ماهية الخطيئة الجدية

“وأخذ الرب آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها. وأوصى الرب الإله آدم قائلاً: من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت” (تك2: 15).

“وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله. فقالت للمرأة أحقاً قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة فقالت المرأة للحية من ثم شجر الجنة نأكل وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر. فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضاً منها فأكل” (تك3: 1-6).

إمكانية الخطيئة الجدية:

رأينا سابقاً أن الله قد خلق الإنسان على صورته ومثاله أي أعطاه الإمكانية لتحقيق الكمال على مثال الله من أجل الوصول إلى الحياة الأبدية. وبالفعل فإن وضع آدم في جنة عدن ليعملها ويحفظها (تك2: 15)، وإعطاءه امرأة ليتعاون معها (تك2: 21-44) وإحضاره له حيوانات البرية وكل طيور السماء لكي يدعوها بأسمائها (تك2: 19-20) ما هي إلا بعض وسائل أعطاها الله للإنسان كي تساعده على أن يطور وينمّي طاقاته الجسدية والنفسية والاجتماعية والروحية التي لا تنمّى كما رأينا إلا بالقبول الحر للمشيئة والقوى الإلهية، والممارسة الشخصية والتمرين الطوعي للمحبة نحو الله والآخر.

في هذه الحرية، أي السلطان الذاتي للاختيار والذي يليق بطبيعة الإنسان إذ لا يمكن أن تكون عاقلة بدونه، رأى الآباء إمكانية الخطيئة. لأن الذي كان بإمكانه أن يتمم إرادة الله ويسعى نحو الخير والكمال هو ذاته الذي كان بإمكانه أن يعصي هذه الإرادة وينحدر نحو الشر والفساد. وهكذا انطلاقاً من نظرة الآباء إلى الهدف الأول لوجود الإنسان وهو دعوته للكمال والتأله فهموا أيضاً سقوطه في الخطيئة وفهموا كذلك الصور التي قدمها الكتاب المقدس كتعبير عن هذا السقوط.

العصيان الأول:

بداية السقوط إذن هو عصيان الجدين الأولين الحر لإرادة الله من أجل كمالهما، وفشلهما في تحقيق هدف وجودهما الأساسي بسبب لجوئهما إلى وسائل تتناقض كلّياً مع إمكانية الوصول إلى هذا الكمال. فطريق حياة وكمال المخلوقات هي التواضع والتخلي الطوعي عن الإرادة الذاتية والاستسلام الواثق إلى مشيئة الله الخيرة لكي تعمل فيها قوة الروح المحيي. لكن آدم وحواء تكبراً بسعي الشيطان فطمحا أن يصيرا مساويين لله باستقلال عنه لا بل وبشك بنواياه ومواعيده.

فحوى الوصية كانت الامتناع عن الأكل من شجرة معرفة الخير والشر. والمعرفة بنظر الآباء الأولين هي حسنة لا بل تنسجم مع الكمال ولكنها تتطلب تدرجاً ونضجاً لاقتبالها، ولهذا كانت الوصية بمثابة تحذير من أجل عدم الوقوع في معرفة ما هو الشر والخير قبل الوصول إلى الثبات، كما أن الوصية في الوقت نفسه مناسبة لكي يمتنع الإنسان عن أمر ما وهكذا يتم ناموساً ا×لاقياً ما مساهماً بجهده الخاص الواعي في تمرين إرادته وإنكار ذاته مختبراً في الوقت نفسه أن مرجعه الأعلى هو الله فيتعلم الطاعة والتواضع ويتجنب الكبرياء التي سقط بسببها الشيطان كما يلاحظ القديس الدمشقي: “لم يكن نافعاً أن يحصل الإنسان على الخلود بدون أن يُغرى ويجرب لكي لا يسقط في كبرياء ودينونة الشيطان (1تيمو3: 6) لأنه بسبب خلود الشيطان بعد سقوطه بإرادته الحرة ثبت في الشر بطريقة غير متغيرة وبدون إمكانية للتوبة. كما أن الملائكة باختيارهم الحر للفضيلة ثبتوا في النعمة بطريقة غير متغيرة. إذن كان يجب أن يجرب الإنسان أولاً، لأن الذي لم يغرى ولم يجرب غير مستحق لشيء (يشوع بن سيراخ 34: 10) وبتجربته أن يتكمل بحفظه للوصية لكي يستلم بحق الخلود كمكافأة للفضيلة” وفي الواقع فإن كل عطايا الله للإنسان هي بحد ذاتها تجارب ذات حدّين، يمكن أن تؤدي به إلى شكر الله وتمجيده وبالتالي إلى كماله هو أو أن ترمي به إلى تأليهها والاكتفاء بها أو إلى تأليه ذاته بواسطتها، فمثلاً تفويض الإنسان بالسلطة على الأرض يمكن أن يصبح طريقاً للتدريب من أجل الوصول إلى الكمال أو إمكانية للانتفاخ عن طريق الاعتقاد أن الكل قد وجد بواسطته هو، ولذا لا بد من وصية أو وصايا تُحذِّر وتنهي وتذكّر بالسيد المطلق. باختصار الوصية لم تكن شركاً لإيقاع الإنسان بل وسيلة لتحذيره من الوقوع، وبالتالي لم تكن علامة الإرادة الظالمة بل تعبير عن خيرية وحكمة الله.

أما شجرتا، معرفة الخير والشر، والحياة، فبالرغم من تنوع نظرة الآباء إلى مغزاهما إلا أن تفاسيرهم جميعها تصب كذلك في قناة فكر الدعوة إلى الكمال التي أشرنا إليها، فمثلاً عند القديس غريغوريوس اللاهوتي شجرة المعرفة هي “الرؤية الإلهية التي يصل إليها الكاملون فقط بدون خطر”. في حين يبدي القديس الدمشقي أن شجرة الحياة كانت حياة رؤية الله… أما شجرة المعرفة فهي… معرفة حسنة للكاملين الذين ثبتوا في الرؤية الإلهية بينما هي شر للشهوانيين. بحسب القديس مكسيموس المعترف شجرة الحياة هي الذهن الذي يبحث عن الأشياء الأبدية أما شجرة معرفة الخير والشر فهي الحسي الملتصق بالأشياء الزائلة. وعموماً فبالرغم من التفسيرات الروحانية إلا أنه في الجزء الأكبر من الكتابات الآبائية تؤخذ هاتين الشجرتين كحقيقتين مثل خشبة الصليب التي هي خشبة حقيقية ولكنها تسمى شجرة أو خشبة الخلاص وبديهي أنه ليست ثمارهما هي التي عندها خواص أن تنتج الشر والحياة بل بسبب عدم الاكتراث للوصية الإلهية لأنه كما يعبر القديس ثيوفيلوس الأنطاكي: “ليس الشجرة كانت جالبة للموت بل مخالفة الوصية”.

المسؤولية عن العصيان:

إغراء الخطيئة أتى من الخارج، من الحية أي من الشيطان الذي كان يختبئ تحت صورتها وهذا ما تثبته نصوص من الكتاب المقدس مثل (يو8: 44، رؤ12: 9، 1يو3: 8)، ولكن هذا لا يمنع أن سقوط الإنسان قد تم بحرية ووعي تامين “وأن بداية وجذر الخطيئة، كما يقول القديس باسيليوس هو سلطاننا الذاتي” “فلا تفتكر إذاً أن الشر قد أتى من الخارج أو تتخيل بأن له كيان خاص أو أنه في طبيعة الإنسان الأصلية أو بأن الله هو سبب وجوده بل اِعرف بأن كل واحد هو مسؤول عن الإثم الذي فيه”. لأن الشيطان كان بإمكانه أن يُغري ولكنه لم يكن يستطيع أن يجبر.

بالنتيجة الخطيئة الجدّية كانت عصياناً، عدم ثقة واعتراف بالجميل، لكن مبدأ كل هذه كانت الكبرياء كما يؤكد الآباء: “سقوط الإنسان في الخطيئة بواسطة الكبرياء راغباً أن يصير مثل الله” (القديس يوحنا الذهبي الفم) أو “لم يتحمل الشيطان الحسود وكاره الخير والذي سقط بسبب الكبرياء أن نصل نحن إلى العلويات، ولهذا أغرى الكذاب آدم منكود الحظ بالألوهة، وبعد أن صعد به إلى ذلك العلو ذاته من الكبرياء أحدره إلى تلك الهوة ذاتها من السقوط” (القديس يوحنا الدمشقي).

arArabic
انتقل إلى أعلى