تقول إحدى طروبريات عيد الميلاد أن المسيح، بتجسده، هو شجرة الحياة. طروبارية تقدمة الميلاد مميزة، فهي تقول: “استعدي يا بيت لحم، فقد فُتحَت عدن للجميع، تهيئي يا أفراثا، لأن عود الحياة قد ظهر في المغارة من البتول. لأن بطنه قد ظهر فردوساً عقلياً فيه الغرس الإلهي، الذي إذ نأكل منه نحيا ولا نموت، المسيح يولَد منهضاً الصورة لتي سقطت منذ القديم”.
في هذه الطروبارية، آدم الجديد الذي هو المسيح يقابل آدم القديم. آدم الأول أكل من الشجرة، فقد الفردوس وبهذا سبّب المرض لكل الجنس البشري مع دخول الفساد والموت، بينما آدم الجديد، الذي هو المسيح شجرة الحياة، فيعطي الحياة لكل الذين سوف تّحدون به. الفردوس الجديد هو رحم والدة الإله، وبالطبع الكنيسة، وشجرة الحياة هو المسيح نفسه. يمكن للمتحدرين من آدم أن يأكلوا من هذه الشجرة ويتمتعوا بالحياة الحقيقية.
في ما يلي سوف أعرض ما كانت عليه شجرة الحياة هذه في الملكوت وكيف صار المسيح بتجسده شجرة الحياة بالنسبة للبشر.
أ) الشجرتان في الفردوس الأصلي
يحفظ العهد القديم بعض الإشارات عن حياة آدم وحواء المباركة في الفردوس. بحسب تعليم الآباء القديسين، الفردوس كان حسياً وعقلياً. كان عقلياً لأنه كان شركة الإنسان مع الله، لأن نوس آدم كان في حالة من الاستنارة بعد الخلق، وبقوة الله وتكافله كان قادراً على بلوغ التألّه. والفردوس كان حسياً أيضاً لأنه كان مكاناً محدداً.
كان في الفردوس أشجار كثيرة، لكن إثنتين منها كانتا مختلفتين. الأولى كانت شجرة المعرفة التي أُمِر آدم بألاّ يأكل منها. ” And the Lord God commanded the man, saying, ‘From every tree in the garden you may freely eat; but from the tree of the knowledge of good and evil you shall not eat, for in the day that you eat the fruit of it, you shall surely die” (تكوين 16:2-17). الشجرة الأخرى كانت شجرة الحياة. يقول العهد القديم، أنه بعد أن عصى الإنسان وأكل من شجرة معرفة الخير والشر، طرده الله من الفردوس. ” and He placed Cherubim at the east of the garden of Eden, and a flaming sword which turned every way, to guard the way to the tree of life ” (تكوين 24:3). إن سبب طرد الله للإنسان بعد عصيانه كان أنه بعد سقوطه لم يكن مسموحاً له أن يأكل من شجرة الحياة. ” And now, lest he put out his hand and take also from the tree of life, and eat, and live forever -” ” (تكوين 22:3).
إذاً يظهر أنه كان في الفردوس شجرتان ذات معنى وهدف استثنائيين، شجرة معرفة الخير والشر وشجرة الحياة. من واحدة أكل الإنسان ومات ومن الأخرى كان الإنسان ممنوعاً أن يأكل حتى لا يبقى في حالة السقوط والشر إلى الأبد. وهكذا نرى هنا محبة الله للجنس البشري. فهو يطرد الإنسان من الفردوس حتى لا يبقى عرضةً للموت إلى الأبد، بل ليتوب وفي الوقت المناسب، بتجسّد ابن الله، يتذوّق شجرة الحياة ويتخطّى الموت ويدخل مجدداً إلى الفردوس. إذاً طرد الإنسان من الملكوت لم يكن عقاباً من الله، بل عمل محبة وإحسان.
ب) التفسير الآبائي للشجرتين
إن الآباء القديسين، في تفسيرهم للكتاب المقدس في إطار حياة الكنيسة وخبرتهم الشخصية، سلّموا إلينا تحاليل تفاسير ممتازة عن هاتين الشجرتين.
