Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

أ – المعزّي الآخر

وَعَد ربنا يسوع المسيح تلاميذه، قُبيل آلامه المكرَّمة: “وأنا أسأل أبي، فيهب لكم معزياً آخر، يبقى معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يتلقاه، لأنه لا يراه ولا يعرفه. أمّا انتم فتعرفونه، لأنه يقيم معكم وهو فيكم” (يو 14: 16-17). “ولكن المعزّي، الروح القدس، يرسله الآب باسمي، فيعلّمكم جميع الأشياء، ويذكّركم جميع ما قلته لكم” (يو 14: 26). “ومتى جاء المعزّي الذي أرسله لكم من لدن أبي، روح الحق المنبثق من الآب، فهو يشهد لي” (يو 15: 26). “إذا مضيت أرسله (المعزّي) لكم. ومتى جاء، أخزى العالم على الخطيئة والبرّ والحكم: أمّا على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي….. لا يزال لديّ أشياء كثيرة أقولها لكم، ولكنكم لا تطيقون الآن حملها. فمتى جاء روح الحق أرشدكم إلى الحق كله، لأنه لا يتكلّم من عنده، بل يتكلم بما يسمع وينبئكم بما يحدث، سيمجدني لأنه يأخذ ممّا لي ويطلعكم عليه” (يو 16: 7-14).

ليس الروح القدس غريباً عن طبيعة الآب، فهو يأتي من جوهره، أي أن كلاهما من جوهر واحد. وهذا ما يفسّره يوحنا الدمشقي: “ينبغي الاعتراف، بتقوى، أن الروح القدس موجود في الطبيعة الإلهية البسيطة وغبر المركّبة، لأن كلمة الله ليس أدنى من كلمتنا. ولا يجوز أن نعتبر الروح القدس غريباً يدخل إلى الله من الخارج، كما يحدث بالنسبة إلينا نحن المركّبين. لأننا لمّا سمعنا عن كلمة الله، لم نعتبر انه بلا وجود شخصي، فهو لا يكتسب بالتعلّم ولا يُلفظ بالصوت ولا يتبدد في الهواء فيختفي، أنما هو موجود من حيث الجوهر، ويملك إرادة حرّة وفعلاً وقوة كلّية. ولمّا تعلّمنا عن الروح القدس الذي يرافق الكلمة ويظهر فعله، لم نعتبر انه روح بلا وجود شخصي، لأن عظمة الطبيعة الإلهية تكون محتقرة إذا اعتبرنا أن الروح القدس الذي يملك وجوداً وكياناً مشابهاً لروحنا التي لا كيان ولا وجود لها” (الدمشقي).

وهذا التعليم عينه وارد في أمكنة عديدة من الكتاب المقدَّس. فعندما أشار الرب يسوع إلى شخص الروح القدس، استعمل لفظة “الذي” (يو 14: 26، 15: 26، 16: 13)، وتحدَّث عن “معزٍّ آخر” (يو 14: 16)، أي عن شخص مستقل ومتميّز عن الآب والابن (يو 4: 26) وهو المعزّي الذي رآه المسيح في الأردن نازلاً عليه “كحمامة” (متى 3: 16).

“لا يستطيع احد أن يقول: “يسوع رب” إلاّ بإلهام من الروح القدس. أن المواهب على أنواع وأمّا الروح فواحد، وإن الخدمات على أنواع وأمّا الرب فواحد، وإن الأعمال على أنواع وأمّا الله الذي يعمل كل شيء في جميع الناس فواحد. كل واحد يتلقّى من تجلّيات الروح لأجل الخير العام….. وهذا كله يعمله الروح الواحد نفسه موزِّعاً مواهبه على كل واحد كما يشاء” (1 كو 12: 3-11).

يصف دستور الإيمان الشخص الثالث من الثالوث القدّوس بأنه “الروح القدس، الربّ، المحيي، المنبثق من الآب، الذي هو مع الآب والابن مسجود له وممجّد، الناطق بالأنبياء”. تعلن هذه الشهادة إيمان كنيستنا بألوهة الروح القدس. ويؤكّد الكتاب المقدّس، في جميع الآيات التي ذكرناها، ألوهة الشخص الثالث من الثالوث القدوس. ولكن بعض الناس يدعون أن الروح القدس ليس إلهاً بل هو “فعل” الآب والابن. وهذا غير ممكن. فـ “الآب” سيرسله (الروح القدس) باسم الابن (يو 14: 26) ويدعوه “معزياً آخر” (يو 14: 16)، وهو يحيي مثل الآب والابن (أيوب 33: 4، يو 1: 3، أمثال 8: 27-30). ولكن القوة اللاشخصية لا تُرسل. لذلك نقول أن الروح القدس قوة إلهية ذات كيان ووجود شخصي، مثل كلمة الله وحكمته، الذي يولد من الآب بغير ابتداء (يو 1: 1، أمثال 8: 25) ويسبِّب للآب فرحاً أزلياً وابتهاجاً (أمثال 8: 30).

ونستدل من كلمات الرب التالية أن شخص الروح القدس متميّز عن شخص الابن: “من قال كلمة على ابن الإنسان يُغفر له. وأمّا من كفر بالروح القدس، فلن يغفر له” (لو 12: 10، عب 10: 29).

لا يمكن أن يكون الروح القدس “فعلاً” بسيطا ً للآب، وإلاّ فكيف يستطيع بولس الرسول أن يصفه بـ “روح الابن” الذي يرسله الله إلى قلوبنا ويصرخ: “أبي، يا أبي” (غلا 4: 6، انظر 1 بط 1، 11)؟ أو كيف يقول الرب يسوع أن الروح القدس يُرسل “باسمه” (يو 14: 26) وإنه سيأخذ ممّا للابن ويعلنه (يو16: 14)؟.

ب – شهادات أخرى من الكتاب المقدس

“فطار إليّ أحد السيرافيم وبيده جمرة أخذها بملقط من المذبح، مسّ فمي وقال: ها إن هذه قد مسّت شفتيك فأزيل إثمك وكفّرت خطيئتك. وسمعت صوت السيّد قائلاً: من أرسل ومن ينطلق إلى هذا الشعب؟ فقلت: ها أنذا فأرسلني. فقال: اذهب وقل لهذا الشعب: سماعاً تسمعون ولا تفهمون ونظراً تنظرون ولا ترون، وغلّظ قلب هذا الشعب وثقّل أذنيه وأغمض عينيه لئلّا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه ويرجع فيشفى” (أش 6: 6-9).

لقد أشار بولس الرسول إلى هذا المقطع مؤكّداً أن الروح القدس هو المتحدث إلى أشعياء النبيّ: “صدق الروح القدس في قوله لآبائكم بلسان النبيّ أشعياء: اذهب إلى هذا الشعب….” (أع 28: 25-27).

لكننا نعلم أن الذي أوصى النبيّ أن يكرز أمام الشعب بالتوبة، هو “رب الصباؤوت” الذي رآه جالساً على عرش عالٍ، ومحاطاً بالسيرافيم الذين غطوا وجوههم من بهاء مجد الرب وهم يرتلون: “قدوس، قدّوس، قدوس رب الصباؤوت، الأرض كلها مملؤة من مجده” (أش 6: 1-3).

هذه الآية هي شهادة كتابية لثالوثية أقانيم الله، وهي تفسّرها بطريقة متوافقة مع كرازة بولس بأن “الروح القدس (هو الذي) تحدَّث إلى أشعياء النبيّ” (أع 28: 25). الروح القدس يتحدث إذن، مع الآب والابن إلى أشعياء النبيّ. وتالياً فإن الآب يتحدّث بواسطة الابن في الروح القدس”. وفي مكان آخر يؤكّد بولس الرسول بوضوح تام: “إن الرب هو الروح” (2 كو 3: 17).

ويذكر النبيّ حزقيال: “دخل فيّ الروح وأقامني على قدميّ وكلّمني وقال لي: امضِ وأغلق عليك في داخل بيتك… وحين أكلّمك افتح فمك فتقول لهم هكذا قال السيّد الرب. من يسمع فليسمع ومن يمتنع فليمتنع، لأنهم جماعة تمرّد” (حز 3: 17).

هذه الآيات التي تُعلن أن الروح القدس إله، ليست الوحيدة في العهد القديم. وقد شرحنا سابقاً العلاقة بين (مز 94: 7-9) و(عب 3: 7 _9)، وبين (مز 109: 4-5) و(مز 12: 35-36). ويبقى أن نشير إلى ما قاله النبيّ ارميا: “يقول الرب: ها إنها تأتي أيام أقطع فيها مع آل إسرائيل وآل يهوذا عهداً جديداً… وإني أجعل شريعتي في ضمائرهم وأكتب على قلوبهم… ولن أذكر خطاياهم من بعد” (إرم 31: 31-34). وقد أكّد بولس الرسول أن الروح القدس هو الذي نطق بهذا العهد (عب 10: 15). ونرى في العهد الجديد أن الروح القدس، احد أقانيم الثالوث، خاطب الرسل وأوصاهم وصايا مختلفة (أع 13: 2، 20: 22-23). أمّا بولس الرسول فخاطب أهل أفسس: “لا تحزنوا روح الله القدّوس الذي به خُتمتم ليوم الفداء” (4: 30)، وأهل كورنثوس: “إن الروح يفحص عن كل شيء حتى عن أعماق الله… ما من أحد يعرف أسرار الله غير روح الله” (1كو 2: 10- 11).

ويتساءل القديس باسيليوس: “كيف يمكن لمن يعرف الأمور التي لا يُنطق بها أن يكون غريباً عن الله أو معادياً له؟ وهل يقدر أن يناقض الكتاب المقدس، ما دام الكتاب يقول أن الله يسكن فينا بالروح (أفسس 2: 22)؟ أوليس القول أن هذا الروح لا يشارك بالألوهة، نوعاً من عدم التقوى؟”.

وأخيراً يساوي بطرس الرسول بين الروح القدس والله، قائلاً: أن من يكذب على الروح القدس يكذب على الله نفسه (أع 5: 4، أنظر يو 4: 24).

ج – ناكرو الروح القدس

لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى هذه الحقيقة بمفرده، ولا بدّ أن يرشده الروح القدس نفسه، فـ “الروح يهبّ حيث يشاء” (انظر يو 3: 8)، ولا نستطيع أن نضع له حدوداً، أو أن نفصله عن الآب والابن.

يقول القديس غريغوريوس النيصصي: “لا يمكن فهم الآب بدون الابن، ولا الابن بدون الروح القدس. وكما أن أحداً لا يمكنه أن يأتي إلى الآب أن لم يرتفع بواسطة الابن، فإن أحداً لا يستطيع أن يقول أن يسوع ربّ إلا بالروح القدس”.

ويؤكد بولس الرسول: “لا يستطيع أحد أن يقول “يسوع ربّ” إلاّ بإلهام من الروح القدس” (1كو12: 3).

ليس ممكناً إذن أن يحظى احد بالروح القدس من دون المسيح، أي من دون الكنيسة. وهذا ما يؤكده الرب في قوله: “إن الآب يُرسل الروح القدس باسم الابن” (يو 14: 26). ولا بدّ أن نحمل اسم المسيح، ونكون أعضاء في كنيسته لنحصل على الروح القدس.

قال يوحنا الرسول مخاطباً أعضاء الكنيسة: “أمّا أنتم فقد قبلتم المسحة من القدّوس (الروح القدس) وحصلتم جميعاً على المعرفة” (1 يو 2: 20). ويضيف بولس الرسول؛ “وفيه أنتم أيضاً قد اصطفيتم، بعد أن سمعتم كلام الحق، أي بشرة خلاصكم (المسيح) وأمنتم به وخُتمتم بالروح القدس الموعود، عربون ميراثنا، وهو الذي يعدّ فداء خاصته (شعب الله) للتسبيح بمجده” (أفسس 1: 13-14).

إن الذين خارج الكنيسة لا يكونون في موقع يؤهلّهم لنيل الروح القدس، لأنهم “لا يرونه” و”لا يعرفونه” (يو 14: 17)، ولذا ينكرون لاهوته. أمّا المسيحيون، أعضاء الكنيسة، فيعرفونه “لأنه فيهم” (يو 14: 17)، ولذا يؤمنون ويعترفون بلاهوت الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس.

د – روح التبنّي

في اليوم الخمسين ملأت البيت الذي كان التلاميذ مجتمعين فيه، عاصفة قويّة، وتوزّعت عليهم “الألسنة” التي تشبه النار (أع 2: 2-3). وكانت نتيجة هذا الحدث الفريد أن “امتلأوا جميعاً من الروح القدس” (أع 2: 4) وبدأوا الكرازة.

لكن كرازة الرسل لم تستند إلى إمكاناتهم الخاصة، أي إلى “ذاكرتهم ومنطقهم ومحبتهم للمسيح”، بل إلى تأييد الروح القدس الذي أعطاهم الشهادة الداخلية ليبشِّروا بالمسيح (يو 14: 16، 16: 13).

ولم يكتفِ الرسل بتأييد الروح القدس، بل نقلوا هذا الروح (أنظر أف 4: 1) الذي يقود إلى المسيح (1 كو 12: 3) ويضمّ المؤمنين إلى جسده، أي إلى الكنيسة (غلا 3: 27، رو 12: 4-5، 1 كو 10: 16-17، 12: 27، أف 1: 22-23).

وبانضمامنا إلى الجسد تتحول إنسانيتنا إلى ناسوت المسيح المتّحد بألوهته بلا اختلاط، فنصير نحن أيضاً “أبناء الله” (يو 1: 12). ولا يعني هذا إننا نستطيع كبشر أن نصير أبناء طبيعيين لله، أي أن نرث الطبيعة التي يعطيها الآب أزليا للابن والروح القدس، لكن امتلاؤنا من الروح القدس يوصلنا إلى الابن (1 كو 12: 3) ومن الابن إلى الآب (يو 14: 6) فنكون أهلاً لشرف البنوّة العظيم.

عندما يتّحد الله بالإنسان ويسكن فيه (يو 10: 4 و23، 1 يو 2: 24، 1كو 3: 16-17، 6: 19) يحصل تغيّر في الإنسان: “وإذا كان المسيح فيكم فجسدكم ميت بسبب من الخطيئة، ولكن الروح حياة لكم بسبب من البرّ. فإذا كان الروح الذي أقام المسيح من بين الأموات حالّاً فيكم، فالذي أقام يسوع المسيح من بين الأموات يُحيي أيضاً أجسادكم الفانية بروحه الحالّ فيكم. فنحن أيها الأخوة علينا حق، ولكن ليس للجسد لنحيا حياة الجسد، لأنكم إذا عشتم حياة الجسد تموتون، أمّا إذا أمتّم بالروح أعمال الجسد فستحيون” (رو 8: 10-14).

إتحاد الإنسان بالله هو إتحاد بـ “النعمة”. والروح القدس كان حاضراً بشكل “شخصي” عند اجتماع التلاميذ في اليوم الخمسين، إذ نزل ليبقى معهم إلى الأبد (يو 14: 16). لكن ما أُعطيّ للتلاميذ لم يكن شخص الألوهة نفسه، بل القوة الإلهية ونعمة الروح القدس [2].

فما أُعطيّ للتلاميذ لم يكن شيئاً خلقه الله في تلك اللحظة، كما يفعل الصناعي أو الفنان الذي يقدّم إلى الآخرين هدّية من صنعه. “نعمة” الله ليست مخلوقة، بل نابعة من جوهره الخاص، أي أنها أزلية وغير مخلوقة، لذلك يستطيع البشر الاتحاد بالله المثلَّث الأقانيم فيصيروا أبناء له، لا بحسب الطبيعة، بل على أساس نعمة التبنيّ المعطاة لهم.

الروح القدس شخص كامل يشكِّل مع الآب والابن، الإله الواحد المثلث الأقانيم. وهو لم ينفصل عن الابن في التجسّد. فمحبة الروح القدس، مثل محبة المسيح، ليست محبة مجرّدة، إنما هي محبة شخصيّة وتامة. وهذه المحبة لا تكون إلاّ بين الأشخاص.

عندما نمتلئ من نعمة الروح القدس غير المخلوقة ونصل إلى المسيح، نكون قد وصلنا أيضاً إلى محبة المسيح وفرحه، فنشعر بهما، بالقرب من الآب، كما يشعر الطفل الصغير بالقرب من أبيه.

وعندما يتّحد الروح القدس بالأنا الإنسانية لا يبطلها، بل يجعلنا نصرخ وننادي: “أبي، يا أبي” (رو 8: 15). وهذا النداء هو أصلاً نداء الروح القدس، ولكنه يصبح نداءنا، لأن حضور الروح القدس لا يدمّر الأنا فينا أو يبطلها، بل يتكلّم في داخلنا ويدفعنا للتحدّث معه.

إن القوة الإلهية غير المخلوقة هي التي تدنو منّا وتقودنا (رو 7: 14). لكن المسألة ليست الشعور بالنعمة الإلهية أو بالقوة الإلهية غير المخلوقة. فهذا لا يكفي لتعزيتنا، بل ينبغي أن نشعر بحضور الله كشخص. إننا لا نستطيع أن نتّحد أقنومياً، كما اتّحدت طبيعة المسيح الإنسانية بطبيعته الإلهية. لكننا نستطيع الدخول في علاقة داخلية مع الابن بواسطة المحبة الشخصية التي بقيت فيه بعد تجسّده وفتحت الباب أمام محبة الله.

هـ – عمل المعزّي

يقول الكتاب المقدس: “لأن روح الرب ملأ المسكونة، وواسع الكل عنده علم كل كلمة” (حكمة سليمان 1: 7، أنظر 12: 1، أع 2: 2). وترتل كنيستنا: “الروح القدس يرزق كل شيء، يفيض نبوءات – ويقيم كهنة. علّم الجهّال حكمة، وأظهر الصيّادين متكلّمين باللاهوت، وهو يضبط نظام الكنيسة كله. فيا أيها المعزّي المساوي للآب والابن في الجوهر، والمشارك لهما في الجلوس على العرش، المجد لك”.

يكمن عمل الروح القدس في إرشاد المؤمنين إلى المسيح بواسطة المعمودية، وجعلهم أعضاء في جسده المقدس، أي الكنيسة (1كو 12: 13، أفسس 2: 18، 4: 4)، وتوزيع المواهب المختلفة عليهم (1كو12: 4-11، أفسس 4: 4-12)، فيجمعهم ويقيم بواسطة مواهبهم كامل “بنيان الكنيسة” (1 كو14: 4 و12 و17). فـ “لا يستطيع أحد أن يقول أن يسوع ربّ إلاّ بالروح القدس” (1كو 12: 3)، وهذه الحقيقة تنطبق على الرسل أيضاً.

نعلم أن تلاميذ الربّ قد تركوا معلّمهم المصلوب وهربوا (متى 26: 56) لأنهم لم يفهموا ما سبق فقاله لهم عن آلامه وقيامته (يو 3: 14-15، متى 16: 21، 17: 22-23، 20: 18-19، مر 8: 31، 9: 31، 10: 33-34، لو 9: 22 و44، 18: 31-33)، فقد كان كلام الرب “مغلقاً عليهم، فلم يدركوا معناه” (لو18: 34). لكن المسيح، بعد قيامته، “فتح أذهانهم (التلاميذ) ليفهموا الكتب” (لو 24: 45)، ووعدهم أن يرسل إليهم “ما وعد به الله”، أي الروح القدس، وأن “تنزل عليهم القوة من العلى” (24: 49، أع 1: 8)، وأن الروح القدس (المعزي) “سيشهد له” (يو 15: 26، 1يو 5: 6)، ويذكّرهم “جميع ما قاله لكم” (يو15: 26) و(يمجِّده) (يو16: 14)، فيصبح الرسل “شهوداً للمسيح” (أع : 8، لو 24: 48).

وفي اليوم الخمسين (العنصرة) “امتلأ التلاميذ جميعاً من الروح القدس، وأخذوا يتكلّمون بلغات غير لغتهم، على ما منحهم الروح القدس أن ينطقوا” (أع 2: 1-4، أنظر أيضاً أع 2: 17-33، يوئيل 3: 1-5). وهذا “الامتلاء” من الروح القدس جعلهم قادرين على الإيمان كلّياً باسم الرب (1 كو 12: 3). فالروح القدس إذن هو يقود إلى الإيمان بشخص المسيح والى الحياة في المسيح، ولذا يسمى أيضاً “روح الابن” (غلا 4: 6).

وقال الله بلسان النبيّ حزقيال: “وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل فيكم روحاً جديداً… وأعطيكم روحي وأجعلكم تسلكون بحسب تدبيري وتحفظون أحكامي وتعملون بها” (حز 36: 26-27). فحضور الروح القدس في قلب المؤمن يشكّل في الوقت نفسه “علامة” مميّزة للإنسان وبداية لملكوت الله: “لأن الذين يسترشدون بروح الله يكونون حقاً أبناء الله. لم تتلقوا روحاً يستعبدكم ويردّكم إلى الخوف، بل روحاً يجعلكم أبناء وبه ننادي: أبي، يا أبي” (رو 8: 14-16)، أي إننا نلنا روح التبنّي الذي يجعلنا أبناء الله، فنصرخ إليه بثقة: أيها الآب.

“والروح عينه يشهد مع أرواحنا بأننا أبناء الله” (رو 8: 16) ويقول الرسول بولس في مكان آخر أن الروح القدس الذي أرسله الله لنا “يصرخ في قلوبنا: أبي، يا أبي” (غلا 4: 6). فالروح القدس هو علّة الحياة الروحية في الإنسان ونبعها (أنظر رو 5: 5، غلا 5: 22-25). ولكي يصبح الإنسان روحانياً عليه أن يسترشد بالروح القدس، أو كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “على الروح القدس أن يكون سيّد حياة الإنسان، كما هي حال قائد السفينة وسائق العربة”.

عندما نحيا “في الروح” نصبح “هيكل الروح القدس” (1كو 6: 19) ونُبنى “على أساس الرسل والأنبياء، وحجر الزاوية هو المسيح يسوع نفسه، لأن به يُحكم كل بناء ويرتفع ليكون هيكلاً مقدّساً في الربّ، وبه أنتم أيضاً تبنون معاً لتصيروا مسكناً لله في الروح القدس” (أفسس 2: 18-22)، وحينئذ يتّم هدف حياة الإنسان النهائي، أي الخلاص، لأنه يعود مجدّداً إلى وحدته مع الله المثلث الأقانيم، الذي كان قد ابتعد عنه بسبب الخطيئة الأصلية. وهذا ما يوضحه بولس الرسول: “أمّا انتم فلا تسلكون سبيل الجسد، بل سبيل الروح، لأن روح الله حالّ فيكم” (رو 8: 9).

