Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
Email
☦︎
☦︎

القسم الثالث

كل علم بحاجة إلى مصطلحات ينحتها له أربابه شيئاً فشيئاً. للعهد القديم مصطلحاته الدينية في العبرية والآرامية. أما العهد الجديد فقد كتبه شرقيون لغتهم الآرامية أو اليونانية التوراتية. كتبوه باللغة اليونانية. ومنذ فتوحات الاسكندر الكبير غزت اللغة اليونانية شيئاً فشيئاً العالم القديم حتى أضحت لغة المثقفين جميعاً (1). آباء الكنيسة الغربية كتبوا باليونانية حتى أواسط القرن الثالث ومن تلاهم في القرن الرابع تتلمذ على الآباء الناطقين باليونانية (اليونانية هي لغة لا عرق. فمنهم السوري والمصري والكبادوكي والروماني و….).

ففيها تجلّى تقليد الكنيسة اللاهوتي. وعنها نُقِلَ. افرام السوري أسس معهداً لترجمة الكتب اليونانية إلى السريانية فكان أبا نهضتها الأدبية والثقافي والعلمية. واستفاد العرب والفرس من هذا التراث، فكانت السريانية لغة تدريس العلوم في نيبسابور وجنديسابور. ولذا لا نستغرب تأثر النحو العربي بالمنطق الأرسطوي اليوناني لأن واضعيه من الفرس نالوا ثقافة متأثرة باليونانية.

ففي هذا المحيط الثقافي اليوناني الواسع كان لا بد من أن يجري مضمون الوحي المسيح في لغة يونانية سليمة لينحت له المفسِّرون فيما بعد مصطلحات تقرّبه من الأذهان والأفهام.

الديانة المسيحية هي ديانة المصلب. وهي قولً وفعلاً، صليب عام في جيع الحقول. كانت اليهودية نضالاً طويل النفس ضد الشرك أي تعدد الآلهة، فانتهت إلى توحيد شديد صلب.

فقالت بإله واحد أحد منزه تنزيهاً مطلقاً عن المادة. جاءت المسيحية تقول: ثالوث=إله واحد، أو بالأحرى إله واحد في ثالوث، 3=1 و1=3. هذا صليب للعقل.

وقالت أن ابن الله تجسد وصار إنساناً وصلب، فصلبت العقل اليهودي الرافض لمثل هذا الاعتقاد.

وجاءت بمفاهيم روحية وأخلاقية تقتلع الإنسان من الأرض ليعيش في السماء، أو ليعيش في عالم موبوء بالأهواء والمطامع والشهوات والأغراض والخبائث والأحقاد، كما يعيش الملائكة في السماء.

وهذا صليب أخلاقي كبير وقع تحته الجميع. لأن الامتلاء من الله حده قادر على رفعنا إلى هذه السوية العالية.

هل من المعقول أن أطير إلى العلاء وأنا من الزحّافات لا من الطيور؟ ومع هذا ينحني للصليب مئات الملايين من البشر اليوم المقيمين في بلاد العلم لا في بلاد التخلّف والجهل كمجاهل أفريقيا.

كان على الأدباء المسيحيين أن يوضحو لنا مسألة: “إله واحد في ثلاثة أقانيم موجودين حقيقة في الواقع لا في الرؤية النظرية الصرفة”. فالثالوث القدوس هو الله. وعندما نذكر الله نعني “الآب والابن والروح القدس” كما قال الآباء القديسون (غريغوريوس اللاهوتي، الخطبة 45: 4 وسواه).

اللغة اليونانية لغة عقل وتجريدات عقلية. الفلسفة اليونانية فلسفة “ماهيات”، و”مقولات”. لم يكن فيها مكان لمضمون الوحي المسيحي. ولا يمكن إدخاله في “مقولات” أرسطو.

ولذا قال نيقولا بردياييف الفيلسوف الأرثوذكسي الوجودي-الشخصاني بحق: “لم يستطيع الوحي المسيحي أبداً أن يعبر عن نفسه فيما يخص الشخص، في مقولات catégories الفلسفة اليونانية” (2). من هنا كانت فوضى ألفاظ غرباً وشرقاً، وكانت المشاحنات العديدة.