علينا أن نشير أولاً إلى تفسير القديس غريغوريوس اللاهوتي لمعرفة الخير والشر. في إحدى عظاته يقول أن هذه الشجرة لم تكن مغروسة في الشر ولا محرَّمَة بسبب الغيرة. هذا يعني أن كلّ ما خلقه الله لم يكن شريراً بل كان حسناً جداً. لم يُمنَع الإنسان من الأكل من هذه الشجرة بسبب الحسد خشية أن يبلغ التأله. إلى هذا، هذه الشجرة كانت رؤية الله. “لأن النبتة كانت رؤية النور”. كان الإنسان ليأكل في الوقت المناسب، لأنه كان بحاجة لأن يتدرّب روحياً، وهذا ما يشكّل تألهه. لقد منعه الله من أن يأكل منها لأنه لما كان ما زال غير كامل ولم يكن بعد مهيئاً كما بشكل ملائم، كما أن الطعام الكامل الجامد يسبب الأذى للذين ما زالوا في حاجة للحليب. الأمر السيء كان أن آدم أكل من شجرة المعرفة “في الوقت الخطأ، بشكل غير ملائم”. وبما أنه أضاع العلامة وخسر النعمة الإلهية، كان ضرورياً ألاّ يأكل من شجرة الحياة أيضاً، حتى لا يثبت بشكل دائم في السقوط والموت. إن طعم شجرة الحياة كان “عظيماً وباهراً”، ولهذا السبب أمر الرب بأن تُحرَس، ليس من الملائكة ولا رؤساء الملائكة ولا الرئاسات والسلطات ولا القوى بل من الشاروبيم من الصف الأول من الملائكة.
يتبع القديس يوحنا الدمشقي التقليد نفسه، آخذاً بعين الاعتبار تفسير القديس غريغوريوس اللاهوتي الذي يراه بمثابة أبيه الروحي. يكتب الدمشقي أن شجرة المعرفة هي امتحان واختبار ومدرسة لامتحان الإنسان في الطاعة والعصيان. سُمّيت هذه الشجرة شجرة معرفة الخير والشر لأنها تمنح كلّ مَن يأكل منها القوة على معرفة طبيعتها، الأمر الجيّد للكامل والمؤذي لغير الكامل وللذين لا يملكون السيطرة على إحساسهم. أما الشجرة الحياة فسُمّيت هكذا لأن عندها طاقة تقدّم الحياة إمّا لمستحقي الحياة أو لغير المستَعبَدين للموت.
إن هذا التفسير من عند القديس يوحنا الدمشقي يظهِر أن على الإنسان أن يُمتَحَن قبل أن يأكل من شجرة المعرفة ومن ثمّ يأكل من شجرة الحياة ويحيا أبدياً مع الله. من دون الممارسة والتهيئة يستحيل على أي كان أن يبلغ التألّه والشركة مع الله.
ج) المسيح الإله الإنسان، شجرة الحياة
لم يكن فشل الإنسان في سلوك درب التأله التي شقّها الله له كارثياً بالنسبة له، أي أنه لم يتحوّل إلى الهلاك الأبدي بشكل نهائي. ما أُخفق في امتحان جنة عدن، حققه المسيح بتجسده. من ناحية ثانية، مرّ الإنسان بتجارب هالة، ألم عميق وحزن عظيم. لقد اختبر معنى الموت، وما يعنيه الإبعاد عن الله. يكتشف مَن يقرأ كتابات القديس سلوان الأثوسي معنى أسى آدم. لا يستطيع أن يفهم ويختبر أسى آدم إلا مَن أُعطيت له رؤيا الله العظيمة ومن ثم فقدها. وعند هذه النقطة نرى قَدْر القديس سلوان. أنا أزداد قناعة أن لهذا القديس لاهوت مهم ومذهل. كلّ مَن يقرأ كتاباته يحسّ بما تكتنز من القوة العظيمة والحكمة الغنية. لقد كان لاهوتياً بحق لأنه اختبر سقوط آدم وأساه، لكنه اختبر أيضاً الوحدة مع آدم الجديد، أي المسيح.
لقد فتح المسيح بنفسه أبواب الفردوس من خلال تجسده. إنه لا يترك الإنسان يدخل ببساطة، بل إن شجرة الحياة، أي المسيح نفسه، تمضي وتتحرّك نحوه. الآن بطن والدة الإله، من حيث اتخذت الطبيعة الإلهية الطبيعة البشرية وقدّستها منذ اللحظة الأولى، هو الفردوس. والكنيسة جسد المسيح المبارَك هي الفردوس العقلي والحسي. كل الذين يعيشون في الكنيسة وهم فعلياً وبشكل فعّال أعضاء جسد المسيح يمكن لهم أن يتذوّقوا شجرة الحياة، وأن يتخطوا الموت ويبلغوا إلى بعد آخر من الوجود. إذ بمعزل عن المسيح يسيطر ظل الموت ومملكته.
مع اتحاد الطبيعتين الإلهية والبشرية في أقنوم الكلمة، تصبح الرحلة نحو التألّه أكثر رسوخاً. إذاً الخلاص الآن ليس مسألة طاعة لوصية الله، بل هو شركة الإنسان مع المسيح الإله-الإنسان. لذلك في الكنيسة علينا أن نحيا ليس فقط عاطفياً، ولا أن نهدف ببساطة إلى إرضاء أحاسيسنا الشخصية والإنسانية، بل علينا أن نحيا وجودياً متّحدين مع المسيح. ينبغي أن تكون رحلتنا رحلة غلبة الموت. وبالطبع هذا ينجح فقط من خلال تذوّق شجرة الحياة التي هي المسيح الإله-الإنسان.
وهكذا إن تجسّد المسيح أوسع من أي افتداء شرعي أو أي تعبير عن محبة خارجية أو عاطفية. إنه تصحيح لمسيرة السقوط، تمتّع بحياة ما قبل السقوط، واستمرار أكثر أماناً للرحلة نحو التألّه. إنه استمرار لقول المسيح: “لقد أتيت لتكون لهم حياة وتكون حياة أفضل”؟؟؟ (يوحنا 10:10). هذه “الأفضل” هي تألّه الإنسان.
د) شجرة الحياة في سفر الرؤيا
يتحدث سفر رؤيا يوحنا عن شجرة الحياة. يقول المسيح، مشيراً إلى ملاك أفسس: ” To him who overcomes، I will give to eat from the tree of life، which is in the midst of the paradise of God” (رؤيا 7:2). القديس أندراوس، اسقف قيصيرية، في تفسيره هذه الآية، يقول أن عبارة “شجرة الحياة” هي إشارة periphrastically إلى الحياة الأبدية التي هي المسيح نفسه: “إنّه الإله الحقيقي والحياة الأبدية”. إن الأكل من شجرة الحياة ليس أكثر من “المشاركة بأمور الدهر الآتي الحسنة”. سوف يعطي الله بركة للأكل من شجرة الحياة للذي يكسب “الحرب ضد الشياطين”. وهذا هو النصر على الأهواء التي بها يهاجم الشريرُ الإنسان.
تظهر بعض الحقائق من هذا التفسير.
أولاً، إن شجرة الحياة تتماهى مع الحياة الأبدية والمسيح الذي هو الحياة الحقيقية وشجرة الحياة التي تغذّي كل إنسان.
الحقيقة الثانية هي أن هذه هي عطية كبيرة مُعطاة منذ الآن للإنسان الذي يحيا في الكنيسة التي هي فردوس النعمة الإلهية الجديد، لكنها في ما بعد سوف تُعطى كزواج للغالبين. إن ملكوت الله والحياة الأبدية قد بدآ. ليست المسألة مسألة حقيقة في الدهر الآتي. فالأبرار يتذوقونها بالفعل. إنها تظهر من الهالات على رؤوس القديسين لأن القديسين رأوا النور غير المخلوق الذي هو الحياة الأبدية وملكوت السماوات، وهم الآن يعيشونه كخطوبة وفيما آنذاك سوف يكون كمثل زواج.
الحقيقة الثالثة هي أن ملكوت السماوات والاشتراك في شجرة الحياة تُعطى مَن يغلب الشيطان. بالطبع، هذا النصر ليس نصر الإنسان بل هو نصر المسيح من خلال الإنسان. لقد انغلب الشيطان والموت والخطيئة بتجسّد المسيح، وهكذا أيضاً قد أعطيت إمكانية الغلبة لكل إنسان يتّحِد بالمسيح الغالب.
في أي حال، تظهر أيضاً في كتاب الرؤيا حقيقة أن هدف حياة الإنسان الروحية هي الأكل من شجرة الحياة. هذا يمكن تحقيقه من خلال الاشتراك بجسد المسيح ودمه وسوف ينجّز بشكل أكثر كمالاً في ملكوت السماوات بعد المجيء الثاني.
