اللاهوت المقارن في نتائج وانتقال الخطيئة الجدية

موقف الكنيسة الكاثوليكية من نتائج الخطيئة الجدية وانتقالها إلى الجنس البشري

منذ عهود الكنيسة الأولى أنكر الخطيئة الجدية (الأصلية) بطريقة غير مباشرة عدد من الهراطقة كالغنوسيين والمانويين الذين عزوا الشر والخطيئة في الإنسان إلى فساد طبيعته المادية كون المادة هي مبدأ أزلي شرير، والأوريجنيين والبريشليانيين (نوع من الغنوسية الغامضة ظهرت في اسبانيا القرن الرابع-الخامس) الذين اعتبروا أن حالة الفساد والشر والبؤس هي نتيجة خطيئة ارتكبتها النفوس قبل خلق أجسامها البشرية.

البيلاجيون هم أول وأشهر من أنكر مباشرة انتقال الخطيئة الأصلية ونتائجها إلى الأحفاد لأنهم اعتبروا أن خطيئة آدم هي خطيئة شخصية بالكلية ولذا فهي ليست بالنسبة لذريته سوى مثل سيء. أما الآلام والشهوة والموت إلخ… فهي ليست سوى ظواهر طبيعية بحتة وبدون أية علاقة سببية مع خطيئة الإنسان الأول. وكما هو معروف فقد حارب المغبوط اغسطينوس البلاجية وعقدت ضدها عدة مجامع في الغرب (ميلان416، قرطاجة 418، أورانج 529) وأخيراً حرمها المجمع المسكوني الثالث الثالث 431.

في العصور الوسطى حرم مجمع سانس عام 1140 عبارة بطرس ابيلارد التالية: “لم تحلّ فينا خطيئة آدم بل العقاب فقط”، كما وضح المجمع التريدنتي المنعقد سنة 1546 بصورة خاصة تعليم الكنيسة الكاثوليكية الرسمي عن الخطيئة الجدية في قراره المسمى “في الخطيئة الأصلية” (Super peccata originali).

من هذا التعليم يتضح موقف الكنيسة الكاثوليكية والذي يرتكز على نتائج الخطيئة الجدية وانتقالها:

1. نتائج الخطيئة الجدية:

لقد ارتكب أبوانا الأولان في الفردوس خطيئة كبيرة بتعديهما وصية إلهية، ولهذا نتج عن هذا التعدي عاقبتان رئيسيتان:
A- فقدان النعمة المبررة          B-حلول غضب الله وسخطه

  1. فقدان النعمة المبررة: استند علماء اللاهوت المدرسيون إلى لوقا (10: 30)، فأجملوا فقدان النعمة المبررة بالعبارة التالية: “جُرِدَ من المجانيات وجُرح في الطبيعيات” ويعنون بالمجانيات المواهب الفائقة الطبيعة وهي النعمة المبررة كما ومواهب السلامة غير الطبيعية. إن الخلو من النعمة المبررة له صفة الذنب من حيث هو ابتعاد الإنسان عن الله وله صفة العقاب من حيث ابتعاد الله عن الإنسان أما الخلو من مواهب السلامة فمن نتائجه أن يخضع الإنسان للشهوة والألم والموت. وهذه النتائج تبقى حتى ولو أمحت الخطيئة الأصلية لكن لك كعقوبات بل كقصاصات أي كوسائل لممارسة الفضائل والامتحان الأدبي.

ويعتقد هؤلاء العلماء استناداً إلى مجمع أورانج الثاني (529) أن جرح الطبيعة يعتمد إلى الجسم والنفس ويحصون، مع القديس توما علاوة على الألم والموت وهما جرحا للجسم جراحاً أربعة للنفس، فجراح الجسم أساسها ضياع المواهب فوق الطبيعية من عدم التألم والموت وجراح النفس أساسها ضياع مواهب السلامة (وهي أيضاً فوق الطبيعة) وقوامها الشهوة. ويتفق معظم العلماء الكاثوليك مع القديس توما الأكويني (بالرغم من الجدل الدائر حول الموضوع)، بأن جرح الطبيعة اقتصر على ضياع المواهب غير الطبيعية، لأنه لم يكن باستطاعة خطيئة آدم أن تحدث لا في طبيعة آدم الخاصة، ولا في طبيعة ذريته، “مَلَكة سيئة”.
قلنا سابقاً في حديثا عن موقف الكنائس الثلاث من حالة الإنسان قبل السقوط أن النظرة الأرثوذكسية للإنسان لا تعرف التقسيم بين جزء طبيعي أُعطي بالخلق وآخر ما فوق الطبيعي أضيف للجزء الأول بواسطة النعمة على نواقص الطبيعة البشرية، وأشرنا إلى أن هذا التقسيم الغريب عن تعليم الكتاب المقدس والكنيسة الأولى له نتائج غريبة من وجهة السقوط أيضاً. هنا نجمل بعضها:

