Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

اشباع الأربعة آلاف:

1 فِي تِلْكَ الأَيَّامِ إِذْ كَانَ الْجَمْعُ كَثِيراً جِدّاً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ، دَعَا يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمْ: 2 «إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ، لأَنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. 3 وَإِنْ صَرَفْتُهُمْ إِلَى بُيُوتِهِمْ صَائِمِينَ يُخَوِّرُونَ فِي الطَّرِيقِ، لأَنَّ قَوْماً مِنْهُمْ جَاءُوا مِنْ بَعِيدٍ». 4 فَأَجَابَهُ تَلاَمِيذُهُ:«مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هؤُلاَءِ خُبْزاً هُنَا فِي الْبَرِّيَّةِ؟» 5 فَسَأَلَهُمْ:«كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟» فَقَالُوا:«سَبْعَةٌ». 6 فَأَمَرَ الْجَمْعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الأَرْضِ، وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَشَكَرَ وَكَسَرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا، فَقَدَّمُوا إِلَى الْجَمْعِ. 7 وَكَانَ مَعَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ، فَبَارَكَ وَقَالَ أَنْ يُقَدِّمُوا هذِهِ أَيْضاً. 8 فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا فَضَلاَتِ الْكِسَرِ: سَبْعَةَ سِلاَل. 9 وَكَانَ الآكِلُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ. ثُمَّ صَرَفَهُمْ. (مرقس 8: 1-9، متى 15: 32-38).

تكلمنا عن حادثة تكثير الخبزات والسمك في مقطع سابق (مرقس 6: 34-44؛ انظر هناك إلى معنى الحادثة). يُطرح إذاً السؤال: هل توجد روايتان (Dublette) لعجيبةٍ واحدةٍ أم أن هنالك عجيبتين متشابهتين حصلنا في مكانين وزمانين مختلفين؟ إن الذين يزعمون أن هنالك عجيبة واحدة يستندون إلى الشبه القائم في الوقائع (البريّة، الجمع الكثير، تحيّر التلاميذ) والشبه في أعمال يسوع (كسر، أعطى تلاميذه…). بينما الذين يأخذون بوجهة النظر المعاكسة يتكلمون عن عجيبتين متشابهتين في المضمون ومختلفتين في المكان والزمان، حصلت الأولى في أرض يهوديّة والثانية في أرض الوثنيين. وهم يستندون إلى النقاط التالية:

  1. حسب الرواية الثانية (8: 1-9) يوجد يسوع في منطقة المدن العشر، وهي منطقة وثنية شمال شرق البحيرة (7: 24، 31). بالطبع لا يرد هذا بصورة واضحة في المقطع (8: 1-9) الذي بدأ بارتباط ضعيف مع ما سبق (“في تلك الأيام”). لكن الآية 3 “لأن قوماً منهم جاؤوا من بعيد” قد تشير إلى مجيئهم من مناطق وثنية (أرض الأمم).
  2. هنا تأتي المبادرة لاشباع الجمع الكثير من يسوع نفسه.
  3. تختلف الأعداد بين الروايتين (4000 عوض 5000، 7 خبزات بدل 5، سمك قليل عوض سمكتين، 7 سلال عوض 12) (1).
  4. تأتي الرواية الثانية بمفردات جديدة تختلف عن مفردات الرواية الأولى (يمكثون، يخورون، فضلات، سلال…).

