الخيـرات ولـم يبـقِ القسم الآخر خاصاً به بل أعطى “كمال اللاهوت” (كولسي 2: 9)، كل غنـاه الإلهـي. لـذلك يقـول الرسول بولس أن التبرير، أي الخلاص الذي وهبه االله للإنسان، ينكشف، يصبح حقيقة بالإنجيـل لأن كل جمال الفضيلة والنعمة الإلهية يظهر، خاصة عندما يصبح البشر شركاء فـي الـصالحات وفـي غبطته الخاصة. لذلك نستطيع أن نسمي أسرار الكنيسة أبواب النعمة والخلاص، ورحمة االله التـي لا تُحد وصلاحه غير المتناهي هما اللذان فتحاها لندخلها.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎

information About the page

Titles The article

content Section

Tags Page

الأكثر قراءة

Scroll to Top