لا يحتمل القارى العربي من أوّل محاولة، ترجمة الشواهد اللغوية اليونانية من فلسفية وآبائية (3)، ومقابابلاتها اللاتينية. ومع هذا استطاع آباء الكنيسة أن يشقوا طريقهم المحفوف بالأخطار، فانحصر الخلاف في عدد من الألفاظ هي: جوهر، ماهية ousia؛ أقنوم (hypostasis)؛ طبيعة physis شخص prosopon والمشكلة الكبرى هي أن الألفاظ الثلاثة الأولى ذات معانٍ متعددة وبينها أحياناً ترادف (4) وقد يختلف استعمال اللفظة الواحدة بين المذاهب الفلسفية نفسها كـ ousia مثلاً.

ولكن الاشتقاق اللغوي يسمح بتطوير كل منها على حدة ousia تشتق من فعل “كان” ousia من فعل “ولد”، “نما”. (hypostasis) مؤلفة من لفظتين: hypo “تحت” و stasis وَضْعٌ، موقف، حالة… من معانيها “الوضع تحت، تسيد، ما يوضح تحت، ما هو في العمق، أساس، قاعدة، ثقل، راسب جمعها رواسب،…” ووردت لدى أرسطو بمعنى دعامة (أي ركن، سناد، تكأة) (5).

ووردت لدى أرسطو المنحول وسواه. بمعنى جوهر، ماهية، ذات الشيء (أي حقيقته لا خياله). ووردت في هذا المعنى الأخير في الترجمة السبعينية (المزمور 38: 6 يوناني 39: 5 في الترجمات) وفي الرسالة إلى العبرانيين (1: 3).

ووردت لدى الأقدمين، وفي راعوث 1: 12 وحزقيال 19: 5 والمزمور 38: 8 (يوناني= 39: 7 ترجمات) وكورنثوس الثانية 9: 4 و11: 17 وعبرانيين 3: 14 و11: 1 بمعنى “الضمانة، الكفالة…”.

وهي تشتق من الفعل hyphistimi الذي يحوي المعاني الواردة في الفقرة الأولى وسواها. ومن معانيه الموسعة “وجد، كان، قام، قواماً” (6). ويرد فلسفياً في عبارة “يعادل الله في الكرامة”، فيكون معناه “يعادل” (7).

فلفظة “أقنوم” تقبل إذاً التطوير نحو معانٍ لاهوتية ننحتها لها كمعنى الوجود الشخصي الحقيقي. فيكون “الأقنوم” هو الموجود في الحقيقة والواقع الذي يملك الجوهر أو الطبيعة كقضية له، يملكه كسيّد غير منازع، كسيد مستقل.

هو الموجود existant. والجوهر الحقيقي موجود فيه. ولا وجود للجوهر خارجاً عنه.

الأقنوم كل غير قابل للتجزئة أو الانتقال أو الاستحالة.

ولكن ليس الأقنوم فرداً. مفهوم الفرد مرتبط بالانفراد. أفراد الجنس البشري متعددون. وكل منهم منفرد عن الآخر. كل منهم كائن.

في الثالوث القدوس الجوهر واحد. والكائن واحد. مفهوم الشخص يقبل أن يكون الله كائناً واحداً. مفهوم الفرد لا يقبل هذا. الجوهر الإلهي هو الوجود الكلي الكمال للثالوث القدوس في وحدته.

في الوقت نفسه الأقانيم الثلاثة وجوهرهم الواحد هم كائن إلهي واحد.

الأقنوم هو فقط المالك للوجود ومبدأه وغايته. المحتوى الحقيقي لوجوده هو الجوهر الحي. فلا يمكننا أن نتكلم عن شخص إن لم يكن يملك محتوى.

وكل من الأقانيم يملك تمام الجوهر الإلهي. فلا يتجزّأ الجوهر بينهم. وبفضل وحدة الجوهر كل أقنوم يسكن في الأقنومين الآخرين بدون امتزاج أو ذوبان (8).

لفظة طبيعة physis اشتقاقها اللغوي يسمح بتطويرها نحو الدلالة على معانٍ تشير إلى الخصائص والأفعال. ولذا ربط أرسطو الفعل بالطبيعة فجعل الطبيعة مبدأ الفعل (الفيزياء 2: 9 و10).

واستنتج آباء الكنيسة من وحدة الفعل ألوهة الابن والروح القدس ووحدة جوهر الثالوث.

قالوا إن الابن والروح القدس يفعلان كل مايفعله الآب، وأنهما يملكان جوهره لأن وحدة الفعل تعني وحدة الجوهر.

وكان الآباء الكبادوكيون من أساطين هذا التفسير فبالغوا في استعمال لفظة “طبيعة” physis بدلاً من لفظة “جوهر” للثالوث القدوس فركزوا بذلك على أن وحدة الطبيعة بين الآب من جهة والابن والروح القدس من جهة ثانية دليل على التساوي في الألوهة.

وفي لغة أرسطو نفسها، الفعل الواحد دليل على الطبيعة الواحدة (9).

ولذلك في لاهوتنا الخلقيدوني الآبائي لا نستطيع أن نتصور وجود طبيعة بدون فعل. وهكذا يستحيل علينا أن نقول بفعل واجد في المسيح. فلاهوتنا القائل بالطبيعة مضطر للقول بالفعلين وإلا خرح على آباء الكنيسة الذين استشهدت بهم في الحاشية السابقة.

علاوة على الحلول الواردة أعلاه للألفاظ اللاهوتية، تولّى الكبادوكيون الثلاثة شرح عقيدة الثالوث القدوس. ففي فوضى الألفاظ كان لا بدّ من نحت المعاني الجديدة. في شجرة فوفيريوس Prophyrios وشرحها لتلميذه امونيوس ذكر لمفهوم الـ “فرد”.

إلا أنهما يبقيان في النهاية في عالم المجرد والسطحيات دون التوصل إلى المفهوم الشخصاني المسيحي أبداً. استعمل باسيليوس اكبير عبارات تحاكي عباراتهما من بعض النواحي. إلا أن الفرق كبير جداً.

باسيليوس فرَّق بين “جوهر” و”أقنوم”. أعطى الإنسان كمثل: المشترك بين أفراد البشر هو الطبيعة البشرية. الخاص هو الأشخاص. المشترك هو “جوهر”. الخاص هو “اقنوم”. بطرس وبولس وسلوانس هم أشخاص. وطالب باسيليوس بنقل هذا التفريق إلى الثالوث القدوس (10).

الألوهة جوهرهم. هي ousia. الأقانيم هم الآب والابن والروح القدس.

خاصة الآب الأقنومية هي الأبوة.

خاصة الابن هي البنوة.

خاصة الروح القدس هي الانبثاق.

هذه هي الخاصات الأقنومية وليس من شيء آخر سواها يميز الأقانيم.

الباقي كله مشترك. كل ما هو للآب هو للابن ما عدا أبوة الأب وبثَّته الروح القدس.

كل ما هو للروح القدس هو للآب ما عدا انبثاقه من الآب (11).

أكرر: كل شيء مشترك ما عدا الأبوة والولادة والانبثاق (12).

طبعاً لم يقفوا عند هذا الحد (أي الكبادوكيون). فلهم في الأقانيم أبحاث أطول من هذه. حدّدوا بموجبها لنا ما يمتاز به الأقنوم من عقل وعفوية واستقلال وحرية.

ساروا بالتاريخ نحو مفهوم شخصي لله فدحرجوا أفلاطون وأرسطو وكل الفلسفة اليونانية إلى أن نبشهم الغرب فعاد إلى فلاسفة الوثنية. ولم يستفق إلا متأخراً، ولكن نصف استفاقة.

غزا تفسير باسيليوس وصحبه العالم المسيحي، فصارت لفظة “أقنوم” تعني القوام الشخصي لكل من أشخاص الثالوث الذي يحوي الجوهر.

الجوهر قائم في الأقانيم. ولا وجود له خارجهم.

الأقنوم هو الموجود في الحقيقة والواقع. الجوهر هو الكائن être.

الأقنوم يحوي الجوهر. هو الحاوي والجوهر هو المحتوى. الجوهر موجود في الأقنوم. الألوهة موجودة في الأقنوم.

فكرة الاقتناء هذه فكرة مركزية في فكر الآباء. يركزون بقوة على الأقنوم كمقتنٍ وعلى الجوهر كمقتنى.

الأقنوم لا يتجزأ ولا يقبل التأليف مع أقنوم آخر. ولا ينتقل إلى الغير، إذ أنه هو الحاوي الجوهر كلياً، الذي يوحد كل ما هو فيه. وهو مستقل تمام الاستقلال عن كل أقنوم آخر. وهو تمسك تحت سلطانه كل ما هو فيه.

قلنا الأقنوم يقتني. هو يسود. أما الطبيعة فتفعل.

الأقنوم هو كل حقيقي Concret يحوي جميع ما فيه (13).

آباء الكنيسة الكاتبين باللغة اليونانية ركزوا على مفهوم الاقتناء كما ذكرنا. ويرى de Régnon أنهم استعملوا لغة حقوقية. فهم بأغلبهم حقوقيون كبار.

ومن جهة أخرى فلاهوتهم هنا يختلف عن اللاهوت الغربي كما لاحظ دي ينون المذكور. هم يذهبون من الجوهر إلى الأقنوم بينما لاهوتنا الشرقي يضع النبرة على الأقنوم الذي يقتني الجوهر (14).

فلسفياً اللاهوت الأرثوذكسي لاهوت وجودي شخصاني. بالنسبة إلى الله (الموجود سرمدياً) لا تطرح مسألة الوجود والماهية لأنه الموجود سرمداً، الحاوي جوهره سرمداً.

ولكن النبرة موضوعة بقوة على الأقنوم.

وغني عن البيان أن التفريق بين الأقانيم مستحيل إلا في مجال الفكر الصرف. فالآباء قالوا إن الألوهة برمتها في كل من الأقانيم.

هذا المفهوم الشخصاني أعطى اللاهوت الأرثوذكسي حيوية خاصة جداً وأخرج علم اللاهوت من متاهات الفلسفة النظرية والمثالية إلى الواقعية الشخصانية.

وهذا ما فات ديكارت وكل مفكري الغرب حتى أيامنا هذه. فلما بدأت ميرالوت بورودين ولوسكي ومن شاكلهما يصدرون في الغرب المقالات والكتب أصيب البحاثون الغربيون بصدمة أعادتهم إلى الرشد وساقتهم إلى الفهم الأصيل للاهوت الآبائي اليوناني.

كيرللس الإسكندري -كما أسلفنا- سار على خطى أثناسيوس والكبادوكيين في سر الثالوث القدوس. فهو من هذه الناحية تلميذهم الأمين (15) حتى جاء مكسيموس المعترف مشغوفاً بهم جميعاً ومنادياً بغريغوريوس اللاهوتي “المعلم”.

إلا أن كيرللس لم يفعل كما فعل غريغوريوس اللاهوتي. هذا -كما مرمعنا- طبق طريقته في الكلام عن الثالوث على طريقته في الكلام عن التجسد.

كيرللس اصطدم بعبارة أبولينارية مدسوسة تحت ستار مؤلف منسوب إلى أثناسيوس الكبير (16)، وهي:

“طبيعة واحدة متجسدة للإله الكلمة”

وقد وردت في أشكال أخرى كما سيجيء.

العبارة تقبل التفسير الخلقيدوني كما فعل كثيرون كالمجمع الخامس والأمبراطور جوستنيانوس وسواهما. فلفظة “متجسدة” هنا هي في اللغة اليونانية مرتبطة بلفظة طبيعة واحدة لا بلفظة “كلمة” أي أن كلمة الله هو ذو طبيعة متجسدة واحدة. له طبيعة واحدة متجسدة. فهناك الطبيعة وهناك التجسد. فما هو الواحد ما دمنا أمام الألوهة وجسد؟ الوحدة هي وحدة الشخص.

خصوم كيرللس اتهموه باستعمال عبارات أبولينارية. في زمن المجمع الأفسسي أي الثالث المسكوني (431) كان معروفاً أن أريوس وأبوليناريوس استعملا عبارة “طبيعة واحدة” ليسوع mia physis (17) . والنقاد جميعاً مجمعون على أن العبارة هي لأبوليناريوس. ومع ذلك فعبقرية كيرللس اللاهوتية وأرثوذكسيته فهمت الموضوع فهماً أرثوذكسياً سليماً.

وله الفضل الأكبر في حماية اللاهوت الأرثوذكسي مهما كان رأي النقاد في فرعونيته. فلولا الله وتعصبه (لدرجة الذعر) لوحدة شخص يسوع، لما كانت خلقيدونية ولا المجمع الخامس. ولطغت عقلانية بعض الأنطاكيين وسادت النسطورية. فلا غرابة أن تكون شخصيته قد سيطرت على القرنين الخامس والسادس.

هذا التشوش فصله المجمع الرابع المسكوني كما أسلفنا، مؤكداً بشدة على وحدة شخص يسوع.

ما هي أهم الالتباسات في ألفاظ كيرللس؟

أولاً:

إنه يسمي جوهري المسيح “طبيعتين” مستعملاً لفظة “طبيعة” في معنى “جوهر”. فهو يقر إذاً بأن في المسيح جوهرين:

  1. “إن (كلمة الله) موجود في الصورة morphè والطبيعة physis التي تخصنا، ويقود إلى أنظار الله الآب، طبيعة physis الإنسان” (18). اللفظة الأولى “الصورة” وردت في فيليبي 2: 2-9 لطبيعتي الله والإنسان. ما من شك هنا أن “طبيعة” تعني “جوهر”. ونرى أن كيرللس سمّى ناسوت يسوع “طبيعة”.
  2. “إنه ارتدى الطبيعة physis الخاضعة للموت” (19).
  3. في النص التالي يسمي كلا من طبيعتي المسيح physis: “الابن الوحيد لله لم يقاسِ في طبيعته الخاصة كإله آلام الجسد، بل كابدها بطبيعته الأرضية” (20). النص واضح: هناك طبيعة إلهية وطبيعة أرضية.
  4. “إن الطبيعتين اللتين اقتربتا لتؤلفا وحدة حقيقية هما في الحقيقة مختلفتان، ولكن ينتج منهما ابن ومسيح واحد، لا أن اختلاف الطبيعيتن قد تلاشى نتيجة الاتحاد” (21).

فما هو لاهوت كيرللس إذاً؟ كيرللس إنسان ثارت ثائرته ضد النسطورية لا بسبب تمييز الطبيعتين في يسوع بعد اتحادهما في التجسد الإلهي بل بسبب تفريقهما إلى ذاتين. وآنذاك يضعف الاتحاد ويتلاشى. الخلاف هو على كيفية الاتحاد (22). كيرللس بعد غريغوريوس اللاهوتي والذهبي الفم بطل الدفاع عن وحدة ابن الله: ابن واحد، رب واحد، مسيح واحد،….

الخلاصة: كيرللس أطلق على كلا طبيعتي يسوع لفظة physis بمعنى ousia.

ثانياً:

استعمل لفظتي طبيعة وأقنوم كمترادفين. وفعل ذلك في معنى يتميز عن لفظة “شخص”. وبهذا تدلان على الطبيعة الحقيقية كشيء موجود، كواقع بغض النظر عن كيفية القيام والوجود.

ويطلق هنا كيرللس لفظة “أقنوم” على طبيعة المسيح البشرية.

وبذلك يؤكد أن الطبيعة البشرية التي اتخذها ابن الهل هي طبيعة حقيقية physis هي واقع موجود فعلاً، لا تجريد أو مظاهر بدون قوام.

فإذاً، هو يستعمل لفظتي “أقنوم” و”طبيعة” بمعنى واحد ويطلقهما على الطبيعة البشرية أيضاً. بعد خلقيدونية هذا مستحيل عندنا، وإلا سقطنا في النسطورية بل في أردأ منها.

  1. قال: ما ليس له أقنوم يعادل العدم وليس شيئاً على الإطلاق (23).
  2. في دفاعه ضد ثيوذوريتوس أسقف قورش يطلق على الطبيعتين لفظتي “اقنومين” صراحةً. وفسّر لفظة أقنوم بمرادفها “حقيقة”. فقال: “حقيقتان أي اقنومان” (24).
  3. في رده على نسطوريوس استعمل عبارة “الاتحاد بحسب الأقنوم”. هذه هي عبارة الأرثوذكسي اليوم. ولكن لدى كيرللس لا تعني ذلك. ففي رده هلى نسطوريوس تعني شيئاً آخر. الأمر يحتاج إلى بضع كلمات من الشرح الواضح.
    كان نسطوريوس يقول أن في المسيح شخصين يرتبطان بروابط أدبية وجوار في شخص ثالث اسمه “شخص الاتحاد”. فالوحدة إذاً سطحية بلا عمق. ونسطوريوس شوّه بذلك المعنى اللاهوتي الجديد للفظة “شخص” بعد اتفاق الشرق والغرب على ترادفها مع لفظة “أقنوم” في سر الثالوث.
    بهذا يعود إلى معناها اللغوي العتيق: “وجه، قناع، دور مسرحي…” فإذاً: كيرللس أراد بالعبارة تركيزاً على اتحاد حقيقي واقعي متماسك ثابت كما شرحها هو نفسه:
    “اتحاداً حقاً وواقعياً لأقنوم الكلمة مع البشرية، ولكن بدون أي تحوير أو ذوبان”، دون أن تعني العبارة “مزجاً” Krasis (25).
    واستعمل في المعنى ذاته عبارة “الاتحاد الطبيعي أو بحسب الطبيعة” (26). فإذاً: بحسب الأقنوم = بحسب الطبيعة = الاتحاد الطبيعي. وهكذا تكون “طبيعة” = “أقنوم”. إنهما مترادفان.

ثالثاً:

وهناك ترادف ثالث لدى كيرللس. فهو يستعمل الألفاظ اللاهوتية “طبيعة” و”أقنوم” و”شخص” كمترادفات.

والمعنى لديه هنا هو: الفرد المستقل القائم بذاته.

  1. قال: “الذي هو متحد بآخر بحسب الكرامة – مع بقاء الطبيعتين أو الأقنومين منفصلين -لا يعرف كيف يؤلف (مع الآخر) كائناً واحداً، هما اثنان حتماً” (27).
    فإذاً -كما قلنا- همُّ كيرللس منحصر في “وحدة يسوع”، في اتحاد الطبيعتين فيه دون أن يكون هناك ربّان ومسيحان وابنان. استعمل طبيعة وأقنوم كمترادفين. عاب على خصومه القول في الاتحاد أنه يتم بحسب الكرامة أي سطحياً في النتيجة. وفيما يلي أدلة جديدة على صواب رأيه.
  2. “فليقل لنا أولئك الذين يقسمون المسيح والابن الوحيد إلى ابنين، ويعلنون أن الإنسان التصق بالله بحسب مساواة الكرامة والسلطة فقط، مع بقاء الطبيعتين منفصلتين، (فليقل لنا أولئك) بموت من اعتمدوا؟” (28)
  3. “إذا كان أحد يقسم العبارات المستعملة للمسيح في الأناجيل بين شخصين أو أقنومين…” (29).
  4. “طبيعة physis الكلمة أو الأقنوم الذي هو الكلمة نفسه” (30).
  5. “لهذا نجد في الأناجيل كافةً عباراتٍ عن “شخص” واحد: أقنوم واحد متجسد للكلمة” (31).
  6. عبارة “أقنوم واحد متجسد للكلمة” (32) هذه معادلة تماماً للعبارة التي يتمسك بها اليعاقبة “طبيعة واحدة متجسدة للإله الكلمة” (33). وهذا دليل قاطع على أن كيرللس ما كان يقيم في عقيدة التجسد (الخريستولوجيا) التفريق الذي اعتمده غريغوريوس اللاهوتي. فلفظتا “طبيعة” و”أقنوم” مترادفتان في أهم جملة تسلح بها خصوم خلقيدونية.

ولذا رأى فيها الأرثوذكس والكاثوليك دوماً بالاستناد إلى كل تفكير كيرلس تعبيراً صحيحاً عن الإيمان بوحدة يسوع وبأن كيرللس لم يكن يفرّق كل الأحيان بين لفظتي “طبيعة” و”أقنوم”.

ولكن في صراعه مع الأنطاكيين استعمل في النهاية تعبيرهم كما نرى في رسالة المصالحة، فسمّى اللاهوت والناسوت “طبيعتين” بمعنى سليم تماماً.

وبالمقابل كان خصومه مثله في الاستعمال. فكان ثيوذريتوس يستعمل عبارة كيرللس: “طبيعتان أي أقنومان” (34).

بناء على كل هذا نتساءل لماذا كان كيرللس يُصاب بالذعر من عبارة خصومه “طبيعتان” dio physis؟

هو نفسه يميّز بين اللاهوت والناسوت ويؤمن بوجودهمتا تامين بعد الاتحاد في يسوع الواحد. الحل الوحيد هو أن كيرللس بحسّ أرثوذكسي سليم كان يشعر أن لاهوت خصومه بمجموعه هو لاهوت يُثنّي شخص يسوع ولا يعلن وحدته. فالعبرة في الكلام للمعنى لا للفظ. لاهوت خصومه ثنائي: أقنومان، طبيعتان، شخصان. والرابط بينهم شخص اتحاد واهٍ. لقد مسخوا مسخحاً معنى لفظة “شخص” بعد أن دخلت الاستعمال السليم في سر الثالوث.

ومن جهة أخرى فإن كيرللس كان حذراً في استعمال لفظة “طبيعة”. بلباقته كسلفه البعيد نسبياً أثناسيوس عرف كيف يفتح صدره لخصومه ويتعاطى معهم بفهم. فإن فاوض خصومه استعمل لفظة “physis” للناسوت. ولكن إن استعمل لغته الخاصة أضاف إلى لفظة physis مايفسّرها. أي أنه يطلقها على الناسوت ويضيف إليها ألفاظاً خاصة توضح المعنى الذي رمى إليه (35).

الخلاصة:

أصدر الأمبراطور مرسوماً بإتلاف كتب الأبوليناريين فأخفوا كتبهم تحت أسماء أثناسيوس الكبير والبابوين يوليوس وفيلكس وغريغوريوس العجائبي. يوحنا البيساني -في النصف الأول من القرن السادس- فضح الغشّ.

في مجمع 532 بين الأرثوذكسي ومحاوريهم الذين سموا فيما بعد باليعاقبة طعن أفرام الآمدي وسواه في أبولينارية مصادر الفريق الآخر، مما يطول شرحه هنا.

ذكرنا في النص أن المراجع الأرثوذكسية فسّرت عبارة كيرللس تفسيراً أرثوذكسياً (الأمبراطور يوستنيانوس، المجمع الخامس المسكوني، كتاب “في البدع” الدمشقي).

كيرللس استعمل العبارات اللاهوتية الرئيسية كمترادفات.

في رسالة المصالحة مع الأنطاكيين تفاهم الطرفان على القول بوجود طبيعتين في يسوع مع تشديد واسع على وحدة يسوع ونسبة الأفعال اللاهوتية إلى اللاهوت والناسوتية إلى الناسوت، ولكن ابن الله واحد لا اثننان.

وبهذا أدرك كيرللس مرماه فأنقذ وحدة الشخص في يسوع. ثم جاء المجمع الرابع فشدد 8 مرات على أن يسوع هو نفسه الأقنوم الواحد وجعل لفظة “شخص” مرادفاً نهائياً للفظة أقنوم.

فالمعنى الجديد للفظة أقنوم لدى الأرثوذكس صار مناقضاً مناقضة تامة لاستعماله أحياناً لدى اليعاقبة. وكذلك استعمالهم للفظة “طبيعة” بالنسبة إلينا. المضمون واحد إلا أنهم مازالوا على تشوّش الألفاظ القديم حتى جاءت التصريحات المعاصرة (36) تزيل الالتباس. فنحت المعاني الجديدة ضرورة مطلقة. في العربية استعرنا لفظة أقنوم من السريانية. وترجم القدماء prosopon ترجمة حرفية بـ “وجه”. ونستعمل لها حديثاً “الشخص”. حتى لفظة شخص لا تؤدي المعنى المقصود بحد ذاتها. فنشرحها بالمعنى الآباء الذي ورد أعلاه.


(1) وفي سوريا الطبيعية صارت لغة أي إنسان ذي قسط من الثقافة في المنطقة الواقعة غربي الفرات كما مر معنا في القسم التاريخي.

(2) Nicolas Berdiaeff, Cinq Méditations sur l’Existence, p 180-181; Aubier, Paris; 1936 et Emmanuel Mounier, Le Personnalisme, p 10 et 13; P.U.F., Paris; 1949.

(3) في المعاجم اليونانية الكبرى وكتاب Prestige الذي ذكرناه آنفاً (ترجمته الفرنسية سقيه, الأفضل هو اللجوء إلى الأصل الانكليزي) و Lampe, Patristic Greek Lexicon ودوائر المعارف اللاهوتية الكبرى يعثر عاشق الله على ضالته من هذه الأبحاث بقدر لا بأس به. وبين المعاجم الكبرى المعجم اليوناني-الانكليزي… …Lidell and واسع جداً و Bailly الكبير (الفرنسي) جيد (طبعة 1963 المنقحة).

(4) ديديموس الأعمى (مين اليوناني 39: 348، الدمشقي، مين 95: 589 و96: 1097 و348 وسواهم)

(5) ليديل، وبايي.

Catholicisme, t.l, 1150, Lidell; Bailly

(6) Baur, A Greek-English Lexikon of the N.T. et Cath. loc. Citée.

(7) ليديل وبايي.

(8) سيرج فيرخوفسكوي عقد الفصل 6 من كتابه “الله والإنسان” حول “الجوهر”. وفي صفحاته الأولى تحليل بارع للفظتي “كائن” و”فرد” والفرق بينهما وبين الأقنوم والجوهر. وهو آبائي كزميله مايندورف في التركيز على الأقنوم كمالك الجوهر على  ما يمر معنا. والنبرة الشخصانية-الوجودية واضحة تماماً.

(9) أثناسيوس الكبير، مين 26: 585-588؛ باسيليوس، مين 29: 617 ونص ممتاز في الرسالة 189: 6؛ النيصصي 44: 1160 و45: 125؛ كيرللس الاسكندري 75: 137؛ مكسيموس المعترف في نقاشه مع بيروس ضرب فوراً على هذا الوتر. هو وصفرونيوس ويوحنا الدمشقيان ذهبا في هذا الباب إلى نهاية الشوط. انظر ايلاريوس بواتييه، في الثالوث 9: 47-48 فإنه من رأي الآباء. الدمشقي، دياليكتكا 40.

(10) أي في التعليم وشرح الإيمان… (الشبكة)

(11) باسيليوس الرسائل 38؛ 214 : 4؛ 236: 6 وخطب غريغوريوس 27 و28 و29 و30 و31 وو… لوسكي لا يذكر فوفيريوس بل يكتفي بأرسطو (49-51).

(12) نقتصب كثيراً. راجع لوسكي 43-64 لنظرة إجمالية.

(13) اكتفينا بهذا القدر وإلا طال بنا الشرح جداً.

  • آ- أثناسيوس، ضد الأريوسيين 3: 35 و36 في مين 25: 400، الرسالة 3 إلى سيرابيون 5 في مين 26: 633.
  • ب- كيرللس الأورشليمي 16: 24.
  • ج- باسيليوس، في الروح القدس 16: 38 و7: 41.
  • د- غريغوريوس اللاهوتي، الخطبة 31: 14 و15 و34: 8 و39: 11 والقصائد اللاهوتية 20: 3 في مين 37: 414.
  • هـ- حوارات على الثالوث 1: 2  في مين 28: 120 [أو 28: 3120، أو 28: 2120.. غير واضح الرقم (الشبكة)] (من القرن الخامس).
  • و- الدمشقي، الإيمان الأرثوذكسي 1: 8 في مين 808 و821 و284 و285 و828 و829 و849 والدياليكتيكا 40 و42.
  • ز- مايندورف 88 (النص والحاشية 69) ركز أكثر من لوسكي على فكرة غريغوريوس لجهة اقتناء الأقنوم للجوهر (لوسكي: اللاهوت الصوفي 53). ولكن أثناسيوس ركز قبلاً عليها في موضع البند آ أعلاه.

(14) دي رينون 1: 433.

(15) مين 76: 204 و1272.

(16) في مين 28: 256، 30.

(17) راجع في مرجع ذُكر آنفاً:

Richard, Léonce… et Léonce de J. p 79.

(18) مين اليونانين 76: 1400

(19) مين اليوناني 76: 1376 وأيضاً 77: 245 و76: 1388 و1200 و1141 و329 و64 و89.

(20) مين 77: 244.

(21) مين 77: 244.

(22) مين 75: 1385 و76: 85 و77: 45 و255.

(23) مين 76: 1153.

(24) مين 76: 396 و401.

(25) مين 76: 396 و401 وأيضاً 332. ذكرنا سابقاً شيوعها ثم سقوطها من الاستعمال.

(26) 76: 120 و332 و400-401 و404 و405 و77: 45 و48 و117 والنيصصي 45: 1449.

(27) مين 76: 1357.

(28) مين 76: 1408-1409.

(29) مين 76: 332 و336 (أنظر أيضاً 77: 241 و245). إن العبارة هنا واردة أيضاً في الحرم الرابع (ص 332) ويدافع عنها كيرللس في ص 336.

(30) مين 76: 401 وردت العبارة رداً على ثيوذوريتوس، في تبرير الحرم الثاني.

(31) مين 77: 116.

(32) مين 77: 116 و340 و77: 116.

(33) مين 76: 349 و77: 241 وهي مدسوسة على أثناسيوس (مين 28: 256، 30) ومع هذا فسرها الأرثوذكس تفسيراً أرثوذكسياً كما مر معنا.

(34) مين 76: 404.

(35) مين 77: 241 و85 و76: 425 ز329. أنظر

Tixeront, Historie des Dogmes, t. III p. 62 et 64-54.

(36) أي قبل سنة 1980… (الشبكة)

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎

معلومات حول الصفحة

عناوين المقال

محتويات القسم

وسوم الصفحة

انتقل إلى أعلى