نعتقد أن وجهة النظر الثانية هي الأصح. ومن ناحية أخرى يتكلّم الإنجيلي في 8: 17-21 عن حادثتين لتكثير الخبزات. في الواقع كان يسوع موجوداً حسب الآية 7: 24… على أرض الأمم، وهي أرض وثنية، وهو يصنع هناك عجائب (شفاء ابنة المرأة الفينيقية السورية…) كما فعل على أرض اليهود قبلاً. يمنح خبز الحياة لليهود كما للوثنيين. لقد حفظت الكنيسة الروايتين وتستخدمهما لحاجات مختلفة من الكرازة والتعليم، وتؤكد على أن سرّ الشكر الإلهي أُعطي من قبل الرب يسوع للتلاميذ الاثني عشر ومنهم إلى شعب الله أي الكنيسة التي تتكوّن من اليهود والوثنيين. من المميّز أنه في الرواية الثانية (الواقعة على أرض الوثنيين) يأخذ يسوع المبادرة في اهتمامه بالجمع. نلاحظ أيضاً أن بعض المفسرين يقارنون بين 12 قفة في الرواية و12 قبيلة في إسرائيل، كما أنهم من خلال الـ 7 سلال في الرواية الثانية يشيرون إلى كنائس الأمم السبع.

مناقشته مع الفريسيين الطالبين آية:

10 وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ السَّفِينَةَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَاءَ إِلَى نَوَاحِي دَلْمَانُوثَةَ. 11 فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَابْتَدَأُوا يُحَاوِرُونَهُ طَالِبِينَ مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يُجَرِّبُوهُ. 12 فَتَنَهَّدَ بِرُوحِهِ وَقَالَ:«لِمَاذَا يَطْلُبُ هذَا الْجِيلُ آيَةً؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يُعْطَى هذَا الْجِيلُ آيَةً!».
13 ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَدَخَلَ أَيْضًا السَّفِينَةَ وَمَضَى إِلَى الْعَبْرِ. 14 وَنَسُوا أَنْ يَأْخُذُوا خُبْزًا، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي السَّفِينَةِ إِلاَّ رَغِيفٌ وَاحِدٌ. 15 وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: «انْظُرُوا! وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَخَمِيرِ هِيرُودُسَ» 16 فَفَكَّرُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لَيْسَ عِنْدَنَا خُبْزٌ». 17 فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ أَنْ لَيْسَ عِنْدَكُمْ خُبْزٌ؟ أَلاَ تَشْعُرُونَ بَعْدُ وَلاَ تَفْهَمُونَ؟ أَحَتَّى الآنَ قُلُوبُكُمْ غَلِيظَةٌ؟ 18 أَلَكُمْ أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُونَ، وَلَكُمْ آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُونَ، وَلاَ تَذْكُرُونَ؟ 19 حِينَ كَسَّرْتُ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ لِلْخَمْسَةِ الآلاَفِ، كَمْ قُفَّةً مَمْلُوَّةً كِسَرًا رَفَعْتُمْ؟» قَالُوا لَهُ:«اثْنَتَيْ عَشْرَةَ». 20 «وَحِينَ السَّبْعَةِ لِلأَرْبَعَةِ الآلاَفِ، كَمْ سَلَّ كِسَرٍ مَمْلُوًّا رَفَعْتُمْ؟» قَالُوا:«سَبْعَةً». 21 فَقَالَ لَهُمْ:«كَيْفَ لاَ تَفْهَمُونَ؟» (مرقس 8: 10-21، متى 15: 39-16: 12).

كما حصل بعد الرواية الأولى لتكثير الخبزات، يدخل التلاميذ مع يسوع السفينة ليعبروا إلى الشاطئ الآخر من البحيرة (أنظر مرقس 6: 45…). هنا يأتون إلى نواحي دلمانوثة (الآية 10). بالنسبة لكلمة دلمانوثة، لدينا في المخطوطات عدد كبير من الأسماء المختلفة: نواحي دلمانوثة، جبل دلمونة، جبل مجدّه، منطقة مجدّه، نواحي مجدّة، نواحي ملجدا، نواحي مجدلا. في الرواية المشابهة في متى، نقرأ “نواحي مجدان أو مجدل” (متى 15: 39)، وفي النصّ الكنسي نقرأ “نواحي مجدلا”.