ه) الأكل من شجرة المعرفة
في إشارته إلى أكل آدم من شجرة المعرفة، يقدّم القديس نيقوديموس الآثوسي مقارنات بديعة تظهِر أن نفس الأخطاء التي ارتكبها آدم ممكن ارتكابها اليوم وبأن المسيحيين المعمَّدين في زمننا هذا مؤهَّلون أيضاً على تذوق شجرة المعرفة.
سقوط آدم يكون عندما يصبح نوس الإنسان مشدوداً نحو اللذات الحسّية ويترك ذكر الله. بشكل جوهري هذه هي خطيئة آدم عينها وحالة سقوط آدم عينها. فسقوطه يكمن بشكل أساسي في أن نوسه أظلم ووقع أسير اللذة لأنه لم يتبع وصية الله. أسر النوس هو إساءة خطيرة. إنه جوهر كل خطيئة يرتكبها الإنسان.
لا يقدر أحد على أن يدافع عن استحالة الخضوع لقوة الشيطان. لأنه إذا كان آدم غير كامل مع أن الله هو مَن أوجده وزيّنه بمواهب كثيرة، فلا يستطيع أحد أن يتباهى بأنه كامل لأنه يلبس الفساد والموت. وإذا كان آدم، الذي لم يكن يعرف الخطيئة، قد نظر باشتهاء وأكل تلك الثمرة السارّة، “فكيف أستطيع أنا الشهواني أن أقول بأني أستعمل أشياء العالم المسِرّة بدون هوى وبالتالي أنا لا اسقط؟”
إذا، إن شجرة الحياة وشجرة المعرفة موضوعتان أمامنا في كل يوم. الأولى مُعطاة بوجود الكنيسة التي هي الفردوس الجديد بما تقدمه من الشركة المقدسة وإمكانية بلوغنا التأله بالنعمة. لكننا نُواجَه بشجرة معرفة الشر والخير قبل شجرة الحياة. كل يوم تُمتَحَن حريتنا في ما إذا كنا سوف نتبع ناموس المسيح أو سوف نرفض وصيته، إذا كنا سوف نترك نوسنا يؤسَر بالنعمة الإلهية أو سوف نيقى عبيداً للطبيعة اللطيفة للحواس وأمور المخيّلة.
و) شجرة عيد الميلاد
أظنّ أن عادة تزيين شجرة في عيد الميلاد ليس مجرد عادة أتت من الغرب وعلينا أن نستبدلها بعادات أكثر أرثوذكسية. أنا لم أغص في تاريخ شجرة عيد الميلاد ومكان نشوئها، لكني أظن أنها مرتبطة بعيد الميلاد ومعناه الحقيقي.
أولاً، إنها غير منفصلة عن نبوءة إشعياء ” There shall come forth a Rod from the stem of Jesse، and a Branch shall grow out of his roots ” (إشعياء 1:11) لد كانت هذه النبوءة في فكر القديس قوزما المنشئ عندما كتب عن المسيح بأنه الزهرة التي خرجت من البتول التي من نسل يسى. الجذر هو يسّى والد داود، العصا هي النبي داود، الزهرة التي أتت من الجذر والعصا هي والدة الإله. والثمرة التي أتت من زهرة السيّدة هي المسيح. هذا ما يقدمه الكتاب المقدس بشكل رائع. وهكذا فإن شجرة عيد الميلاد يمكن أن تذكرنا بشجرة نسب المسيح كإنسان، محبة الله، وأيضاً التطهرات المتتابعة لآباء المسيح. وعلى الرأس النجمة التي هي المسيح الإله-الإنسان.
وهكذا، شجرة عيد الميلاد تذكرنا بشجرة المعرفة كما بشجرة الحياة، والأخيرة بشكل خاص. إنها تؤكد حقيقة أن المسيح هو شجرة الحياة وأننا لا نستطيع أن نحقق هدف وجودنا إلا إذا تذوقنا هذه الشجرة “الصانعة الحياة”. لا يمكن فهم عيد الميلاد من دون الشركة الإلهية. وبالطبع في ما يتعلّق بالمناولة المقدسة، لا يمكن أن تشترك في تألّه المسيح إلاّ إذا كنا قد تغلبنا على الشرير عندما وجدنا أنفسنا مواجَهين بالإغواءات المتعلّقة بشجرة معرفة الخير والشر حيث تُمتَحَن حريتنا.
نحن نفرح ونحتفل بمن “عود الحياة قد أزهر في المغارة من البتول”.
الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
عن مجلة التراث الأرثوذكسي