  1. إذا كان الإنسان قد وجد بحالة كمال عند الخلق وكان متمتعاً بمواهب ما فوق طبيعية كالقداسة والبرارة ومواهب السلامة ما فوق الطبيعية ومن بينها موهبة السلامة من الشهوة، فلماذا سقط إذن؟ ولماذا لم يكن لموهبة القداسة والبرارة أي دور في ثبات الجدين الأولين في الطاعة والوفاء للخالق المحسن؟
    ولماذا توقفت موهبة السلامة من الشهوة عن العمل فاشتهت حواء ثمر شجرة معرفة الخير والشر ولم تسيطر الإرادة الحرة التامة على ميل الجسم البشري الحسي والروحي كما يعرفون هم أنفسهم عمل هذه الموهبة؟
    هذا التساؤل يوصلنا إلى الافتراض بأن هذه المواهب إما أنها لم تكن فعّالة كفاية وهذا يعني الشك في قدرة الخالق وكماله وإما أن الله نفسه أراد سقوط الإنسان، وفي كلتي الحالتين فالإنسان ليس مسؤولاً عن السقوط بل الله، وعندها فلماذا يعاقبه إذن؟

  2. إذا اقتصر جرح الطبيعة على ضياع المواهب ما فوق الطبيعية، والتي هي ليست سوى مواهب مضافة فهذا يعني أن فقدانها ليس سقوطاً، لأن الإنسان فقد ما لم يخصه وبقيت طبيعته الإنسانية الأولى عند الخلق غير ممسوسة.
    النتيجة المنطقية لهذا الافتراض أن تنسب كل نتائج السقوط لله نفسه لأنه هو الذي خلق طبيعتنا البشرية الخاصة على هذا النحو، وبالتالي فهو المسؤول عن ميلها للشر أكثر من الخير، وتفكك وحدتها مع نفسها ومع الله ومع الآخر وضعف إرادتها وقواها النفسية والجسدية لا بل خضوعها بشكل حتمي للشهوة وللآلام والموت إلخ…. فكيف إذن يمكن أن يكون كل ما صنع الله حسناً جداً؟ (تك1: 31).

أهم ما في الموضوع أن هذه الميكانيكية في فهم الأمور تجعلنا نصل إلى النتيجة بأنه كما نفيت عن الإنسان منذ البداية المسؤولية عن المشاركة في بناء شخصيته وتحقيق تقدمه وكماله، نفيت عنه، بعد السقوط، وحتى الإمكانية أن يتراجع وينحدر وبالتالي أن تتشوه طبيعته وتظلم.

  1. حلول غضب الله وسخطه: الغرابة الأكثر تظهر في العاقبة الثانية، وهي أن هذا الإنسان الذي سحبت منه كل مبادرة ومسؤولية هو نفسه الذي تعرض وذريته إلى غضب الله وسخطه إلى دهر الداهرين. هذا ما يؤكده المجمع التريدنتيني (1546) الذي يعتبر بكل وضوح أن أبوينا الأولين قد وقعا تحت عقاب الموت وسلطة الشيطان. بخصوص الموت يقول حرفياً في قانونه الصادر عن دورته الخامسة: “إذا لم يعترف أحد بأن الإنسان الأول آدم قد استحق، بسبب تعديه الوصية، غضب الله وسخطه، وبالتالي الموت الذي توعده به قبلاً، فليكن محروماً”.

وطبعاً بحسب السكولاستيكيين، المتأثرين بالمغبوط اوغسطين، فمصدر سقوط جدينا من الشرور هو ضياع مواهب السلامة ويدللون على أن الله أنزل العذاب والموت عقاباً للخطيئة من التكوين (3: 16-17)

للجواب على نظرة الكنيسة الكاثوليكية إلى النتائج التي ترتبت على سقوط جدينا الأولين بخصوص عقاب الموت نورد بعض أقوال الآباء الشرقيين لكي نوضح أكثر موقف الكنيسة الشرقية المشار إليه سابقاً والذي يتلخص بالنقطتين التاليتين:

  1. الله غير مسبب للموت بل الإنسان ذاته بسعي الشيطان:
    “لو أن الله منذ البداية خلق الإنسان خالداً لكان قد صنع الله ذاته. أيضاً لو كان قد خلقه مائتاً لكان قد بدا بأن الله هو مسبب موته. لم يخلق الله إذن لا خالداً ولا مائتاً… بل قابلاً للاثنين، لكي يتجه إلى ما هو متعلق بالخلود فيحفظ وصية الله ويأخذ من لدنه الخلود ويصير إلهاً. لكنه لو على العكس تحول إلى الأمور المتصلة بالموت مخالفاً لله لأصبح هو لنفسه مسبباً الموت، لأن الله صنع (أبدع) الإنسان حراً وذا سلطان ذاتي” (القديس ثيوفيلوس الأنطاكي). “مسبب الموت هو الشيطان” (القديس ايريناوس)، “الله حياة وفقدانه هو موت، حتى أن آدم الذي صنع الموت لنفسه بابتعاده عن الله بحسب المكتوب أنه هوذا البعداء عنك يبيدون” (باسيليوس الكبير). “لم يقل الله لآدم ارجع إلى حيث أخذت، بل تراب وأنت إلى التراب سوف تعود… كإله لم يصنع لا موت النفس ولا موت الجسد، ولم يقل من قبل محدداً مسبقاً: موتوا في أي يوم تأكلون بل سوف تموتون في أي يوم تأكلون ولا حتى الآن قال: ارجع إلى الأرض بل سوف ترجع، معلناً مسبقاً ومحذراً وليس مانعاً النتيجة العادلة” (القديس غريغوريوس بالاماس).

  2. الله سمح بالموت لا عن غضب بل بداعي رحمته الإلهية:
    “صار هذا لأن الله قد وهب إحساناً عظيماً للإنسان كي لا يبقى إلى الأبد في الخطيئة” (ثيوفيلوس الأنطاكي). “(الله) لم يمنع الانحلال (انحلال الجسد)… كي لا يحافظ لنا على المرض (مرض الخطيئة) غير مائت” (باسيليوس الكبير).
    وعموماً فالآباء الشرقيون يعلّمون بأن الله سمح بعقاب الإنسان بواسطة شقائه وفساده وموته شفقة عليه كي لا يصير الشر غير مائت… لأنه عندما يرى ويتأمل في الموت يعي ضعفه وارتباطه بالله من أجل خلاصه. وهكذا يتضع ويتوب ويجاهد من خلال التجارب التي تمر عليه. بناء على هذا فالله لم يفرض الضعفات والفساد والموت على الإنسان بسبب الإهانة التي وجهها ضد طبيعته الإلهية، كما يعلم الغربيون، بل سمح بها من أجل تحننه بهدف خلاصه وتألهه.

من المسلمات البديهية لحياة ولاهوت الكنيسة الأولى كما في العهد الجديد. أن الهدف من ظهور ابن الله هو نقض أعمال الشيطان: “لأجل هذا أظهر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس” (1يو3: 8). “فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكي يبدي بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس” (عبر2: 14). لا بل يظهر من الأناجيل وبكل وضوح أن عمل المسيح هو محاربة الشياطين ونزع سلطانهم عن البشر لكي يأتي عليهم ملكوت الله: “ولكن إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله” (متى12: 28). كما أن هناك حرب هائلة لا مهاونة فيها بين الله والشيطان “لا يستطيع أحد أن يدخل بيت قوي وينهب أمتعتعه إن لم يربط القوي أولاً وحينئذ ينهب بيته” (مر3: 27-29، لو11: 20-22)، وإن هناك الكثير من المظالم والأمور غير اللائقة تصير ضد إرادة الله، لأن الله لا يحارب الشر بالعنف بل بطول الأناة والمحبة والعدالة (مثل الكرم لو20: 9-17، مثل التينة التي لم تثمر لو13: 6-9 إلخ…). وفي اللحظة التي تنزع فيها الحرية عن الخلائق بما فيها الشيطان يصبح الله بصورة تلقائية مسبباً للشر.

إن حصول الشيطان إذن على سلطان الموت، ببعديه النفسي والجسدي، لم يكن برضى الله بل على العكس كان فشلاً ولو مؤقتاً لمخطط الله بالنسبة للعالم، لأنه بمجرد أن جرحت الطبيعة البشرية بفساد الموت صار الجميع تحت سلطان الموت وبالتالي أسرى للشيطان. الشيطان جلب الموت على الإنسان بواسطة الخطيئة التي أبعده فيها عن الله فصار الإنسان ضحية خداع الشرير وشريكه في الخطيئة.

لكن أفعال الشيطان وأبالسته، لم تقتصر فقط على خداع الإنسان من خلال الأفكار الشريرة التي أوحاها للناس ففصل بينهم وبين الله ومزّق وحدتهم الداخلية والاجتماعية بل امتدت، كما رأينا، وحتى إلى طبيعتهم ذاتها، وإلى الحيوانات غير الناطقة والطبيعة الجامدة. هكذا فالشيطان هو المسبب الأول للفساد وبالتالي للضعفات والأمراض، ومن ثم للموت (لو13: 16، أع10: 38 إلخ…). لذا قبل نزول المسيح إلى الجحيم كان الشيطان هو الوحيد الذي عنده سلطان الموت، ولا يزال حتى الآن هو رئيس هذا العالم (يو12: 31) وإله هذا الدهر (2كو4: 4).

بناء عليه فالطريقة الوحيدة لتحطيم قوة الشيطان هي سحق الفساد والموت لأن الفساد والموت وليدا الخطيئة هما أيضاً مولداها في حلقة مفرغة لا تتوقف ولا تنتهي وليس هناك، كما يكتب القديس ايريناوس، أية وسيلة ممكنة لتصل إلى عدم الفساد والموت إلا بالاتحاد مع من هو عدم الفساد والموت.

2. الموقف الكاثوليكي من انتقال الخطيئة الجدية:

تعلن الكنيسة الكاثوليكية رسمياً أن الخطيئة التي هي موت النفس تسري من آدم إلى ذريته عن طريق الأصل لا الاقتداء، وأنها تسكن في كل إنسان بمفرده، ويستشهد الكاثوليك على ذلك من الكتاب المقدس فيوردون من العهد القديم: “ها أنذا بالآثام حبل بي وبالخطايا ولدتني أمي” (مز50: 7)، “من يأتي بطاهر من نجس لا أحد” (أيوب14: 4). ومن العهد الجديد النص الشهير لبولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية: “من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت هكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع” (رو5: 12)، وكذلك: “لأنه بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطأة هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرون أبراراً” (رو5: 16). وقد ترجم المغبوط اوغسطين ومن بعده لاهوتيو العصور الوسطى، كلمة “εφώ” “بالذي”، وعلى أن عائدها هو إنسان واحد، وهكذا تصبح الجملة كالتالي: “هكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس بالذي جميعهم خطئوا فيه”.

(Δία τούτο ώσπερ δι ενός ανθρώπου η αμαρτία είς τόν κόσμον είσηλθεν, καί δία της αμαρτίας ο θάνατος, καί ούτως σίς πάντας ανθρωπους ο θάνατος δίηλθεν, έφω πάντες η μαρτον)

وعندما يترجم الكاثوليك كلمة: “εφώ” بمعنى سببي:  بسبب أنهم جميعاً أخطأوا أو لأجل أنهم جميعاً أخطأوا” Επί τού τω ότι.
يصل هؤلاء العلماء إلى المفهوم الأوغسطيني ذاته، إذ يصبح المعنى: “الجميع أخطأوا في آدم ولذا فالجميع يموتون”. ويضيفون أنه لما كان الذين لم يقترفوا خطيئة (كالأطفال قبل سن الرشد) يموتون هم أيضاً وجب أن يكون سبب الموت الجسمي لا خطيئة شخصية بل خطيئة موروثة من آدم.
أما البرهان الكلاسيكي من التقليد والذي يعتبرونه قاطعاً على اعتقاد الكنيسة القديمة بحقيقة الخطيئة الجدية وانتقالها إلى الجميع فهو عادة تعميد الأطفال العريقة في القدم لأجل مغفرة الخطايا.

هكذا إذاً يعتبر الكاثوليك وبحسب تعليم المجمع التريدنتي بأن الخطيئة الأصلية هي خطيئة حقيقية وبحصر المعنى إذ تتنقل خطيئة آدم بالوراثة إلى كل ذريته وتبقى في كل فرد منها كخطيئة خاصة. وتقوم هذه الخطيئة الأصلية بحالة من حرمان النعمة المبررة الواجب وجودها بمقتضى الإرادة الإلهية، من أجل ذلك فهذا الخلو من النعمة المبررة يتضمن من حيث هو ابتعاد عن الله وصمة اثم. ومن خصائص الخطيئة كخطيئة قبول الإرادة الحرة بها لكن الولد قبل سن الرشد لا يستطيع أن يأتي فعلاً اختيارياً شخصياً، وعليه فالعنصر الاختياري للخطيئة الأصلية يجب البحث عنه في خطيئة آدم الحرة. فآدم كان ممثل الجنس البشري بأسره وعلى قراره الاختياري يتعلق حفظ الحالة الفائقة الطبيعة التي مُنحها، أو خسرانها، لا له شخصياً بل للطبيعة البشرية على أنها طبيعة بشرية، وهكذا كانت خطيئته خطيئة الجنس البشري كله.

3. الموقف الآبائي من انتقال الخطيئة الجدية:

مما لا شك فيه أن الكنيسة الجامعة في الشرق والغرب وبلسان مجمعهما المسكوني الثالث (431) قد حرّمت تعليم بيلاجيوس الذي ينكر العلاقة السببية بين خطيئة آدم وبين الآلام والشهوة والموت التي تستعبد الجنس البشري معتبراً إياها مجرد ظواهر طبيعية بحتة.

لأن تعليم الكنيسة الجامعة هو نفسه تعليم الكتاب المقدس الذي يظهر بصورة واضحة سيطرة الشيطان والخطيئة والبؤس والفساد والموت الروحي والجسدي على الطبيعة المخلوقة نتيجة لسقوط الجنس البشري في الخطيئة انطلاقاً من الخطيئة الأولى للجدّين الأولين في الفردوس. هذا ما يؤكده بصورة خاصة القديس بولس الرسول في نصه المذكور أعلاه: “من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس…” (رو5: 12).

لكن المفهوم الغربي لهذه الآية والذي نتج عن الترجمتين المذكورتين أعلاه لكلمة εφώ لا يتفق مع مفهوم الآباء الكنسيين للكنيسة الأولى والذين يعتبرون أن عائد كلمة εφώ  الطبيعي هو الموت وليس إنسان واحد فيصبح المعنى: “بإنسان واحد دخلت الخطيئة العالم وبالخطيئة الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس بالذي (بالموت) جميعاً خطئوا”. (رو5: 12).

كمثال عن نظرة آباء الكنيسة الأولين لهذا الموضوع نأخذ القديس ايريناوس الذي يقول: “بما أن الموت قد ملك في الجسم فمن الضروري والمناسب أن يباد الموت ويحرر الإنسان من عبوديته بواسطة جسم، وهكذا فالكلمة صار جسداً لكي بواسطة جسم واحد يباد الموت الذي به سادت الخطيئة وأقامت وتملكت، فلا يوحد فينا بعد”.

لا بل يعتبر في مكان آخر أن الأهواء كالحزن والخوف والقلق… إلخ قد أتت علينا بالموت (επί τώ θανάτω).

ولكي نوضح أكثر هذا المفهوم لا بد أن نرجع إلى الفكرة الآبائية المحورية وعي دعوة الإنسان إلى الكمال والتأله فنجد أن الموت وهو بصورة رئيسية موت النفس وفساد الجسد، يجعل من المستحيل تقريباً تحقيق هذه الدعوة لأن فقدان النعمة الإلهية (موت النفس) يعني ضعف القوى النفسية والجسدية للطفل المولود حديثاً وبالتالي ترجيح ميله منذ البداية إلى الشرور، هذا الميل يصبح قوياً عندما يصير محسوساً أكثر في الجسد الذي تسلطت عليه قوة الفساد من خلال قوة الشيطان والموت التي تتملك في الإنسان فتثير الخوف والقلق وعموماً غريزة المحافظة على الذات. لأنه بسبب الخوف من الموت يصب الإنسان كل جهوده من أجل المحافظة على الذات والبقاء في الحياة وهذا ما يتعارض كنقطة انطلاق مع هدفه الأسمى الأصلي في المحبة الباذلة لذاتها والمتجهة نحو الله والقريب.

الصحيح إذن أنه ليس فقط الموت قد ملك بالخطيئة (رو5: 17) بل أيضاً وبحسب الرسول بولس نفسه أن الخطيئة قد ملكت في الموت (رو5: 21)، وفي الجسد المائت (رو6: 12) وأن شوكة الموت الخطيئة (1كو15: 56). لأن الضعف الموروث في الطبيعة البشرية المائتة والخوف من الموت هما اللذان يسمحان للشيطان أن يقود الإنسان إلى تفكير غير سليم وتصرفات ذات طابع أناني نحو الله والقريب كالبغض والحسد والكبرياء… إلخ وأن تتحول هذه التصرفات إلى أهواء متجذرة في النفس والجسد. الإنسان كما يقول الذهبي الفم “يتحمل كل شيء من أجل أن لا يموت” لذا يخاف باستمرار أن تصبح حياته بلا معنى فيحاول أن يظهر لنفسه وللآخرين أن عنده قيمة ما. يحب المديح والتملق ويخاف الإهانات، يبحث عما يؤكد علو شأنه ويحسد نجاحات الآخرين، يحب الذين يحبونه ويكره الذين يكرهونه، ينشد الأمان والسعادة في الغنى والمجد واللذائذ الجسدانية. وهكذا يصير الإنسان وبسبب هذا الخوف والقلق عبداً لأنانيته، وحتى عندما يكرّس نفسه لخدمة أهداف إنسانية، ينطلق من دوافع ذاتية مصلحية.

ولقد عاش الإنسان قبل أن يُعطى الناموس الموسوي بحسب ناموس الخطيئة ودون أن يعرف أن الموت شيء دخيل تتملك بواسطته الخطيئة والشيطان: “حتى الناموس كانت الخطيئة في العالم” (رو5: 13). وبالتأكيد فإن الجهل بالناموس لا يعني أنه لم تكن هناك خطيئة: “لأن كل من أخطأ بدون الناموس فبدون الناموس يهلك وكل من أخطأ في الناموس فبالناموس يدان” (رو2: 12). لأن الخطيئة التي هي مخالفة الإرادة الإلهية، تشمل أفعال البشر الواعين لها وغير الواعين، كما هي الحال مثلاً عند أكلة لحوم البشر، إذ هي بحسب بولس الرسول والآباء الأولين حالة تتناقض مع إرادة الله، ولهذا فجميع الذين ولدوا فيها صاروا خطأة (رو5: 19). “الكل زاغوا وأعوزهم مجد الله” (رو3: 12) لأنهم بسبب فاعلية الشيطان بواسطة إماتة النفس (الحرمان من النعمة الإلهية) وضعف الجسد يولد الجميع مع ميل قوى إلى الخطيئة والجميع يخالفون إرادة الله بمعرفة أو بغير معرفة وهكذا يولدون أسرى للشيطان والموت والخطيئة وبناء عليه يفشلون في الوصول إلى هدف وجودهم الأصلي أي الكمال والخلود والتأله فيعوزهم مجد الله.

دور الناموس في العهد القديم أنه فضح حالة الخطيئة التي تستعبد الإنسان من خلال ناموس الموت (رو3: 20) ولكنه لم يستطع إلغاءها (رو7: 22-24). فقط بإبادة الموت من خلال الشركة في المسيح مع القوة المحيية للروح الإلهي يستطيع الإنسان أن يدوس الخطيئة الساكنة فيه وهكذا يحيا بحسب ناموس روح الحياة (رو8: 2). ومن هنا نفهم أهمية المعمودية للأطفال والتي تتركز، كما يستطيع أن يلاحظ أي متتبع لخدمة المعمودية، على نقطتين رئيسيتين:

  1. طرد الشيطان وقوته التي تتملك في الإنسان الذي هو في حالة الموت والخطيئة أكانت واعية أم غير واعية (فقدان النعمة الإلهية وفساد الجسد).

  2. إعطاء الطفل القوة الإلهية التي تغلب حالة الموت والخطيئة فيه، من خلال موته وقيامته مع المسيح يومياً، واتحاده معه بروحه المحيي.

انطلاقاً إذاً من حادث خطيئة أبوي الجنس البشري دخلت حالة الخطيئة التي انتقلت وراثياً مع كل نتائجها إلى كل ذريتهما. وهذه الوراثية يفهمها الآباء على أساس الوحدة السرية غير القابلة للانقسام للطبيعة البشرية. ولذا يصبح آدم كمثل جذر فسُد فأنتج الفساد لكل جنسه. ولتوضيح نظرة الآباء الشرقيين إلى هذه الأمور نعطي مثالين من أقوال أبوين معلمين للكنيسة شرقاً وغرباً أولهما القديس كيرلس الإسكندري رئيس المجمع المسكوني الثالث الذي أدان البيلاجية: “كيف صار الكثيرون بسببه خطأة (بسبب آدم)، وما علاقتنا نحن بزلاته؟ وكيف نحن الذين لم نكن بعد في الوجود حكم علينا معه؟ على الرغم من قول الرب: “لا يموت الآباء من أجل الأبناء ولا الأبناء من أجل الآباء. النفس التي تخطئ هي تموت”؟… لأنه سقط في الخطيئة وانزلق في الفساد الذي تسرب إلى طبيعة الجسد لذائذ مع نجاسات واندس في أعضائنا ناموس متوحش. سقمت إذن الطبيعة بعصيان الواحد أي آدم، وهكذا صار الكثيرون خطأة. ليس كأنهم شاركوا آدم، لأنهم لم يكونوا بعد، بل لأنهم كانوا طبيعته التي سقطت تحت الخطيئة… مرضت إذن الطبيعة البشرية في آدم بفساد العصيان فدخلت فيها الأهواء…”.

أما الأب الثاني فهو القديس يوحنا الذهبي الفم: “ما هي إذن ال (كثيرون صاروا خطأة) يبدو لي أن المستحقين للجحيم والمحكوم عليهم بالموت والذين لم يأكلوا من الشجرة صاروا مثل ذلك الذي سقط، منه جميعاً أموات”.

4. عقيدة الحبل بلا دنس:

في سنة 1854 أصدر البابا بيوس التاسع منشوراً بابوياً (Ineffabilis Deus) أعلن فيه: “أن العذراء المباركة مريم، منذ اللحظة الأولى للحبل بها، حفظت طاهرة من كل دنس الخطيئة الجدية، بواسطة نعمة وامتياز الله القدير وحدهما، وبالنظر لاستحقاقات يسوع المسيح مخلص الجنس البشري”.

هذه العقيدة الكاثوليكية التي أُعلنت بشكل رسمي في القرن التاسع عشر ترجع في أصولها إلى القرن التاسع وقد دارت حولها منذ القرن الثاني عشر مناقشات عديدة بين اللاهوتيين السكولاستيكيين امتدت إلى عدة قرون. كما انتشر التعبير لهذا الحبل بلا دنس من منطقة إلى منطقة أخرى، في الغرب. وفي سنة 1439 أقره مجمع بازل كرأي تقوي متفق مع الاعتقاد الكاثوليكي. وفي القرن الثامن عشر صار الاحتفال بعيد الحبل بلا دنس عاماً في الكنيسة الكاثوليكية فجاء الإعلان عن هذه العقيدة في القرن التاسع عشر كنتيجة طبيعية لهذا التطور.

ومما يجدر ذكره أن أغلب السكولاستيكيين الكبار قد عارضوا فكرة الحبل بلا دنس ومن بينهم بونافنتورا (1247+)، البرت الكبير (1280+)، توما الأكويني (1274+)، وقد تبع الدومينيكان القديس توما الأكويني في رفضه للحبل بلا دنس في حين دافع عنه سكوت (1308+) وتبعه في ذلك الفرنسيسكان.

ولكي يثبت الكاثوليك هذه العقيدة يستشهدون من الكتاب المقدس بصورة خاصة بالنصوص التالية: (تك3: 15، لو1: 28، 41-42) كما يلجأون إلى الآباء فيقدمون مقاطع من كتابات جوستين الشهيد وايريناوس وأفرام السوري ويوحنا الدمشقي وأندرواس الكريتي وامبروسيوس وأوغسطين…إلخ. هذه النصوص جميعها كتابية كانت أم آبائية لا تحتوي في الحقيقة تعليماً عن الحبل بلا دنس للعذراء بل تمتدح طهارة وقداسة العذراء الشخصية وحتى قبل ولادة السيد وتعتبرها حواء الجديدة بالمقابلة مع يسوع آدم الجديد.

فمن جهة يبدو منطقياً للغاية موقف الرافضين للحبل بلا دنس حين يقولون: “في كل حبل طبيعي ينقل دنس الخطيئة الجدية، وبما أن العذراء قد حُبِلَ بها  بطريق طبيعي فلم تستثنى من هذا القانون”.

لكن من جهة أخرى، ومن نقطة الانطلاق ذاتها لا بد من طرح السؤال التالي: إن كان سقوط الجدين الأولين في الفردوس قد جلب على الجنس البشري كله فقدان النعمة المبررة وغضب الله وسخطه فكيف يمكن أن يتفق فقدان النعمة وغضب الله مع قول الملاك: “سلام لك أيها المنعم عليها، الرب معك مباركة أنت في النساء…” (لو1: 28) وخصوصاً مع قداستها الفائقة التي أهلتها لأن تلد الإله؟. لا بد إذن من وجود استثناء خاص وإنعام إلهي يتجاوز هذا الغضب وهو ما توصل إليه القابلون لهذه العقيدة رغم النصوص الواضحة التي تؤكد شمول حالة الموت والخطيئة وسلطان الشيطان جميع الذين ولدوا من الجنس البشري (رو5: 12، 3: 23، غل3: 22-23)…إلخ.

بالنسبة للاهوت الآبائي تطرح المشكلة بطريقة مختلفة تماماً، نظراً لاختلاف منطلقاته الأساسية عن منطلقات اللاهوت السكولاستيكي، فكما رأينا، يرث الإنسان فعلاً عبر التناسل الطبيعي للجنس البشري ضعف الموت في طبيعته، وهكذا يوجد بمستويات مختلفة تحت سلطة الشيطان والخطيئة والموت. ولكن هذا لم يمنع الذين ساروا مع الله في العهد القديم من الجهاد ضد الخطيئة وتجارب الشيطان، كما لم يمنع عنهم بالكلية نعمة الله التي رافقتهم وظللتهم في مسيرة جهادهم وفي الواقع فإن ذلك الجهاد وتلك النعمة لم يكونا منفصلين عن عمل المسيح الفدائي بالصليب. بل ضمن إطاره، ولو أنهما استبقاء في الزمن. إذ حمل مجاهدو العهد القديم الصليب وتبعوا المسيح بالإيمان، وقبل أن يكون هناك صليب منظور للمسيح، ونالوا قسطاً من نعمته وحتى قبل أن تفيض كلياً بالفداء (أنطر عب11 واكو10 وشرح الآباء وخصوصاً القديس غريغوريوس بالماس لسر الصليب). ولكن تحقق المواعيد أي الخلاص الشامل من سلطة الموت والشيطان وإحياء النفوس بنعمة الروح القدس المحيية تم بعد انتصاره النهائي بالصليب على الموت والشيطان. إذن وجد حقاً أبرار في العهد القديم، ولم يكن الله غاضباً عليهم، كما يؤكد هذا العهد الجديد ذاته (لو2: 25، 2: 31، متى1: 19، 23: 35).

من هنا نستطيع أن نفهم سر قداسة العذراء، لا على ضوء النعمة الخاصة الاستثنائية التي أُعطيت لها من الله حين حبل بها بلا دنس وكأن لا دور لها على الإطلاق في هذه القداسة، بل على ضوء عمل نعمة الله فيها عبر جهادها الشخصي من أجل الكمال والفضيلة بصمت وتواضع، وعبر جهاد أبويها القديسين لا بل وحتى من سبقوها من أبرار العهد القديم في الإيمان بالبر الذي بيسوع المسيح. من هنا فقداسة العذراء هي ثمرة قداسة العهد القديم كله والممثلة الحقيقية للجنس البشري في قبوله الطوعي للخلاص بيسوع المسيح: “ها أنا أمة للرب، فليكن لي بحسب قولك” (لو1: 28) الكتاب المقدس والآباء يعتبرون أن هناك فعلاً نعمة خاصة استثنائية حلّت على العذراء، ولكن ليس وقت الحبل بها بل وقت الحبل بالسيد، تطهرها كلّياً وتعدها من أجل اقتبال ذلك الحدث الفريد الاستثنائي، وهو تجسد ابن الله من دمائها الطاهرة: “الروح القدس يحل عليكِ وقوة العلي تظللك…” (لو1: 35) وهو ما لا يتعارض مع حريتها الشخصية ودورها الأساسي في التجسد.

خلاصة القول أن الحبل بلا دنس بحسب المفهوم الكاثوليكي يعني قبولاً ميكانيكياً من العذراء للخلاص خارجاً عن المسيح وقبل المسيح. وهذا معناه أنها لم تكن في وحدة مع الجنس البشري، وأن المسيح لم يكن لها المخلص والوسيط الوحيد (لو1: 47، رو5: 15، 1تيمو2: 5).

موقف الكنيسة البروتستانتية من نتائج الخطيئة الجدية وانتقالها:

يأخذ التعليم البروتستانتي في هذه القضية أيضاً الموقف المتطرف المعاكس لتطرف التعليم الكاثوليكي. ففي حين يتفق معظم العلماء الكاثوليك، كما رأينا سابقاً، على أن “جرح الطبيعة اقتصر على ضياع المواهب فوق الطبيعية لأنه لم يكن باستطاعة خطيئة آدم أن تحدث لا في طبيعته الخاصة ولا في طبيعة ذريته ملكة سيئة”، يتفق الرواد الأول للبروتستانتية كلوثر وزفنكلي وكالفن، وأغلب المدارس اللاهوتية من بعدهم على أن حصيلة الخطيئة الجدية كانت تحطيماً كلياً لصورة الله في الإنسان أي محو كل إمكانية للقوى النفسية البشرية في تطلعها نحو الله.

كمثال على ذلك نقتطف فقرات من بعض قوانين الإيمان الرئيسية البروتستانتية:

  • “في المجال الروحي لا يستطيع الإنسان الطبيعي أن يفكر ولا أن يؤمن ولا أن يريد. هو بالكلية محطم روحياً وبالكلية غير قادر على فعل الخير. إذ ليس عنده في ذاته ولا قبس من قوة روحية. الإنسان الساقط هو ميت أمام الله كحجرة أو خشبة وإذن بالكلية ليس له أية قدرة (مساهمة) فيما يتعلق بخلاصه” (The confession of Augsburg).

  • “نثبت أن الخطيئة الجدية في الطبيعة البشرية ليست فقط فقداناً مريعاً لأية قوة حسنة، بل وأكثر من ذلك هي فساد داخلي أخذ مكان صورة الله المفقودة”….

  • “فساد الخطيئة هذا، هو عميق غير قابل للإدراك وللتفسير، يصل إلى كل الطبيعة وإلى كل القوى، ويتضمن كل الوظائف العليا للنفس، فنفذ بعمق إلى الروح والقلب وإرادة الإنسان الأرضية بأكملها. هكذا وبسبب الشر الملتصق وثيقاً بالطبيعة الإنسانية فالخطايا الشخصية ليست سوى تعابير أو استمرار للخطيئة الجدية كمثل أغصان نامية على جذعها” (The Formula of Concord).

أما الموقف الكلفيني من قضية الخطيئة الجدية فيمكن تلخيصه بالنقاط التالية:

  1. الله خلق الإنسان في حالة من البراءة الطبيعية والعقلية والأدبية وبسجية أدبية ذاتية.

  2. ذنب معصية آدم الأولى حسب حالاً بقضاء حكم الله على كل واحد من نسله منذ وجوده قبل أن يصدر منه عمل ما.

  3. لأجل ما تقدم يولد الناس في حالة الدينونة خالين من تأثيرات الروح القدس التي عليها تتوقف حياتهم الأدبية والروحية.

  4. ومن ثم يأتون إلى العمل الأدبي خالين من البرّ الأصلي الذي خُلق عليه آدم وبميل سابق متغلب على طبيعتهم إلى الخطيئة، وهو بنفسه خطية ويستحق العقاب.

  5. إن طبيعة الإنسان منذ السقوط حافظة قوى العقل الذاتية (التي جبلت عليها) نظير الضمير والإرادة الحرة ولذلك لا يزال فاعلاً أدبياً مسؤولاً مع أنه ميت روحياً ونافر بالكلية من الخير الروحي وغير قادر بالكلية أن يغير قلبه ولا هو كفؤ ليتم شيئاً من الواجبات الناشئة من نسبته إلى الله.

  6. إن خلاص الإنسان هو بالكلية من النعمة المجانية لأنه يحق لله أن يخلّص واحداً أو أن يخلّص الكل أو يخلّص البعض دون غيرهم حسب مسرته.

واضح أن مفهوم البروتستانت عامة من قضية الخطيئة الجدية يتضمن فكرة صحيحة وهي قبولهم لفكرة فساد الطبيعة الذي نتج عن الخطيئة الجدية. ولكن تطرفهم في اعتبار هذا الفساد، كتدمير تام للقوى البشرية الروحية يتناقض مع الإعلان الإلهي ومع وقائع التاريخ البشري للأسباب التالية:

  1. لم تدمر الخطيئة كلياً صورة الله في الإنسان، إذ بقي ميل فيه نحو الحق والخير (رو7: 33). فبعد الطوفان يسلط الله الإنسان من جديد على الخليقة المنظورة (تك9: 1-3)، وهذا معناه أن صورة الله لم تمحَ من الإنسان، لأن السيادة على الخليقة ارتبطت أساساً بتلك الصورة (راجع تك1: 26-28). أكثر من ذلك يظهر الكتاب المقدس بوضوح وجود صورة الله في الإنسان وحتى بعد السقوط: “سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه لأن الله على  صورته عمل الإنسان” (تك9: 6).

  2. إذا كانت قوى الإنسان الروحية قد تحطمت بالكلية، فلا يجب أن يكون هناك كلام عن خطيئة آدم إلى يسوع، لأن هذا التحطيم بحسب الفكر البروتستانتي، يعني أنه لم تبقَ للإنسان أي إمكانية لمعرفة الله، أو أي حرية في إرادته للرجوع إليه، وبالتالي إذا كانت طبيعة الإنسان قد أصبحت شريرة لدرجة أنه لم يعد يستطيع أن يريد الخير ولا أن يفعله كحجرة أو خشبة، فعندها يصبح من غير العدل أن يتعرض للعقاب الإلهي. وهكذا فالنظرية البروتستانتية بحق الله غير عادلة، لأنه يعاقب من لا يستطيع إلا أن يخطئ، مع العلم بأن الكتاب المقدس يثبت بأن البشر، بما فيهم الوثنيين، ظلوا، بعد السقوط، قادرين على معرفة الله (رو1: 19-21) كما بقيت عندهم حرية يستطيعون بموجبها أن يتبعوا إرادة الله أو يرفضوها وغلا لما أُعطيت لهم وصايا أو نصائح أو وعود أو تهديدات (خر20-41، لا، عد، تث، يو إلخ)، لا بل إن العهد الجديد يفترض وجود الإرادة الحرة في الإنسان التي على أساسها يتقرر مصيره (مت16: 24، 19: 17، 21، 23، 37، يو7: 17، 1كو7: 37) وإلا لكان الخلاص نفسه مستحيلاً، ولما كان هناك داع لمجيء المخلص إلى العالم.

  3. أن نتائج أبحاث علم تاريخ الأديان تؤكد، بعكس المفهوم البروتستانتي، أن الإنسان لم يفقد بالكلية القدرة على الاتجاه نحو الله أو فعل الخير. فجميع شعوب الأرض قاطبة آمنت بآله وببعض النواهي الأخلاقية، بغض النظر عن الشكل والطريقة اللذين عبرت بهما هذه الأديان. كما أن بعض الأنظمة الدينية والفلسفية تضمنت مبادئ دينية وأخلاقية جديرة بالإعجاب مما يظهر أن العطش إلى الحق والخير لم ينطفئا في البشرية. فالبوذية مثلاً، وبعض المدارس الفلسفية اليونانية قدمت أفكاراً أخلاقية سامية وهذا بالطبع غير ممكن إلا إذا كان من قدمها عنده قبس من حياة روحية، وحرية أخلاقية. هذه الفكرة تتأكد أكثر، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الكتاب المقدس يمدح وثنيين قاموا بأعمال سرّت الله كالقابلتين اللتين استحيتا أولا العبرانيين (خر1: 15-21)، والسامري الشفوق (لو10: 30-37)، وكورنيليوس الذي كان يصنع صدقات ويصلي (أع10: 1-2) إلخ… مما يظهر أن أعمال الإنسان بعد السقوط يمكن أن يكون بعضها خيّراً، وأن لا تسمى جميعها شروراً.

الأب الدكتور جورج عطية

arArabic
انتقل إلى أعلى