في تلك الناحية التي لا نستطيع أن نحدّدها بالضبط، يلتقي يسوع مع الفريسيين الذين يطلبون أن يروا آية من السماء لكي يقتنعوا جهاراً أنه المسيّا (أنظر متى 12: 38-39، لوقا 11: 16 و29، 12: 54-56). “فيتنهد يسوع بروحه” لعدم إيمان أبناء جيله وقساوة قلوبهم، ويرفض أن يصنع لهم آية في الحال. أعماله كلّها مليئة بالآيات للذين عندهم أعين واهتمام. لهؤلاء فقط يعتلن يسوع كمسيّا. أمّا بالنسبة للذين لا يميّزون هذه الآيات ولا تجعلهم يعترفون بيسوع كمسيّا، فهو يرفض أن يصنع آيات بناء على طلبهم ويتحسّر ألماً وحزناً من أجلهم.

لم يستطع الفرّيسيون ولا حتى تلاميذه أن يفهموه. يشدّد إنجيل مرقس مرّات عديدة وبطريقة مميّزة على عدم فهم التلاميذ له. يبدأ الحديث عندما يلاحظ التلاميذ، وهم يعبرون البحيرة، أن لديهم رغيفاً واحداً، ربّما بسبب سرعة رحيلهم. فيأتي يسوع ويلفت انتباههم “إلى خمير الفرّيسيين وخمير هيرودس”، ثم يوبّخهم على عدم إيمانهم، الأمر الذي لا يُبرّر بعد عجيبتين لتكثير الخبز.

خمير الفريسيين“، الذي يجب على التلاميذ أن يحترزوا منه، هو الإيمان القائم على صنع الآيات، هو الالتصاق الحرفي بالناموس وبتقليد الفرّيسيين، هذه الأمور التي تشكل عائقاً ليسوع كمسيا (أنظر متى 16: 12 “حينئذ فهموا أنه لم يقل أن يتحرّزوا من خمير الخبز بل من تعليم الفريسيين والصدوقيين”؛ ولوقا 12: 1 “تحرّزوا لأنفسكم من خمير الفرّيسيين الذي هو الرياء”). “الخمير” في لغة اليهود الرمزية هو الأساس أو الدافع لأي تعليم، وهو أيضاً الميل الرديء عند الإنسان. أمّا العبارة “خمير هيرودس” التي ترد فقط عند مرقس (أو “خمير الهيرودسيين” حسب مخطوطات أخرى) فهي تشير إلى القوّة أو السلطة السياسية. وحسب بعض المفسرين، تعنى ملاحظة يسوع صيانةَ التلاميذ أنفسهم من سياسة الفريسيين حول مفهوم المسيا.

علم يسوع بأفكارهم وبقلقهم لأنه لم يكن لديهم خبز. فأشار إلى العجائب السابقة حول تكثير الخبزات، وأخذ يوبّخ تلاميذه بطريقة ما لأنهم لم يتعرفوا بعد على معلّمهم (“ألا تشعرون بعد؟”). إن الاستشهاد الوارد في الآية 18 مأخوذ من أشعيا 6: 9، وهو يذكّر من جهة أخرى بمقطع ارميا 5: 21 وحزقيال 12: 2. يُستخدم هذا الاستشهاد أيضاً في مرقس (4: 10-12) مشيراً إلى الذين لا يستطيعون أن يفهموا الأمثال، الذين هم خارج حلقة التلاميذ.

شفاء الأعمى في بيت صيدا:

22 وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ صَيْدَا، فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَعْمَى وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسَهُ، 23 فَأَخَذَ بِيَدِ الأَعْمَى وَأَخْرَجَهُ إِلَى خَارِجِ الْقَرْيَةِ، وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ: هَلْ أَبْصَرَ شَيْئًا؟ 24 فَتَطَلَّعَ وَقَالَ:«أُبْصِرُ النَّاسَ كَأَشْجَارٍ يَمْشُونَ». 25 ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ أَيْضًا عَلَى عَيْنَيْهِ، وَجَعَلَهُ يَتَطَلَّعُ. فَعَادَ صَحِيحًا وَأَبْصَرَ كُلَّ إِنْسَانٍ جَلِيًّا. 26 فَأَرْسَلَهُ إِلَى بَيْتِهِ قَائِلاً:«لاَ تَدْخُلِ الْقَرْيَةَ، وَلاَ تَقُلْ لأَحَدٍ فِي الْقَرْيَةِ». (مرقس 8: 22-26).