ويقول يعقوب الرسول: “إن الروح الذي جعله (الله) فينا يغار شوقاً” (يع 4: 5)، أي انه يغار من أي شيء، فليس ثمة مكان لروح العالم فينا، لأن “الرب إلهنا الساكن فينا إله غيور لأجلنا، لكي لا يشتّد غضب الرب إلهنا علينا فيبيدنا عن وجه الأرض” (تثنية 6: 15).

عندما يصير المسيحي “مسكناً للروح القدس” لا يُسمح له أن يطيع “روحاً آخر”، إنما عليه أن يسترشد بالروح القدس وحده، أو كما قال يعقوب الرسول: “فاخضعوا لله وقاوموا إبليس ليولّي هارباً عنكم. اقتربوا من الله يقترب منكم. أغسلوا أيديكم أيها الخاطئون وطهّروا قلوبكم يا ذوي النفسين، اندبوا بؤسكم واحزنوا وابكوا…) (يع 4: 7-8).

لقد وعدنا الرب بوضوح: “ما تطلبونه باسمي أعمله” (يو14: 13). لكن طلباتنا إلى الرب يجب أن تكون “بالروح” (يهوذا 20) الذي يسكن فينا، وعندئذ “يأتي الروح لنجدة ضعفنا لأننا لا نحسن الصلاة كما يجب، ولكن الروح يشفع لنا بأنّات لا توصف. والذي يفحص عن القلوب يعلم ما هي رغبة الروح وكيف أنه يشفع للقدّيسين بما يوافق مشيئة الله” (رو 8: 26-27).

يقول الرسول يعقوب: “تسألون ولا تنالون” (يع 4: 2)، وهذا يعني أننا لا نسترشد بالروح القدس في الصلاة (رو8: 14) بل ننقاد لإرادتنا الخاصة فلا نصلّي “بالروح” (يهوذا 20).

وهذا كله يوضح لنا قول القديس سيرافيم ساروفسكي، أحد قدّيسي كنيستنا المعاصرين: “إن الهدف الحقيقي للحياة المسيحية هو الحصول على الروح القدس”. وقول القديس مكاريوس المصري: “إن النعمة تنمو في الإنسان الذي صار مسكناً للروح القدس وواحداً مع جوهره، كالخميرة في العجين”. ولذلك تسّمي كنيستنا الروح القدس “إلهاً ومؤلّهاً” (أنظر اع 5: 5) [3] وترنَّم: “بالروح القدس كل نفس تحيا وتتنقى، مرتفعة ولامعة بالثالوث الواحد بحال شريفة سرّية”.

“أن الروح القدس إذ ينير أولئك الذين تطهّروا من كل وصمة، يجعلهم روحانيين بسبب إتّحادهم به. وكما أن الأجسام اللامعة والشفّافة تزداد ضياء إذا سقط عليها شعاع، وتعكس نوراً حديداً، فكذلك النفوس التي ينيرها الروح، فإنها تعكس روحانيتها على الآخرين وتشّع بالنعمة. وهنا تكمن المعرفة المسبقة للمستقبلات، وفهم الأسرار ومعرفة الخفايا، وتوزيع المواهب، والحياة السماوية، ومعايشة الملائكة، والفرح الذي لا ينتهي، والإقامة مع الله والتشبّه به، وأعظم ما يرغبه إنسان، أن يصبح إلهاً” (باسيليوس الكبير).


حاشية مرتبطة مع العنوان “شخص الروح القدس”: [1] راجع ( الروح القدس ) لمجموعة من المؤلفين ، سلسلة ( تعرّف الى كنيستك ) رقم 13 ، منشورات النور ( الناشر )

[2] من أجل شرح أكثر، راجع الأب ألكسندر شميمن، بالمَاء والرّوح – دراسة ليتورجية عن المعمُوديَّة، الفصل الثالث: سر الروح القدس، ب- ختم موهبة الروح القدس… (الشبكة)

[3] نعتقد أن النص المقصود هنا هو أعمال 5: 15… (الشبكة)

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى