إننا نؤمن بحسب تعبير الدمشقي “بجوهر واحد وبألوهة واحدة في ثلاثة أقانيم متحدين بدون تشوّش، ومتميزين بدون انقطاع”.
وفي الحقيقية فالأقانيم الثلاثة المتساوون في اللاهوت والأزلية والمجد، ذوو الجوهر الواحد وغير المنقسمين، ليسوا بحسب تعليم الكتاب والآباء كما يمكن أن نتصور أجزاء للألوهة أو نوعيات مختلفة فيها أو مظاهر أو أوجه لها، بل إن كل منهم قائم في حد ذاته في الجوهر الواحد ذاته، فلا يحيا أو يعمل الواحد منهم بصورة خاصة أو منفردة بل باتحاد كلّي مع الآخرين. لهذا فهم ليسوا ثلاثة آلهة، إنما واحد.
من هنا قول القديس غريغوريوس اللاهوتي: “إننا نسجد لوحدانية في ثالوث وثالوث في وحدانية تجمع بغرابة بين الوحدة والتمايز”.
فالوحدة تعني وحدة الطبيعة وتماثل الصفات والأفعال والإرادة، لأن للأقانيم الثلاثة الجوهر الإلهي الواحد من جهة، ولأن هناك تعايش بالتبادل والتداخل من جهة أخرى، إذ أن كل واحد منهم هو في الآخر بدون تشوّش أو اختلاط كما يعبّر السيد نفسه في إنجيل يوحنا “أنا في الآب والآب فيّ” (يو14: 11).
أما التمايز فلأن أقنوم كل منهم يتميز عن الآخر. فالآب هو غير الابن وغير الروح القدس بالرغم من أن عند كل واحد منهم الألوهة بملئها. إله ورب هو الآب وإله ورب هو الابن وإله ورب هو الروح القدس ولكنهم ليسوا ثلاثة آلهة أو أرباب، إنما إله واحد إذ أن لهم كما قلنا الجوهر الإلهي والفريد بدون انقسام أو تجزؤ. لكن التمايز ليس بحسب الجوهر أو الطبيعة بل بحسب الأقنومية، لأن كل واحد من الأقانيم الثلاثة عنده الجوهر ذاته وإنما بطريقة تختلف عن الآخر. فالأقنوم الأول عنده الطبيعة الإلهية في ذاته أزلياً وبدون أن يقتبلها من أحد، الأقنوم الثاني يقتبل الوجود الإلهي أزلياً من الأقنوم الأول بالولادة، بينما الأقنوم الثالث بالانبثاق. ولهذا السبب يسمّى الأقنوم الأول الآب، والأقنوم الثاني الابن والأقنوم الثالث الروح القدس. ومميزات الأقانيم الثلاثة هي التالية:
الآب: هو غير مسبب وغير مبتدئ ولذلك يسميه الآباء άναρχος وهو بالطبيعة يلد الابن ويفيض (يبثق) الروح القدس بدون هيولية أو هوى أو زمن.
الابن: يولد أزلياً من الآب بدون انقطاع وهو يقتبل لا قسماً من جوهر الآب كما يحصل في حالة الولادة البشرية، بل كامل الجوهر أو الطبيعة الإلهية، لأن الآب يعطي كامل وجوده للابن بدون أن يفقد شيئاً من وجوده هو. وهذا العطاء يتم منذ الأزل. فيولد الابن من الآب بدون أن يفترق عنه البتة (مثال النار والنور، حيث يولد النور من النار بدون أن يفترق عنها وبدون أن تكون النار قبل النور).
الروح القدس: ينبثق أزلياً من الآب وبدون انقطاع، أما ماهية الفرق بين الولادة والانبثاق، فلم نعطَ نحن البشر أن نعرفها.
بناء على هذا، فالاختلاف والتمايز في الأقانيم الثلاثة ليس في طبيعتهم أو وجودهم إنما في الصفات غير المشتركة بينهم والتي تحدد كما يقول الآباء الكبادوكيون طريقة وجودهم وعلاقتهم بين بعضهم البعض وهي بالضبط ما يسمّى بالصفات الأقنومية والتي هي بالنسبة للآب عدم الصدور من أحد والأبوة والانثاق، بالنسبة للابن الولادة (γέννησις) بالنسبة للروح القدس الانبثاق. إذاً بمجرد أن نؤمن بالآب نؤمن معه في نفس الوقت بالابن المولود وبالروح القدس المنبثق بدون بداية ولا زمن وبدون توقف وبطريقة غير قابلة للإدراك وبدون أن يوجد بينهم أول أو أخير.
أما بالنسبة للقوى أو الأعمال الإلهية التي تصدر طبيعياً عن الأقانيم الثلاثة فهي عامة للثلاثة كما الجوهر أيضاً. أي أن الله في أقانيمه الثلاثة يصدر عنه عمل واحد لا يتجزأ. ولكن كما أن كل أقنوم عنده الجوهر الإلهي ذاته بطريقة تختلف عن الأقنوم الآخر، هكذا كل أقنوم عنده القوة أو العمل عينها إنما بطريقة تختلف. لأن الأقانيم الثلاثة في الحقيقة ليس لها سوى حركة واحدة للإرادة الإلهية التي تبتدئ في الآب منتقلة للابن ظاهرة في الروح القدس. فمثلاً كل الخليقة ليست سوى عمل واحد للأقانيم الثلاثة، وليس هناك أي عمل يمكن أن يكون خاصاً فقط لأقنوم منفرد. هذا ما يعلمنا إياه الآباء القديسون. فكما أنه لا توجد أية مسافة بين الجوهر الإلهي وبين العمل هكذاً أيضا لا توجد أية مسافة بين الأقنوم وبين العمل لأن كل الأقانيم الإلهية حاضرة في كل مكان بجوهرها وعملها (قوتها). ولكننا نحن نختبر هذا الحضور بسبب علمها لا بحسب الجوهر (هذا ما يحدث أيضاً وحتى في علاقتنا مع الأشخاص البشريين الذين لا نستطيع معرفتهم إلا من خلال أعمالهم) . لذلك بمجرد أن نميّز بالروح عملاً إلهياً فنحن نختبر حضور الله بكل أقانيمه الإلهية، والنعمة التي تتحدّر إلينا من فوق تسمى (عطية) الروح القدس أو حتى أحياناً “الروح القدس” فقط لأن الروح القدس يختبر أولاً في هذه العطية.