شفاء العميان في الأناجيل هو إحدى العلامات الكبيرة للزمن المسياني. وهو يأتي من جهة أخرى كدينونة ظاهرة تتولّد في وسط العالم من خلال كرازة المسيا وعمله: في حين أن الذين لهم أعين لا ينظرون والذين لهم آذان لا يسمعون، يحصل العميان على النور والصمّ على السمع (أنظر يوحنا 9: 39 “لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون”).

تتم عملية شفاء الأعمى بطريقة مشابهة للتي حصل فيها الأصمّ الأعقد على الشفاء (أخذ يسوع خارج القرية وتفل ووضع يده). هنا تتم العجيبة على مرحلتين: في المرحلة الأولى لا يرى الأعمى بوضوح، وفي الثانية يحصل على الرؤية الكاملة، “كل إنسان جلياً”. يربط البعض شفاء الأعمى التدريجي بإيمانه، ويفهم البعض الآخر مثل المفسّر (Lagrange) هذا التدرّج كرمز لنموّ التلاميذ التدريجي في إدراك المسيح. نقع على مثل هذه الحوادث الشفائية التدريجية في العالم القديم. لكن عجائب يسوع لا تتم بغية إظهار القدرة الإلهية، بل هي علامات الأزمان المسيانية، نقطة إنطلاق الزمن الأخروي الاستختولوجي الجديد حتى تتحقق نبوءة أشعياء (29: 18، 35: 5، 61: 1) “الصمّ يسمعون والعميان يبصرون…” (انظر متى 11: 15، لوقا 4: 18). فضلاً عن ذلك، وبعكس عجائب العالم القديم، لا يكرز يسوع بعجائبه علانية بل يطلب من الذين شفاهم أن يحفظوا الخبر سراً (أنظر الآية 26: “ولا تقل لأحد في القرية”).

 هـ ـ إعلان آلام المسيا للتلاميذ 8: 27 – 10: 52

هناك ترابط كبير في المقطع (مرقس 8: 27 – 10: 52) الذي يشكّل وحدة متكاملة. تحتوي هذه الوحدة على حوادث وتعاليم ليسوع تهيّء التلاميذ للآلام. ثلاث نبوءات تشكل علامات رئيسية لهذه الوحدة (8: 31، 9: 31، 10: 32-34). من جهة أخرى، في كل هذه الروايات يظهر يسوع في الطريق من شمال الجليل إلى الجليل (9: 31)، إلى منطقة عبر الأردن (10: 1)، ومن هناك إلى أورشليم (10: 32). ولا تُعطى العجائب مركزاً مهمّاً في هذه المرحلة، بل يبرز تعليم يسوع وتهيئة التلاميذ للآلام.

اعتراف بطرس والتنبؤ الأوّل عن الآلام:

“27 ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَتَلامِيذُهُ إِلَى قُرَى قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ. وَفِي الطَّرِيقِ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ قِائِلاً لَهُمْ: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا؟» 28 فَأَجَابُوا:«يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ: وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». 29 فَقَالَ لَهُمْ:«وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ:«أَنْتَ الْمَسِيحُ!» 30 فَانْتَهَرَهُمْ كَيْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ عَنْهُ. 31 وَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. 32 وَقَالَ الْقَوْلَ عَلاَنِيَةً. فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ. 33 فَالْتَفَتَ وَأَبْصَرَ تَلاَمِيذَهُ، فَانْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلاً: «اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا ِللهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ».” (مرقس 8: 27-33، متى 16: 13-23، لوقا 9: 18-22).

