التسليم والكتاب المقدس

في الكنيسة الأولى لم تكن هناك ثنائية البتة بين ما كان يحمله الرسل وتلاميذهم من بشارة شفهية حياتية وبين ما سجلوه منها كتابة، فيما بعد، بحسب الاحتياجات الرعائية للكنائس، بصيغة رسائل وأناجيل وأعمال رسل الخ… فكل هذا مع أسفار العهد القديم كان محور تعليم وحياة الكنيسة التي كانت تتسلّمه وتسلّمه بأمانة بمعونة الروح القدس. وحين حاول الهراطقة التلاعب بهذه الأسفار، حذف وإضافة، حددت الكنيسة بلسان آبائها ومجامعها المحلية أسفار العهد القديم والجديد القانونية، معتمدة في هذا على التسليم الذي عندها مكتوبا كان أم شفهياً.

ولم تكتف الكنيسة بكتابة أسفار العهد الجديد، بل تابعت تسجيل بشارتها الحية بلسان رعاتها وآبائها وفنانيها القديسين، ومجامعها المحلية والمسكونية، بمختلف الوسائل المنسجمة مع ظروفها عبر العصور المتلاحقة التي عاشتها كالكتابة نثر وشعراً، والفنون المختلفة كالموسيقى والبناء والتصوير. كذلك لم تتوقف البشارة عن الانتقال بالتسليم الشفوي كالعظات والتعليم والصلوات والأسرار والحياة المشتركة والقدوة الحية، على نمط الكنيسة الأولى. كما يشهد بذلك سفر أعمال الرسل: “وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات” (أع 2: 41). وبالطبع فأهم ما أعطته حياة الشركة في الكنيسة هو المسيح نفسه ومواهب الروح القدس، عبر الأسرار الإلهية بالتسليم. فهل من الممكن، بعد هذا، الحديث عن الكتاب المقدس والتسليم وكأنهما شيئان منفصلان مختلفان، أم أن هناك تسليماً واحداً حافظت عليه الكنيسة الواحدة وعاشته، بمختلف وسائل التعبير والحياة؟. والحقيقة أن الثنائية بين الكتاب المقدس والتسليم لم تطرح، كقضية لاهوتية إلا في القرن السادس عشر حين رفض المحتجون (البروتستانت) على كنيستهم الغربية، تقليدها بسبب عدد من التجاوزات والانحرافات، كصكوك الغفران، فاعلنوا وجوب الاعتماد على الكتاب المقدس وحده من خلال شعارهم اللاهوتي الشهير: “Sola Scriptura” أي “الكتاب المقدس حصراً“. وكان جواب لاهوتيي الحركة الباباوية المضادة للصلاح البروتستانتي هو وجوب الاعتماد على “الكتاب المقدس والتسليم“.

وبكل تأكيد فالصراع غير الموضوعي بين من حاول أن يطمس حقيقة التسليم ويشوهها وبين من حاول أن يؤكدها ويرفعها لكي يصبح التسليم كيان خاص إلى جانب الكتاب المقدس هو الذي أدى إلى بلورة هذه الفكرة في أذهان الكثيرين، وهو أنه يوجد مصدران للإيمان بينما الحقيقة الموضوعية هي أنه يوجد مصدر واحد هو التسليم الذي عبّرت الأسفار المقدسة الموجودة عن جزء أساسي ومهم منه، كما يشهد بهذا كُتّاب هذه الأسفار: “إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا، كما سلّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة، رأيت أنا أيضاً إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب التوالي إليك أيها العزيز ثيوفيلس” (لو 1: 1-4). تلك الأمور المتيقنة عن الكنيسة إذن، والمسلّمة منذ البدء من الرسل، والتي هي الأساس والمصدر هي ما نسميه بالتسليم. وبالطبع فبعد كتابة أسفار العهد الجديد صارت هذه أيضاً جزءاً مكتوباً من هذا التسليم ذاته ولهذا لا يمكننا أن نكتفي بالكتاب المقدس وحده، و نعزله عن تسليم الكنيسة ككل، وأن ننتزعه عن إطار حياتها، وهي جسد المسيح وحاملة مواهب الروح القدس، فنغرّبه عنها لكي لكي نفسره مزاجياً مدّعين مساعدة الروح القدس لنا، ونحن أنما تعكس مفاهيم عقلنا المنتفخ المحدود وأهوائنا البشرية.

وللتشديد على الارتباط العضوي بين الكتاب المقدس والتقليد نلفت النظر إلى نقطتين عمليتين تلقيان بعض الضوء على أهميته باقي التسليم بالنسبة للكتاب المقدس:

في التقليد أمور كثيرة تفيدنا حياتياً وروحياً لا توجد في الكتاب الإلهي بحضنا على التمسك بها الكتاب نفسه : “فاثبتوا إذن أيها الأخوة وتمسكوا بالتقليدات التي تعلمتموها سواء كان بالكلام أم برسالتنا” (2تس 2: 15). القديس يوحنا الذهبي الفم يعلق على هذا المقطع في تفسره لهذه الرسالة فيقول: “من هنا يتضح بأن الرسل بولس لم يعط الكل كتابة بل أعطى أشياء كثيرة بطريقة شفهية. والأشياء المكتوبة وغير المكتوبة هي مع بعضها قابلة للإيمان بها بحيث نعتبر أن تقليد الكنيسة مستحق للاعتقاد به”. في مكان آخر نجد الرسول بولس يمدح الكورنثيين من أجل محافظتهم على التقليد “فأمدحكم أيها الأخوة على أنكم تتذكرون كل شيء لي وتحفظون التقليدات كما سلمتها إليكم” (1كو 11: 2) (أنظر تس 2: 6، رو 6: 17، 1كو 11: 23، 15: 3-5 الخ…). ويوصي تيموثاوس أن يحفظ الوديعة (1تي 6: 20). القديس باسيليوس الكبير يوضح لنا ماهية هذه التقليدات فيقول: “بعض العقائد والكرازات قد حفظ في الكنيسة كتابة، والبعض الآخر عندنا إياه من تقليد الرسل إذ انتقل سريا، والاثنان عندهما نفس المعطيات، ونفس السلطة من أجل التقوى”… إلى أن يقول “إذا حاولنا أن نحذف العوائد غير المكتوبة لأنها ليست بذات أهمية لا ننتبه بأننا نسيء إلى البشارة في أهم أركانها ونجعل الكرازة الإنجيلية اسماً لغير مسمى”… ثم يعطي أمثلة كثيرة على هذه التقليدات منها رسم أشارة الصليب، التوجه نحو الشرق حين الصلاة، كلمات استدعاء الروح القدس حين تحويل الخبز والخمر في سر الشكر، مباركة ماء المعمودية وزيت المسحة والمعمد نفسه، تغطيس الإنسان على ثلاث مرات إلخ… إلخ… القديس يوحنا الدمشقي يذكر أمثلة أخرى كرقاد والدة الإله وحضور الرسل في تلك اللحظة المجيدة. اغسطينوس المغبوط بذكر عماد الأطفار إلخ… إلخ… .

التقليد يساعدنا على فهم الكتاب المقدس بصورة صحيحة وذلك لأنه يمكننا أن نسترشد:

  1. بالتعليم القويم المحفوظ في التقليد، (كالعقائد المصاغة من قبل المجامع المسكونية) لا قتبال حقائق إيمانية -يعلنها الكتاب- لا يمكن ادراكه والتعبير عنها بشرياً، خصوصاً باعتمادنا المجرد على عقلنا الفردي.
  2. بالتفاسير الكثيرة لأسفار عديدة من الكتاب، والتي حفظها التقليد عن آباء قديسين، بنوا معرفتها لا على مهارة شخصية في التحليل والشرح، بل على تمثلهم لتعليم الكنيسة المتوارث منذ البدء وعلى خبرة حياة روحية عميقة مع الله.

صفوة القول أن التقليد من جهة نظر أرثوذكسية يفسر الكتاب، كما أنه يكمل بعض نواح عملية فيه مثل الناحية الطقسية والقانون الكنسي. ولكن من الناحية العقائدية لم يثبت حتى الآن أي تكميل للكتاب المقدس من قبل التقليد، ونعني بهذا أن التقليد لم يضف أية عقيدة إلى ما ذكر منها في الكتاب المقدس. وما العبارات العقائدية الجديدة التي وردت في المجامع المسكونية وعند الآباء القديسين سوى توضيح، وتجديد لمفاهيم قضايا إيمانية أعلنها الكتاب بطريقة غير منهجية، وذلك لقطع الطريق أمام المبتدعين. أما الكتاب فيكمل بدوره محتوى التقليد ويفسّر لا بل يحكم على صحته. وهكذا يحفظ التسليم ككل الإعلان الإلهي ويساعد على جعله في التاريخ فاعلا ومحققا.

arArabic
انتقل إلى أعلى