رقادد والدة الإله

أيقونة رقاد السيدة

تاريخ العيد:

عيد رقاد السيدة هو آخر عيد كبير في السنة الطقسية التي تنتهي في 31آب، ويدشّنها عيد ميلاد العذراء في 8 أيلول. ويرتكز هذا العيد، كباقي الأعياد المريمية (ماعدا البشارة) على معلومات استقتها الكنيسة من التقليد. وقد أُسس هذا العيد في أواخر القرن السادس أو أوائل القرن السابع (بين 610 و 649) بمناسبة الكنيسة التي دشنت في الجسمانية حيث دفنت مريم ووالديها كما جاء في التقليد. ثم انتشر في سائر أنحاء الإمبراطورية البيزنطية. وانتقل إلى الغرب في عهد البابا ثيودورس الأول (647-649).

عظات شهيرة تشهد لهذا العيد، ألقيت في القرن الثامن، وقد ألقاها القديس جرمانوس بطريرك القسطنطينية (توفي 733)، والقديس أندراوس الكريتي (توفي سنة 740) والقديس  يوحنا الدمشقي (توفي سنة 753)، (وقد انتقينا مقطعاً من إحداها في مقطع سابق من هذه النشرة)، وغيرهم من الواعظين المشهورين في القرن السابع. وقد استعمل لهذا العيد عدة تسميات منها “عيد رقاد والدة الإله” أو “انتقال” أو “صعود” العذراء.

ولم يذكر الإنجيل شيئاً عن رقاد والدة الإله كما انه لم يسلط لنا الأضواء على تفاصيل حياتها أيضا. إنما ما يذكره القديس  يوحنا الدمشقي في أوائل القرن الثامن في عظته الشهيرة حول رقاد السيدة كاف لتثبيت التراث الشفهي الذي شاع في الكنيسة منذ القرون الأولى ونقل إلينا في مخطوطة بعنوان “كتاب يوحنا اللاهوتي حول رقاد والدة الإله الكلية القداسة”. وقد وجدت نسخ من هذه المخطوطة باللغات اليونانية والسريانية والعربية، وكلها تعود إلى أوائل القرن الرابع للميلاد. أما القديس الدمشقي الذي اشتهر بكتاباته المريمية، فأكد لنا أن المسيح بنفسه قد حضر إلى مضجع والدته المحاط بالرسل الذين استقدموا بالروح من أقاصي الأرض.

يقول التقليد الشفوي أيضا أن الرسل بعد العنصرة أخذوا يجتمعون معاً بانتظام وإذا اتكئوا للغذاء بعد الصلاة كانوا يتركون ما بينهم موضعاً خالياً ويضعون على الوسادة قطعة من الخبز الذي يأكلونه يدعونها جزء الرب. وإذا نهضوا بعد الغذاء وصلّوا وشكروا يأخذون تلك القطعة فيرفعونها قائلين “المجد لك يا إلهنا المجد لك المجد للأب والابن والروح القدس” وكانوا يرددون المسيح قام لفترة تتراوح بين الفصح والصعود. أما من بعد الصعود فكانوا يهتفون “عظيم أسم الثالوث القدوس أيها الرب المسيح أعنا” وهكذا حتى أفترقوا للكرازة.

ولكي يبقى هذا التقليد حياً هكذا كان يفعل كل من الرسل حيثما وجد، إلى أن اجتمعوا مقبلين بالسحب ليحضروا احتضار السيدة الذي لم يكن في الواقع إلا انتقالاً. أما في اليوم الثالث من دفنها وإذ كان الرسل مجتمعين كعادتهم وفيما هم يرفعون جزء الرب قائلين” عجيب أسم..” توقفوا وانذهلوا ! إذ يا له من عجب مستغرب السماء فُتحت وظهرت العذراء بجسمها الطاهر ملتحفة بسحابة من النور وملائكة ظهروا متسربلين النور محيطين بها في الجو فقالت “السلام لكم افرحوا معي مدى الأيام..” فاندهش الرسل وهتفوا قائلين عوض “أيها الرب يسوع المسيح أعنا” “يا والدة الإله الكلية القداسة أعينينا” حينئذ ذهبوا إلى القبر وإذ لم يجدوا جسدها تيقنوا من حقيقة قيامتها من بين الأموات حية بجسدها نظير أبنها منطلقة إلى السماوات. 

قد يتخيل البعض أن هذه الرواية خيالية بعيدة عن الحقيقة والموضوعية، ولكن من يقرأ الإنجيل بإيمان ويعجب بآياته لا يستغرب تقليداً كهذا بل هو تتمة منطقية لحياة الكلية القداسة وتتويج طبيعي لحياة طاهرة كحياة مريم التي اتخذها السيد جسداً من جسدها. أليس هو القائل “من آمن بي وإن مات فسيحيا” فكيف بالحري من جسّدت الإيمان بشخصها وحوت بأحشائها سيد العالم وخالقه؟..

يوحنا الدمشقي يهتف بلغة الإيمان في عظته الشهيرة حول رقاد مريم:” اليوم تعبر من الأرض إلى السماء تلك السلم التي نزل عليها العلي” (وهنا يشير إلى سلم يعقوب في حلمه كما ورد في(التكوين 10:28-19). هذا القبر أقدس من قدس الأقداس حيث حوى لا الظلال والرموز بل الحقيقة عينها..ارفع نظرك يا شعب الله وشاهد خيمة إله الصباؤوت في الجثمانية وقد حضر الرسل إليها ودفنوا الجسد مبدأ الحياة الذي كان قد حوى أبن الله..”

أيقونة رقاد السيدة أو انتقالها:

أيقونة رقاد السيدة“أيها الرسل اجتمعوا من الأقطار إلى هنا في قرية الجثمانية واضجعوا جسدي وأنت تقبل روحي يا ابني والهي” هذه الترتيلة صورة عن الخطوط العريضة التي اتبعها رسامو الأيقونات لرسم أيقونة الرقاد. هناك أيقونة في دير القديسة كاترينا في صحراء سيناء(25سم x 38سم) رائعة من حيث الفن التصويري، يعود تأليفها إلى القرن الثاني عشر، واضحة جداً في تصميمها الذي لا يتغير في كافة أنحاء البلدان الأرثوذكسية. وكلنا نعلم أن لأيقونات هذا الدير قيمة منفردة، إذ لم تتأثر بموجة الفتك بالأيقونات التي سادت في القرن الثامن. المشهد هو نفسه في كل الأيقونات التي تؤدي معنى الانتقال: العذراء مريم منطرحة على فراش الموت، جسدها منطو أفقياً وكأنه يكاد ينقلب لتوازنه غير الثابت. وهذا يفسر بسبب عدم وجود العمق في فن الأيقونات، كل شيء رسم سطحياً إذ لا وجود لبعد ثالث كما في اللوحات العادية. فجسد مريم منحن عاكف على الناظر بكثير من الرقة. أما المسيح فهو منتصب في وسط الأيقونة، جسده في اكثر الأحيان محاط بهالة بهية من النور الأزلي، يحمل مريم في يديه مقمطة بلفائف كطفل صغير وكأنها تولد في السماء على يدي ولدها وسيدها. من ينظر إلى الأيقونة من بعيد يتراءى له الخطان اللذان يؤلفان مريم ويسوع وكأنهما خطّا صليب السيد: فالصليب منتصب أبداً في حياة الكنيسة. أما الرسل فيحيطون بجسد مريم بشكل نصف دائرة، نلمح بوضوح أربعة منهم: بطرس منحن فوق رأس مريم وعلائم الحزن والتأمل ظاهرة على وجهه، بولس منعكف عند قدميها منذهل، يوحنا التلميذ الحبيب يُقبّل نعشها بحزن عميق، واما اندراوس فهو واقف وراء بطرس. يوجد عدة أساقفة في اللوحة يتميزون لباسهم الكنسي. أما الملائكة فيشتركون بفرح بهذا المشهد الحزين فيضيفون عليه علائم السموات.

أما روسيا في القرون الوسطى عندما كانت مدينة كييف عاصمتها، فكانت تعتبر عيد رقاد السيدة عيداً وطنياً وتضع نفسها تحت شفاعة العذراء مريم وحمايتها إزاء الغزوات الخارجية، ولذلك اشتهر الفن الروسي في أداء لوحات رقاد العذراء كما تميزت مدينة نوفغورود برسّاميها فكان التأليف نيّراً ساطعاً.

معنى العيد:

يوضح لنا الأب جيله في كتابه عن دورة السنة الطقسية أن نشأة هذا العيد غامضة في العالم المسيحي. ففي فلسطين كان يُقام العيد في 15 آب ما قبل القرن السادس. أما في القرن السابع فقد ثبّت الإمبراطور البيزنطي موريس تاريخ 15 آب بطريقة نهائية. انه من أهم الأعياد الكنيسة وتحضّر الكنيسة المؤمنين له بصوم يدوم أربعة عشر يوماً نصلي فيه قانون البراكليسي، أي الابتهال إلى العذراء يومياً. وهو أهم أعياد السيدة. القراءات التي تتلى فيه هي نفسها التي تتلى في ميلاد السيدة ولا تنوه قطعاً عن رقاد السيدة. أما المعنى الروحي للعيد فيتجلى في تراتيل صلاة الغروب والسحرية ولكن في الواقع هناك عدة معان تنبعث من الصلوات المختصة بالرقاد:

المعنى الأول: العيد ليس فقط احتفالا بولادة مريم في السماء كما تشير إليه الأيقونة بل عيد انتقال مريم بالجسد إلى السماء، والنصوص التي تشير إلى ذلك عديدة في طقوسنا “أن والدة الإله لا تغفل في الشفاعات…لم يضبطها قبر ولا موت”…” لانك انتقلت إلى الحياة بما انك أم الحياة”… وبالتالي جسد مريم الكلي الطهر لم يعرف الفساد الناتج عن الموت وتفككه بل انتقل بواسطة الملائكة إلى السماء.

أما الكنيسة فلم تفرض هذا التعليم على المؤمنين كعقيدة، ولكن ضمير الكنيسة الحي عبر الأجيال يعتبر نفي انتقال السيدة إلى السماء كتجديف أكيد. مريم هي تلك المخلوقة المنفردة في النقاوة والطهارة الجليلة في سر صمتها، المتسامية في عمق آلامها، التي تجاوزت حدود الطبيعة وطارت إلى اقرب حد يستطيع أن يصل إليه إنسان، فتعالت عن الملائكة وتألهت بتواضعها. ولذلك مجّدها ابنها بجسدها ونقله إليه. وهكذا تعيد الكنيسة بمريم أول قيامة قبل القيامة العامة.

المعنى الثاني:” الموت صار عربونا للحياة…” العيد هو عيد كل الطبيعة الإنسانية لان بمريم توصلت الجبلة الترابية النتنة إلى هدفها الأسمى وسمح لها بالرجاء… رقاد العذراء يُمثل لنا المجد الذي يمكن أن نصير إليه إذا ما أثمرت النعمة فينا بفعل الروح القدس. ومهما يكن من شأن الحدث التاريخي فالمهم بالنسبة إلينا أن الكنيسة تركز في قراءاتها على المعنى الروحي للحدث وقد اوجزه لنا بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: “كما لبسنا صورة الترابي سنلبس صورة السماوي.. إذ نحن أيضا سنتغير”(1كورنثوس49:15و52). لا شك أن لمريم وضعاً خاصاً وامتيازات خاصة ولكن لنا بها شفيعة إذ لم تهملنا برقادها، ممهدة لنا الطريق إلى السماء، واضعة نصب أعيننا إمكانيات الطبيعة الكامنة في طياتها المنتظرة ندى الروح القدس لكي تنفتح وتتدفق حياة القداسة.

لماذا الانتقال؟ للقديس يوحنا الدمشقي:

في الواقع، إنّ هذا المسكن اللائق بالله، والينبوع غير المنقوب بيدٍ الّذي يتدفق منه الماء الغافر الخطايا، والأرض غير المحروثة المثمرة الخبز السماوي، والكرمة التي أعطت خمر الخلود دونما سقاية، وزيتونةَ رحمةِ الآب الدائمة الاخضرار ذات الثمار البهيّة، كان يجب ألا تقاسي اعتقال لجج الأرض لها. بل كما أن الجسد المقدس الطاهر الذي بواسطتها وحّده الكلمة الإلهي بأقنومه قد قام من القبر في اليوم الثالث، هي أيضاً كان يجب أن تُنتزع من اللحد وتنضمَّ الأمُّ إلى ابنها. وكما نزل هو إليها، هكذا هي نفسها محطُّ حبّه كان يجب أن تُنقَلَ إلى “المسكن الأعظم والأكمل” إلى السماء بعينها”.

كان يجب أن تأتي لتسكن في مظالّ ابنها، تلك التي قدّمت ملاذاً للكلمة الإلهي في حشاها. وكما قال الرب إنه سيكون في مسكن أبيه الخاصّ (بالضرورة)، هكذا كان يجب أن تسكن الأمّ في بلاط ابنها، “في بيت الرب وفي ديار بيت إلهنا” (مز134: 1، 135: 2). لأنّه إذا كان ها هنا مسكنُ جميع الفرحين” (مز7:78)، فأين ستسكن إذاً من هي علّة الفرح؟

كان يجب أن تحفظ جسدها بلا فساد، وحتّى بعد موتها، تلك التي حفظت بتوليتها كاملةً في الولادة.

كان يجب أن تسكن في المظالّ السماوية تلك التي حملت خالقها طفلاً في حشاها.

كان يجب أن تأتي لتسكن في خدر الزواج السماوي، العروس التي اختارها الآب لنفسه. كان يجب أن تشاهد ابنها جالساً بقرب الآب، من قد شاهدته على الصليب متقبلةً بذلك في قلبها سيف الألم الذي تركها في ولادتها.

كان يجب أن تتسلّم والدة الإله خيرات ابنها وأن تكرّمها كلّ الخليقة كأمّ لله وأَمَةٍ له. فالميراث يمرّ دوماً من الوالدين إلى الأولاد؛ وأما ها هنا، واقتباساً لعبارة أحد الحكماء، فينابيع النهر المقدس ترتقي ثانيةً إلى أصلها، وذلك لأنّ الإبن قد أخضع لوالدته الخليقة بأسرها.

بتصرف عن: رسالة رعية حلب ودير ينبوع الحياة.. دبين – الأردن

arArabic
انتقل إلى أعلى