صدق المفسّرون المعاصرون في تركيزهم على هذا المقطع وفي إعطائهم له مركزاً وأهمية خاصة في إنجيل مرقس: حتى الآن كان الشياطين يعترفون بصفة يسوع المسيانية ويُكرز بها من قبل الآب، ولكنها المرة الأولى التي يأتي فيها هذا الاعتراف على فم أحد التلاميذ، ويصحّحه يسوع عندما يتكلم، ليس عن المسيا، بل عن ابن الإنسان المتألم. إنَّ سؤال يسوع: “من يقول الناس إني أنا” (الآية 27) هو الذي دفع إلى اعتراف بطرس.

تشبه أجوبة التلاميذ عن هذا السؤال آراء الناس حول يسوع المُعبَّر عنها في مرقس 6: 14-16. أمّا بطرس، وباسم التلاميذ كلّهم، فيعترف بيسوع كمسيا “أنت هو المسيح” (“ابن الله” حسب المخطوطة السينائية). من المُميّز أن يسوع، بعد اعتراف بطرس، يتوجّه إلى التلاميذ (“وينتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه”) ويتنبأ عن آلامه كابن الإنسان. هكذا يستمرّ يسوع في المحافظة على سرّ مسيانيته، وفي الوقت ذاته يعلن للتلاميذ عن “سرّ آلامه” (حسب تعبير المفسّر ألبرت شيفتزر) أو عن “سرّ الصليب” (حسب المفسِّر ثيوفيلكتوس). ليس هو المسيا السياسي المجيد كما ينتظره اليهود وكذلك تلاميذه (كما يتضح من الرواية 10: 35…) بل هو ابن الإنسان المتألم. إن فكرة المسيا المتألم المجهولة في اليهودية لا يمكم أن يدركها التلاميذ. ولذلك يحاول بطرس أن يُبعد يسوع عن الآلام (أنظر متى 16: 22 “حاشاك يا ربّ، لا يكون لك هذا”). هذه المحاولة من قِبَل بطرس يصفها يسوع كعمل شيطاني أو كأنها صادرة عن فكر البشر لا عن فكر الله. وفي الواقع يعيد اقتراح بطرس هذا إلى أذهاننا اقتراح الشيطان عند تجربة يسوع (متى 4: 1-11، لوقا 4: 1-13) بأن يتبع الطريق السهل ويفرض ننفسه على الشعب كمسيا سياسي مقتدر من دون آلام.

المهمّ أن نلاحظ كيف يشعر بنفسه ويصحّح تعبير تلاميذه المسياني: فبينما يعترف بطرس أنه المسيح يستخدم يسوع لنفسه عبارة ابن الإنسان، وبينما يحاول بطرس أن يبعده عن الآلام يذهب يسوع يسوع إلى التنبؤ الأول عن آلامه وقيامته. يتنبأ عن آلامه حسب ثيوفيلكتوس “لكي لا يُعتقد أنه تألم عن ضعف”.

إن الرواية المشابهة عند متى (16: 13″ 23) أوسع. يذكر فيها قول يسوع عن الكنيسة (“أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها…”). وترد رواية مشابهة في اعتراف بطرس في إنجيل يوحنا (6: 66-71).

حدثت المناقشة السابقة “في قرى قيصرية فيلبس”، ومدينة قيصرية قائمة بالقرب من ينابيع الأردن، وكانت تسمى قديماً بانياس (Paneas) نسبة إلى إحدى المغاور المجاورة المخصّصة للإله بانا (Pana) (من هنا المدينة الحالية بانياس). في عهد فيلبس رئيس الربع أخي هيرودس انتباس، حوّل اسمها إلى قيصرية إكراماً لتيباريوس قيصر وجعلها مركزاً له. بعدها جاء الملك أغريبا ودعاها نيرونياذا إكراماً لنيرون، لكن هذه التسمية لم تدم. يذكر المؤرخ افسافيوس تقليداً يقول إن الإمرأة النازفة الدم تنحدر من قيصرية فيلبس (أنظر مرقس 5: 25… وكتاب التاريخ الكنسي لإفسافيوس 7: 18). وحسب التقليد المحلّي، أوّل أسقف لهذه المدينة هو إراستس الوارد اسمه في رومية 16: 23.

صليب التلاميذ رمز لآلام المسيح:

“34 وَدَعَا الْجَمْعَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ:«مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. 35 فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا. 36 لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ 37 أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ 38 لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي فِي هذَا الْجِيلِ الْفَاسِقِ الْخَاطِئِ، فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ».
1 وَقَالَ لَهُمُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْمًا لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ».” (مرقس 8: 34-9: 1، متى 16: 24-28، لوقا 9: 23-27).

عن هذه النقطة أي مباشرة بعد التنبؤ الأول عن الآلام، حفظ الإنجيليون الثلاثة سلسلة من الأقوال ترتبط ارتباطاً وثيقاً فيما بينها من ناحية المعنى وتتعلق بموضوع: الشروط، أهمية “إتّباع” يسوع ونتائجه. تتوجّه هذه الأقوال إلى “التلاميذ” حسب متى، وإلى “الجمع مع التلاميذ” حسب مرقس، وإلى “الجميع” حسب لوقا. وفي كل الأحوال السامعون هم نفسهم لأن كلمة “تلاميذ” لا تعني حصراً الاثني عشر فقط بل كل أتباع يسوع.

إن شرط “إتّباع” يسوع حسب الآية 34 هو إنكار النفس وحمل الصليب على الكتفين. إنكار النفس يعني التخلّي عن حقوق الإنسان القانونية العادلة، إماتة الرغبة الطبيعية للأنا من أجل الحياة والمظاهر التي فيها. إنكار النفس يعني ألاَّ يبقى الإنسان منتمياً إلى نفسه، أن ينكر الضمانة الشخصية التي يطلبها دائماً بغريزته في الحياة وأن يتبع يسوع في طريق الصليب والآلام. لا تضيف العبارة التالية “أن يحمل صليبه…” شرطاً جديداً، وكذلك العبارة التي تليها “ويتبعني”. إنها تشرح وتحدِّد العبارة الأولى لأن حرف العطف هنا “و” الذي يربط بين العبارات الثلاث هو للتفسير. إن كان هذا الصليب ينتظر يسوع فلا يمكن أن ينتظر التلاميذ نصيبٌ آخر، هؤلاء الذين يريدون أن يتبعوه. التلميذ الأمين يتبع معلّمه ويتشبّه به ليس فقط في الحياة يل أيضاً في الموت. كل ذلك طبعاً يأتي باختيار شخصي وبقرار حرّ من قبل التلميذ، ولا يُفرض عنوة في أي حال من الأحوال (“من أراد…”). هذا القرار الحرّ والكامن في عبارة “من أراد” يستدعي المسؤولية الشخصية واعتبار النتائج الجدّية المتأتية منه.

في عبارة لوقا 9: 23 (“ويحمل صليبه كل يوم”)، لا يشدّد الإنجيلي فقط على حمل الصليب من قبل المسيحي وما يتضمن ذلك من شهادة بقدر ما يشدّد على الظروف الكثيرة المتنوّعة في حياتنا اليومية والتي علينا أن نحمل فيها صليب الأحزان الشدائد (أنظر أعمال 14: 22 “بضيقات كثيرة ينبغي أن تدخل ملكوت الله”).

هذه الأقوال إضافةً إلى الأقوال التي تتبعها تفترض ظروف اضطهادات للكنيسة أو بالأحرى تحمل تطلّعاً من يسوع إلى مثل هذه الاضطهادات وإلى الخطر المرافق لها في أن يخاف الإنسان من الموت المحدق به ويسعى إلى إنقاذ حياته. فإن الرب في الكلام التالي الوارد في الآية 35 يشدّد على أن الذي يخاف من الموت محاولاً أن يخلص نفسه سوف يخسرها أبدياً. إن كلمة “نفس” المستعملة هنا تحمل معنى الحياة كما ترد في الكتاب المقدّس وليس المعنى الفلسفي العنصري اللامادي الموجود في الإنسان. بهذا المعنى تُستعمل كلمة “نفس” في كل العهد الجديد. إن إنقاذ الحياة والحفاظ عليها في هذا العالم يشكل اهتماماً طبيعياً للإنسان. لكن الحياة، الحياة الحقّة، نربحها بإهلاك الحياة البيولوجية الفاسدة عن طريق الصليب أي عن طريق الآلام، وهذا يناقض منطق عالمنا الحاضر. العبارة “من أجلي ومن أجل الإنجيل” تدّل على سبب التضحية بحياتنا، هذه التضحية التي تتم طاعة للمسيح ومن أجل نشر كلمة الإنجيل. القول الوارد في الآية 34 يرد بشكل آخر عند متى 10: 38 (أنظر أيضاً لوقا 14: 27)، والقول الوارد في الآية 35 عند متى 10: 39 (أنظر أيضاً لوقا 17: 33).

الآيتان 36-37: إن الحياة التي يتكلّم عنها في الآية السابقة ثمينة إلى حدّ أن العالم كله (أي خليقة الله المنظورة) لا يساويها، لأنه ما ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه و”خسر نفسه” أي خسر الحياة الأبدية التي لا يوجد “بديل” عنها لأنها هبة من الله لا تُستبدل أو تعوّض بأي شيء آخر. إن الظروف الاضطهادية للكنيسة في العالم التي كان يسوع يتطلّع إليها تتضمّن إنكار الإيمان من قبل بعض المسيحيين من أحل الحفاظ على حياتهم الأرضية. لذلك عن طريق التنبيه في الآية 38 بأقوال قاسية يقول: كل من استحى بالمسيح وبأقواله في هذا الجيل “الفاسق” والخاطئ، أي كل من أنكر إيمانه، يجب أن لا ينتظر عطف ابن البشر في ساعة الدينونة، لأن هذا الأخير سوف لا يعترف به على أنه من خاصّته. يوصف هذا الجيل الحاضر “بالفاسق” حسب تعبير أنبياء العهد القديم الذين اعتبروه هكذا لأنه فسخ زواجه مع الله (أنظر على سبيل المثال هوشع 2: 4…، أشعيا 57: 3…، حزقيال 16: 32…). في هذه الآية نشّتم دينونة البشر العامة من قبل الإنسان دون أن تظهر بصورة جليّة (بينما على العكس في متى 16: 27 “فإنَّ ابن الإنسان سوف يجازي كل واحد حسب عمله”). وما يُقال هنا بصورة أوضح هو أن القاضي سوف يخجل من الاعتراف بأولئك التلاميذ الذين أنكروه أمام الناس على أنهم أخصّاء له.

إنّ الاعتراف بالإيمان، إنْ اقتضت الظروف ذلك، يتضمّن خطر خسران الحياة الأرضية لكنه يشكل بالنسبة للمسيحي عنصراً أساسياً. فالتلميذ الذي لم يختبر الصليب والآلام لا يكون جديراً بمعلّمه (و”من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني”؛ متى 10: 38)، ولا يمكن بالتالي أن يرجو الانتماء إلى شركة مختاريه في ساعة الدينونة.

كلام الآية 9: 1 يشير إلى مجيء ملكوت الله بقوّة (أي ابن البشر حسب الآية المشابهة في متّى 16: 28)، وقد أُعطي تفاسير مختلفة. يقول بعض المفسّرين الحديثين أن يسوع يعبّر بعبارته هذه عن قناعته بمجيء نهاية العالم. يشدّد البعض الآخر على كلمة “قوماً”، ويقولون أنها تفترض وقتاً طويلاً قبل مجيء الملكوت، حين يُمسي أكثرية الأحياء أمواتاً، لكن البعض (“قوماً منهم”) سوف يكونون أحياء بعد. أمّا أتباع ما يدعى “بالأخروية المحقّقة” فيفسّرون الآية كما يلي: يعترف بعض الحاضرين أن ملكوت الله قد أتى في العالم وتحقق بيسوع المسيح. إن غموض مثل هذه التفاسير الحديثة يمكن أن يستنير بتفسير الآباء القديسين لهذا المقطع:

يربط آباء الكنيسة هذه الآية والنبوءة التي فيها إمّا بالحدث الذي يلي وهو تجلّي يسوع أمام ثلاثة من تلاميذه، إمّا بالقيامة والصعود، إمّا بنزول الروح في العنصرة وإمّا بخراب أورشليم. على كل حال يربطون الآية بشكل وثيق بمجيء ملكوت الله بقوّة إلى الكنيسة، طبعاً ليس بمعنى التوحيد الكامل بين الحقيقتين (السماوية والأرضية) بل بمعنى أنه في الكنيسة التي يؤسسها يسوع على الأرض يتذوّق المؤمن منذ اليوم خيرات ملكوت الله الآتي. أما عن العبارة “بقوّة” فيقولون أنها تشير إلى إعلانات الروح القدس.

الخلاصة:

يمكن للآية 9: 1 أن ترتبط بما سبق كما يلي: حمل الصيلب من قبل المؤمن ونكران الذات، والقدرة على الاعتراف بإيمانه، والجهاد من أحل الحصول على الحياة الأبدية، كل ذلك يضحي ممكناً عن طريق الحياة داخل الكنيسة. أمّا الذي يعيش خارج نعمة الله فإنه لا يستطيع تصور حمل الصليب في الواقع ويبدو له نكران الذات مخالفاً لطبيعة الإنسان الذي يسعى للحفاظ على كيانه بكل قواه.

المعاني اللاهوتية الرئيسية في المقطع:

  1. المسيحية ديانة الحريّة بلا منازع: لا يُفرض على الإنسان أن يتبع يسوع بل يُدعى فقط إلى ذلك. من هنا فإن قراره أيّاً كان سلباً أم إيجاباً، يرافقه الشعور بالمسؤولية.
  2. من يتبع يسوع يفعل ذلك بروح التضحية وإنكار الذات (حمل الصليب، الاعتراف بالإيمان وسط جيل غير مؤمن إلخ.). فإن كانت الآلام طريق يسوع، فلا يمكن أن يوجد طريق آخر لتلاميذه وأتباعه.
  3. الحياة الأبدية التي يهبها الله للإنسان بواسطة النعمة لا يقابلها شيء في العالم المادي. ولا يجب أن يقوم الإنسان بأية محاولة قد تعرّضه لخطر خسرانها مقابل أي شيء عالمي مهما كان مهِمَّاً وجذّاباً.
  4. ملكوت الله الذي يتذوقه المؤمن داخل الكنيسة يتّصف “بالقوة” و”المجد”. يشعر الإنسان بالحياء فقط عندما يلبس حلّة “هذا الجيل الخاطئ”، بينما يكتسب ضمانة وقوّة للاعتراف بإيمانه عندما يوجد داخل الكنيسة، ويتكامل على الطريق التي رسمها له رئيسها.


(1) أُعطيت لهذه الأعداد المحتلفة رموز كثيرة أو تفاسير رمزية، مثلاً إنها تشير إلى الحواس الخم (5 خبزات)، الضعفاء في الفضيلة (عن الـ 5 آلاف الذين أكلوا قليلاً وأتت الكسر كثيرة)، الأقوياء في الفضيلة (عن الـ 4 آلاف)… أمام هذه التفاسير يقف المفسّر زيغافنوس ويقول: “البعض يعلّقون كثيراً على التفاصيل اللغوية الكلامية فينتهون إلى مفاهيم لا طعم لها، ليس فقط بالنسبة للحاضر، بل في كثير من المعارض الإنجيلية”.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى